كانت فاطمة متصلة بأنوار الوحي لتملأ عينيها نوراً وفكرا.
ونغمات السماء تملأ سمعها تلاوة وذكرا
وترانيم القـــرآن تأســـــر قــــلبها ومشاعرها الرقـيقة.
نشأت فاطمة، عليها السلام، نشأةً صالحة، وأصبحت فتاة مثالية اجتمعت في شخصيتها كل منابع الكمال والعظمة والفضيلة.
ففي كل مرة كان النبي يشيد بعظمة فاطمة ويصرح بأن «فاطمة سيدة نساء العالمين»، فعندما سئل: أهي سيدة نساء عالمها؟ فقال: تلك مريم كانت سيدة نساء عالمها، وفاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.
وفاطمة، عليها السلام، تحمل روح رسول الله وصفاته وأخلاقه، فكانت الوارث والشبيه؛ إذ لم يكن في الدنيا أحد يماثل الرسول في صفته وشمائله كفاطمة؛ ولقد لفتت هذه العلاقة والرابطة بين رسول الله، صلى الله عليه وآله، وابنته فاطمة، تحت أنظار الذين عايشوها، فتحدثوا عن ذلك الشبه، وكرروا القول فيه، فهذه زوج رسول الله عائشة، تتحدث عن هذه العلاقة والرابطة الجسدية والروحية والأخلاقية بين رسول الله، صلى الله عليه وآله، وابنته فاطمة، فتقول: «ما رأيت أحدا أشبه سمتا ودلاً وهدياً برسول الله، صلى الله عليه وآله، في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وآله، وقالت: وكانت إذا دخلت على النبي، صلى الله عليه وآله، قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه وكان النبي، صلى الله عليه وآله، إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها»، وكانت هي العابدة التي لا تعرف الانكفاء على الذات ولا الانطواء على نفسها بل تجوع لكي يشبع الفقير، هذا التجرّد لم يفقد فاطمة الواقعية والإحساس بمأساة الناس نعم هذه هي الاخلاق الحقيقية.
ومن هنا بودنا ان نعرّج على قبسات من نور، وإشعاعات من سيرتها العبقة الطاهرة.
الإخلاص لله وآثاره في الدنيا
وأول ما يطالعنا في ذلك السفر الزهرائي المشرق؛ إخلاصها، عليها السلام، فالإخلاص منزلة من منازل الدين، ومقام من مقامات الموقنين، وتوفيق الوصول إليه من الله - تعالى-، وكذلك ان للإخلاص أهله العاملين به والقاطفين من ثماره اليانعة وأشجاره الباسقة كنوزاً بالدنيا والآخرة.
وقد أكدت الآيات والروايات على عظيم منزلة ومرتبة الاخلاص في العبادة بل هو بدرجة القلب من البدن، والمحور من الدائرة، قال - تعالى-: ﴿أَلَا لِلهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾، (سورة الزمر: 3)، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، (سورة الكهف: 110)، وفي تفسير قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، (سورة هود: 7)، جاء عن الإمام الصادق، عليه السلام، انه قال: «ليس يعني أكثركم عملاً، ولكن أصوبكم عملاً وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة وإيفاء العمل، والإخلاص به، والعمل الخالص هو الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا الله».
فبسلامة العقل والقلب تتحصل (النية الصادقة) التي هي موضع قبول الأعمال (إنما يتقبل الله من المتقين)، وقد حاز الأنبياء والأولياء على مقاعد الصدق في دار الكرامة بما اشتملوا عليه من درجات الإيمان وبما اجتهدوا في الدنيا وأخلصوا فيه العبادة لله وقد شهد القرآن الكريم كما في سورة الدهر: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}، (سورة الإنسان: 8-9)،
ومن هنا فقد حازت الزهراء، عليها السلام، على كمال الإخلاص وخشيتها لله سبحانه، وعظيم إيمانها به وباليوم الآخر، وشهد الرسول، صلى الله عليه وآله، لها قائلاً: «يا سلمان إن ابنتي فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها إيماناً إلى مشاشها، تفرغت لطاعة الله...»
وإذن؛ كانت حياة السيدة الزهراء، عليها السلام، عبارة عن عبادة خالصة لله - تعالى- سواءٌ في محرابها وتضرعها، ومع زوجها فهي تعبد الله في حسن التبعّل، وايضاً في تربية الأولاد وقيامها بالخدمات العامة، إنما تطيع الله وتعبده بنيتها الخالصة له، كذلك مواساتها للفقراء، كانت عبادتها لله بإخلاص مؤثِرة على نفسها وأهل بيتها، وعنها، عليها السلام، انها قالت: «من أصعد إلى الله خالص عبادته، أهبط الله عزّ وجل إليه أفضل مصلحته».
الاقتداء بالزهراء وصنع المعجزات
وهي علاوة على إخلاصها المتفرّد كانت، عليها السلام، زاهدة قنوعة متمسّكة بما قاله لها أبوها، صلى الله عليه وآله: «يا فاطمة اصبري على مرارة الدنيا لتفوزي بنعيم الأبد»، فكانت راضية باليسير من العيش، صابرة على شظف الحياة، قانعة بالقليل من الحلال، راضية مرضية غير طامعة بما لغيرها، غير مستشرفة ببصرها إلى ما ليس من حقّها، سائلة الله - تعالى - وحده، فهو رمز لغنى النفس، كما قال أبوها، صلى الله عليه وآله: «... إنما الغنى غنى النفس».
إنها السيدة البتول، عليها السلام، التي انقطعت إلى الله تعالى عن دنياها، وعزفت عن زخارفها، وصدفت عن غرورها، وعرفت آفاقها، وصبرت على أداء مسؤولياتها، وهي تعاني شظف العيش ولسانها رطب بذكر مولاها.
ومن هنا؛ فإن المرأة إذا أرادت أن تستغل ما لديها من طاقات فإنها تستطيع أن تفعل المعجزات، ولو اردنا الانطلاق الى فنارات أخرى؛ هي مصدر اشعاع لكل محبيها؛ كالمجال الثقافي، فهي المؤلفة الأولى في الإسلام؛ وكان بيتها مركزاً ثقافياً وعلمياً لتثقيف النسوة بكافة المسائل، كما كان لها الصدارة بالمجالات السياسية والاقتصادية، ومن هنا يمكن ان نستشرف ونرى ان الهدف من مطالبة الزهراء، عليها السلام، بفدك كان يفوق الجانب المادي، بل هو كشف الغطاء عن الحقيقة.
وإثبات أن الحق في أمر الخلافة هو مع علي، عليه السلام، عبر الاستدلال والمطالبة بحقه.
وكان جهادها السياسي واضحا خلال إطلاقها صرخة «لا» في وجه الظلمة ممن اغتصبوا الخلافة، ولو أردنا ان نقيس حركة مولاتنا الزهراء، عليها السلام، وفق المقاييس الحديثة، نجد انها قادت تظاهرة نسوية باتجاه مركز الخلافة، ألا وهو المسجد النبوي، وكان لهذه التظاهرة بيان سياسي يتمثل بالخطبة الفدكية.
وفي هذا كله، تؤكد فاطمه، عليها السلام، على أهمية التكاتف والوحدة حيث ورد في خطبتها «طاعتنا نظام للملة، وإمامتنا أمان من الفرقة»، ولم يكن هذا العمل السياسي الأول الذي مارسته الزهراء فقط.
بل مثلت سابقا، وفي عهد أبيها رسول الله، صلى الله عليه وآله، المرأة المسلمة في مؤتمر المباهلة الذي عقد مع نصارى نجران، فقد كانت فاطمة المدافعة عن النبوة والإمامة، وبذلك زاد حقدهم عليها لموقفها المشرف لدى ابيها وزوجها، ولم تكن تهتم بحطام الدنيا، بخلاف ماهو عليه النساء اليوم اللائي تطول قائمة المتطلبات عندهن.
نافذة على القرآن الكريم
كانت فاطمة قرآناً متحركاً بتجسيدها لتعاليمه وأحكامه، لذا يصحّ لنا أن نقول: إن التعّرف على ما أراده منا القرآن يتضح بمراجعة حياة فاطمة، عليها السلام، كما أن التعّرف على أخلاقيات فاطمة يتحقق بالتأمل في القرآن الكريم.
وقد بذل النبي، صلى الله عليه وآله، جهداً بالغاً شاركته خديجة، عليها السلام، من أجل تربية فاطمة وإعدادها فتاة مثالية، وزرع فسائل الخير والنور في قلبها ووجدانها.
وعوداً على بدء نقول:
فاطمة، عليها السلام، واحدة من الذين أسهموا في بناء الصرح الإسلامي العظيم من خلال مواقفها في مكة والمدينة، فكانت ترافق أباها النبي، صلوات الله عليه وآله، منذ البدء وكانت تدافع عنه بكل بسالة وقوة عندما أتهمه الجاهلون بالسحر، فكانت تؤكد عبر الحوارات مع النساء والفتيات أنه ليس بساحر، بل نبي هذه الأمة.
تدافع وتجاهد بلسانها البليغ وأسلوبها العذب ومنطقها الرصين، كما كان ابن عمها؛ علي بن أبي طالب، عليه السلام، مرافقاً وملازما للنبي يذبّ عنه وهي تشاهد تضحياته عن كثب، وترى صمود أبيها، صلى الله عليه وآله وسلم، فتزداد ثباتا في جهادها منذ صغرها.
وهي بذلك تمثل كل إشراقات الدين والدنيا والآخرة لتكون وبحق قدوة واسوة لكل النساء من الأولين والآخرين.
كتبه
زهراء حكمت
تعليق