قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أيها الناس: إني والله، ما أحثكم على طاعة إلا واسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها.
لماذا يؤثر كلام البعض على الآخرين ويكون كالبلسم الشافي على الجرح؟ بينما لا يؤثر كلام البعض الآخر عليهم؟
النموذج العملي والقدوة هو الأكثر تأثيرا والأسرع وقعا في النفوس وقد يغني عن المئات من الكلمات والعشرات من المواعظ.
فالمربي سواء كان ابا أوأما أو خطيبا أو مدرسا أو متصديا لأي مسؤولية... وأراد أن يكون تأثير كلامه ووقعه قويا على الآخرين لابد أن يبدأ بتربية نفسه وسبق الآخرين بالعمل، قبل أن يوجه الناس بالوعظ والتربية. ومن اراد ان يغير الآخرين لابد اولا من تغيير نفسه.
واعتبر اختصاصيون ومرشدون أن القدوة هي من أكثر الطرق تميزا وتأثرا من باقي وسائل التربية، لافتين إلى أنها تستحوذ على 70 في المئة من هذه الوسائل.
فلو دققنا في معنى العبارة فنرى ان الحَثّ: (اسم)، مصدر حثَّ في الطبيعة والفيزياء هي عمليَّة نقل القوّة الكهربائيّة أو المغنطيسيّة من جسم إلى جسم آخر من غير اتِّصال مباشر في ما بينهما وذلك بواسطة مغنطيس أو تيّار[1]
وحثَّه على الشَّيءِ: حضَّه عليه، شجَّعه، بعث فيه النَّشاط[2]
والسَّبْق: القُدْمةُ في الجَرْي وفي كل شيء؛ والسَّبْقُ مصدر سَبَقَ. وقد سَبَقَه يَسْبُقُه ويَسْبِقُه سَبْقاً: تقدَّمه.
النَّهْيُ: طلبُ الامتناع عن الشيء[3].
والنهي: صوت الزجر للكف عن فعل شيء[4]، ونَهَيْتُهُ عن كذا فانْتَهى عنه وتَناهى، أي كَفَّ[5]، وتَناهى الماءُ، إذا وقَف في الغدير وسكَن[6].
فيكون مفهوم كلام الامام (عليه السلام) كما ان قوة المغناطيس تشد وتجر الأجسام اليها، كذلك الناس ينجذبون الى الطاعات والى الخير كانجذاب النحل الى العسل ويكون نشاطهم وحيويتهم فيها عندما يرون أحدهم سباقا اليها وعاملا بها. فلكي تكون قوة الانجذاب اقوى للطاعات والاعمال الحسنة كان (عليه السلام) هو أول من يعمل بها.
كما كان (عليه السلام) يجتنب المعاصي ولايتقرب منها بل يقف عند حدود الله كوقوف الماء في الغدير وعدم جريانه قبل ان ينهى الآخرين عن ذلك. فيكون وقعها أقوى ومما يؤدي الى عدم تقرب الناس الى المعاصي والسيئات.
وهذا ما تأكده الآيات الشريفة:
- يا أيّها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون[7].
- أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون[8].
فلو تساءلنا ماهي الخطوات التي يجب أن يخطوها الانسان كي تقربه من منزلة القدوة؟ أو بعبارة أخرى كيف يرتقى الانسان الى مرتبة القدوة؟
1-النقد الذاتي:
كما نقف امام المرآة لمعرفة نواقص ظواهرنا، فكذلك لابد من وقوف الفرد سواء في المعتقدات، الأفكار، السلوك أو النتائج من خلال التفكير بها أو مناقشتها، لاستخراج النقاط السلبية. والهدف منه معرفة الخلل والمرض والنقص الموجود وبالتالي يتعافى منه، ويُحمل الإنسان مسؤولية التغيير، وذلك خطوة لتغيير المجتمع.
وفي القصص أن غرابا رأى زميلا له من نوعه فهاله ما وجد في وجهه من القبح. ولو نظر لوجهه في المرآة لرآه لا يقل قبحا عن وجه زميله. والمشكلة آتية من كون الغراب لا يملك مرآة يرى فيها وجهه. وهذه هي مشكلة البشر جميعا، فكل فريق يرى مساوئ غيره ولا يدري أنه مبتلى بمثل تلك المساوئ على وجه من الوجوه.
وفي القرآن الكريم اشار الى ذلك في قصة خلق آدم من خلال موقفين:
أ- تنزيه الذات: عند الشيطان الذي يزعم أن موقفه سليم لا غبار عليه. ولكن تنزيه الذات يحمل تلقائياً ظلال إدانة الآخر.
ب- نقد الذات: في حين أن آدم وزوجته اعترفا بالخطأ فقالا: «قالا ربنا ظلمنا أنفسنا»[9] وبذلك أدخلا المشكلة حقل الحل. وهو ما فتح الطريق إلى تصحيح المسار ليوضع السلوك على السكة الصحيحة في عمل قابل للنمو، "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه"[10].
ماهو السبيل الى تحقيق النقد الذاتيِّ مع صعوبته وثقله على النَّفْس، ومع أهميَّته القُصوى؟
أ- مراقبة النفس: المراقبة وظيفتها عدم الوقوع في الخطأ والزلة وهي تكون قبل الفعل وقد شاهد العديد منا كاميرات المراقبة في المحال التجارية والتي تهدف الى عدم الوقوع في السرقة او أي خلل يؤدي الى زعزعة الوضع العام للمحل. فمُجرد الشعور بالمُراقبة (حتى وإن كان وهماً) يزيد من التصرفات الأخلاقية، ففي المطاعم التي تقوم على خدمة الذات، كان من الكافي فقط أن يتم تعليق صورة للعين البشرية لأن يقوم الزبائن بتجميع أطباقهم بعد الانتهاء من استخدامها.
وكذلك من راقب نفسه عند الخوض في الأعمال، فيلاحظها بالعين اللائمة والمعاتبة ثمّ يراقب كل حركة وسكون لأنه على علم بمراقبة الله تعالى له لأنه مطلع على الضمائر، وعالم بما في السرائر، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): رحم الله عبداً راقب ذنبه وخاف ربه[11].
ب- محاسبة النفس: والمحاسبة تكون بعد الفعل وهو ان يحاسب الانسان نفسه فإن عمل حسنة استزاد منها، وإن كانت سيئة طلب من الله المغفرة والرضوان. قال الامام الكاظم (عليه السلام): (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد منه، وإن عمل سيئة استغفر الله منها وتاب إليه[12]). وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «ثمرة المحاسبة صلاح النفس[13]".
يذكر المرجع الشيرازي: إن بعض الأفاضل طلب من أستاذه العالم أن ينصحه نصيحة تنفعه طيلة عمره، وكان على وشك مفارقته، فقال له العالم: خصّص لنفسك كل يوم وقتاً تحاسب فيه نفسك، وإن قلّ.
يقول ذلك الفاضل: عملت بنصيحة أستاذي العالم حتى أصبحت محاسبة النفس حاضرة في ذهني ما دمت مستيقظاً. وهذا يدلّ على ارتكاز الحالة في ذهنه حتى لكأنها صارت ملكة عنده.
2- التقييم الذاتي (Self-Esteem):
هو النظر الى الذات من خلال مرآة صافية ليست بمقعرة ولامحدبة للتعرف على مواطن القوة، ونقاط الضعف، من خلال تقييم كافة جوانب الأداء في السلوك والأفعال.
والتقييم بحد ذاته لا يراد به تصيد الأخطاء أو الحديث فقط عن مكامن القصور والتقصير والفشل، بل يجب أن تسعى هذه العملية إلى تعزيز نقاط القوة، وتقوية جوانب القصور والضعف.
3- تكرار العمل الإيجابي:
وتحبيب الطاعات الى النفس والتي تعتبر قمة العمل الايجابي حتى يصبح بمثابة المهارة والملكة بمعنى انه يعملها بدون تفكير ومراقبة.
4-النمذجة (Modeling):
وهي اتخاذ النموذج الناجح كي يجعله قدوة له، وقديمًا قال القائل: (إذا أردت أن تكون إمامي فكن أمامي)، اذ لابد أن يبحث على نحو دائم عن النموذج الذي يمكن أن يتأسى به كي يحقق اهدافه، وعند البحث الدقيق عن النموذج سيجد في الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) نماذج للنجاح بكل ابعادها الاجتماعية والاقتصادية والاخلاقية و... فهم باسلوب النمذجة في صورة بيانات عملية للقدوة، وعرضوا طريقة واسلوب التعامل الصحيح في كل موقف من المواقف المختلفة، كما استعانوا بالتصوير والتجسيد وتنشيط المخيلة والقدرة على التوقع والتصور، واستخدام القصص والأمثال وتجسيد المشاهد والعملية ليشرحوا لهم المواقف التعليمية التي تسهل عمليات التعلم وتساعد الإنسان على تغيير تصرفاته بالتدريج. ولقد أتاحوا ذلك للمسلمين التعلم بالملاحظة والمحاكاة وغيرها[14].
وأمير المؤمنين (عليه السلام) حيث تمر علينا ولادته هذه الأيام هو النموذج الأسمى لكل قائد ومدير ومربي ولكل من يريد ان يرتقي في سماء الإنسانية، ويترك بصمة في نفوس من يعايشهم ويؤثر على من يتعامل معهم ولتخترق كلمته الى القلوب لأنه بدأ بنفسه قبل غيره حيث قال (عليه السلام): من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم[15].
شبكة النبا المعلوماتية
تعليق