الفصل الثامن : الاشاعرة
الأمر الأول : التعريف بصاحب المنهج ونبذة عن تاريخه
هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري.
يقول ابن عساكر في ترجمته: إنّ أباه إسماعيل بن إسحاق كان سنّياً جماعياً حديثياً، أوصى عند وفاته إلى زكريا بن يحيى الساجي، وهو إمام في الفقه والحديث،وقد روى عنه الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتاب التفسير أحاديث كثيرة، وقد يكنّى أبوه بـ«أبي بشر» و ربما يقال إنّها كنية جدّه .
وهذا يعرب عن أنّ البيت الذي تربّى فيه أبو الحسن كان بيت الحديث والرواية، مقابلاً للمنهج العقلي الرائج بين المعتزلة .
افترق المسلمون(أهل البحث والجدل منهم) في النصف الأوّل من القرن الثاني إلى فرقتين:
فرقة أهل الحديث: وهم الذين تعبّدوا بظواهر الآيات والروايات من دون غور في مفاهيمها، أو دقة في أسنادها، وكانوا يشكّلون الأكثرية الساحقة بين المسلمين، وكثرت فيهم المشبّهة والمجسّمة، والمثبتون لله سبحانه علوّاً وتنقّلاً وحركة وأعضاءً، كاليد والرجل والوجه، إلى غير ذلك من البدع التي ظهرت بين المسلمين عن طريق الأحبار والرهبان المتسترين بالإسلام.
وفرقة الاعتزال: وهم الذين كانوا يتمسكون بالعقل أكثر من النقل،ويؤوّلون النقل إذا وجدوه مخالفاً لفكرتهم وعقليتهم، وبقي التشاجر قائماً على قدم وساق بين الفرقتين طوال قرون.
فتارة يتغلّب أهل الحديث على أهل الاعتزال ويزوونهم، وأُخرى ينغلّب جناح التفكر والاعتزال على أهل الظواهر والحديث، وكانت غلبة كلّ فرقة على الأُخرى في كثير من الأحيان تنشأ من ميول الحكومات آنذاك لأحد الجناحين المتصارعين، فنرى عصر الأمويين وأوائل عصر العباسيين، عصر ازدهار منهج أهل الحديث والمتمسكين بظواهر النصوص; كما نرى الأمر على العكس في زمن المأمون وأخيه المعتصم والواثق بالله إلى عصر المتوكل، فكان الازدهار لمنهج الاعتزال حتى صار مذهباً رسمياً للحكومات السائدة، واعتقل بعض مشايخ أهل الحديث مثل أحمد بن حنبل، حتّى جُلِدَ ثلاثين سوطاً لأجل اعتقاده بقدم القرآن الذي يُعدّ من مبادئ أهل الحديث.
وكان الأمر على هذا المنوال إلى أن تسلّم المتوكل مقاليد الحكم; فأمر بنشر منهج أهل الحديث بقوة وحماس، وتبعه غيره من العباسيين في دعم مقالتهم، وتضييق الأمر على أهل الاعتزال، وقد كان الأمر على هذا المنوال إلى عصر أبي الحسن الأشعري (260ـ324هـ) الذي كان معتزلياً ثمّ صار ـ بحسب الظاهر ـ من زمرة أهل الحديث، فكانت السلطة تسايرهم وتوافقهم. وسيوافيك القول في علل رجوعه عن مذهب الاعتزال إلى تيار أهل الحديث وفي مقدمتهم مذهب إمام الحنابلة أحمد بن حنبل.
وقد كوّن الأشعري برجوعه عن الاعتزال إلى مذهب أهل الحديث منهجاً كلامياً، له أثره الخاص إلى يومنا هذا بين أهل السنّة، فمذهبه الكلامي هو المذهب السائد بينهم في أكثر الأقطار .
رجوعه عن الاعتزال
اتّفق المترجمون له على أنّه أعلن البراءة من الاعتزال في جامع البصرة، وأقدم مصدر يذكر ذلك هو ابن النديم في (فهرسته) حيث يقول: أبو الحسن الأشعري من أهل البصرة، كان معتزلياً ثمّ تاب من القول بالعدل وخلق القرآن، في المسجد الجامع بالبصرة، في يوم الجمعة رقي كرسياً، ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه نفسي، أنا فلان بن فلان، كنت قلت بخلق القرآن، وإنّ الله لا يرى بالأبصار، وإنّ أفعال الشر أنا أفعلها. وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة، وخرج بفضائحهم ومعايبهم. وكان فيه دعابة ومزح كبير .
وقد أوعز إلى إنابة الأشعري عن منهج الاعتزال كثير من علماء التراجم، غير أنّهم لم يشيروا إلى الحوافز التي دعت الشيخ إلى هذا الانسلاخ، ولم يخطر ببالهم سبب له سوى انكشاف الخلاف عليه في المذهب الذي كان يتمذهب به من شبابه إلى أوائل كهولته، ولأجل ذلك يجب التوقف هنا إجمالاً، حتى نقف على بعض الحوافز الداعية له إلى الإنابة عن الاعتزال .
سبب رجوعه عن الاعتزال
إنّ رجوع الأشعري عن منهج الاعتزال كان ظاهرة روحية تطلب لنفسها علة وسبباً، ولا يقف عليها مؤرخ العقائد إلاّ بالغور في حياته، وما كان يحيط به من عوامل اجتماعية أو سياسية أو خلقية.
إلاّ أنّ قلم الخيال والوهم، أو قلم العاطفة، أعطى للموضوع مسرحية خاصة أقرب إلى الجعل والوضع منها إلى الحقيقة، فنقلوا منامات كثيرة أمر فيها رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أبا الحسن أن ينصر سنّته، ويرجع عمّا كان فيه. غير أنّي أضن بوقت القارئ أن أنقل كلّ ما جاء به ابن عساكر في «تبيينه» في ذلك المجال، وإنّما أكتفي بنموذج بل نموذجين منه:
1 نقل بسنده عن أحمد بن الحسين المتكلّم قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: إنّ الشيخ أبا الحسن لما تبحّر في كلام الاعتزال فبلغ غايته،كان يورد الأسئلة على أُستاذيه في الدرس ولا يجد لها جواباً شافياً، فيتحير في ذلك، فحكي أنّه قال:
وقع في صدري في بعض الليالي شيء ممّا كنت فيه من العقائد، فقمت وصليت ركعتين، وسألت الله تعالى أن يهديني الطريق المستقيم، ونمت فرأيت رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بالمنام فشكوت إليه بعض ما بي من الأمر، فقال رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : عليك بسنّتي، فانتبهت وعارضت مسائل الكلام بما وجدت في القرآن والأخبار فأثبته، ونبذت ما سواه ورائي ظهرياً.
2 نقل أيضاً عن الأشعري أنّه قال: بينا أنا نائم في العشر الأُول من شهر رمضان، رأيت المصطفى ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ فقال: يا علي أنصر المذاهب المروية عني فإنّها الحقّ، فلمّا استيقظت دخل عليّ أمر عظيم، ولم أزل مفكراً مهموماً لرؤياي، ولما أنا عليه من إيضاح الأدلة في خلاف ذلك، حتى كان العشر الأوسط فرأيت النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في المنام فقال لي: ما فعلت فيما أمرتك به؟ فقلت: يا رسول الله، وما عسى أن أفعل وقد خرّجت للمذاهب المروية عنك وجوهاً يحتملها الكلام، واتّبعت الأدلة الصحيحة التي يجوز إطلاقها على الباري عزّوجلّ؟ فقال لي: أنصر المذاهب المروية عني فإنّها الحقّ، فاستيقظت وأنا شديد الأسف والحزن، فأجمعت على ترك الكلام واتبعت الحديث وتلاوة القرآن; إلى آخر ما ذكره من الرؤيا.
وكان الأولى للمحقّق ترك نقل هذه المنامات، لأنّ العوام والسذج من الناس إذا أعوزتهم الحجة في اليقظة، يلجأون إلى النوم فيجدون ما يتطلبونه من الحجج في المنام، فيملأون كتبهم بالمنامات والرؤى.
أضف إلى ذلك وجود التهافت بين المنامين، فإنّ الأوّل يعرب عن ظهور الشكّ في صحّة معتقداته قبل المنام و تزايده إلى أن أدى إلى التحول والبراءة بسبب الرؤيا، ولكن الثاني يعرب عن أنّ التحول كان فجائياً غير مسبوق بشيء من الشك والتردد في صحّة المنهج الذي عاش عليه فترة من عمره.
وكما لا يمكن الاعتماد على هذه المنامات، لا يمكن الركون إلى النقل التالي أيضاً.
3 إنّ الأشعري أقام على مذهب المعتزلة أربعين سنة وكان لها إماماً. ثمّ غاب عن الناس في بيته خمسة عشر يوماً، ثمّ خرج إلى الجامع وصعد المنبر وقال: معاشر الناس إنّما تغيبت عنكم في هذه المدة، لأنّي نظرت فتكافأت عندي الأدلّة ولم يترجح عندي حقّ على باطل ولا باطل على حق; فاستهديت الله تبارك و تعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده كما انخلعت من ثوبي هذا; وانخلع من ثوب كان عليه، و رمى به. ودفع الكتب إلى الناس، فمنها كتاب «اللمع» وكتاب أظهر فيه عوار المعتزلة وسمّاه بـ«كشف الأسرار وهتك الأسرار» وغيرهما، فلمّا قرأ تلك الكتب أهل الحديث و الفقه من أهل السنّة والجماعة أخذوا بما فيها، واعتقدوا تقدّمه، واتّخذوه إماماً حتى نسب إليه مذهبهم .
ولا يصحّ هذا النقل من وجوه:
أمّا أوّلاً: فلأنّ ظاهر كلامه ذاك أنّه قام بتأليف هذه الكتب في أيام قلائل، وهو في غاية البعد.
وأمّا ثانياً: فلأن الناظر في كتابيه: ـ الإبانة واللمع ـ يجد الفرق الجوهري بينهما في عرض العقائد، فالأوّل منهما هو الذي ألّفه بعد انخراطه في مسلك أهل الحديث. ولأجل ذلك أتى في مقدمة الكتاب بلب عقائد إمام الحنابلة، بتغيير يسير. وأمّا كتاب اللمع فهو كتاب كلامي لا يشبه كتب أهل الحديث، ولا يستحسنه طلابه وأتباعه.
وأمّا ثالثاً: فكيف يمكن أن يقال إنّه أقام على مذهب أُستاذه أربعين سنة؟ فلو دخل منهج الأُستاذ في أوان التكليف للزم أن يكون عام الخروج موافقاً لكونه ابن خمس وخمسين سنة، وبما أنّه من مواليد عام (260هـ)، فيجب أن يكون عام الإنابة موافقاً لسنة (315هـ ) ,هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّه تبرأ من منهج الأُستاذ وهو حي، وقد توفي أُستاذه الجبائي عام (303هـ)، وعندئذ كيف يمكن تصديق ذلك النقل؟!
الحوافز الدافعة إلى ترك الاعتزال
إنّ الأشعري قد مارس علم الكلام على مذهب الاعتزال مدّة مديدة وبرع فيه إلى أوائل العقد الخامس من عمره، وعند ذاك تكون عقيدة الاعتزال صورة راسخة وملكة متأصلة في نفسه، فمن المشكل جداً أن ينخلع الرجل دفعة واحدة عن كلّ ما تعلم وعلّم، وناظر وغَلب أو غُلب، وينخرط في مسلك يضاد ذلك ويغايره بالكلية. نعم، نتيجة بروز الشك والتردُّد هو عدوله عن بعض المسائل و بقاؤه على مسائل أُخر، وأمّا العدول دفعة واحدة عن جميع ما مارسه وبرع فيه، والبراءة من كلّ ما يمت إلى منهج الاعتزال بصلة، فلا يمكن أن يكون أمراً حقيقياً جدّياً من جميع الجهات.
ولأجل ذلك لابدّ لمؤرّخ العقائد من السعي في تصحيح وتفسير هذه البراءة الكاملة من منهج الاعتزال من مثله.
فنقول: أمّا السبب الحقيقي فالله سبحانه هو العالم. ولكن يمكن أن يقال إنّ الضغط الذي مورس على بيئة الاعتزال من جانب السلطة العباسية أوجد أرضية لفكرة العدول في ذهن الشيخ ونفسه، وإليك بيانه:
1 الضغط العباسي على المعتزلة
إنّ الخلفاء العباسيين ـ من عصر المأمون إلى المعتصم، إلى الواثق بالله ـ كانوا يروّجون لأهل التعقّل والتفكّر، فكان للاعتزال في تلك العصور رقيّ وازدهار. فلمّا توفّي الواثق بالله عام 232هـ وأخذ المتوكل بزمام السلطة بيده، انقلب الأمر وصارت القوة لأصحاب الحديث، ولم تزل السيرة على ذلك حتى هلك المتوكل وقام المنتصر بالله مقامه، فالمستعين بالله، فالمعتز بالله، فالمهتدي، فالمعتمد، فالمعتضد، فالمكتفي، فالمقتدر، وقد أخذ المقتدر زمام الحكم من عام 295هـ إلى 320هـ و في تلك الفترة أظهر أبو الحسن الأشعري التوبة والإنابة عن الاعتزال، والانخراط في سلك أهل الحديث. وقد ضيق أصحاب السلطة ـ في عصر المتوكل إلى عهد المقتدر ـ الأمر على منهج التعقّل، فالضغط والضيق كانا يتزايدان ولا يتناقصان أبداً، وفي تلك الفترة، لا عتب على الشيخ ولا عجب منه أن يخرج من الضغط والضيق بإعلان الرجوع عن الاعتزال، والانخراط في سلك أهل الحديث، الذين كانت السلطة تؤيدهم كما كانوا يؤيدونها.
لا أقول: إنّ فكرة الخروج عن الضغط كانت العامل الوحيد لعدوله عن منهج الاعتزال، بل أقول: قد أوجدت تلك الفكرة، أرضية صالحة للانسلاك في مسلك أهل الحديث، والثورة على المعتزلة، فإنّ تأثير البيئة وحماية السلطة ممّا لا يمكن إنكاره.
2 فكرة الإصلاح في عقيدة أهل الحديث
وهناك عامل آخر يمكن أن يكون مؤثراً في تحول الشيخ وانقلابه إلى منهج الحنابلة، وهو فكرة القيام بإصلاح عقيدة أهل الحديث التي كانت سائدة في أكثر البلاد. وما كان الإصلاح ممكناً إلاّ بالانحلال عن الاعتزال كلياً.
توضيحه: إنّ الغالب على فكرة أهل الحديث كان يوم ذاك هو القول بالتجسيم والجهة والجبر، وغير ذلك من العقائد الموروثة عن اليهود والنصارى، الواردة على أوساط المسلمين عن طريق الأحبار والرهبان، فعندما رجع الأشعري عن عقيدة الاعتزال وأعلن انخراطه في أصحاب الحديث، وأنّه يعتقد بما يعتقد به أصحابه، وفي مقدمتهم أحمد بن حنبل، مكّنه ذلك من إصلاح عقيدة أهل الحديث وتنزيهها عمّا لا يناسب ساحة الرب، من التجسيم وغيره. فكان الرجوع عن مذهب الاعتزال، شبه واجهة لأن يتقبله أهل الحديث بعنوان أنّه من أنصارهم وأعوانهم، حتّى يمكنه أن يقوم بإصلاح عقائدهم.
الأمر الثاني : ملامح المذهب الأشعري
ان أهم ما يمكن عرضه في هذا الأمر من ملامح الاشاعرة هو عدم عزل العقل عن العقائد .
كانت المعتزلة تعتمد على العقل في المسائل الكلامية، ويؤوّلون النصوص القرآنية عندما يجدونها مخالفة لآرائهم ـ بزعمهم ـ و لا يكادون يعتمدون على السنة، ولأجل ذلك نرى أنّهم أوّلوا الآيات الكثيرة الواردة حول الشفاعة ـ الدالّة على غفران الذنوب بشفاعة الشافعين ـ بأنّ المراد رفع درجات الصالحين بشفاعة الشفعاء، لا غفران ذنوب الفاسقين ,وكان المحدّثون يرون الكتاب والسنّة مصدراً للعقائد، وينكرون العقل ورسالته في مجالها، ولم يعدّوه من أدوات المعرفة في الأُصول، فكيف في الفروع، ولا شكّ أنّ هذا خسارة كبيرة لا تجبر , وقد جاء الإمام الأشعري بمنهج معتدل بين المنهجين، وقد أعلن أنّ المصدر الرئيسي للعقائد هو الكتاب والسنّة، وفي الوقت نفسه خالف أهل الحديث بذكاء خاص عن طريق استغلال البراهين العقلية والكلامية على ما جاء في الكتاب والسنة.
كان أهل الحديث يحرّمون الخوض في الكلام، وإقامة الدلائل العقلية على العقائد الإسلامية، ويكتفون بظواهر النصوص والأحاديث، ولكن الأشعري بعد براءته من الاعتزال وجنوحه إلى منهج أهل الحديث، كتب رسالة خاصة في استحسان الخوض في الكلام و بذلك جعل نفسه هدفاً لعتاب الحنابلة المتزمّتين الذين كانوا يرون الخوض في هذه المباحث نوعاً من الزيغ والضلال.
ولأجل ذلك تفترق كتب الشيخ الأشعري وتلاميذ منهجه ـ ممن أتوا بعده كالقاضي أبي بكر الباقلاني، وعبد القاهر البغدادي، وإمام الحرمين أبي المعالي الجويني ـ عن كتب الحنابلة المتعبّدين بظواهر النصوص. وقد عزلوا العقل عن الرسالة المودعة له، حتى في الكتاب والسنّة.ولوجود هذا التفاوت ظل المذهب الأشعري غير مقبول عند الحنابلة في فترات من الزمن.
ولأجل ذلك ترى أنّ الأشعري بحث عن كثير من العقليات والحسيات التي لا صلة لها بالعقيدة والديانة، لمّا وجد أنّ المعتزلة والفلاسفة بحثوا عنها بلسان ذلق وذكاء بارز، وترى أنّ الجزء الثاني من كتاب «مقالات الإسلاميين» يبحث عن الجسم والجواهر، والجوهر الفرد، والطفرة والحركة و السكون، إلى غير ذلك من المباحث التي يبحث عنها في الفلسفة في الأُمور العامة، وفي قسم الطبيعيات ,ومع أنّ الإمام الأشعري أعطى للعقل مجالاً خاصاً في باب العقائد أخذ ينكر التحسين والتقبيح العقليّين ولا يعترف بهما.
وبذلك افترق عن منهج الاعتزال والعدلية بكثير، واقترب من منهج أهل الحديث، وقد سمعت أنّه رقي كرسياً في جامع البصرة ونادى بأعلى صوته أنّه كان يقول بالعدل وقد انخلع منه ,والخسارة التي توجهت إلى المذهب الكلامي الأشعري من تلك الناحية لا تجبر أبداً .
الأمر الثالث : أهم الفوارق الفكرية بين الامامية و الاشاعرة
1ـ قالت الامامية الصفات الإلهية عين الذات, وقالت الاشاعرة زائدة وقديمة
2 ـ قالت الامامية الصفات الخبرية مؤولة ,وقالت الاشاعرة الصفات الخبرية بلا كيف
3ـ قالت الامامية أفعال العباد صادرة منهم حقيقة ,وقالت الاشاعرة جميع الأفعال مخلوقة لله تعالى .
4ـ قالت الامامية رؤية الله تعالى مستحيلة مطلقا ,وقالت الاشاعرة ممكنة في الآخرة ,وربما قالوا بوقوعها حتما .
5ـ قالت الامامية كلامه تعالى فعل حادث ,وقالت الاشاعرة له كلام قديم أسموه بالكلام النفسي .
6ـ قالت الامامية ان العقل يحسن ويقبح بعض الاشياء مستقلا عن الشرع ,وقالت الاشاعرة ان الحسن ما حسنه الشارع وكذلك القبح .
7ـ قالت الامامية يستحيل على الله تعالى التكليف بغير المقدور عقلا ,وقالت الاشاعرة لا يستحيل .
8ـ قالت الامامية ان الامامة واجبة عقلا على الله تعالى ,وقالت الاشاعرة واجبة على الخلق شرعا وليس عقلا وهي واجبة بالوجوب الكفائي ,وكذلك عند المعتزلة .
الأمر الرابع : أهم أعلام هذا المذهب
1 القاضي أبو بكر الباقلاني
2 أبو منصور عبد القاهر البغدادي
3 إمام الحرمين الجويني
4 حجة الإسلام الامام الغزالي
5 محمد بن عبد الكريم الشهرستاني
6 الفخر الرازي
7 سيف الدين الآمدي
8 عبد الرحمن عضد الدين الإيجي
9 مسعود بن عمر التفتزاني
10 السيد الشريف الجرجاني
11 علاء الدين علي بن محمد القوشجي
الفصل التاسع :السلفية الحديثة (ابن تيمة أنموذجا)
في هذا الفصل نسلط الضوء عن كثب على أهم المعتقدات السلفية التي تولدت منذ ان شاعت الحشوية وبرزت على ساحة العقائد الدينية ،نعم لم تكن لهم أراء معينة او مذهب مستقل ,لكن الجنوح والعكوف على الظواهر شكل قاعدة أساسية في الفكر الإسلامي ممتدة من آثار الكتب التي روجت لتلك الافكار أمثال مسند احمد وغيره من الكتب التي طالت هذا الجانب النمطي والسياقي وأخذه مبدأ لازم لا ينفك في سائر الشؤون العقائدية ,بل وحتى الظاهرية اتباع المذهب الظاهري ,وفي الحقيقة نحن ارتأينا ان يكون هذا الفصل مخصص لاهم شخصية نالت إعجاب الكثير من ذوي الاهواء الفاسدة التي كانت مليئة بالحقد الدفين لإتباع أهل البيت ع ليجدوا متنفس علمي مؤطر بإطار ديني ينسجم مع المبدأ الذي انتهجته أهوائهم الفكرية ,وكانت ابرز هذه الشخصيات التي أحيت هذا النهج الفاسد هو ابن تيمية وتلميذه محمد بن عبد الوهاب الذينِ أحيا تراث الحنابلة ,لكن هذه المرة تختلف عن كل المراد حيث اخذوا بالغث والسمين ,وها نحن متعرضون لهما بشكل موجز .
ابن تيمية عصره وحياته ومنهجه :
هو أحمد بن عبد الحليم الحراني الدمشقي، ولد في العاشر من شهر ربيع الأول سنة 661 هـ ، بعد خمس سنوات من سقوط الخلافة الإسلامية في بغداد، وانغمار المسلمين في مشاكل كثيرة.
كان مولده بمدينة حران مهد الصابئة والصابئين من أقدم عصور الإسلام، وقد نشأ النشأة الأُولى إلى أن بلغ السابعة من عمره، فلما أغار عليها التتار، فرّ سكانها منها، وكان ممن هاجر أُسرة ابن تيمية، حيث هاجرت إلى دمشق، وقد اتّجه إلى العلم منذ صغره، وكان يدرس الفقه الحنبلي ويتتبّع سير ذلك المذهب، وكان أبوه من شيوخ هذا المذهب، ففي المدارس الحنبلية تخرج ابن تيمية، ودرس في كنف ابيه وتوجيهه ولم ير منه بادرة إلاّ بعد ما كتب رسالة في جواب سؤال أهل حماة، سألوه بقولهم: «ما قول السادة العلماء أئمة الدين ـ أحسن اللّه إليهم أجمعين ـ في آيات الصفات، كقوله تعالى: (الرّحمنُ عَلىَ العَرْشِ اسْتَوى)وقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّماء) إلى غير ذلك من الآيات وأحاديث الصفات، وأيضاً كقوله (صلى الله عليه و آله): «إنّ قلوب بني آدم بين اصبعين من أصابع الرحمن» وقوله: «يضع الجبّار قدمه في النار» إلى غير ذلك.
الناقضون والرادّون على ابن تيمية
وإليك قائمة ممن ألف كتاباً أو رسالة حول آرائه:
1 شفاء السقام في زيارة خيرالأنام، لتقي الدين السبكي .
2 الدرة المضيئة في الرد على ابن تيمية، له أيضاً .
3 المقالة المرضية، لقاضي قضاة المالكية تقي الدين أبي عبداللّه الأخنائي .
4 نجم المهتدي ورجم المقتدي، للخفر ابن المعلم القرشي .
5 دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى الإمام أحمد، لتقي الدين الإمام أبي بكر الحصني الدمشقي (ت 729 هـ) .
6 التحفة المختارة في الرد على منكري الزيارة، لتاج الدين عمر بن علي اللخمي المالكي الفاكهاني (ت 734 هـ) .
ومما جاء فيه قوله: أخبر جمال الدين عبداللّه بن محمد الأنصاري المحدث قال: رحلنا مع شيخنا تاج الدين الفاكهاني إلى دمشق، فقصد زيارة نعل رسول اللّه الّتي بدار الحديث الأشرفية بدمشق، وكنت معه، فلما رأى النعل المكرمة، حسر عن رأسه، وجعل يقبله ويمرغ وجه عليه ودموعة تسيل وأنشد:
فلو قيل للمجنون: ليلى ووصلها * تريد أم الدنيا وما في طواياها
لقال غبار من تراب نعالها * أحب إلى نفسي وأشفى لبلواها
7 اعتراضات على ابن تيمية، لأحمد بن إبراهيم السروطي
8 إكمال السنة في نقض منهاج السنة، للسيد مهدي بن صالح الموسوي القزويني الكاظمي (ت 1358 هـ)
9 الإنصاف والإنتصاف لأهل الحق من الإسراف، في الرد على ابن تيمية الحنبلي الحراني، فرغ منه مؤلفه سنة (757 هـ)، توجد نسخة منه في المكتبة الرضوية ـ مشهد ـ رقم 5643 .
10 البراهين الجلية في ضلال ابن تيمية، للسيد حسن الصدر الكاظمي (ت 1354)
11 البراهين الساطعة، للشيخ سلامة العزامي (1379 هـ )
12 جلاء العينين في محاكمة الأحمدين (أحمد بن تيمية وأحمد بن حجر)، للشيخ نعمان بن محمود الألوسي
13 الدرة المضيّة في الرد على ابن تيمية، لمحمد بن حميد الدين الحنفي الدمشقي كمال الدين المعروف بابن الزملكاني .
14 الرد على ابن تيمية في الاعتقاد، لمحمد بن حميد الدين الحنفي الدمشقي .
فهرسة إجمالية لعقائد ابن تيمية التي خالف بها عقائد المسلمين
ابن تيمية ورأيه في الصفات الخبرية
ابن تيمية وشد الرحال إلى زيارة النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ
ابن تيمية ورأيه في زيارة النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ
ابن تيمية والبناء على القبور
ابن تيمية وبناء المساجد على القبور
ابن تيمية وإقامة الصلاة عند قبور الأنبياء
ابن تيمية والتوسل بالأنبياء والصالحين
التوسل بالأنبياء والصالحين أنفسهم
التوسل إلى اللّه بحق النبي وحرمته ومنزلته
التوسل بدعاء النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ
أبن تيمية وطلب الشفاعة ممن ثبت كونه شفيعاً
ابن تيمية والنذر لأهل القبور
ابن تيمية والحلف بغير اللّه تعالى
ابن تيمية والحلف على اللّه بحق الأولياء
ابن تيمية وتكريم مواليد أولياء اللّه ووفياتهم
وقد خالف ابن تيمية في جميع ما نقلناه ,او لا اقل قد تضاربت أرائه في البعض دون الأخر وكل ما ذكر مردود ومن شاء فليراجع الملل والنحل للشيخ السبحاني (معاصر).
واخير ننقل كلام ابن حجر في كتابه الفتاوى الحديثة قائلا ( وَسُئِلَ نفع الله بِهِ بِمَا لَفظه: لِابْنِ تَيْمِية اعْتِرَاض على متأخري الصُّوفِيَّة، وَله خوارق فِي الْفِقْه وَالْأُصُول فَمَا مُحَصل ذَلِك؟ فَأجَاب بقوله (اي ابن حجر ) : ابْن تَيْمِية عبد خذله الله وأضلَّه وأعماه وأصمه وأذلَّه، وَبِذَلِك صرح الْأَئِمَّة الَّذين بينوا فَسَاد أَحْوَاله وَكذب أَقْوَاله، وَمن أَرَادَ ذَلِك فَعَلَيهِ بمطالعة كَلَام الإِمَام الْمُجْتَهد الْمُتَّفق على إِمَامَته وجلالته وبلوغه مرتبَة الِاجْتِهَاد أبي الْحسن السُّبْكِيّ وَولده التَّاج وَالشَّيْخ الإِمَام الْعِزّ بن جمَاعَة وَأهل عصرهم، وَغَيرهم من الشَّافِعِيَّة والمالكية وَالْحَنَفِيَّة، وَلم يقصر اعتراضه على متأخري الصُّوفِيَّة بل اعْترض على مثل عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُمَا كَمَا يَأْتِي. وَالْحَاصِل أنْ لَا يُقَام لكَلَامه وزن بل يَرْمِي فِي كلّ وَعْر وحَزَن، ويعتقد فِيهِ أَنه مُبْتَدع ضالّ ومُضِّلّ جَاهِل غال عَامله الله بعدله، وأجازنا من مثل طَرِيقَته وعقيدته وَفعله آمين.
ثم يقول :
انْتهى حَاصِل كَلَام ابْن تَيْمِية. وَهُوَ يُنَاسب مَا كَانَ عَلَيْهِ من سوء الإعتقاد حَتَّى فِي أكَابِر الصَّحَابَة ومنْ بعدهمْ إِلَى أهل عصره وَرُبمَا أَدَّاهُ اعْتِقَاده ذَلِك إِلَى تَبْديع كثير مِنْهُم. وَمن جملَة مَنْ تتبَّعه الْوَلِيّ القطب الْعَارِف أَبُو الْحسن الشاذلي نفعنا الله بِعُلُومِهِ ومعارفه فِي حزبه الْكَبِير وحزب الْبَحْر وَقطعَة من كَلَامه، كَمَا تتبَّع ابنَ عَرَبِيّ وابنَ الفارض وابنَ سبعين، وتتبع أَيْضا الحلاَّج الْحُسَيْن بن مَنْصُور، وَلَا زَالَ يتتبع الأكابر حَتَّى تمالأ عَلَيْهِ أهل عصره ففسقوه، وبدّعوة بل كَفَّره كثير مِنْهُم،
وقد نقل أحد مشايخ الوهابية المتاخرين وهو عبد الله بن صالح بن عبد العزيز الغصن في كتابه دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 100حيث نقل كلاما للهيتمي عن إبن تيمية قال فيه :
وقال ابن حجر الهيتمي متحدثاً عن موقف ابن تيمية رحمه الله من الباري - جلَّ وعلا
نسب إليه العظائم والكبائر، وخرق سياج عظمته، وكبرياء جلالته بما أظهر للعامة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم) وأنه أول من قال بالتجسيم ، وأنه يقول: إن الله جسم كالأجسام)) .
محمد بن عبد الوهاب ,تاريخ الوهابية
مؤسسها، ناصرها وتطورها
قد وقفت في الفصول السابقة على العقائد الوهابية عن كثب، وأنها لم تكن شيئاً جديداً سوى ما ابتدعه أحمد بن تيمية في القرن الثامن الهجري وقد كاد أن يصير نسياً منسياً، ويذهب أدراج الرياح، غير أنّ بذورها لما كانت تقبع في طيات كتبه ورسائله، قام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي بتجديد العهد بها، وإحيائها مرة أُخرى بفضل سيف آل سعود في الشطر الثاني من القرن الثاني عشر إلى أوليات القرن الثالث عشر الهجري، أي من سنة 1160 إلى سنة 1207 هـ الّتي وافاه الأجل فيها، ثم تعاهد أبناؤه من بعده مع أبناء بيت قبيلة آل سعود فترة بعد فترة، على أن تكون الدعوة والإرشاد والتخطيط على أبنائه، والتطبيق والتنفيذ والسلطة على كاهل آل سعود، فلم تزل هذه المعاهدة باقية إلى يومنا هذا، غير أنها اتخذت في هذه الآونة لنفسها شكلا آخر، وهو أن القوة والسلطة كانت في بدء التأسيس آلة طيّعة بيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولكنه في عصرنا هذا تبدلت رأساً على عقب، فأصبحت السلطة الدينية أداة طيعة في يد آل سعود، يأتمرون بكل ما يلقى إليهم من البلاط السعودي والملك الحاكم من قبلهم على شبه الجزيرة العربية.
وهذه إحدى الصور الّتي تحكي لنا عن تراجع الوهابية عن مبادئها الأولية الّتي قامت على أعتابها يوم تأسيسها .
نشأته ووفاته
اختلف المؤرخون في عام ولادته ووفاته، فمن قائل بأنه ولد سنة 1111 هـ وتوفي عام 1207 هـ فيكون عمره ستاً وتسعين; إلى آخر بانه ولد عام 1115 هـ وتوفي 1207 هـ فيكون قد ناهز إحدى وتسعين، نشأ وترعرع في بلده «العيينة» في نجد، وتلقى دروسه بها على رجال الدين من الحنابلة، ثم غادر موطنه ونزل المدينة المنورة ليكمل دروسه، يقول أحمد أمين المصري: «سافر الشيخ إلى المدينة ليتم تعلمه، ثم طاف في كثير من بلاد العالم الإسلامي، فأقام نحو أربع سنين في البصرة، وخمس سنين في بغدادن وسنة في كردستان، وسنتين في همدان، ثم رحل إلى إصفهان، ودرس هناك فلسفة الإشراق والتصوّف، ثم رحل إلى «قم» ثم عاد إلى بلده، واعتكف عن الناس نحو ثمانية أشهر، ثم خرج عليهم بدعوته الجديدة .
وقد ذكر كثير من المؤرخين تجواله وترحاله في هذه البلاد، منهم عبد الرزاق الدنبيلي في كتابه مآثر سلطانية ,والشيخ أبو طالب الإصفهاني الّذي كان معاصراً للشيخ محمد بن عبدالوهاب، فقد ذكر سفر الشيخ إلى إصبهان وإلى أكثر بلاد العراق وإيران، حتّى إلى «غزنين» الّذي هو بلد في أفغانستان .
أهل البيت أدرى بما فيه
جئنا بها ليكون القارىء الكريم على اطلاع بحقيقة حاله على جهة الإجمال، ولكن هناك الكثير الكثير في الزوايا والخبايا ذكرت في تاريخ حياته أغفلنا ذكرها روما للاختصار، ولكن ما يجب ذكره في المقام كلمة أخيه في حقه، وهو من أهل بيته وأدرى بحاله منّا ومن كل كاتب. يقول في كتاب أسماه «الصواعق الإلهية» رداً على آراء أخيه: «فإنّ اليوم ابتلي الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنة، ويستنبط من علومهما، ولا يبالي من خالفه .
وإذا طلبت منه أن يعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل، بل يوجب على الناس الأخذ بقوله وبمفهومه، ومن خالفه فهو عنده كافر، هذا وهو لم تكن فيه خصلة واحدة من فعال أهل الاجتهاد ولا واللّه، ولا واللّه عشر واحدة، ومع هذا فراج كلامه على كثير من الجهّال، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، الأُمة كلها تصيح بلسان واحد، ومع هذا لا يرد لهم في كلمة بل كلهم كفار وجهال! أللّهمّ اهد هذا الضال وردّه إلى الحق
ويقول ايضاً: إنّ هذه الأُمور (الّتي يكفر بها محمد بن عبد الوهاب) حدثت من قبل زمان الإمام أحمد في زمن أئمة الإسلام، حتّى ملأت بلاد الاِسلام كلها، ولم يُرْوَ عن أحد من أئمة المسلمين أنهم كفّروا بذلك، ولا قالوا هؤلاء مرتدون، ولا أمروا بجهادهم، ولا سموا بلاد المسلمين بلاد شرك وحرب كما قلتم أنتم، بل كفّرتم من لم يكفر بهذه الأفاعيل وإن لم يفعلها، وتمضي قرون على الأئمة من ثمانمائة عام، ومع هذا لم يُرْوَ عن عالم من علماء المسلمين أنه كفر، بل ما يظن هذا عاقل، بل واللّه لازم قولكم أن جميع الأُمة بعد زمان الإمام أحمد ـ رحمة اللّه تعالى ـ ، علماؤها وأُمراؤها وعامتها كلهم كفار مرتدّون، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، واغوثاه إلى اللّه! ثم واغوثاه أن تقولوا كما يقول بعض عامتكم إنّ الحجة ما قامت إلاّ بكم، وإلاّ قبلكم لم يعرف دين الإسلام
وهذه العبارة من أخيه صريحة في أنه كان يكفّر جميع طوائف المسلمين، ويعتبر بلادهم بلاد حرب .
تكفير محمد بن عبد الوهاب جميع المسلمين
ولعلّ القارئ ينتابه الاستغراب مما نسبه إليه أخوه، ولكنه إذا رجع إلى مبادئ دعوته يسهل له التصديق بالنسبة، وإليك خلاصة رسالته تحت أربع قواعد:
الأُولى: إنّ الكفار الذين قاتلهم رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ مقرّون بأنّ (اللّه) هو الخالق الرازق المدبر، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لقوله تعالى :قُلْ مَنْ يَرزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالأرضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبصَارَ... فَسَيَقُولُونَ اللّه فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) .
الثانية: إنهم يقولون: ما دعونا الأصنام وما توجهنا إليهم الاّ لطلب القرب والشفاعة لقوله تعالى: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِياءَ مَا نَعْبُدُهُم اِلاّ لَيُقَرِّبُونا إلى اللّه زُلفَى . وقوله: وَيَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّه مَالا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُم وَيَقُولُونَ هَؤلاَءِ : شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه .
الثالثة: إنّه ظهر (صلّى اللّه عليه وآله) على قوم متفرقين في عبادتهم، فبعضهم يعبد الملائكة، وبعضهم الأنبياء والصالحين، وبعضهم الأشجار والأحجار، وبعضهم الشمس والقمر، فقاتلهم ولم يفرق بينهم.
الرابعة:إنّ مشركي زماننا أغلظ شركاً من الأولين، لأن أولئك يشركون في الرخاء، ويخلصون في الشدة، وهؤلاء شركهم في الحالتين لقوله تعالى:
)فَإِذا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوا اللّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُم إلَى البَرِّ إذا هُمْ يُشْرِكُونَ) .
وهو لا يريد من قوله «إنّ مشركي زماننا أغلظ شركاً...» إلاّ المسلمين عامة، وذلك لأنهم يتوسلون بالنبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ في شدتهم ورخائهم، ولذلك صاروا عنده أغلظ من مشركي عهد الرسالة .
ومما يؤخذ عليه فيما ذكره في القاعدة الثانية، وهي المحور الرئيس للضلالة، أنّ هناك فرقاً جلياً بين المسلمين وعبدة الأوثان والأصنام، فإنّ المسلمين يعبدون اللّه وحده، ولا يتوجّهون إلى النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ إلاّ بقصد أن يدعو لهم عند اللّه، ويشفع لهم عنده، وأين هو من عبدة الطاغوت الذين كانوا يعبدون الأصنام ولا يعبدون اللّه، ويتوجهون إليها على أنها آلهة تملك ضرهم ونفعهم، وما هذه إلاّ مغالطة مفضوحة، وقد تكررت هذه الظاهرة في أكثر رسائله وكتبه .
الرادّون على محمّد بن عبد الوهاب
هذا غيض من فيض من حياة محمّد بن عبد الوهاب المليئة بالإجرام والإفساد والتضليل، وشق عصا المسلمين، فمن أراد التوسع في دراسة حياته وما جرّه على المسلمين من حروب وويلات، فليرجع إلى الكتب المؤلفة حول الوهابية ومؤسسها، وتاريخ نجد والسلطة القبلية الحاكمة فيه منذ عصر محمّد بن عبدالوهاب إلى يومنا هذا
إلاّ أنّ العلماء الواعين في الحرمين الشريفين في عصره وما بعده، وفي سائر الأقطار الإسلامية، قد أدوا ما عليهم من وظائف رسالية تجاه هذه الحركة الهدامة، فترى كيف أنّهم قد بذلوا الجهود المضنية في سبيل ردّ دعوتهم وإثبات بطلانها، وإليك قائمة من الردود المؤلفة في إبطالها، نأتي بأسمائها وأسماء مؤلّفيها:
1مقدمة شيخه محمّد بن سليمان الكردي الشافعي»الّتي قرّظ بها رسالة أخيه سليمان بن عبدالوهاب، وقع في نحو ثلاث ورقات، وقد تضمّنت ما يشير إلى ضلاله ومروقه عن الدين، على نحو ما حكي في ذلك عن شيخه الآخر محمّد حياة السندي، ووالده عبد الوهاب .
2تجريد سيف الجهاد لمدّعي الاجتهاد» لشيخه العلامة عبد اللّه بن عبد اللطيف الشافعي 3الصواعق والرعود» للعلامة عفيف الدين عبداللّه بن داود الحنبلي .
قال العلامة علوي بن أحمد الحداد: كتبت عليه تقاريظ أئمة من علماء البصرة وبغداد وحلب والأحساء وغيرهم، تأييداً له وثناء علي .ثم قال: ولو وقفت عليه قبل هذا ما ألفت كتابي هذا .
ولخصه محمّد بن بشير قاضي رأس الخيمة بعجمان .
4تهكّم المقلدين بمن ادّعى تجديد الدين» للعلاّمة المحقق محمّد بن عبد الرحمن ابن عفالق الحنبلي، وقد ترصّد فيه لكل مسألة من المسائل الّتي ابتدعها وردّ عليها بأبلغ رد، وقد ضمّن كتابه هذا ملحقاً يتناول ما يتعلق بالعلوم الشرعية والأدبية، كما أرفقه بأسئلة كان قد بعثها إلى محمد بن عبد الوهاب، منها شطر وافر حول علم البيان تتعلق بسور (والعاديات) وألمح في ذيلها إلى عجزه عن الجواب عن أدناها فضلا عن أجلِّها.
5 رسالة للعلامة أحمد بن علي القباني البصري الشافعي، وتقع في نحو عشر كراريس عقد فصولها كافة للرد على معتقداته وتزييف أباطيله .
6 رسالة للعلامة عبد الوهاب بن أحمد بركات الشافعي الأحمدي المكي .
7الصارم الهندي في عنق النجدي» للشيخ عطاء المكي .
8 رسالة للشيخ عبد اللّه بن عيسى المويسي .
9 رسالة للشيخ أحمد المصري الأحسائي .
10 السيوف الصقال في أعناق من أنكر على الأولياء بعد الانتقال، لأحد علماء بيت المقدس , وغيرها الكثير الكثير .
الأمر الأول : التعريف بصاحب المنهج ونبذة عن تاريخه
هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري.
يقول ابن عساكر في ترجمته: إنّ أباه إسماعيل بن إسحاق كان سنّياً جماعياً حديثياً، أوصى عند وفاته إلى زكريا بن يحيى الساجي، وهو إمام في الفقه والحديث،وقد روى عنه الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتاب التفسير أحاديث كثيرة، وقد يكنّى أبوه بـ«أبي بشر» و ربما يقال إنّها كنية جدّه .
وهذا يعرب عن أنّ البيت الذي تربّى فيه أبو الحسن كان بيت الحديث والرواية، مقابلاً للمنهج العقلي الرائج بين المعتزلة .
افترق المسلمون(أهل البحث والجدل منهم) في النصف الأوّل من القرن الثاني إلى فرقتين:
فرقة أهل الحديث: وهم الذين تعبّدوا بظواهر الآيات والروايات من دون غور في مفاهيمها، أو دقة في أسنادها، وكانوا يشكّلون الأكثرية الساحقة بين المسلمين، وكثرت فيهم المشبّهة والمجسّمة، والمثبتون لله سبحانه علوّاً وتنقّلاً وحركة وأعضاءً، كاليد والرجل والوجه، إلى غير ذلك من البدع التي ظهرت بين المسلمين عن طريق الأحبار والرهبان المتسترين بالإسلام.
وفرقة الاعتزال: وهم الذين كانوا يتمسكون بالعقل أكثر من النقل،ويؤوّلون النقل إذا وجدوه مخالفاً لفكرتهم وعقليتهم، وبقي التشاجر قائماً على قدم وساق بين الفرقتين طوال قرون.
فتارة يتغلّب أهل الحديث على أهل الاعتزال ويزوونهم، وأُخرى ينغلّب جناح التفكر والاعتزال على أهل الظواهر والحديث، وكانت غلبة كلّ فرقة على الأُخرى في كثير من الأحيان تنشأ من ميول الحكومات آنذاك لأحد الجناحين المتصارعين، فنرى عصر الأمويين وأوائل عصر العباسيين، عصر ازدهار منهج أهل الحديث والمتمسكين بظواهر النصوص; كما نرى الأمر على العكس في زمن المأمون وأخيه المعتصم والواثق بالله إلى عصر المتوكل، فكان الازدهار لمنهج الاعتزال حتى صار مذهباً رسمياً للحكومات السائدة، واعتقل بعض مشايخ أهل الحديث مثل أحمد بن حنبل، حتّى جُلِدَ ثلاثين سوطاً لأجل اعتقاده بقدم القرآن الذي يُعدّ من مبادئ أهل الحديث.
وكان الأمر على هذا المنوال إلى أن تسلّم المتوكل مقاليد الحكم; فأمر بنشر منهج أهل الحديث بقوة وحماس، وتبعه غيره من العباسيين في دعم مقالتهم، وتضييق الأمر على أهل الاعتزال، وقد كان الأمر على هذا المنوال إلى عصر أبي الحسن الأشعري (260ـ324هـ) الذي كان معتزلياً ثمّ صار ـ بحسب الظاهر ـ من زمرة أهل الحديث، فكانت السلطة تسايرهم وتوافقهم. وسيوافيك القول في علل رجوعه عن مذهب الاعتزال إلى تيار أهل الحديث وفي مقدمتهم مذهب إمام الحنابلة أحمد بن حنبل.
وقد كوّن الأشعري برجوعه عن الاعتزال إلى مذهب أهل الحديث منهجاً كلامياً، له أثره الخاص إلى يومنا هذا بين أهل السنّة، فمذهبه الكلامي هو المذهب السائد بينهم في أكثر الأقطار .
رجوعه عن الاعتزال
اتّفق المترجمون له على أنّه أعلن البراءة من الاعتزال في جامع البصرة، وأقدم مصدر يذكر ذلك هو ابن النديم في (فهرسته) حيث يقول: أبو الحسن الأشعري من أهل البصرة، كان معتزلياً ثمّ تاب من القول بالعدل وخلق القرآن، في المسجد الجامع بالبصرة، في يوم الجمعة رقي كرسياً، ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه نفسي، أنا فلان بن فلان، كنت قلت بخلق القرآن، وإنّ الله لا يرى بالأبصار، وإنّ أفعال الشر أنا أفعلها. وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة، وخرج بفضائحهم ومعايبهم. وكان فيه دعابة ومزح كبير .
وقد أوعز إلى إنابة الأشعري عن منهج الاعتزال كثير من علماء التراجم، غير أنّهم لم يشيروا إلى الحوافز التي دعت الشيخ إلى هذا الانسلاخ، ولم يخطر ببالهم سبب له سوى انكشاف الخلاف عليه في المذهب الذي كان يتمذهب به من شبابه إلى أوائل كهولته، ولأجل ذلك يجب التوقف هنا إجمالاً، حتى نقف على بعض الحوافز الداعية له إلى الإنابة عن الاعتزال .
سبب رجوعه عن الاعتزال
إنّ رجوع الأشعري عن منهج الاعتزال كان ظاهرة روحية تطلب لنفسها علة وسبباً، ولا يقف عليها مؤرخ العقائد إلاّ بالغور في حياته، وما كان يحيط به من عوامل اجتماعية أو سياسية أو خلقية.
إلاّ أنّ قلم الخيال والوهم، أو قلم العاطفة، أعطى للموضوع مسرحية خاصة أقرب إلى الجعل والوضع منها إلى الحقيقة، فنقلوا منامات كثيرة أمر فيها رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أبا الحسن أن ينصر سنّته، ويرجع عمّا كان فيه. غير أنّي أضن بوقت القارئ أن أنقل كلّ ما جاء به ابن عساكر في «تبيينه» في ذلك المجال، وإنّما أكتفي بنموذج بل نموذجين منه:
1 نقل بسنده عن أحمد بن الحسين المتكلّم قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: إنّ الشيخ أبا الحسن لما تبحّر في كلام الاعتزال فبلغ غايته،كان يورد الأسئلة على أُستاذيه في الدرس ولا يجد لها جواباً شافياً، فيتحير في ذلك، فحكي أنّه قال:
وقع في صدري في بعض الليالي شيء ممّا كنت فيه من العقائد، فقمت وصليت ركعتين، وسألت الله تعالى أن يهديني الطريق المستقيم، ونمت فرأيت رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بالمنام فشكوت إليه بعض ما بي من الأمر، فقال رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : عليك بسنّتي، فانتبهت وعارضت مسائل الكلام بما وجدت في القرآن والأخبار فأثبته، ونبذت ما سواه ورائي ظهرياً.
2 نقل أيضاً عن الأشعري أنّه قال: بينا أنا نائم في العشر الأُول من شهر رمضان، رأيت المصطفى ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ فقال: يا علي أنصر المذاهب المروية عني فإنّها الحقّ، فلمّا استيقظت دخل عليّ أمر عظيم، ولم أزل مفكراً مهموماً لرؤياي، ولما أنا عليه من إيضاح الأدلة في خلاف ذلك، حتى كان العشر الأوسط فرأيت النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في المنام فقال لي: ما فعلت فيما أمرتك به؟ فقلت: يا رسول الله، وما عسى أن أفعل وقد خرّجت للمذاهب المروية عنك وجوهاً يحتملها الكلام، واتّبعت الأدلة الصحيحة التي يجوز إطلاقها على الباري عزّوجلّ؟ فقال لي: أنصر المذاهب المروية عني فإنّها الحقّ، فاستيقظت وأنا شديد الأسف والحزن، فأجمعت على ترك الكلام واتبعت الحديث وتلاوة القرآن; إلى آخر ما ذكره من الرؤيا.
وكان الأولى للمحقّق ترك نقل هذه المنامات، لأنّ العوام والسذج من الناس إذا أعوزتهم الحجة في اليقظة، يلجأون إلى النوم فيجدون ما يتطلبونه من الحجج في المنام، فيملأون كتبهم بالمنامات والرؤى.
أضف إلى ذلك وجود التهافت بين المنامين، فإنّ الأوّل يعرب عن ظهور الشكّ في صحّة معتقداته قبل المنام و تزايده إلى أن أدى إلى التحول والبراءة بسبب الرؤيا، ولكن الثاني يعرب عن أنّ التحول كان فجائياً غير مسبوق بشيء من الشك والتردد في صحّة المنهج الذي عاش عليه فترة من عمره.
وكما لا يمكن الاعتماد على هذه المنامات، لا يمكن الركون إلى النقل التالي أيضاً.
3 إنّ الأشعري أقام على مذهب المعتزلة أربعين سنة وكان لها إماماً. ثمّ غاب عن الناس في بيته خمسة عشر يوماً، ثمّ خرج إلى الجامع وصعد المنبر وقال: معاشر الناس إنّما تغيبت عنكم في هذه المدة، لأنّي نظرت فتكافأت عندي الأدلّة ولم يترجح عندي حقّ على باطل ولا باطل على حق; فاستهديت الله تبارك و تعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده كما انخلعت من ثوبي هذا; وانخلع من ثوب كان عليه، و رمى به. ودفع الكتب إلى الناس، فمنها كتاب «اللمع» وكتاب أظهر فيه عوار المعتزلة وسمّاه بـ«كشف الأسرار وهتك الأسرار» وغيرهما، فلمّا قرأ تلك الكتب أهل الحديث و الفقه من أهل السنّة والجماعة أخذوا بما فيها، واعتقدوا تقدّمه، واتّخذوه إماماً حتى نسب إليه مذهبهم .
ولا يصحّ هذا النقل من وجوه:
أمّا أوّلاً: فلأنّ ظاهر كلامه ذاك أنّه قام بتأليف هذه الكتب في أيام قلائل، وهو في غاية البعد.
وأمّا ثانياً: فلأن الناظر في كتابيه: ـ الإبانة واللمع ـ يجد الفرق الجوهري بينهما في عرض العقائد، فالأوّل منهما هو الذي ألّفه بعد انخراطه في مسلك أهل الحديث. ولأجل ذلك أتى في مقدمة الكتاب بلب عقائد إمام الحنابلة، بتغيير يسير. وأمّا كتاب اللمع فهو كتاب كلامي لا يشبه كتب أهل الحديث، ولا يستحسنه طلابه وأتباعه.
وأمّا ثالثاً: فكيف يمكن أن يقال إنّه أقام على مذهب أُستاذه أربعين سنة؟ فلو دخل منهج الأُستاذ في أوان التكليف للزم أن يكون عام الخروج موافقاً لكونه ابن خمس وخمسين سنة، وبما أنّه من مواليد عام (260هـ)، فيجب أن يكون عام الإنابة موافقاً لسنة (315هـ ) ,هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّه تبرأ من منهج الأُستاذ وهو حي، وقد توفي أُستاذه الجبائي عام (303هـ)، وعندئذ كيف يمكن تصديق ذلك النقل؟!
الحوافز الدافعة إلى ترك الاعتزال
إنّ الأشعري قد مارس علم الكلام على مذهب الاعتزال مدّة مديدة وبرع فيه إلى أوائل العقد الخامس من عمره، وعند ذاك تكون عقيدة الاعتزال صورة راسخة وملكة متأصلة في نفسه، فمن المشكل جداً أن ينخلع الرجل دفعة واحدة عن كلّ ما تعلم وعلّم، وناظر وغَلب أو غُلب، وينخرط في مسلك يضاد ذلك ويغايره بالكلية. نعم، نتيجة بروز الشك والتردُّد هو عدوله عن بعض المسائل و بقاؤه على مسائل أُخر، وأمّا العدول دفعة واحدة عن جميع ما مارسه وبرع فيه، والبراءة من كلّ ما يمت إلى منهج الاعتزال بصلة، فلا يمكن أن يكون أمراً حقيقياً جدّياً من جميع الجهات.
ولأجل ذلك لابدّ لمؤرّخ العقائد من السعي في تصحيح وتفسير هذه البراءة الكاملة من منهج الاعتزال من مثله.
فنقول: أمّا السبب الحقيقي فالله سبحانه هو العالم. ولكن يمكن أن يقال إنّ الضغط الذي مورس على بيئة الاعتزال من جانب السلطة العباسية أوجد أرضية لفكرة العدول في ذهن الشيخ ونفسه، وإليك بيانه:
1 الضغط العباسي على المعتزلة
إنّ الخلفاء العباسيين ـ من عصر المأمون إلى المعتصم، إلى الواثق بالله ـ كانوا يروّجون لأهل التعقّل والتفكّر، فكان للاعتزال في تلك العصور رقيّ وازدهار. فلمّا توفّي الواثق بالله عام 232هـ وأخذ المتوكل بزمام السلطة بيده، انقلب الأمر وصارت القوة لأصحاب الحديث، ولم تزل السيرة على ذلك حتى هلك المتوكل وقام المنتصر بالله مقامه، فالمستعين بالله، فالمعتز بالله، فالمهتدي، فالمعتمد، فالمعتضد، فالمكتفي، فالمقتدر، وقد أخذ المقتدر زمام الحكم من عام 295هـ إلى 320هـ و في تلك الفترة أظهر أبو الحسن الأشعري التوبة والإنابة عن الاعتزال، والانخراط في سلك أهل الحديث. وقد ضيق أصحاب السلطة ـ في عصر المتوكل إلى عهد المقتدر ـ الأمر على منهج التعقّل، فالضغط والضيق كانا يتزايدان ولا يتناقصان أبداً، وفي تلك الفترة، لا عتب على الشيخ ولا عجب منه أن يخرج من الضغط والضيق بإعلان الرجوع عن الاعتزال، والانخراط في سلك أهل الحديث، الذين كانت السلطة تؤيدهم كما كانوا يؤيدونها.
لا أقول: إنّ فكرة الخروج عن الضغط كانت العامل الوحيد لعدوله عن منهج الاعتزال، بل أقول: قد أوجدت تلك الفكرة، أرضية صالحة للانسلاك في مسلك أهل الحديث، والثورة على المعتزلة، فإنّ تأثير البيئة وحماية السلطة ممّا لا يمكن إنكاره.
2 فكرة الإصلاح في عقيدة أهل الحديث
وهناك عامل آخر يمكن أن يكون مؤثراً في تحول الشيخ وانقلابه إلى منهج الحنابلة، وهو فكرة القيام بإصلاح عقيدة أهل الحديث التي كانت سائدة في أكثر البلاد. وما كان الإصلاح ممكناً إلاّ بالانحلال عن الاعتزال كلياً.
توضيحه: إنّ الغالب على فكرة أهل الحديث كان يوم ذاك هو القول بالتجسيم والجهة والجبر، وغير ذلك من العقائد الموروثة عن اليهود والنصارى، الواردة على أوساط المسلمين عن طريق الأحبار والرهبان، فعندما رجع الأشعري عن عقيدة الاعتزال وأعلن انخراطه في أصحاب الحديث، وأنّه يعتقد بما يعتقد به أصحابه، وفي مقدمتهم أحمد بن حنبل، مكّنه ذلك من إصلاح عقيدة أهل الحديث وتنزيهها عمّا لا يناسب ساحة الرب، من التجسيم وغيره. فكان الرجوع عن مذهب الاعتزال، شبه واجهة لأن يتقبله أهل الحديث بعنوان أنّه من أنصارهم وأعوانهم، حتّى يمكنه أن يقوم بإصلاح عقائدهم.
الأمر الثاني : ملامح المذهب الأشعري
ان أهم ما يمكن عرضه في هذا الأمر من ملامح الاشاعرة هو عدم عزل العقل عن العقائد .
كانت المعتزلة تعتمد على العقل في المسائل الكلامية، ويؤوّلون النصوص القرآنية عندما يجدونها مخالفة لآرائهم ـ بزعمهم ـ و لا يكادون يعتمدون على السنة، ولأجل ذلك نرى أنّهم أوّلوا الآيات الكثيرة الواردة حول الشفاعة ـ الدالّة على غفران الذنوب بشفاعة الشافعين ـ بأنّ المراد رفع درجات الصالحين بشفاعة الشفعاء، لا غفران ذنوب الفاسقين ,وكان المحدّثون يرون الكتاب والسنّة مصدراً للعقائد، وينكرون العقل ورسالته في مجالها، ولم يعدّوه من أدوات المعرفة في الأُصول، فكيف في الفروع، ولا شكّ أنّ هذا خسارة كبيرة لا تجبر , وقد جاء الإمام الأشعري بمنهج معتدل بين المنهجين، وقد أعلن أنّ المصدر الرئيسي للعقائد هو الكتاب والسنّة، وفي الوقت نفسه خالف أهل الحديث بذكاء خاص عن طريق استغلال البراهين العقلية والكلامية على ما جاء في الكتاب والسنة.
كان أهل الحديث يحرّمون الخوض في الكلام، وإقامة الدلائل العقلية على العقائد الإسلامية، ويكتفون بظواهر النصوص والأحاديث، ولكن الأشعري بعد براءته من الاعتزال وجنوحه إلى منهج أهل الحديث، كتب رسالة خاصة في استحسان الخوض في الكلام و بذلك جعل نفسه هدفاً لعتاب الحنابلة المتزمّتين الذين كانوا يرون الخوض في هذه المباحث نوعاً من الزيغ والضلال.
ولأجل ذلك تفترق كتب الشيخ الأشعري وتلاميذ منهجه ـ ممن أتوا بعده كالقاضي أبي بكر الباقلاني، وعبد القاهر البغدادي، وإمام الحرمين أبي المعالي الجويني ـ عن كتب الحنابلة المتعبّدين بظواهر النصوص. وقد عزلوا العقل عن الرسالة المودعة له، حتى في الكتاب والسنّة.ولوجود هذا التفاوت ظل المذهب الأشعري غير مقبول عند الحنابلة في فترات من الزمن.
ولأجل ذلك ترى أنّ الأشعري بحث عن كثير من العقليات والحسيات التي لا صلة لها بالعقيدة والديانة، لمّا وجد أنّ المعتزلة والفلاسفة بحثوا عنها بلسان ذلق وذكاء بارز، وترى أنّ الجزء الثاني من كتاب «مقالات الإسلاميين» يبحث عن الجسم والجواهر، والجوهر الفرد، والطفرة والحركة و السكون، إلى غير ذلك من المباحث التي يبحث عنها في الفلسفة في الأُمور العامة، وفي قسم الطبيعيات ,ومع أنّ الإمام الأشعري أعطى للعقل مجالاً خاصاً في باب العقائد أخذ ينكر التحسين والتقبيح العقليّين ولا يعترف بهما.
وبذلك افترق عن منهج الاعتزال والعدلية بكثير، واقترب من منهج أهل الحديث، وقد سمعت أنّه رقي كرسياً في جامع البصرة ونادى بأعلى صوته أنّه كان يقول بالعدل وقد انخلع منه ,والخسارة التي توجهت إلى المذهب الكلامي الأشعري من تلك الناحية لا تجبر أبداً .
الأمر الثالث : أهم الفوارق الفكرية بين الامامية و الاشاعرة
1ـ قالت الامامية الصفات الإلهية عين الذات, وقالت الاشاعرة زائدة وقديمة
2 ـ قالت الامامية الصفات الخبرية مؤولة ,وقالت الاشاعرة الصفات الخبرية بلا كيف
3ـ قالت الامامية أفعال العباد صادرة منهم حقيقة ,وقالت الاشاعرة جميع الأفعال مخلوقة لله تعالى .
4ـ قالت الامامية رؤية الله تعالى مستحيلة مطلقا ,وقالت الاشاعرة ممكنة في الآخرة ,وربما قالوا بوقوعها حتما .
5ـ قالت الامامية كلامه تعالى فعل حادث ,وقالت الاشاعرة له كلام قديم أسموه بالكلام النفسي .
6ـ قالت الامامية ان العقل يحسن ويقبح بعض الاشياء مستقلا عن الشرع ,وقالت الاشاعرة ان الحسن ما حسنه الشارع وكذلك القبح .
7ـ قالت الامامية يستحيل على الله تعالى التكليف بغير المقدور عقلا ,وقالت الاشاعرة لا يستحيل .
8ـ قالت الامامية ان الامامة واجبة عقلا على الله تعالى ,وقالت الاشاعرة واجبة على الخلق شرعا وليس عقلا وهي واجبة بالوجوب الكفائي ,وكذلك عند المعتزلة .
الأمر الرابع : أهم أعلام هذا المذهب
1 القاضي أبو بكر الباقلاني
2 أبو منصور عبد القاهر البغدادي
3 إمام الحرمين الجويني
4 حجة الإسلام الامام الغزالي
5 محمد بن عبد الكريم الشهرستاني
6 الفخر الرازي
7 سيف الدين الآمدي
8 عبد الرحمن عضد الدين الإيجي
9 مسعود بن عمر التفتزاني
10 السيد الشريف الجرجاني
11 علاء الدين علي بن محمد القوشجي
الفصل التاسع :السلفية الحديثة (ابن تيمة أنموذجا)
في هذا الفصل نسلط الضوء عن كثب على أهم المعتقدات السلفية التي تولدت منذ ان شاعت الحشوية وبرزت على ساحة العقائد الدينية ،نعم لم تكن لهم أراء معينة او مذهب مستقل ,لكن الجنوح والعكوف على الظواهر شكل قاعدة أساسية في الفكر الإسلامي ممتدة من آثار الكتب التي روجت لتلك الافكار أمثال مسند احمد وغيره من الكتب التي طالت هذا الجانب النمطي والسياقي وأخذه مبدأ لازم لا ينفك في سائر الشؤون العقائدية ,بل وحتى الظاهرية اتباع المذهب الظاهري ,وفي الحقيقة نحن ارتأينا ان يكون هذا الفصل مخصص لاهم شخصية نالت إعجاب الكثير من ذوي الاهواء الفاسدة التي كانت مليئة بالحقد الدفين لإتباع أهل البيت ع ليجدوا متنفس علمي مؤطر بإطار ديني ينسجم مع المبدأ الذي انتهجته أهوائهم الفكرية ,وكانت ابرز هذه الشخصيات التي أحيت هذا النهج الفاسد هو ابن تيمية وتلميذه محمد بن عبد الوهاب الذينِ أحيا تراث الحنابلة ,لكن هذه المرة تختلف عن كل المراد حيث اخذوا بالغث والسمين ,وها نحن متعرضون لهما بشكل موجز .
ابن تيمية عصره وحياته ومنهجه :
هو أحمد بن عبد الحليم الحراني الدمشقي، ولد في العاشر من شهر ربيع الأول سنة 661 هـ ، بعد خمس سنوات من سقوط الخلافة الإسلامية في بغداد، وانغمار المسلمين في مشاكل كثيرة.
كان مولده بمدينة حران مهد الصابئة والصابئين من أقدم عصور الإسلام، وقد نشأ النشأة الأُولى إلى أن بلغ السابعة من عمره، فلما أغار عليها التتار، فرّ سكانها منها، وكان ممن هاجر أُسرة ابن تيمية، حيث هاجرت إلى دمشق، وقد اتّجه إلى العلم منذ صغره، وكان يدرس الفقه الحنبلي ويتتبّع سير ذلك المذهب، وكان أبوه من شيوخ هذا المذهب، ففي المدارس الحنبلية تخرج ابن تيمية، ودرس في كنف ابيه وتوجيهه ولم ير منه بادرة إلاّ بعد ما كتب رسالة في جواب سؤال أهل حماة، سألوه بقولهم: «ما قول السادة العلماء أئمة الدين ـ أحسن اللّه إليهم أجمعين ـ في آيات الصفات، كقوله تعالى: (الرّحمنُ عَلىَ العَرْشِ اسْتَوى)وقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّماء) إلى غير ذلك من الآيات وأحاديث الصفات، وأيضاً كقوله (صلى الله عليه و آله): «إنّ قلوب بني آدم بين اصبعين من أصابع الرحمن» وقوله: «يضع الجبّار قدمه في النار» إلى غير ذلك.
الناقضون والرادّون على ابن تيمية
وإليك قائمة ممن ألف كتاباً أو رسالة حول آرائه:
1 شفاء السقام في زيارة خيرالأنام، لتقي الدين السبكي .
2 الدرة المضيئة في الرد على ابن تيمية، له أيضاً .
3 المقالة المرضية، لقاضي قضاة المالكية تقي الدين أبي عبداللّه الأخنائي .
4 نجم المهتدي ورجم المقتدي، للخفر ابن المعلم القرشي .
5 دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى الإمام أحمد، لتقي الدين الإمام أبي بكر الحصني الدمشقي (ت 729 هـ) .
6 التحفة المختارة في الرد على منكري الزيارة، لتاج الدين عمر بن علي اللخمي المالكي الفاكهاني (ت 734 هـ) .
ومما جاء فيه قوله: أخبر جمال الدين عبداللّه بن محمد الأنصاري المحدث قال: رحلنا مع شيخنا تاج الدين الفاكهاني إلى دمشق، فقصد زيارة نعل رسول اللّه الّتي بدار الحديث الأشرفية بدمشق، وكنت معه، فلما رأى النعل المكرمة، حسر عن رأسه، وجعل يقبله ويمرغ وجه عليه ودموعة تسيل وأنشد:
فلو قيل للمجنون: ليلى ووصلها * تريد أم الدنيا وما في طواياها
لقال غبار من تراب نعالها * أحب إلى نفسي وأشفى لبلواها
7 اعتراضات على ابن تيمية، لأحمد بن إبراهيم السروطي
8 إكمال السنة في نقض منهاج السنة، للسيد مهدي بن صالح الموسوي القزويني الكاظمي (ت 1358 هـ)
9 الإنصاف والإنتصاف لأهل الحق من الإسراف، في الرد على ابن تيمية الحنبلي الحراني، فرغ منه مؤلفه سنة (757 هـ)، توجد نسخة منه في المكتبة الرضوية ـ مشهد ـ رقم 5643 .
10 البراهين الجلية في ضلال ابن تيمية، للسيد حسن الصدر الكاظمي (ت 1354)
11 البراهين الساطعة، للشيخ سلامة العزامي (1379 هـ )
12 جلاء العينين في محاكمة الأحمدين (أحمد بن تيمية وأحمد بن حجر)، للشيخ نعمان بن محمود الألوسي
13 الدرة المضيّة في الرد على ابن تيمية، لمحمد بن حميد الدين الحنفي الدمشقي كمال الدين المعروف بابن الزملكاني .
14 الرد على ابن تيمية في الاعتقاد، لمحمد بن حميد الدين الحنفي الدمشقي .
فهرسة إجمالية لعقائد ابن تيمية التي خالف بها عقائد المسلمين
ابن تيمية ورأيه في الصفات الخبرية
ابن تيمية وشد الرحال إلى زيارة النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ
ابن تيمية ورأيه في زيارة النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ
ابن تيمية والبناء على القبور
ابن تيمية وبناء المساجد على القبور
ابن تيمية وإقامة الصلاة عند قبور الأنبياء
ابن تيمية والتوسل بالأنبياء والصالحين
التوسل بالأنبياء والصالحين أنفسهم
التوسل إلى اللّه بحق النبي وحرمته ومنزلته
التوسل بدعاء النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ
أبن تيمية وطلب الشفاعة ممن ثبت كونه شفيعاً
ابن تيمية والنذر لأهل القبور
ابن تيمية والحلف بغير اللّه تعالى
ابن تيمية والحلف على اللّه بحق الأولياء
ابن تيمية وتكريم مواليد أولياء اللّه ووفياتهم
وقد خالف ابن تيمية في جميع ما نقلناه ,او لا اقل قد تضاربت أرائه في البعض دون الأخر وكل ما ذكر مردود ومن شاء فليراجع الملل والنحل للشيخ السبحاني (معاصر).
واخير ننقل كلام ابن حجر في كتابه الفتاوى الحديثة قائلا ( وَسُئِلَ نفع الله بِهِ بِمَا لَفظه: لِابْنِ تَيْمِية اعْتِرَاض على متأخري الصُّوفِيَّة، وَله خوارق فِي الْفِقْه وَالْأُصُول فَمَا مُحَصل ذَلِك؟ فَأجَاب بقوله (اي ابن حجر ) : ابْن تَيْمِية عبد خذله الله وأضلَّه وأعماه وأصمه وأذلَّه، وَبِذَلِك صرح الْأَئِمَّة الَّذين بينوا فَسَاد أَحْوَاله وَكذب أَقْوَاله، وَمن أَرَادَ ذَلِك فَعَلَيهِ بمطالعة كَلَام الإِمَام الْمُجْتَهد الْمُتَّفق على إِمَامَته وجلالته وبلوغه مرتبَة الِاجْتِهَاد أبي الْحسن السُّبْكِيّ وَولده التَّاج وَالشَّيْخ الإِمَام الْعِزّ بن جمَاعَة وَأهل عصرهم، وَغَيرهم من الشَّافِعِيَّة والمالكية وَالْحَنَفِيَّة، وَلم يقصر اعتراضه على متأخري الصُّوفِيَّة بل اعْترض على مثل عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُمَا كَمَا يَأْتِي. وَالْحَاصِل أنْ لَا يُقَام لكَلَامه وزن بل يَرْمِي فِي كلّ وَعْر وحَزَن، ويعتقد فِيهِ أَنه مُبْتَدع ضالّ ومُضِّلّ جَاهِل غال عَامله الله بعدله، وأجازنا من مثل طَرِيقَته وعقيدته وَفعله آمين.
ثم يقول :
انْتهى حَاصِل كَلَام ابْن تَيْمِية. وَهُوَ يُنَاسب مَا كَانَ عَلَيْهِ من سوء الإعتقاد حَتَّى فِي أكَابِر الصَّحَابَة ومنْ بعدهمْ إِلَى أهل عصره وَرُبمَا أَدَّاهُ اعْتِقَاده ذَلِك إِلَى تَبْديع كثير مِنْهُم. وَمن جملَة مَنْ تتبَّعه الْوَلِيّ القطب الْعَارِف أَبُو الْحسن الشاذلي نفعنا الله بِعُلُومِهِ ومعارفه فِي حزبه الْكَبِير وحزب الْبَحْر وَقطعَة من كَلَامه، كَمَا تتبَّع ابنَ عَرَبِيّ وابنَ الفارض وابنَ سبعين، وتتبع أَيْضا الحلاَّج الْحُسَيْن بن مَنْصُور، وَلَا زَالَ يتتبع الأكابر حَتَّى تمالأ عَلَيْهِ أهل عصره ففسقوه، وبدّعوة بل كَفَّره كثير مِنْهُم،
وقد نقل أحد مشايخ الوهابية المتاخرين وهو عبد الله بن صالح بن عبد العزيز الغصن في كتابه دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 100حيث نقل كلاما للهيتمي عن إبن تيمية قال فيه :
وقال ابن حجر الهيتمي متحدثاً عن موقف ابن تيمية رحمه الله من الباري - جلَّ وعلا
نسب إليه العظائم والكبائر، وخرق سياج عظمته، وكبرياء جلالته بما أظهر للعامة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم) وأنه أول من قال بالتجسيم ، وأنه يقول: إن الله جسم كالأجسام)) .
محمد بن عبد الوهاب ,تاريخ الوهابية
مؤسسها، ناصرها وتطورها
قد وقفت في الفصول السابقة على العقائد الوهابية عن كثب، وأنها لم تكن شيئاً جديداً سوى ما ابتدعه أحمد بن تيمية في القرن الثامن الهجري وقد كاد أن يصير نسياً منسياً، ويذهب أدراج الرياح، غير أنّ بذورها لما كانت تقبع في طيات كتبه ورسائله، قام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي بتجديد العهد بها، وإحيائها مرة أُخرى بفضل سيف آل سعود في الشطر الثاني من القرن الثاني عشر إلى أوليات القرن الثالث عشر الهجري، أي من سنة 1160 إلى سنة 1207 هـ الّتي وافاه الأجل فيها، ثم تعاهد أبناؤه من بعده مع أبناء بيت قبيلة آل سعود فترة بعد فترة، على أن تكون الدعوة والإرشاد والتخطيط على أبنائه، والتطبيق والتنفيذ والسلطة على كاهل آل سعود، فلم تزل هذه المعاهدة باقية إلى يومنا هذا، غير أنها اتخذت في هذه الآونة لنفسها شكلا آخر، وهو أن القوة والسلطة كانت في بدء التأسيس آلة طيّعة بيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولكنه في عصرنا هذا تبدلت رأساً على عقب، فأصبحت السلطة الدينية أداة طيعة في يد آل سعود، يأتمرون بكل ما يلقى إليهم من البلاط السعودي والملك الحاكم من قبلهم على شبه الجزيرة العربية.
وهذه إحدى الصور الّتي تحكي لنا عن تراجع الوهابية عن مبادئها الأولية الّتي قامت على أعتابها يوم تأسيسها .
نشأته ووفاته
اختلف المؤرخون في عام ولادته ووفاته، فمن قائل بأنه ولد سنة 1111 هـ وتوفي عام 1207 هـ فيكون عمره ستاً وتسعين; إلى آخر بانه ولد عام 1115 هـ وتوفي 1207 هـ فيكون قد ناهز إحدى وتسعين، نشأ وترعرع في بلده «العيينة» في نجد، وتلقى دروسه بها على رجال الدين من الحنابلة، ثم غادر موطنه ونزل المدينة المنورة ليكمل دروسه، يقول أحمد أمين المصري: «سافر الشيخ إلى المدينة ليتم تعلمه، ثم طاف في كثير من بلاد العالم الإسلامي، فأقام نحو أربع سنين في البصرة، وخمس سنين في بغدادن وسنة في كردستان، وسنتين في همدان، ثم رحل إلى إصفهان، ودرس هناك فلسفة الإشراق والتصوّف، ثم رحل إلى «قم» ثم عاد إلى بلده، واعتكف عن الناس نحو ثمانية أشهر، ثم خرج عليهم بدعوته الجديدة .
وقد ذكر كثير من المؤرخين تجواله وترحاله في هذه البلاد، منهم عبد الرزاق الدنبيلي في كتابه مآثر سلطانية ,والشيخ أبو طالب الإصفهاني الّذي كان معاصراً للشيخ محمد بن عبدالوهاب، فقد ذكر سفر الشيخ إلى إصبهان وإلى أكثر بلاد العراق وإيران، حتّى إلى «غزنين» الّذي هو بلد في أفغانستان .
أهل البيت أدرى بما فيه
جئنا بها ليكون القارىء الكريم على اطلاع بحقيقة حاله على جهة الإجمال، ولكن هناك الكثير الكثير في الزوايا والخبايا ذكرت في تاريخ حياته أغفلنا ذكرها روما للاختصار، ولكن ما يجب ذكره في المقام كلمة أخيه في حقه، وهو من أهل بيته وأدرى بحاله منّا ومن كل كاتب. يقول في كتاب أسماه «الصواعق الإلهية» رداً على آراء أخيه: «فإنّ اليوم ابتلي الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنة، ويستنبط من علومهما، ولا يبالي من خالفه .
وإذا طلبت منه أن يعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل، بل يوجب على الناس الأخذ بقوله وبمفهومه، ومن خالفه فهو عنده كافر، هذا وهو لم تكن فيه خصلة واحدة من فعال أهل الاجتهاد ولا واللّه، ولا واللّه عشر واحدة، ومع هذا فراج كلامه على كثير من الجهّال، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، الأُمة كلها تصيح بلسان واحد، ومع هذا لا يرد لهم في كلمة بل كلهم كفار وجهال! أللّهمّ اهد هذا الضال وردّه إلى الحق
ويقول ايضاً: إنّ هذه الأُمور (الّتي يكفر بها محمد بن عبد الوهاب) حدثت من قبل زمان الإمام أحمد في زمن أئمة الإسلام، حتّى ملأت بلاد الاِسلام كلها، ولم يُرْوَ عن أحد من أئمة المسلمين أنهم كفّروا بذلك، ولا قالوا هؤلاء مرتدون، ولا أمروا بجهادهم، ولا سموا بلاد المسلمين بلاد شرك وحرب كما قلتم أنتم، بل كفّرتم من لم يكفر بهذه الأفاعيل وإن لم يفعلها، وتمضي قرون على الأئمة من ثمانمائة عام، ومع هذا لم يُرْوَ عن عالم من علماء المسلمين أنه كفر، بل ما يظن هذا عاقل، بل واللّه لازم قولكم أن جميع الأُمة بعد زمان الإمام أحمد ـ رحمة اللّه تعالى ـ ، علماؤها وأُمراؤها وعامتها كلهم كفار مرتدّون، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، واغوثاه إلى اللّه! ثم واغوثاه أن تقولوا كما يقول بعض عامتكم إنّ الحجة ما قامت إلاّ بكم، وإلاّ قبلكم لم يعرف دين الإسلام
وهذه العبارة من أخيه صريحة في أنه كان يكفّر جميع طوائف المسلمين، ويعتبر بلادهم بلاد حرب .
تكفير محمد بن عبد الوهاب جميع المسلمين
ولعلّ القارئ ينتابه الاستغراب مما نسبه إليه أخوه، ولكنه إذا رجع إلى مبادئ دعوته يسهل له التصديق بالنسبة، وإليك خلاصة رسالته تحت أربع قواعد:
الأُولى: إنّ الكفار الذين قاتلهم رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ مقرّون بأنّ (اللّه) هو الخالق الرازق المدبر، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لقوله تعالى :قُلْ مَنْ يَرزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالأرضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبصَارَ... فَسَيَقُولُونَ اللّه فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) .
الثانية: إنهم يقولون: ما دعونا الأصنام وما توجهنا إليهم الاّ لطلب القرب والشفاعة لقوله تعالى: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِياءَ مَا نَعْبُدُهُم اِلاّ لَيُقَرِّبُونا إلى اللّه زُلفَى . وقوله: وَيَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّه مَالا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُم وَيَقُولُونَ هَؤلاَءِ : شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه .
الثالثة: إنّه ظهر (صلّى اللّه عليه وآله) على قوم متفرقين في عبادتهم، فبعضهم يعبد الملائكة، وبعضهم الأنبياء والصالحين، وبعضهم الأشجار والأحجار، وبعضهم الشمس والقمر، فقاتلهم ولم يفرق بينهم.
الرابعة:إنّ مشركي زماننا أغلظ شركاً من الأولين، لأن أولئك يشركون في الرخاء، ويخلصون في الشدة، وهؤلاء شركهم في الحالتين لقوله تعالى:
)فَإِذا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوا اللّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُم إلَى البَرِّ إذا هُمْ يُشْرِكُونَ) .
وهو لا يريد من قوله «إنّ مشركي زماننا أغلظ شركاً...» إلاّ المسلمين عامة، وذلك لأنهم يتوسلون بالنبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ في شدتهم ورخائهم، ولذلك صاروا عنده أغلظ من مشركي عهد الرسالة .
ومما يؤخذ عليه فيما ذكره في القاعدة الثانية، وهي المحور الرئيس للضلالة، أنّ هناك فرقاً جلياً بين المسلمين وعبدة الأوثان والأصنام، فإنّ المسلمين يعبدون اللّه وحده، ولا يتوجّهون إلى النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ إلاّ بقصد أن يدعو لهم عند اللّه، ويشفع لهم عنده، وأين هو من عبدة الطاغوت الذين كانوا يعبدون الأصنام ولا يعبدون اللّه، ويتوجهون إليها على أنها آلهة تملك ضرهم ونفعهم، وما هذه إلاّ مغالطة مفضوحة، وقد تكررت هذه الظاهرة في أكثر رسائله وكتبه .
الرادّون على محمّد بن عبد الوهاب
هذا غيض من فيض من حياة محمّد بن عبد الوهاب المليئة بالإجرام والإفساد والتضليل، وشق عصا المسلمين، فمن أراد التوسع في دراسة حياته وما جرّه على المسلمين من حروب وويلات، فليرجع إلى الكتب المؤلفة حول الوهابية ومؤسسها، وتاريخ نجد والسلطة القبلية الحاكمة فيه منذ عصر محمّد بن عبدالوهاب إلى يومنا هذا
إلاّ أنّ العلماء الواعين في الحرمين الشريفين في عصره وما بعده، وفي سائر الأقطار الإسلامية، قد أدوا ما عليهم من وظائف رسالية تجاه هذه الحركة الهدامة، فترى كيف أنّهم قد بذلوا الجهود المضنية في سبيل ردّ دعوتهم وإثبات بطلانها، وإليك قائمة من الردود المؤلفة في إبطالها، نأتي بأسمائها وأسماء مؤلّفيها:
1مقدمة شيخه محمّد بن سليمان الكردي الشافعي»الّتي قرّظ بها رسالة أخيه سليمان بن عبدالوهاب، وقع في نحو ثلاث ورقات، وقد تضمّنت ما يشير إلى ضلاله ومروقه عن الدين، على نحو ما حكي في ذلك عن شيخه الآخر محمّد حياة السندي، ووالده عبد الوهاب .
2تجريد سيف الجهاد لمدّعي الاجتهاد» لشيخه العلامة عبد اللّه بن عبد اللطيف الشافعي 3الصواعق والرعود» للعلامة عفيف الدين عبداللّه بن داود الحنبلي .
قال العلامة علوي بن أحمد الحداد: كتبت عليه تقاريظ أئمة من علماء البصرة وبغداد وحلب والأحساء وغيرهم، تأييداً له وثناء علي .ثم قال: ولو وقفت عليه قبل هذا ما ألفت كتابي هذا .
ولخصه محمّد بن بشير قاضي رأس الخيمة بعجمان .
4تهكّم المقلدين بمن ادّعى تجديد الدين» للعلاّمة المحقق محمّد بن عبد الرحمن ابن عفالق الحنبلي، وقد ترصّد فيه لكل مسألة من المسائل الّتي ابتدعها وردّ عليها بأبلغ رد، وقد ضمّن كتابه هذا ملحقاً يتناول ما يتعلق بالعلوم الشرعية والأدبية، كما أرفقه بأسئلة كان قد بعثها إلى محمد بن عبد الوهاب، منها شطر وافر حول علم البيان تتعلق بسور (والعاديات) وألمح في ذيلها إلى عجزه عن الجواب عن أدناها فضلا عن أجلِّها.
5 رسالة للعلامة أحمد بن علي القباني البصري الشافعي، وتقع في نحو عشر كراريس عقد فصولها كافة للرد على معتقداته وتزييف أباطيله .
6 رسالة للعلامة عبد الوهاب بن أحمد بركات الشافعي الأحمدي المكي .
7الصارم الهندي في عنق النجدي» للشيخ عطاء المكي .
8 رسالة للشيخ عبد اللّه بن عيسى المويسي .
9 رسالة للشيخ أحمد المصري الأحسائي .
10 السيوف الصقال في أعناق من أنكر على الأولياء بعد الانتقال، لأحد علماء بيت المقدس , وغيرها الكثير الكثير .