« قصة سيّدنا يوسف عليه السّلام »
بَلَغ سيدُنا إبراهيمُ من العُمرِ مئةَ عام؛ وكانَ عمرُ زوجتِه سارةَ تِسعينَ سنة.. هو شيخٌ طاعِنُ في السنّ، وهي إرأةٌ عَجوز.
ليس عِندَهُما أطفالٌ ولا أولاد.
فإسماعيلُ ابنُه عُمرهُ أربَعَةَ عَشَر سنةً، وهو في مكّة، وكان إبراهيمُ يزوره بين عامٍ وآخر.
تَذكُرونَ يا أعزّاءنا في قصةَ سيّدِنا لوط.. تَذكُرونَ الضُّيوفَ الثلاثةَ الذين جاءوا لإنقاذِ لوطٍ من تلك القريةِ الفاسدةِ التي كانت تعملُ المُنكَر..
وتَذكرونَ أنّهم مَرُّوا أولاً بسيّدِنا إبراهيمِ.. لقد حَزَنَ سيّدُنا إبراهيمُ من أجلِ قومِ لوطٍ وما يَنتظرهُم من المَصيرِ الأسوَدِ بسببِ أعمالهم..
اللهُ ربُّنا وحتى يُدخِلَ الفَرَحَ في قلبِ إبراهيمَ بَشّرَهُ بوَلدٍ من سارة.. ولدٍ اسمُه إسحاق.. سَيكون نبيّاً من الأنبياء. وسَيكونُ من إسحاقَ وَلدٌ هو الآخَرُ سيكون نبيّاً له شأن.
سارةُ سَمِعت البُشرى فشَعَرت بالدَّهشَة.. قالت:
ـ كيفَ ألِدُ وأنا عجوزٌ وهذا بَعْلي شَيْخاً، إنّ هذا لَشيءٌ عَجيب ؟!
الملائكةُ قالت:
ـ لا تَعْجَبي من أمرِ الله.. إنّ اللهَ قادرٌ على كلِّ شيء..
وهكذا حدَثَت المُعجزة..
المرأةُ العجوزُ التي بَلَغَت التِّسعينَ من العمرِ تُنجِبُ صبيّاً هو إسحاقُ النبيّ.. كانَ إنساناً كريماً..
سيدُنا إبراهيم ابتهَجَ بمَولدِه لأنّ في سُلالَتهِ أنبياء كثيرين يحملون رسالةَ التوحيدِ والنور للناسِ جميعاً.
فنَشَأ إسحاقُ وحملَ مِيراثَ إبراهيم.. حملَ رسالةَ اللهِ، وكانَ أميناً في تَبليغِها مِثل كلِّ الأنبياء..
وتَحقّقت بِشارةُ الملائكةِ، فقد رَزَقَ الله إسحاقَ صبيّاً، هو يعقوب..
اللهُ سبحانه بارَكَ في آلِ إبراهيم.. أصبَحَ يعقوبُ نبيّاً، فحَملَ الأمانةَ ونَهضَ بحملِ الرسالة.
وتَزوّجَ سيدُنا يعقوبُ، فرَزقَه الله عشرةَ بنَين: شَمعون، لاوي، راوبين، يهوذا، يساكر، زوبولون، دان، نفتالى، جادو، أشير.
ثمّ تزوّجَ سيّدُنا يعقوب من راحيلَ ابنةِ خالهِ، فوُلِد يوسفُ، ثم شَقيقُه بَنامِين.
وهكذا أصبحَ لسيّدِنا يعقوبَ اثنا عَشرَ ولداً..
عاشَ آلُ إبراهيمَ في أرضِ فلسطينَ.. تلكَ الأرض الطيّبة المَليئة بالمُروجِ الخَضراءِ والمَراعي وأشجارِ الزَّيتون.
كان سيّدُنا يعقوبُ كأبيه إسحاقَ وجدِّه إبراهيمَ خليلِ الرحمنِ كريماً يُساعِدُ الفُقراءَ ويُكرِمُ الضُّيوفَ والغُرَباء..
لهذا كانَ سيّدُنا يعقوبُ يَذبَحُ في كلّ يومٍ كَبْشاً، فيُطعِمُ مِن لَحمهِ الفقراءَ ويأكلُ هو وعِيالُه منه.
وكانَ هناك رجلٌ صالحٌ اسمُه دميال؛ دميال كان رجُلاً فقيراً، وكان ذلكَ اليومَ صائماً.. لم يكن عنده طَعامٌ لإفطارِه، كان يَنتظرُ أن يَبعَثَ يعقوبُ إليه بالطعام..
سيّدُنا يعقوبُ كعادتهِ ذَبحَ كبشاً، ووَزّعَ لحمَهُ على الفقراءِ، وتعشّى هو وعيالُه منه، وباتُوا ليلتَهم تلك شِباعاً.
أمّا الرجلُ الفقيرُ دميال فقد نامَ جائعاً ونوى الصومَ في الغد.
كانَ دميال ذلك اليومَ صائماً، وضاعَفَ ألمَ الجُوعِ أنّه لم يَجِد شيئاً يُفطِرُ به في العشاء.. نام جائعاً.. تَحمَّل آلامَ الجُوع ونام..
ليس عِندَهُما أطفالٌ ولا أولاد.
فإسماعيلُ ابنُه عُمرهُ أربَعَةَ عَشَر سنةً، وهو في مكّة، وكان إبراهيمُ يزوره بين عامٍ وآخر.
تَذكُرونَ يا أعزّاءنا في قصةَ سيّدِنا لوط.. تَذكُرونَ الضُّيوفَ الثلاثةَ الذين جاءوا لإنقاذِ لوطٍ من تلك القريةِ الفاسدةِ التي كانت تعملُ المُنكَر..
وتَذكرونَ أنّهم مَرُّوا أولاً بسيّدِنا إبراهيمِ.. لقد حَزَنَ سيّدُنا إبراهيمُ من أجلِ قومِ لوطٍ وما يَنتظرهُم من المَصيرِ الأسوَدِ بسببِ أعمالهم..
اللهُ ربُّنا وحتى يُدخِلَ الفَرَحَ في قلبِ إبراهيمَ بَشّرَهُ بوَلدٍ من سارة.. ولدٍ اسمُه إسحاق.. سَيكون نبيّاً من الأنبياء. وسَيكونُ من إسحاقَ وَلدٌ هو الآخَرُ سيكون نبيّاً له شأن.
سارةُ سَمِعت البُشرى فشَعَرت بالدَّهشَة.. قالت:
ـ كيفَ ألِدُ وأنا عجوزٌ وهذا بَعْلي شَيْخاً، إنّ هذا لَشيءٌ عَجيب ؟!
الملائكةُ قالت:
ـ لا تَعْجَبي من أمرِ الله.. إنّ اللهَ قادرٌ على كلِّ شيء..
وهكذا حدَثَت المُعجزة..
المرأةُ العجوزُ التي بَلَغَت التِّسعينَ من العمرِ تُنجِبُ صبيّاً هو إسحاقُ النبيّ.. كانَ إنساناً كريماً..
سيدُنا إبراهيم ابتهَجَ بمَولدِه لأنّ في سُلالَتهِ أنبياء كثيرين يحملون رسالةَ التوحيدِ والنور للناسِ جميعاً.
فنَشَأ إسحاقُ وحملَ مِيراثَ إبراهيم.. حملَ رسالةَ اللهِ، وكانَ أميناً في تَبليغِها مِثل كلِّ الأنبياء..
وتَحقّقت بِشارةُ الملائكةِ، فقد رَزَقَ الله إسحاقَ صبيّاً، هو يعقوب..
اللهُ سبحانه بارَكَ في آلِ إبراهيم.. أصبَحَ يعقوبُ نبيّاً، فحَملَ الأمانةَ ونَهضَ بحملِ الرسالة.
وتَزوّجَ سيدُنا يعقوبُ، فرَزقَه الله عشرةَ بنَين: شَمعون، لاوي، راوبين، يهوذا، يساكر، زوبولون، دان، نفتالى، جادو، أشير.
ثمّ تزوّجَ سيّدُنا يعقوب من راحيلَ ابنةِ خالهِ، فوُلِد يوسفُ، ثم شَقيقُه بَنامِين.
وهكذا أصبحَ لسيّدِنا يعقوبَ اثنا عَشرَ ولداً..
عاشَ آلُ إبراهيمَ في أرضِ فلسطينَ.. تلكَ الأرض الطيّبة المَليئة بالمُروجِ الخَضراءِ والمَراعي وأشجارِ الزَّيتون.
كان سيّدُنا يعقوبُ كأبيه إسحاقَ وجدِّه إبراهيمَ خليلِ الرحمنِ كريماً يُساعِدُ الفُقراءَ ويُكرِمُ الضُّيوفَ والغُرَباء..
لهذا كانَ سيّدُنا يعقوبُ يَذبَحُ في كلّ يومٍ كَبْشاً، فيُطعِمُ مِن لَحمهِ الفقراءَ ويأكلُ هو وعِيالُه منه.
وكانَ هناك رجلٌ صالحٌ اسمُه دميال؛ دميال كان رجُلاً فقيراً، وكان ذلكَ اليومَ صائماً.. لم يكن عنده طَعامٌ لإفطارِه، كان يَنتظرُ أن يَبعَثَ يعقوبُ إليه بالطعام..
سيّدُنا يعقوبُ كعادتهِ ذَبحَ كبشاً، ووَزّعَ لحمَهُ على الفقراءِ، وتعشّى هو وعيالُه منه، وباتُوا ليلتَهم تلك شِباعاً.
أمّا الرجلُ الفقيرُ دميال فقد نامَ جائعاً ونوى الصومَ في الغد.
كانَ دميال ذلك اليومَ صائماً، وضاعَفَ ألمَ الجُوعِ أنّه لم يَجِد شيئاً يُفطِرُ به في العشاء.. نام جائعاً.. تَحمَّل آلامَ الجُوع ونام..
الرؤيا
وفي تلك الليلةِ.. بدأت حوادثُ القصّةِ المُثيرة التي وقَعَت قبل آلافِ السنين.
كان يوسفُ قد بَلَغ من العمرِ تِسعَ سِنين.. فتىً جميلٌ يَشُعّ النورُ من عينَيه، قلبُه مُفعَمٌ بالطُّهر..
كان جَمالُه يَتلألأ في وجههِ.. في عَينَيهِ التي تَشعّانِ صَفاءً.
من أجلِ هذا أحبَّه أبوه كما لمَ يُحِبَّ أحداً غيرَه.
سيّدُنا يعقوبُ كانَ يتَوسَّمُ فيه النبوّةَ.. ربّما يَختارهُ الله نبيّاً من بعده..
كان يوسفُ جميلاً ليس في وجههِ فقط، بل في رُوحهِ وأخلاقهِ وصِفاتِه.
عندما يراه المرءُ يَشعرُ أنه أمامَ مَلاكٍ هبَطَ من السماءِ، لهذا كانَ محبوباً من الجميع...
وكانَ أعظمَهُم حُبّاً له أبوه يعقوب.. كانَ يوسفُ طاهراً طُهْرَ قَطَرات النَّدى، وكانت عَيناهُ صافيتين صفاءَ السماء، وكان وجهُه يَتألّقُ كالنجوم.
من أجلِ هذا حَسَدَهُ إخوَتُه العشَرة... في البدايةِ حَسَدوه ثمّ حَقَدوا عليه.. وبعدها كانوا يَتمنَّون له الموت؛ وربّما خَطّطوا للتخلّصِ منه!
في تلك الليلة أغَمض يوسفُ عَينَيه وهو غافلٌ عمّا يَحُوكُ إخوتُه مِن دَسائسَ ومُؤامرات.
ورأى يوسفُ حُلماً عجيباً.. رأى أحَدَ عَشَرَ كوكباً، ورأى الشمسَ والقمرَ... رأى الجميعَ يَسجُدون له..
كانَ مَشهداً رائعاً يَبهَرُ الناظر.. شَعرَ يوسفُ أنّ تل الكواكبَ وأن الشمسَ والقمرَ لها شعورٌ وادراكٌ، وأنها جاءت بإرادتها لِتسَجُد له وتَخضَعَ عند قدَمَيه!!
أمرٌ عجيب.. تَعَجّبَ يوسف.. وأحَسَّ أن تلكَ الأجرامَ السماويّةَ المُنيرةَ تَبتسمُ له وتُمجّده.
أضاءت الرؤيا قلبَه.. وهَزَّت وُجدانَهُ.. واستيقَظَ يوسفُ.. وما تزال الرؤيا تُهيمنُ على مشاعرِهِ وأحاسيسِه..
كانت الرؤيا تملأ قلبَه وصدرَه وكيانَه.. وكانت صُورُ الكواكبِ والشمسِ القمرِ تَتراءى له، لَكأنّها ما تزالُ ماثلةً أمامه.
هَزَّت الرؤيا وجدانَهُ، لأنّه لا يعرفُ تفسيرَها. حارَ في تعبيرِها لهذا جاء إلى أبيه وقال:
يا أبتِ إنّي رَأيتُ أحَدَ عَشَرَ كَوكباً والشَّمسَ والقَمَرَ رَأيتُهُم لي ساجِدين .
يا أبي رأيتُهم اجتَمَعوا جميعاً ثم سَجَدوا.. شَعَرتُ أنّ تلك الكواكبَ كانت تُدرِكُ ما تَفعَل.. شَعَرتُ أنّها تَبتسمُ لي، ثمّ سَجَدتْ أمامي بخضوع.
أصغى سيّدُنا يعقوب باهتمامٍ إلى رؤيا يوسف.. أدركَ أنّ ليوسفَ شأناً في المستقبل.. شأناً عظيماً..
قال لابنهِ بإشفاق:
ـ يا بُنَيّ لا تَقْصُصْ رُؤياكَ على إخوَتِكَ فيَكيدوا لكَ كَيداً.. إنّ الشيطانَ للإنسانِ عدوٌّ مُبين .
يا بُنيّ، لا تُخبِر إخوتَكَ بهذه الرؤيا العجيبة.. لأنّهم سوف يَحسُدونَكَ وقد يُوَسوِسُ الشيطانُ في أنفسِهم..
إنّ الله سبحانه يا يوسفُ سوف يَختارُك لإبلاغِ رسالتهِ.. وسوف يُعلّمكَ تعبيرَ الرُّؤى والأحاديث.. سيُبارِكُكَ الله يا ولدي كما بارَكَ آباءك من قبلُ.. إبراهيمَ وإسحاقَ، وكما بارك آلَ يعقوب.
المؤامرة
تضاعَفَ الحَسَدُ في نفوسِ الإخوة العَشْرةِ.. وازدادَ حِقدُهم على يوسف.. ربّما سَمِعوا بالرؤيا! أو لعلّهم رأوا حُبَّ أبيهِم يَزدادُ أكثرَ فأكثر..
كانوا يذهبونَ كلَّ يومٍ إلى البَوادي لرَعْيِ الماشيةِ، وكانوا يُفكّرونَ في شيءٍ واحدٍ فقط هو: كيف يَتَخلّصونَ مِن يوسف!
الشيطانُ وَسْوَسَ في نفوسِهم، فَكّروا في قتلِه.. ولكن كيف ؟!
الشيطانُ وَسوَسَ في صدوِرهم، قالوا: نأخُذُه مَعَنا إلى المَراتِع، ثمّ نَتَخلّصُ منه!
وهكذا كانت المُؤامرة.
مرّتْ أيامٌ وهُم يَتظاهرونَ بحُبِّ يوسُف.. يَبْتَسِمونَ له ويُحَبّبونَ له الذَّهابَ معهم إلى الفَلاة؛ يَلعَبُ في تلك المُروجِ الجميلة.
كان يوسفُ بَريئاً طيّباً.. وكان طاهراً طُهْرَ قميصهِ الأبيضِ الجميل.
لهذا صَدَّقَهم.. صَدَّق حُبَّهمُ الكاذبَ، وأحبَّ الذَّهابَ معهم إلى الباديةِ تلك الأرض الواسعةِ والآفاقِ الجميلةِ والمُروجِ الخضراء.
ولكنّ سيّدَنا يعقوب كانَ يخافُ على ولدِه الغَدْرَ، كان لا يَسمَحُ له بالذَّهاب.
ذاتَ مساءٍ جاء الإخوةُ العشرةُ من الفَلاة.. ابتَسَموا ليوسفَ، قالوا له:
ما أجملَ تلكَ المَراتِعَ والمُروج! ما أجمَلَ تلك الفَلَوات.. لقد استَمْتَعنا كثيراً ولَعِبنا كثيراً، لماذا لا تأتي معنا يا يوسف ؟
يوسفُ كان يُحبّ الذهابَ؛ ولكنّه أيضاً كان يُطيعُ أباه، وهو لا يَفعلُ شيئاً دونَ إذنهِ.
إخوةُ يوسفَ العشرةُ قالوا:
سوف نَتحدّثُ مع والدِنا ليسمَحَ لك بالذَّهابِ معنا..
وَفرِح يوسف.
جلسَ الجميعُ حول مأدبةِ العشاء، وتناوَلوا طعامَهم بصَمت، وكان الإخوةُ العَشرةُ وحدَهُم يَتبادلونَ نَظَراتٍ ذاتَ معنى.
كانوا قد نَسَجوا مؤامرةً دنيئة كما تَنسِج العَنكبوتُ بَيتَها المُخيف.
في البدايةِ ابتَسَموا وتظاهَروا بحبِّ يوسف، وقالوا لأبيهم:
ـ يا أبانا ما لَكَ لا تَأمَنّا على يوسفَ وإنّا لَه لَناصحون.
نحنُ نُحبُّ يوسف يا أبانا.. نُحبُّه كثيراً.
يا أبانا أرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ ويَلْعَبْ وإنّا لَه لَحافِظون .
يا أبانا دَعْهُ يَنطلق معنا في الغدِ إلى المَراتع ليَلعبَ ويَلهو... سنُحافِظُ عليه ونَردُّه سالماً.
كان يعقوبُ لا يرغبُ بذهابِ يوسف مع أخوتهِ. إنّهم يَحسُدونَه وقد يَخدَعهُم الشيطانُ فيَغدرون به.
لهذا قال لهم بحزن:
ـ إنّي لَيَحزُنني أن تَذْهَبوا بهِ، وأخافُ أن يَأُكُلَه الذِّئبُ وأنتم عَنهُ غافِلون .
يا أولادي أنا أُحِبُّ يوسف.. إنّه ما يزالُ صغيراً وقد تَغفلون عنه، والذئابُ كثيرةٌ فيَفترسه ذئب.
قال أَبناؤه العشرة:
ـ نحنُ عَشرةُ فِتيان فكيف يأكُلُه الذئب ؟! سنُحافِظُ عليه كالرِّجال الأقوياء؛ و لَئِنْ أكَلَهُ الذِّئْبُ ونَحْنُ عُصْبَةٌ إنّا إذاً لَخاسِرون .
وأقسَمَ الإخوةُ العشرةُ على أن يُحافظوا على يوسفَ حتى يَرُدّوه سالماً.
سَكَت يعقوبُ عليه السّلام ولم يَقُل شيئاً، وأدرك الجميعُ أنّه قد رَضِي بقضاء الله.
تضاعَفَ الحَسَدُ في نفوسِ الإخوة العَشْرةِ.. وازدادَ حِقدُهم على يوسف.. ربّما سَمِعوا بالرؤيا! أو لعلّهم رأوا حُبَّ أبيهِم يَزدادُ أكثرَ فأكثر..
كانوا يذهبونَ كلَّ يومٍ إلى البَوادي لرَعْيِ الماشيةِ، وكانوا يُفكّرونَ في شيءٍ واحدٍ فقط هو: كيف يَتَخلّصونَ مِن يوسف!
الشيطانُ وَسْوَسَ في نفوسِهم، فَكّروا في قتلِه.. ولكن كيف ؟!
الشيطانُ وَسوَسَ في صدوِرهم، قالوا: نأخُذُه مَعَنا إلى المَراتِع، ثمّ نَتَخلّصُ منه!
وهكذا كانت المُؤامرة.
مرّتْ أيامٌ وهُم يَتظاهرونَ بحُبِّ يوسُف.. يَبْتَسِمونَ له ويُحَبّبونَ له الذَّهابَ معهم إلى الفَلاة؛ يَلعَبُ في تلك المُروجِ الجميلة.
كان يوسفُ بَريئاً طيّباً.. وكان طاهراً طُهْرَ قميصهِ الأبيضِ الجميل.
لهذا صَدَّقَهم.. صَدَّق حُبَّهمُ الكاذبَ، وأحبَّ الذَّهابَ معهم إلى الباديةِ تلك الأرض الواسعةِ والآفاقِ الجميلةِ والمُروجِ الخضراء.
ولكنّ سيّدَنا يعقوب كانَ يخافُ على ولدِه الغَدْرَ، كان لا يَسمَحُ له بالذَّهاب.
ذاتَ مساءٍ جاء الإخوةُ العشرةُ من الفَلاة.. ابتَسَموا ليوسفَ، قالوا له:
ما أجملَ تلكَ المَراتِعَ والمُروج! ما أجمَلَ تلك الفَلَوات.. لقد استَمْتَعنا كثيراً ولَعِبنا كثيراً، لماذا لا تأتي معنا يا يوسف ؟
يوسفُ كان يُحبّ الذهابَ؛ ولكنّه أيضاً كان يُطيعُ أباه، وهو لا يَفعلُ شيئاً دونَ إذنهِ.
إخوةُ يوسفَ العشرةُ قالوا:
سوف نَتحدّثُ مع والدِنا ليسمَحَ لك بالذَّهابِ معنا..
وَفرِح يوسف.
جلسَ الجميعُ حول مأدبةِ العشاء، وتناوَلوا طعامَهم بصَمت، وكان الإخوةُ العَشرةُ وحدَهُم يَتبادلونَ نَظَراتٍ ذاتَ معنى.
كانوا قد نَسَجوا مؤامرةً دنيئة كما تَنسِج العَنكبوتُ بَيتَها المُخيف.
في البدايةِ ابتَسَموا وتظاهَروا بحبِّ يوسف، وقالوا لأبيهم:
ـ يا أبانا ما لَكَ لا تَأمَنّا على يوسفَ وإنّا لَه لَناصحون.
نحنُ نُحبُّ يوسف يا أبانا.. نُحبُّه كثيراً.
يا أبانا أرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ ويَلْعَبْ وإنّا لَه لَحافِظون .
يا أبانا دَعْهُ يَنطلق معنا في الغدِ إلى المَراتع ليَلعبَ ويَلهو... سنُحافِظُ عليه ونَردُّه سالماً.
كان يعقوبُ لا يرغبُ بذهابِ يوسف مع أخوتهِ. إنّهم يَحسُدونَه وقد يَخدَعهُم الشيطانُ فيَغدرون به.
لهذا قال لهم بحزن:
ـ إنّي لَيَحزُنني أن تَذْهَبوا بهِ، وأخافُ أن يَأُكُلَه الذِّئبُ وأنتم عَنهُ غافِلون .
يا أولادي أنا أُحِبُّ يوسف.. إنّه ما يزالُ صغيراً وقد تَغفلون عنه، والذئابُ كثيرةٌ فيَفترسه ذئب.
قال أَبناؤه العشرة:
ـ نحنُ عَشرةُ فِتيان فكيف يأكُلُه الذئب ؟! سنُحافِظُ عليه كالرِّجال الأقوياء؛ و لَئِنْ أكَلَهُ الذِّئْبُ ونَحْنُ عُصْبَةٌ إنّا إذاً لَخاسِرون .
وأقسَمَ الإخوةُ العشرةُ على أن يُحافظوا على يوسفَ حتى يَرُدّوه سالماً.
سَكَت يعقوبُ عليه السّلام ولم يَقُل شيئاً، وأدرك الجميعُ أنّه قد رَضِي بقضاء الله.
الذئابُ البشرية
طَلَع الفجرُ.. واستَعدّ الإخوةُ العشرةُ للانطلاقِ إلى البَوادي البعيدةِ حيثُ المُروجُ الخضراءُ والفَلَواتُ والنَّسائمُ الطيّبة.
وجاء يوسفُ مُبتَهِجاً بِذَهابهِ معهم.
كانوا يَبتسِمونَ له فتَضاعَفَ حُبُّه لهم. كان يوسفُ مِثلَ مَلاكٍ ليس في قلبهِ الطاهرِ سوى المحبّةِ والرحمة والطِّيبة.
وهكذا انطلَقَ الجميعُ يَسُوقونَ الماشية.
وعندما أمعَنوا في الفلاةِ وغابَتْ عن العُيونِ مَضاربُ الخِيامِ.. غابت تلكَ الابتساماتُ الكاذبة.. ذابت كما يَذوبُ المِلحُ في المياه.
جاءَ يهوذا وصَفَع يوسفَ بشدّةٍ وصاحَ به:
ـ أسرِعْ يا بنَ راحِيل!
تَعجّبَ يوسفُ لهذا العمل.. نَظَر إلى أخيهِ بِدَهشَة.. تَصوَّر أنّه يَمْزَحُ معه... ولكنْ لا! إنّ عَينَيهِ تَبرقانِ بالشَّرّ؛ وقد ظَهرَت أسنانُه مثلَ أنيابِ ذئبٍ مُتوحِّش..
شَعَر يوسفُ بالخوف.. وأسرَعَ في مَشيه.. فُوجئ بِرَكْلَةٍ من أخٍ آخَر!! سقَطَ على وجههِ، ونَظَر إلى مَن رَكَلَه، كانَ شَمْعُون.
قال يوسف بألم!!
ـ لماذا يا شَمعون ؟ أنا أخوك.. أنا ابنُ يعقوب.
صاح راوبين:
ـ اسكُتْ لا تَتفوَّه أبداً، أنتَ ابنُ راحِيل..
بكى يوسفُ، خَنَقته العَبْرةُ، قال لهم:
أنا أخوكُم.. أنا يوسف.
تَحَلّقوا حولَهُ جمَيعاً وصاحوا:
ـ بَلْ أنت عَدوُّنا.. عَدوّنا الذي استحْوَذَ على قلب يعقوب.
بَرقَت العيونُ بالشرِّ، واستَلَّ أحدُهُم خنجرَهُ لِيقتُلَه. ركضَ يوسفُ.. لا يدري أينَ يَذهب..
ركضَوا وراءه وأمَسكوا به.. انهالُوا علَيه بالضَّرب.. نَزَف من أنفِه الدمُ..
تبادلَ الإخوةُ العشرةُ النَّظرات..
قالَ أحدُهم:
ـ ماذا تَنتظرون ؟! هذه فُرصَتُنا للتخلّصِ منه.
قال آخَرُ بصوتٍ يُشبِهُ فَحيحَ الأفاعي:
ـ لنَأخُذْه إلى مكانٍ بعيدٍ ونَرميه.. وهناكَ تَفترسُه الذئابُ وتُريحُنا منه.
اعترضَ بعضُهم قائلاً:
ـ وربّما استطاعَ العَودةَ فيفَضَحنا أمامَ أبينا.
قال شمعون:
ـ أُصْغُوا إليَّ.. نَذهبُ به إلى طريق القَوافل.. هناك بئرٌ عميقةُ الغَور... نُلقيهِ في البئر.. فإمّا أن يموتَ فيها أو تَنَتِشلَهُ القوافلُ وتأخُذَه بعيداً، وسوف يُباع ويُشترى مِثلَ كلِّ العبيد.
أصغى الجميعُ باهتمامٍ إلى خطّةِ شمعون، وبَرقَت العيونُ بتلك المؤامرةِ الدنيئة.
تَحوّلَ الإخوة إلى ذئابٍ لا تَعرفُ غيرَ الغَدر؛ وظلّ يوسفُ يَنظرُ إلى إخوتهِ بدهشة.. تصَوَّر نفسَه في حُلُمٍ مُخيف.. ولكنْ.. لا لا.. إنّها الحقيقة.. إنّ إخوتَه يتآمرونَ عليه منذ وقتٍ طويل.
وأخيراً تَمكّنوا من تحقيقِ هَدَفهِم.. جاءوا به إلى هذهِ الصحراءِ حتى لا يُشاهِدَهُم أحد... وحتى لا يعَرِفَ أحدٌ ماذا فعلوا بيوسف!!
نظَرَ يوسفُ إلى السماء.. تساءَلَ في نفسِه.. ألا يَدري إخوتُه أنّ الله يُراقِبهُم جميعاً ويَعرِفُ حتَّى أسرارَهُم ؟!
سَمِعَهُم يقولون:
ـ سوف نَتُوبُ من فِعلتِنا ونُصبِحُ قوماً صالحين!
طَلَع الفجرُ.. واستَعدّ الإخوةُ العشرةُ للانطلاقِ إلى البَوادي البعيدةِ حيثُ المُروجُ الخضراءُ والفَلَواتُ والنَّسائمُ الطيّبة.
وجاء يوسفُ مُبتَهِجاً بِذَهابهِ معهم.
كانوا يَبتسِمونَ له فتَضاعَفَ حُبُّه لهم. كان يوسفُ مِثلَ مَلاكٍ ليس في قلبهِ الطاهرِ سوى المحبّةِ والرحمة والطِّيبة.
وهكذا انطلَقَ الجميعُ يَسُوقونَ الماشية.
وعندما أمعَنوا في الفلاةِ وغابَتْ عن العُيونِ مَضاربُ الخِيامِ.. غابت تلكَ الابتساماتُ الكاذبة.. ذابت كما يَذوبُ المِلحُ في المياه.
جاءَ يهوذا وصَفَع يوسفَ بشدّةٍ وصاحَ به:
ـ أسرِعْ يا بنَ راحِيل!
تَعجّبَ يوسفُ لهذا العمل.. نَظَر إلى أخيهِ بِدَهشَة.. تَصوَّر أنّه يَمْزَحُ معه... ولكنْ لا! إنّ عَينَيهِ تَبرقانِ بالشَّرّ؛ وقد ظَهرَت أسنانُه مثلَ أنيابِ ذئبٍ مُتوحِّش..
شَعَر يوسفُ بالخوف.. وأسرَعَ في مَشيه.. فُوجئ بِرَكْلَةٍ من أخٍ آخَر!! سقَطَ على وجههِ، ونَظَر إلى مَن رَكَلَه، كانَ شَمْعُون.
قال يوسف بألم!!
ـ لماذا يا شَمعون ؟ أنا أخوك.. أنا ابنُ يعقوب.
صاح راوبين:
ـ اسكُتْ لا تَتفوَّه أبداً، أنتَ ابنُ راحِيل..
بكى يوسفُ، خَنَقته العَبْرةُ، قال لهم:
أنا أخوكُم.. أنا يوسف.
تَحَلّقوا حولَهُ جمَيعاً وصاحوا:
ـ بَلْ أنت عَدوُّنا.. عَدوّنا الذي استحْوَذَ على قلب يعقوب.
بَرقَت العيونُ بالشرِّ، واستَلَّ أحدُهُم خنجرَهُ لِيقتُلَه. ركضَ يوسفُ.. لا يدري أينَ يَذهب..
ركضَوا وراءه وأمَسكوا به.. انهالُوا علَيه بالضَّرب.. نَزَف من أنفِه الدمُ..
تبادلَ الإخوةُ العشرةُ النَّظرات..
قالَ أحدُهم:
ـ ماذا تَنتظرون ؟! هذه فُرصَتُنا للتخلّصِ منه.
قال آخَرُ بصوتٍ يُشبِهُ فَحيحَ الأفاعي:
ـ لنَأخُذْه إلى مكانٍ بعيدٍ ونَرميه.. وهناكَ تَفترسُه الذئابُ وتُريحُنا منه.
اعترضَ بعضُهم قائلاً:
ـ وربّما استطاعَ العَودةَ فيفَضَحنا أمامَ أبينا.
قال شمعون:
ـ أُصْغُوا إليَّ.. نَذهبُ به إلى طريق القَوافل.. هناك بئرٌ عميقةُ الغَور... نُلقيهِ في البئر.. فإمّا أن يموتَ فيها أو تَنَتِشلَهُ القوافلُ وتأخُذَه بعيداً، وسوف يُباع ويُشترى مِثلَ كلِّ العبيد.
أصغى الجميعُ باهتمامٍ إلى خطّةِ شمعون، وبَرقَت العيونُ بتلك المؤامرةِ الدنيئة.
تَحوّلَ الإخوة إلى ذئابٍ لا تَعرفُ غيرَ الغَدر؛ وظلّ يوسفُ يَنظرُ إلى إخوتهِ بدهشة.. تصَوَّر نفسَه في حُلُمٍ مُخيف.. ولكنْ.. لا لا.. إنّها الحقيقة.. إنّ إخوتَه يتآمرونَ عليه منذ وقتٍ طويل.
وأخيراً تَمكّنوا من تحقيقِ هَدَفهِم.. جاءوا به إلى هذهِ الصحراءِ حتى لا يُشاهِدَهُم أحد... وحتى لا يعَرِفَ أحدٌ ماذا فعلوا بيوسف!!
نظَرَ يوسفُ إلى السماء.. تساءَلَ في نفسِه.. ألا يَدري إخوتُه أنّ الله يُراقِبهُم جميعاً ويَعرِفُ حتَّى أسرارَهُم ؟!
سَمِعَهُم يقولون:
ـ سوف نَتُوبُ من فِعلتِنا ونُصبِحُ قوماً صالحين!
في أعماق البئر
يوسفُ حتّى تلك اللحظةِ لَم يُصدِّقْ ما يَفعلُه إخوتُه به..
ولكنْ عندما وجَدَ نفسَهُ على حافّةِ البئر أدركَ أنّ الشيطانَ قد تَمكّنَ من إخوتهِ، وقد تَحوّلوا إلى ذئابٍ بشريّة لا رحمةَ في قُلوبِها.
جَرَّدُوهِ مِن قميصهِ الذي أهداه أبوه إليه.. قميصِه الأبيضِ الجميل..
كانَ يوسفُ يَهتِفُ بهم:
أنا أخوكُم.. أُريدُ أن أعودَ إلى أبي وأُمّي وخَيمَتي.. أنا أُحبُّكم يا أخوتي، لماذا تَفعلونَ بِي هكذا.. أحَقّاً تُلْقُوني في هذه البئرِ المظلمة.. شمعون.. راوبين.. يهوذا ؟!
راحَ يوسفُ يُنادِيهم باسمائِهم.. ولكنْ لا أحدَ في قلبهِ رحمةٌ لأخيهِ..
اندَفَع بعضُهم، وراح يَركُلُه بقوّةٍ. وأخيراً ضَعُفَت مُقاوَمتُه ولَم يستَطِعْ أن يَتَشبّثَ بحافةِ البئرِ، فهوَى إلى الأعماقِ المُظلِمة..
الهواءُ داخلَ البئرِ كانَ رَطْباً، والفضاءُ كانَ مُظلِماً، وكان يوسفُ يَنظُرُ إلى فُوهةِ البئر.. كانَ ينظرُ إلى السماءِ الزرقاءِ الصافية.
شَعرَ يوسفُ أن قلبَهُ يَمتلئُ بالنورِ، وأن مَلاكاً يُحدِّثُه بهدوءٍ، يقولُ له: اصبِرْ يا يوسف.. لَسَوفَ تَخرُجُ مِن هذه البئر، وسوف تُخبِرُ إخوتَكَ هؤلاءِ بما فَعَلوا بك...
غادَرَ الخَوفُ قلبَ يوسف.. لقد كانَ مُؤمناً بالله، وكانَ واثِقاً بأنّ ما حَصَلَ هو امتِحانٌ له.. لهذا صَبرَ يوسفُ، وكانَ يَنتظرُ ما يَجري بهدوء.
الصمتُ يَغمُرُ المكانَ.. يوسفُ هو الآن في البئرِ جالسٌ فوقَ الصخرةِ التي يَنبَعُ مِن تَحتِها الماء...
كان ينظرُ إلى السماء.. وشيئاً فشيئاً تلاشَت الزُّرقَة.. أدرَك أن الشمسَ قد غابَت وأن إخوَتَهُ سيَعودون.. فبكى من أجلِ أبيه... ونامَ يوسف...
يوسفُ حتّى تلك اللحظةِ لَم يُصدِّقْ ما يَفعلُه إخوتُه به..
ولكنْ عندما وجَدَ نفسَهُ على حافّةِ البئر أدركَ أنّ الشيطانَ قد تَمكّنَ من إخوتهِ، وقد تَحوّلوا إلى ذئابٍ بشريّة لا رحمةَ في قُلوبِها.
جَرَّدُوهِ مِن قميصهِ الذي أهداه أبوه إليه.. قميصِه الأبيضِ الجميل..
كانَ يوسفُ يَهتِفُ بهم:
أنا أخوكُم.. أُريدُ أن أعودَ إلى أبي وأُمّي وخَيمَتي.. أنا أُحبُّكم يا أخوتي، لماذا تَفعلونَ بِي هكذا.. أحَقّاً تُلْقُوني في هذه البئرِ المظلمة.. شمعون.. راوبين.. يهوذا ؟!
راحَ يوسفُ يُنادِيهم باسمائِهم.. ولكنْ لا أحدَ في قلبهِ رحمةٌ لأخيهِ..
اندَفَع بعضُهم، وراح يَركُلُه بقوّةٍ. وأخيراً ضَعُفَت مُقاوَمتُه ولَم يستَطِعْ أن يَتَشبّثَ بحافةِ البئرِ، فهوَى إلى الأعماقِ المُظلِمة..
الهواءُ داخلَ البئرِ كانَ رَطْباً، والفضاءُ كانَ مُظلِماً، وكان يوسفُ يَنظُرُ إلى فُوهةِ البئر.. كانَ ينظرُ إلى السماءِ الزرقاءِ الصافية.
شَعرَ يوسفُ أن قلبَهُ يَمتلئُ بالنورِ، وأن مَلاكاً يُحدِّثُه بهدوءٍ، يقولُ له: اصبِرْ يا يوسف.. لَسَوفَ تَخرُجُ مِن هذه البئر، وسوف تُخبِرُ إخوتَكَ هؤلاءِ بما فَعَلوا بك...
غادَرَ الخَوفُ قلبَ يوسف.. لقد كانَ مُؤمناً بالله، وكانَ واثِقاً بأنّ ما حَصَلَ هو امتِحانٌ له.. لهذا صَبرَ يوسفُ، وكانَ يَنتظرُ ما يَجري بهدوء.
الصمتُ يَغمُرُ المكانَ.. يوسفُ هو الآن في البئرِ جالسٌ فوقَ الصخرةِ التي يَنبَعُ مِن تَحتِها الماء...
كان ينظرُ إلى السماء.. وشيئاً فشيئاً تلاشَت الزُّرقَة.. أدرَك أن الشمسَ قد غابَت وأن إخوَتَهُ سيَعودون.. فبكى من أجلِ أبيه... ونامَ يوسف...
الحُزن الطويل
غابَتِ الشمسُ.. وما يزالُ الإخوةُ العَشرةُ يُفكِّرونَ بِعُذرٍ مَقبولٍ يُقدّمونَهُ إلى أبيهم...
قالَ أحدُ هم: إنّ الأرضَ مَليئةٌ بالذِّئاب.. فنقول لأبينا: ذَهَبْنا نَتَسابقُ وتَرَكنا أمتِعَتَنا عند يوسفَ، فجاء الذئبُ وافتَرَسَه... ثُمّ نُعطيه قميصَ يوسفَ بعد أن نُلطِّخَهُ بالدم.
في ذلك اليومِ أنجَبَت نَعجَةٌ حَمْلاً صغيراً... وحتّى لا يَشُكَّ بهم أبوهم ذَبَحوا الحملَ الصغيرَ أمامَ أُمّه دون رحمة... ولَطَّخوا قميصَ يوسفَ بدمهِ...
وهكذا عادُوا إلى أبيهم...
كان الظلامُ قد غَمَر الأرض... اختارُوا العَودةَ في الظلامِ حتى لا يرى يعقوبُ علاماتِ الكذبِ في وجوههم.
كانَ سيّدُنا يعقوبُ واقفاً ينتظرُ عَودةَ أبنائِه. من بَعيدٍ.. سَمِعَ أصواتَ الماشيةِ، وسَمع صوتَ بُكاء...
وشيئاً فشيئاً لاحَ له أبناؤه.. ولكن يوسف لم يَكُن معهم.. جاءوا جميعُهم إلاّ يوسف..
رآهمُ يَبكونَ بصوتٍ عالٍ... يَبكون بلا دموعٍ...
سألَ يعقوب:
ـ أينَ أخوكُم يوسف.
ازدادَ بُكاؤهم.. وقَدَّم شَمعونُ قميصَ يوسفَ المُلَطَّخَ بدماءِ المؤامرةِ الدنيئة، قالَ لأبيه:
ـ ذَهَبْنا نَتَسابَقُ وتَرَكْنا أمتِعَتَنا لدى يوسف.. فجاءَ ذئبٌ وافتَرَسَ يوسف.. وَجَدْنا قَميصَهُ الدامي.. يا أبانا لقد أكَلَ الذئبُ يوسف في غفلةٍ منا.
فنظرَ يعقوبُ إلى القميصِ كانَ سالماً ليس فيه شَقٌّ واحدٌ، أدركَ يعقوبُ أنهم يَكذبونَ عليه..
قالَ وهو يبكي:
ـ ما أرأفَ ذلكَ الذئب... أكلَ حبيبي يوسفَ ولم يَشُقَّ له قميصاَ!!
تبادلَ الإخوةُ العشرةُ النَّظرات.. قالوا في أنفُسِهم: ما أغبانا! كيف غَفَلنا عن هذا الأمر ؟ لو أننا مَزَّقنا القميصَ لصَدَّقَنا أبونا.
ولكنّهم وبدَلَ أن يَعترِفوا بجريمتِهم قالوا:
ـ أنت لا تُصَدِّقُنا يا أبانا... مع أننا لا نَكذِب أبداً. لقد أكَلَ الذئبُ يوسف، وهذا قميصُه الدامي!
بكى يعقوبُ.. هَمَلت عَيناهُ بالدموعِ، وقال:
بَلْ سَوَّلَتْ لَكُم أنفُسُكُم أمْراً فَصَبرٌ جَميلٌ واللهُ المُستَعانُ على ما تَصِفون .
قالَ يعقوبُ: سأصِبرُ، سأتَحَّمل، وأنا أعرِفُ أنَّ نفوسَكُم قد وَسْوَسَت لكم.
في تلك الليلةِ لَم يَنَمْ سيّدُنا يعقوب. كان يُفكّرُ في شيءٍ واحدٍ فقط هو: أين يوسفُ ابنُه الطاهر... ولدُه الطيِّبُ البارّ ؟ ومنذ تلكَ الليلة بدأ حزنُ يعقوبَ الطويل.
لؤلؤة في البئر
اللهُ سبحانه لم يَترُكْ يوسفَ وحيداً.. هو مع كلِّ الناسِ الطيّبين.. كان يوسفُ حزيناً، ولكنْ كانَ صابراً يَعرِفُ أنّ ماحَدَثَ هو امتحانٌ له.. لهذا كانَ ينظرُ إلى السماءِ ويُتَمِتمُ بكلماتِ الحمد.
رأى يوسفُ في عالَم الرؤيا أحَدَ عَشَرَ كوكباً ورأى الشمسَ والقمرَ، رآهُم يَهبِطونَ إلى داخلِ البئر، فامتلأ نوراً.. رآهم يَبتَسِمونَ له ويَسجُدونَ احتراماً وإجلالاً..
واستَيقظَ يوسفُ من غَفْوَتِه.. وتَطَلَّع إلى السماءِ الزرقاء.. رأى سِرْباً من الطيورِ البيضاءِ المُهاجرة.. فدَمِعَت عيناهُ من أجلِ أبيه.
مَرَّت ثلاثةُ أيّامٍ ويوسفُ في داخلِ البئر.. مِثل لؤلؤة في أعماقِ البحر... مثلِ لؤلؤةٍ في أعماقِ الظُّلمة. لا أحدَ يَعرِفُ أنّ في هذه البئر لؤلؤةً ما خَلَقَ اللهُ أجملَ منها... إنها روحُ يوسفَ ذلك الفَتى الطاهر الجميل.. لا أحدَ يعرفُ ذلك إلاّ الله سبحانه.
ثلاثةَ أيامٍ ويوسفُ لا يأكلُ شيئاً.. كان يَكتَفي بشربِ الماء... يوسفُ تَعوّدَ الصومَ كان يَصومُ مع أبيه.. فتَحمّلَ آلامَ الجُوعِ بصبر.
من أجل هذا كانت رُوحُه شفّافةً طاهرة... مِثلَ أجنحةِ الطيورِ البيضاءِ المُهاجِرة.
اللهُ سبحانه لم يَترُكْ يوسفَ وحيداً.. هو مع كلِّ الناسِ الطيّبين.. كان يوسفُ حزيناً، ولكنْ كانَ صابراً يَعرِفُ أنّ ماحَدَثَ هو امتحانٌ له.. لهذا كانَ ينظرُ إلى السماءِ ويُتَمِتمُ بكلماتِ الحمد.
رأى يوسفُ في عالَم الرؤيا أحَدَ عَشَرَ كوكباً ورأى الشمسَ والقمرَ، رآهُم يَهبِطونَ إلى داخلِ البئر، فامتلأ نوراً.. رآهم يَبتَسِمونَ له ويَسجُدونَ احتراماً وإجلالاً..
واستَيقظَ يوسفُ من غَفْوَتِه.. وتَطَلَّع إلى السماءِ الزرقاء.. رأى سِرْباً من الطيورِ البيضاءِ المُهاجرة.. فدَمِعَت عيناهُ من أجلِ أبيه.
مَرَّت ثلاثةُ أيّامٍ ويوسفُ في داخلِ البئر.. مِثل لؤلؤة في أعماقِ البحر... مثلِ لؤلؤةٍ في أعماقِ الظُّلمة. لا أحدَ يَعرِفُ أنّ في هذه البئر لؤلؤةً ما خَلَقَ اللهُ أجملَ منها... إنها روحُ يوسفَ ذلك الفَتى الطاهر الجميل.. لا أحدَ يعرفُ ذلك إلاّ الله سبحانه.
ثلاثةَ أيامٍ ويوسفُ لا يأكلُ شيئاً.. كان يَكتَفي بشربِ الماء... يوسفُ تَعوّدَ الصومَ كان يَصومُ مع أبيه.. فتَحمّلَ آلامَ الجُوعِ بصبر.
من أجل هذا كانت رُوحُه شفّافةً طاهرة... مِثلَ أجنحةِ الطيورِ البيضاءِ المُهاجِرة.
القافلة
مَرَّت ثلاثةُ أيامٍ على يوسفَ وهو في البئرِ، لم يَسمَعْ خلالَها سوى عُواءِ الذئابِ وهي تَجُوبُ الفَلاة.
وفجأة سَمِعَ أصواتاً غريبة! أرهَفَ سَمْعَهُ جيّداً. نعم إنّها قافلةٌ تجاريّة... عرَفَ ذلك من وَقْعِ خُطى الجِمالِ وأصواتِ الرِّجال.
تَوقَّفت القافلةُ قريباً من البئر... وأرسَلَ التجّارُ « الوارِدَ » لِيَستَقي من البئر..
ألقى الرجلُ دَلْوَهُ إلى أعماقِ البئر. كان يوسفُ يَنتظرُ هذه اللحظة.. كان الحبلُ هو حبل نجاتهِ وخَلاصهِ من البئر، تَدفَّق نَبعٌ من الفَرَح في قلبه! إنّ الله لا ينسى عبادَه، فأنقذَهَ مَن هذه البئرِ المُظلمة.
مِثلَ لؤلوةٍ تَخرُجُ مِن صَدَفةٍ.. خَرَجَ يوسفُ من البئر مِثلَ قمرٍ يَشُقُّ طريقَهُ وسطَ الظلامِ.. سَطَعَ وجهُ يوسفَ وأضاءَ المكان..
حتّى « الوارِد » لم يَخَفْ مِن المُفاجأة.. صاح:
ـ يا بُشرى! هذا غُلام.. يا لَلْفَرحة...
تجّارُ القافلةِ ظنّوا أن يوسفَ عبدٌ من العبيدِ الآبِقين، فَرَّ فسَقَطَ في هذه البئر..
لهذا لم يَسألوه عن قبيلتهِ وأصلهِ وقصّتهِ.. جَعَلوه ضمنَ البضائعِ التي سيَبيعونَها في مصر.
مصر
استأنَفَت القافلةُ طريقَها إلى مصر... وبعدَ اثنَي عَشَرَ يوماً وَصَلت إلى مصر، وهناكَ بدَأ فصلٌ جديدٌ من قصّةِ يوسف.
يوسفُ هوالآن في مصر، حيث يَختَرِقُ نهرُ النيلِ تلكَ الأرضَ ويَهَبُها الخِصْب.
يوسفُ ما يزالُ حتّى الآن صغيراً، ألقَتْ به المَقاديرُ في تلك الأرض... أصبَحَ بِضاعةً يُريدُ التجّارُ بَيْعَها في مصر.
يوسفُ تعلّم الصَّمت... ولكنّ قلبَهُ مليء بالحُبّ... بحُبِّ الله سبحانه الذي أحسَنَ إليه.
التجّارُ خافوا مِن سُكوتِه.. خافوا إذا ما تَكلّم وقال إنّه ليس عبداً لهم، لهذا أرادوا بَيعَهُ ولو بمبلغٍ زَهيد.
رأى يوسفُ نفسَه في أرضٍ جديدة؛ أرضٍ لم يَرَها من قَبلُ، رأى نهرَ النيلِ القادمِ من الجنوب... ورأى فيه الزوارقَ تَنسابُ فوق مِياهه النَّيليّة.. ورأى الفلاّحينَ يَنقلونَ المياهَ بالدِّلاءِ لريِّ حُقولِهم ومَزارعِهم.
عَرَضَت القافلةُ بضائعَها من خَشَبٍ وفِضة؛ وعَرَضت أيضاً يوسفَ. كان هَمّ التجّار بَيعه حتّى لو بثمنٍ زهيد..
في ذلك اليومِ.. جاءَ « العزيزُ » وهو المسؤول الأعلى عن أمنِ مصر، وتَفقّد بنفسِه القافلة..
رجالُ الحَرَسِ يَحفّونَ العزيزَ وهو يَستعرضُ البضائعَ والتجّارَ، ووَقَعت عيناهُ على يوسف.. تساءل عن ذلك الفتى البَهيِّ الوَجه..
قالوا له: إنه غُلامٌ للبيع..
تساءلَ عن ثمنهِ، فقالوا: نَبيعُه بعشرينِ درهماً فقط.
نَقدَهُم « العزيزُ » الثَّمنَ، وكانوا فَرِحين.. فباعُوه وكانوا فيه من الزاهدين.
وهكذا انتقَلَ يوسفُ إلى قصرٍ كبيرٍ تَحُوطُه الحدائقُ، فهو قَصرُ عزيزِ مصرَ الرجلِ الثاني في الدولة.
دَخَلَ يوسفُ القصرَ، ووَقَعَت عيناه على سيّدةٍ حَسْناءَ عَرَفَ أنها زوجةُ العزيزِ وصاحبةُ القصرِ المُنيف.
قالَ العزيزُ لزوجتهِ: « أكْرِمي مَثْواه » إنّه فتى أتوسّمُ فيه الخيرَ، ربّما يَنفَعُنا « أو نَتَّخِذهُ وَلَداً » نحن محرومونَ من الوَلَد، فلنتّخِذْ من يوسفَ ولداً لنا.
نَظَرت « زَليخا » إلى يوسف.. كان فتىً بهيَّ الطَّلعة مُشرِقَ الوجهِ يَشُعُّ من عَينَيهِ الصفاء.. لَكأنه مَلاكٌ هَبَطَ من السماء.
في ذلك اليوم اغتَسلَ يوسفُ في الحمّام وارتَدى حُلّةً جديدةً، حلّةً مصنوعةً من خيوطِ الكَتّانِ كانت أرَقَّ من الحرير.
كان المِصريّون في ذلك الزمنِ يَزرعونَ الكَتّانَ ويَنسِجونَ من خُيوطهِ أنواعَ الثيابِ والحُلَل.
كان يوسفُ يعيشُ سيّداً في القصر، ومع ذلك فقانونُ البلادِ يَعتبرُه عَبداً للعزيزِ وزوجتهِ لأنّه مِلْكٌ لهما.
وهكذا عاشَ يوسفُ في واحدٍ من أجمَلِ وأكبَرِ القُصورِ المصريّة.
ولكن هل كان يوسفُ سعيداً بحياتهِ الجديدة ؟ كلاّ.
كان يَحِنُّ إلى أبيه وإلى تلك البَوادي.. هناك يعيشُ ناعِمَ البالِ يَعبُد الله وحدَهُ ولا يُشركُ به شيئاً.
أمّا هنا.. فالناسُ يَعبُدونَ الأوثان، ويعبدونَ المَلِكَ أيضاً.
ومع ذلك عاشَ يوسفُ صابراً مؤمناً باللهِ وبأنبيائه إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوب.
عاشَ يوسفُ وكانَ قلبُه يمتلئ كلَّ يومٍ بالإيمان، وكانَ الصفاءُ يَشُعُّ من عينيهِ أكثرَ فأكثر.
كلُّ الناسِ أحَبُّوه... أحَبُّوا فيه صفاءه وشَهامَته وأخلاقَه، وهو أيضاً كان يُحبُّ الناسَ يُريدُ لهم الخير.. يُساعدُ الفقيرَ والبائس، فإذا رأى فلاّحاً مُتْعَباً ساعَدَه، أو رأى عامِلاً عَجُوزاً هَبَّ إلى إعانته.
هكذا عاشَ يوسف.. كانَ يَكبرُ كلَّ عام، وكانت رُوحُه تَكبُرُ كلَّ يومٍ، وقلبُه يَكبرُ ويَكبُر، ويَتدَفّقُ رحمةً وطِيبة.
وتَمُرّ الأعوام.. حتّى إذا بَلغَ أشُدَّهُ وبَلَغَ من العمرِ ثماني عشرة سنةً أضاءت في قلبهِ الحقيقة.. أصبَحَ يَشعُرُ بها أكثر فأكثر، تُضيء مِثل الشمسِ والنجوم.
كان يوسفُ مؤمناً بالله.. لا يُحبّ أحداً مثل حُبّه لله.. لا يخافُ من أحدٍ خَوفَهُ من الله.. ولا يَهابُ أحداً غيرَ الله.
استأنَفَت القافلةُ طريقَها إلى مصر... وبعدَ اثنَي عَشَرَ يوماً وَصَلت إلى مصر، وهناكَ بدَأ فصلٌ جديدٌ من قصّةِ يوسف.
يوسفُ هوالآن في مصر، حيث يَختَرِقُ نهرُ النيلِ تلكَ الأرضَ ويَهَبُها الخِصْب.
يوسفُ ما يزالُ حتّى الآن صغيراً، ألقَتْ به المَقاديرُ في تلك الأرض... أصبَحَ بِضاعةً يُريدُ التجّارُ بَيْعَها في مصر.
يوسفُ تعلّم الصَّمت... ولكنّ قلبَهُ مليء بالحُبّ... بحُبِّ الله سبحانه الذي أحسَنَ إليه.
التجّارُ خافوا مِن سُكوتِه.. خافوا إذا ما تَكلّم وقال إنّه ليس عبداً لهم، لهذا أرادوا بَيعَهُ ولو بمبلغٍ زَهيد.
رأى يوسفُ نفسَه في أرضٍ جديدة؛ أرضٍ لم يَرَها من قَبلُ، رأى نهرَ النيلِ القادمِ من الجنوب... ورأى فيه الزوارقَ تَنسابُ فوق مِياهه النَّيليّة.. ورأى الفلاّحينَ يَنقلونَ المياهَ بالدِّلاءِ لريِّ حُقولِهم ومَزارعِهم.
عَرَضَت القافلةُ بضائعَها من خَشَبٍ وفِضة؛ وعَرَضت أيضاً يوسفَ. كان هَمّ التجّار بَيعه حتّى لو بثمنٍ زهيد..
في ذلك اليومِ.. جاءَ « العزيزُ » وهو المسؤول الأعلى عن أمنِ مصر، وتَفقّد بنفسِه القافلة..
رجالُ الحَرَسِ يَحفّونَ العزيزَ وهو يَستعرضُ البضائعَ والتجّارَ، ووَقَعت عيناهُ على يوسف.. تساءل عن ذلك الفتى البَهيِّ الوَجه..
قالوا له: إنه غُلامٌ للبيع..
تساءلَ عن ثمنهِ، فقالوا: نَبيعُه بعشرينِ درهماً فقط.
نَقدَهُم « العزيزُ » الثَّمنَ، وكانوا فَرِحين.. فباعُوه وكانوا فيه من الزاهدين.
وهكذا انتقَلَ يوسفُ إلى قصرٍ كبيرٍ تَحُوطُه الحدائقُ، فهو قَصرُ عزيزِ مصرَ الرجلِ الثاني في الدولة.
دَخَلَ يوسفُ القصرَ، ووَقَعَت عيناه على سيّدةٍ حَسْناءَ عَرَفَ أنها زوجةُ العزيزِ وصاحبةُ القصرِ المُنيف.
قالَ العزيزُ لزوجتهِ: « أكْرِمي مَثْواه » إنّه فتى أتوسّمُ فيه الخيرَ، ربّما يَنفَعُنا « أو نَتَّخِذهُ وَلَداً » نحن محرومونَ من الوَلَد، فلنتّخِذْ من يوسفَ ولداً لنا.
نَظَرت « زَليخا » إلى يوسف.. كان فتىً بهيَّ الطَّلعة مُشرِقَ الوجهِ يَشُعُّ من عَينَيهِ الصفاء.. لَكأنه مَلاكٌ هَبَطَ من السماء.
في ذلك اليوم اغتَسلَ يوسفُ في الحمّام وارتَدى حُلّةً جديدةً، حلّةً مصنوعةً من خيوطِ الكَتّانِ كانت أرَقَّ من الحرير.
كان المِصريّون في ذلك الزمنِ يَزرعونَ الكَتّانَ ويَنسِجونَ من خُيوطهِ أنواعَ الثيابِ والحُلَل.
كان يوسفُ يعيشُ سيّداً في القصر، ومع ذلك فقانونُ البلادِ يَعتبرُه عَبداً للعزيزِ وزوجتهِ لأنّه مِلْكٌ لهما.
وهكذا عاشَ يوسفُ في واحدٍ من أجمَلِ وأكبَرِ القُصورِ المصريّة.
ولكن هل كان يوسفُ سعيداً بحياتهِ الجديدة ؟ كلاّ.
كان يَحِنُّ إلى أبيه وإلى تلك البَوادي.. هناك يعيشُ ناعِمَ البالِ يَعبُد الله وحدَهُ ولا يُشركُ به شيئاً.
أمّا هنا.. فالناسُ يَعبُدونَ الأوثان، ويعبدونَ المَلِكَ أيضاً.
ومع ذلك عاشَ يوسفُ صابراً مؤمناً باللهِ وبأنبيائه إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوب.
عاشَ يوسفُ وكانَ قلبُه يمتلئ كلَّ يومٍ بالإيمان، وكانَ الصفاءُ يَشُعُّ من عينيهِ أكثرَ فأكثر.
كلُّ الناسِ أحَبُّوه... أحَبُّوا فيه صفاءه وشَهامَته وأخلاقَه، وهو أيضاً كان يُحبُّ الناسَ يُريدُ لهم الخير.. يُساعدُ الفقيرَ والبائس، فإذا رأى فلاّحاً مُتْعَباً ساعَدَه، أو رأى عامِلاً عَجُوزاً هَبَّ إلى إعانته.
هكذا عاشَ يوسف.. كانَ يَكبرُ كلَّ عام، وكانت رُوحُه تَكبُرُ كلَّ يومٍ، وقلبُه يَكبرُ ويَكبُر، ويَتدَفّقُ رحمةً وطِيبة.
وتَمُرّ الأعوام.. حتّى إذا بَلغَ أشُدَّهُ وبَلَغَ من العمرِ ثماني عشرة سنةً أضاءت في قلبهِ الحقيقة.. أصبَحَ يَشعُرُ بها أكثر فأكثر، تُضيء مِثل الشمسِ والنجوم.
كان يوسفُ مؤمناً بالله.. لا يُحبّ أحداً مثل حُبّه لله.. لا يخافُ من أحدٍ خَوفَهُ من الله.. ولا يَهابُ أحداً غيرَ الله.
الامتحان الصعب
هو الآن في عُنْفُوانِ الشباب.. يعيشُ في قصرٍ كبيرٍ مُنيف، ولكنّ ذلك لم يُلَوِّثْ روحَهُ الطاهرة.. ظَلَّت نفسُه بيضاءَ مِثلَ أجنحةِ الحَمامِ الأبيض.
في القصرِ الكبيرِ بَدَأت مِحنَةُ يوسف. كلُّ الذينَ يَعرفون يوسفَ كانوا يُحبّونه... ولكنّ بعضَ الذينَ أحَبُّوه لم يكن حُبُّهم إلاّ محنةً ليوسف...
عاشَ يوسفُ في ذلك القصرِ المُنيفِ، وكانت سيّدةُ القصرِ إمرأةً حَسْناءَ يَهابُها الجَميع.
كان اسمُها « زَليخا ».
« زليخا » أحَبّتْ يوسف؛ عَشِقَتْهُ.. ولكنّها لم تَعْشَقْ روحَهُ الطاهرة، عَشِقَت جمالَهُ وحُسنَه.
لهذا أرادت من يوسفَ أن يكونَ لها.
أصبحَ يوسفُ أُمنيَتَها في الحياة.. لا تُفكِّرُ ألاّ فيه حتّى « شَغَفَها حُبّاً ».
تَنظُرُ إليه بحبِّ وعِشقٍ، وتتحدّثُ معه بلهجةِ الأسير الذليل.. تَتَقرّبُ إليه..
أمّا يوسفُ فكانَ يَهربُ.. إنّه لا يُريدُ لروحهِ أن تَسقُطَ في وَحَلِ الرذيلة.. يُريدُ أن يَبقى طاهراً مِثلَ قَطرةِ النَّدى، وأن تَبقى روحُه شفّافةً بيضاءَ مثلَ أجنحَةِ الحَمام.
وهكذا بَدَأت مِحنةُ يوسف.. زليخا تُريدُ منه أن يَخُون.. يَخُون العهدَ مع ربِّه، ويَخُون نفسَهُ البيضاءَ.. وهو يُريدُ منها الوَفاءَ والطُّهَر والعَفاف.
لهذا كانَ يَفِرُّ منها.. كان يَهرُبُ من الخَطيئة.. أمّا هي فكانت تَزدادُ به تَعلُّقاً.. وكانت تُفكّر بوسيلةٍ تُخضِعُه بها.
وذاتَ يومٍ خلا القصرُ إلاّ من زليخا ويوسف، كانت زليخا تَنتظرُ مِثلَ هذه الفُرصةِ..وكانَ يوسفُ يقومُ ببعضِ أعمالهِ، فإذا به يَرى زليخا تُغلِقُ أبوابَ القصرِ بإحكام.. ثمّ تَهمِسُ به قائلة:
ـ هَيْتَ لَك .
وأدرك يوسفُ ما تريد، فهتَفَ مُستنكِراً:
ـ مَعاذَ الله.. إنّه رَبِّي أحْسَنَ مَثْواي .
ولكن زليخا وقد تأجَّجَ في نفسِها الغَرام، حاوَلَت إرغامَه. أمّا هو فكان يزدادُ تَمَنُّعاً.. كان يَفِرُّ منها هنا وهناك في أروِقَةِ القصر...
وشيئاً فشيئاً هدأ يوسف لا يَدري كيف يَتَخلّصُ من هذه المِحنة ؟ أمّا هي فتَصَوّرت أن يوسف قد رضَخ لإرادتها.. حانَت منها التِفاتةٌ إلى صَنَمٍ في القصر.. فشَعَرت بالخجلِ من نفسِها..
لهذا ألقَتْ مَلاءةً على وجهِ الصنم... ورآها يوسف، قال لها:
ـ ماذا تَفعلين ؟!
قالت:
ـ إنني أخجَلُ من إلهي أن يَراني بهذهِ الحال!
وهنا انتَفَضَ يوسفُ، هتَفَ بشدّة:
ـ أتَستَحينَ من حَجَرٍ لا يَفْقَهُ شيئاً ولا أستَحي من ربّي وإلهي وسيّدي الذي خَلَقَني وأكرَمَني؟!
قالَ يوسفُ ذلك وفَرَّ باتّجاهِ الباب، ولكن زليخا أسرَعَت خَلْفَهُ، وتَشبَّثَت بقميصِه، فانشَقَّ القميص. وأمسَكَ يوسفُ بمقبضِ البابِ وفَتَحه.. وفي هذه اللحظةِ وَجَدا السيِّدَ في البابِ يُريد الدُّخول.
كانت زليخا في قمّةِ الهياجِ، وكانت تريدُ الانتقامَ من يوسف الذي عانَدها ورفضها، وتُبرّئ نفسها فقالت:
ـ ما جَزاءُ مَن أرادَ بأهلِكَ سُوءً إلاّ أنْ يُسجَنَ أو عَذابٌ أليم .
ولم يكن أمام يوسف إلاّ أن يُدافعَ عن نفسهِ فقال:
ـ هِيَ راوَدَتْني عَن نَفْسِي .
وحارَ العزيزُ ماذا يفعل ؟! وتساءل في نفسهِ عن صاحبِ الحق...
وكانَ مع العزيزِ رجلٌ آخَرُ هو ابنُ عمّ زليخا فقال:
أُنظرْ إلى قميصِ يوسف، فإن كان مَشْقوقاً من الصَّدرِ فإنّ زليخا مع الحقّ.. وإن كان القميصُ مَشقوقاً من الظَّهر فقد صَدَقَ يوسف.
ونَظَر العزيزُ إلى قميصِ يوسف.. فرآهُ مَشقوقاً من الظَّهر، فأدركَ الحقيقة.. التَفَت إلى زوجتهِ.. وقال:
ـ إنّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إنّ كَيْدَكُنَّ عَظيم .
وقال ليوسف:
ـ أعرِضْ عن هذا لا تُحدِّث به أحداً.
وطلب العزيزُ مِن زوجته أن تستغفر قائلاً: ـ واستَغْفِري لذَنْبِكِ .
وانتهى كلُّ شيء.. عادت الحياةُ إلى مَجاريها مرّةً أخرى.. ولكن زليخا لم تَكُفَّ عن مُضايَقَةِ يوسف.. راحَت تُهدّدُه بالسِّجنِ والعذابِ إذا لم يَستَجِبْ لها.. أصبَحَ يوسفُ كلَّ حياتها.. حتّى أنّها تَرفُضُ اللقاءَ بأيِّ إنسانٍ حتى صَديقاتِها في المدينة. لَم يَعُدْن يَرَينَها بعد ذلك.
وشاعَت القصّةُ بين النساء... وتَعجَّبت بعضُ النِّسوةِ من زليخا، كيف تُحبُّ فتاها وعبدَها وتُراوده عن نفسهِ وهي سيّدةُ البِلاد ؟!
هو الآن في عُنْفُوانِ الشباب.. يعيشُ في قصرٍ كبيرٍ مُنيف، ولكنّ ذلك لم يُلَوِّثْ روحَهُ الطاهرة.. ظَلَّت نفسُه بيضاءَ مِثلَ أجنحةِ الحَمامِ الأبيض.
في القصرِ الكبيرِ بَدَأت مِحنَةُ يوسف. كلُّ الذينَ يَعرفون يوسفَ كانوا يُحبّونه... ولكنّ بعضَ الذينَ أحَبُّوه لم يكن حُبُّهم إلاّ محنةً ليوسف...
عاشَ يوسفُ في ذلك القصرِ المُنيفِ، وكانت سيّدةُ القصرِ إمرأةً حَسْناءَ يَهابُها الجَميع.
كان اسمُها « زَليخا ».
« زليخا » أحَبّتْ يوسف؛ عَشِقَتْهُ.. ولكنّها لم تَعْشَقْ روحَهُ الطاهرة، عَشِقَت جمالَهُ وحُسنَه.
لهذا أرادت من يوسفَ أن يكونَ لها.
أصبحَ يوسفُ أُمنيَتَها في الحياة.. لا تُفكِّرُ ألاّ فيه حتّى « شَغَفَها حُبّاً ».
تَنظُرُ إليه بحبِّ وعِشقٍ، وتتحدّثُ معه بلهجةِ الأسير الذليل.. تَتَقرّبُ إليه..
أمّا يوسفُ فكانَ يَهربُ.. إنّه لا يُريدُ لروحهِ أن تَسقُطَ في وَحَلِ الرذيلة.. يُريدُ أن يَبقى طاهراً مِثلَ قَطرةِ النَّدى، وأن تَبقى روحُه شفّافةً بيضاءَ مثلَ أجنحَةِ الحَمام.
وهكذا بَدَأت مِحنةُ يوسف.. زليخا تُريدُ منه أن يَخُون.. يَخُون العهدَ مع ربِّه، ويَخُون نفسَهُ البيضاءَ.. وهو يُريدُ منها الوَفاءَ والطُّهَر والعَفاف.
لهذا كانَ يَفِرُّ منها.. كان يَهرُبُ من الخَطيئة.. أمّا هي فكانت تَزدادُ به تَعلُّقاً.. وكانت تُفكّر بوسيلةٍ تُخضِعُه بها.
وذاتَ يومٍ خلا القصرُ إلاّ من زليخا ويوسف، كانت زليخا تَنتظرُ مِثلَ هذه الفُرصةِ..وكانَ يوسفُ يقومُ ببعضِ أعمالهِ، فإذا به يَرى زليخا تُغلِقُ أبوابَ القصرِ بإحكام.. ثمّ تَهمِسُ به قائلة:
ـ هَيْتَ لَك .
وأدرك يوسفُ ما تريد، فهتَفَ مُستنكِراً:
ـ مَعاذَ الله.. إنّه رَبِّي أحْسَنَ مَثْواي .
ولكن زليخا وقد تأجَّجَ في نفسِها الغَرام، حاوَلَت إرغامَه. أمّا هو فكان يزدادُ تَمَنُّعاً.. كان يَفِرُّ منها هنا وهناك في أروِقَةِ القصر...
وشيئاً فشيئاً هدأ يوسف لا يَدري كيف يَتَخلّصُ من هذه المِحنة ؟ أمّا هي فتَصَوّرت أن يوسف قد رضَخ لإرادتها.. حانَت منها التِفاتةٌ إلى صَنَمٍ في القصر.. فشَعَرت بالخجلِ من نفسِها..
لهذا ألقَتْ مَلاءةً على وجهِ الصنم... ورآها يوسف، قال لها:
ـ ماذا تَفعلين ؟!
قالت:
ـ إنني أخجَلُ من إلهي أن يَراني بهذهِ الحال!
وهنا انتَفَضَ يوسفُ، هتَفَ بشدّة:
ـ أتَستَحينَ من حَجَرٍ لا يَفْقَهُ شيئاً ولا أستَحي من ربّي وإلهي وسيّدي الذي خَلَقَني وأكرَمَني؟!
قالَ يوسفُ ذلك وفَرَّ باتّجاهِ الباب، ولكن زليخا أسرَعَت خَلْفَهُ، وتَشبَّثَت بقميصِه، فانشَقَّ القميص. وأمسَكَ يوسفُ بمقبضِ البابِ وفَتَحه.. وفي هذه اللحظةِ وَجَدا السيِّدَ في البابِ يُريد الدُّخول.
كانت زليخا في قمّةِ الهياجِ، وكانت تريدُ الانتقامَ من يوسف الذي عانَدها ورفضها، وتُبرّئ نفسها فقالت:
ـ ما جَزاءُ مَن أرادَ بأهلِكَ سُوءً إلاّ أنْ يُسجَنَ أو عَذابٌ أليم .
ولم يكن أمام يوسف إلاّ أن يُدافعَ عن نفسهِ فقال:
ـ هِيَ راوَدَتْني عَن نَفْسِي .
وحارَ العزيزُ ماذا يفعل ؟! وتساءل في نفسهِ عن صاحبِ الحق...
وكانَ مع العزيزِ رجلٌ آخَرُ هو ابنُ عمّ زليخا فقال:
أُنظرْ إلى قميصِ يوسف، فإن كان مَشْقوقاً من الصَّدرِ فإنّ زليخا مع الحقّ.. وإن كان القميصُ مَشقوقاً من الظَّهر فقد صَدَقَ يوسف.
ونَظَر العزيزُ إلى قميصِ يوسف.. فرآهُ مَشقوقاً من الظَّهر، فأدركَ الحقيقة.. التَفَت إلى زوجتهِ.. وقال:
ـ إنّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إنّ كَيْدَكُنَّ عَظيم .
وقال ليوسف:
ـ أعرِضْ عن هذا لا تُحدِّث به أحداً.
وطلب العزيزُ مِن زوجته أن تستغفر قائلاً: ـ واستَغْفِري لذَنْبِكِ .
وانتهى كلُّ شيء.. عادت الحياةُ إلى مَجاريها مرّةً أخرى.. ولكن زليخا لم تَكُفَّ عن مُضايَقَةِ يوسف.. راحَت تُهدّدُه بالسِّجنِ والعذابِ إذا لم يَستَجِبْ لها.. أصبَحَ يوسفُ كلَّ حياتها.. حتّى أنّها تَرفُضُ اللقاءَ بأيِّ إنسانٍ حتى صَديقاتِها في المدينة. لَم يَعُدْن يَرَينَها بعد ذلك.
وشاعَت القصّةُ بين النساء... وتَعجَّبت بعضُ النِّسوةِ من زليخا، كيف تُحبُّ فتاها وعبدَها وتُراوده عن نفسهِ وهي سيّدةُ البِلاد ؟!
المَلاك
سَمِعَت زليخا بما يجري في المدينة، أنّ نساءها يَسْخَرنَ منها.. وفكّرت أن تفعلَ شيئاً يُسكِتُهنّ.
أرسَلَت زليخا وراء صديقاتِها وكُنَّ من عِلْيَةِ القَوم..
وما أسرَعَ أن لَبَّت النِّسوةُ دعوةَ زليخا، فجِئْنَ إلى قصرِها المُنيف.
كانت زليخا قد أعَدَّت لهنَّ وسائدَ وَثيرةً.. وجَلَسَت النِّسوةُ في حضرةِ زليخا ساكِتات.. وجاءَ الخَدَمُ يَحمِلونَ أطباقَ الفاكهة...
وبَدأت الأحاديثُ، ودَعَت زليخا صديقاتِها إلى تَناولِ الفاكهة..
كلُّ واحدةٍ أخَذَت سِكّيناً لتقشّرَ الفاكهة.. وكُنّ مُستَغرقاتٍ في أحاديثهنّ حتّى نَسِينَ لماذا جِئْنَ.
وفي تلك اللحظاتِ.. أشارتَ زليخا إلى أحدِ الخَدَمِ وأمَرَته باستدعاءِ يوسف حالاً.
وجاءَ يوسف... وحَدَث شيءٌ رهيب.. وقَفَ يوسفُ أمام زليخا امتثالاً لسيّدةِ القصر.. كان يَرتَدي حُلّةً جميلةً.. وأضاءَ المكانَ وجهُه الجميلُ الذي يَشُعُّ صفاءً وإيماناً.
بدا يوسفُ في تلك اللحظاتِ مَلاكاً يشّعُ بالنور، ودُهِشت النِّسوةُ لمنظرِه.. لم تَكُن النِّسوة ليَتصَوّرنّ جَمالاً بهذا السُّموّ...
إنّ جمالَ يوسف من النِّوع الآسِر.. وحَدَث شيء في نُفوسهنّ... ذُهِلْنَ عن أنفُسِهنّ ورُحنَ يُقطّعنَ أيديهنّ بالسَّكاكين دون وعي..
لقد هَيمَنَ يوسفُ على القلوب. كان جَمالهُ مَلائكياً شفّافاً يتَدفّقُ صفاءً ونوراً، وهَتَفَت النِّسوة:
ـ حاش للهِ ما هذا بَشَراً إنْ هذا إلاّ مَلَكٌ كريم !!
تضاعَفَت مِحنةُ يوسف... وهو يرى ما حَلّ بالنسوةِ، وأصغى لما تقوله زليخا لَهُنّ:
ـ فَذلِكُنَّ الّذِي لُمْتُنَّني فيهِ ولَئنْ لَم يَفْعَلْ ما آمُرُه لَيُسجَنَّنَ ولَيكونَّنْ مِن الصّاغِرين .
ولم يَبقَ أمامَ يوسفَ غيرُ طريقَين: أن يَستَجيبَ لِنداءِ الشيطان.. أو السِّجن...
ونظر يوسف إلى السماء، وقال بخشوع:
ـ ربِّ السِّجنُ أحَبُّ إلَيّ مِمّا يَدْعُونَني إلَيه .
إنّ يوسفَ يُفضّلُ السِّجنَ والعذابَ على تلك الحياةِ المُلَوّثةِ الفاسدة.
مِن أجلِ هذا استَغاثَ باللهِ في أن يُنقِذَهُ من شُرورِ الشيطان:
ـ وإلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ وأكُنْ مِن الجاهِلِين .
يوسفُ الذي أضاءت قلبَه أنوارُ السماء لا يُمكنُ أن يُصغي إلى وَسْوَسَةِ الشيطان... حتّى لو تَعذَّب في سبيلِ ذلك، حتّى لو أُلقي في السجن.
اللهُ سبحانه استَجابَ دعوةَ يوسف.. لقد رأى العزيزُ أن يَضَعَ حَدّاً للشائعاتِ الكثيرة، وأن يُلْقيَ يوسفَ في السجنِ مدّةً من الزمنِ رَيْثَما تَهدأُ الأُمور.
وهكذا سِيقَ يوسفُ بلا جَريرةٍ ولا ذنبٍ إلى السجن، ورأى السجّانُ يوسفَ فتأثرّ بأخلاقهِ وصفاتهِ، وقالَ له:
أنا أحِبُّكَ يا يوسف، إنّك إنسانَ طيِّب ومن الظپُلم أن يَسجنوك.
وتأثّرَ يوسفُ إنّه لا يُريدُ حُبّاً غيرَ حُبّ الله، فكَم تَجَرَّع الغَصَصَ من هذا الحبّ، لهذا قال يوسفُ للسجّان:
ـ لا تُحِبَّني؛ فإنّ عَمّتي أحَبَّتني فنَسَبَت إلَيّ السّرقة، وأبي أحَبَّني فحَسَدَني إخوتَي وألقَوْني في الجُبّ، وامرأةُ العزيزِ احبَّتني فألْقَوني في السِّجن.
سَمِعَت زليخا بما يجري في المدينة، أنّ نساءها يَسْخَرنَ منها.. وفكّرت أن تفعلَ شيئاً يُسكِتُهنّ.
أرسَلَت زليخا وراء صديقاتِها وكُنَّ من عِلْيَةِ القَوم..
وما أسرَعَ أن لَبَّت النِّسوةُ دعوةَ زليخا، فجِئْنَ إلى قصرِها المُنيف.
كانت زليخا قد أعَدَّت لهنَّ وسائدَ وَثيرةً.. وجَلَسَت النِّسوةُ في حضرةِ زليخا ساكِتات.. وجاءَ الخَدَمُ يَحمِلونَ أطباقَ الفاكهة...
وبَدأت الأحاديثُ، ودَعَت زليخا صديقاتِها إلى تَناولِ الفاكهة..
كلُّ واحدةٍ أخَذَت سِكّيناً لتقشّرَ الفاكهة.. وكُنّ مُستَغرقاتٍ في أحاديثهنّ حتّى نَسِينَ لماذا جِئْنَ.
وفي تلك اللحظاتِ.. أشارتَ زليخا إلى أحدِ الخَدَمِ وأمَرَته باستدعاءِ يوسف حالاً.
وجاءَ يوسف... وحَدَث شيءٌ رهيب.. وقَفَ يوسفُ أمام زليخا امتثالاً لسيّدةِ القصر.. كان يَرتَدي حُلّةً جميلةً.. وأضاءَ المكانَ وجهُه الجميلُ الذي يَشُعُّ صفاءً وإيماناً.
بدا يوسفُ في تلك اللحظاتِ مَلاكاً يشّعُ بالنور، ودُهِشت النِّسوةُ لمنظرِه.. لم تَكُن النِّسوة ليَتصَوّرنّ جَمالاً بهذا السُّموّ...
إنّ جمالَ يوسف من النِّوع الآسِر.. وحَدَث شيء في نُفوسهنّ... ذُهِلْنَ عن أنفُسِهنّ ورُحنَ يُقطّعنَ أيديهنّ بالسَّكاكين دون وعي..
لقد هَيمَنَ يوسفُ على القلوب. كان جَمالهُ مَلائكياً شفّافاً يتَدفّقُ صفاءً ونوراً، وهَتَفَت النِّسوة:
ـ حاش للهِ ما هذا بَشَراً إنْ هذا إلاّ مَلَكٌ كريم !!
تضاعَفَت مِحنةُ يوسف... وهو يرى ما حَلّ بالنسوةِ، وأصغى لما تقوله زليخا لَهُنّ:
ـ فَذلِكُنَّ الّذِي لُمْتُنَّني فيهِ ولَئنْ لَم يَفْعَلْ ما آمُرُه لَيُسجَنَّنَ ولَيكونَّنْ مِن الصّاغِرين .
ولم يَبقَ أمامَ يوسفَ غيرُ طريقَين: أن يَستَجيبَ لِنداءِ الشيطان.. أو السِّجن...
ونظر يوسف إلى السماء، وقال بخشوع:
ـ ربِّ السِّجنُ أحَبُّ إلَيّ مِمّا يَدْعُونَني إلَيه .
إنّ يوسفَ يُفضّلُ السِّجنَ والعذابَ على تلك الحياةِ المُلَوّثةِ الفاسدة.
مِن أجلِ هذا استَغاثَ باللهِ في أن يُنقِذَهُ من شُرورِ الشيطان:
ـ وإلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ وأكُنْ مِن الجاهِلِين .
يوسفُ الذي أضاءت قلبَه أنوارُ السماء لا يُمكنُ أن يُصغي إلى وَسْوَسَةِ الشيطان... حتّى لو تَعذَّب في سبيلِ ذلك، حتّى لو أُلقي في السجن.
اللهُ سبحانه استَجابَ دعوةَ يوسف.. لقد رأى العزيزُ أن يَضَعَ حَدّاً للشائعاتِ الكثيرة، وأن يُلْقيَ يوسفَ في السجنِ مدّةً من الزمنِ رَيْثَما تَهدأُ الأُمور.
وهكذا سِيقَ يوسفُ بلا جَريرةٍ ولا ذنبٍ إلى السجن، ورأى السجّانُ يوسفَ فتأثرّ بأخلاقهِ وصفاتهِ، وقالَ له:
أنا أحِبُّكَ يا يوسف، إنّك إنسانَ طيِّب ومن الظپُلم أن يَسجنوك.
وتأثّرَ يوسفُ إنّه لا يُريدُ حُبّاً غيرَ حُبّ الله، فكَم تَجَرَّع الغَصَصَ من هذا الحبّ، لهذا قال يوسفُ للسجّان:
ـ لا تُحِبَّني؛ فإنّ عَمّتي أحَبَّتني فنَسَبَت إلَيّ السّرقة، وأبي أحَبَّني فحَسَدَني إخوتَي وألقَوْني في الجُبّ، وامرأةُ العزيزِ احبَّتني فألْقَوني في السِّجن.
السِّجن
يوسفُ هو الآنَ في السجن... الأيامُ تَمُرّ، والشهورُ تَمضي، ويوسفُ في السجنِ يتَحمّل كُلّ ذلك العذابِ من أجل أن يَبقى طاهراً.
وتشاءُ الأقدارُ أن يَدخُلَ السجنَ رَجُلان.. كانا من عَبيدِ المَلِك، غَضِبَ علَيهما فألقاهما في السجن... وهناك يَتَعرّفان على يوسفَ ويتأثّران بشخصيّته.
وسألَ كلٌّ صاحِبَه عن عملهِ، قال أحَدُهما:
ـ أنا ساقي المَلِك، أُقدّم له الشَّراب.
وقال الآخر:
ـ وأنا طَبّاخُ المَلِك.
وسألا يوسفَ عن صَنعتهِ، فقال: إنني أُعَبِّرُ الأحلام وأفسِّرُ الرُّؤيا..
وهكذا تَمرُّ الأيام.. وكان في السجنِ أُناسٌ كثيرون... وكانَ يوسفُ يَتفَقّدهُم جميعاً ويَرفقُ بهم؛ ويَتفقّدُ طعامَهُم ومَنامَهُم؛ فعُرِفَ بين السُّجَناءِ بالإحسان والمَحبّة للناس.
وذاتَ ليلةٍ وكانَ السُّجَناء نائمين جميعاً.. رأى ساقي المَلِكِ حُلماً.. رأى نفسَه يَعصِرُ عِنَباً، ورأى طبّاخُ الملك هو الآخر حُلماً عجيباً، رأى نفسَهُ يَحمِلُ خُبزاً فوق رأسهِ وجاءت الطيورُ فحَطَّت وراحَت تأكُلُ من ذلك الخبز!
في الصباحِ وعندما استَيقَظا حَدَّث كلٌّ منهما الآخرَ بما رأى من حلم.
ولم يَعرِفا تفسيرَ حُلمَيهِما ففَكّرا أن يسألا يوسفَ، فقال أحدُهما:
ـ إنّي أراني أعْصِرُ خَمْراً !
وقال الآخر:
ـ إنّي أراني أحْمِلُ فَوْقَ رأسِي خُبْزاً تأكُلُ الطَّيرُ مِنْهُ !
نَبِّأنا بتأويلهِ إنّا نَراكَ مِن المُحِسنين.
اللهُ سبحانه وَهَبَ يوسفَ قدرةً عجيبةً على تفسيرِ الأحلامِ. إنه يَعرِفُ تلكَ الإشاراتِ ويَفُكُّ رُموزَها، لَكأنّه ينظرُ إلى حقائقَ لا أحلام!
تعليق