بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
إمكان معرفة الحق
إن البشر كلهم منذ بداية خلقهم وعلى اختلاف توجهاتهم وعقائدهم وآرائهم يدعون أنهم على الحق، وأن الحق معهم ولهم، وعلى هذا الأساس يقاتلون بعضهم البعض وتراق الدماء وتزهق الأرواح، حتى وصل الأمر بالبعض للقول بأن ليس هناك شيء اسمه الحق والحقيقة، فالكل يدعيه من وجهة نظره وقالوا بأن الحق من الأمور النسبية التي تختلف من شخص إلى آخر بحسب مقياس كل شخص أو فئة أو أمة، فتاهوا في معناه، وإمكان معرفته.
الإمام علي عليه السلام الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله:"علي مع الحق والحق مع علي يدور معه كيفما دار".
تكلم عن الحق كثيراً وعن امكانية معرفته وحدد معناه ومميزاته عن الباطل وتكلم عن أهل الباطل وصفاتهم وتركِ الحق وآثاره.
ففي نهج البلاغة عنه عليه السلام في خطبة له يصف بها الحق يقول: "الحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف"1.
وكأنه عليه السلام يؤكد أن معنى الحق قد يختلف فيه لسعة هذا المعنى واختلافه من جهة إلى جهة إلا أنه يبين كما سيأتي أن له معنى ثابتاً ويبين أن اللَّه عزَّ وجلّ خلق الإنسان وأعطاه القدرة على معرفة الحق والباطل والتمييز بينهما.
عنه عليه السلام: "ثم نفخ فيها من روحه فتمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها وفِكَرٍ يتصرف بها وجوارح يختدمها، وأدوات يقلبها، ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل..."2.
وعنه عليه السلام: "قد انجابت السرائر لأهل البصائر، ووضحت حجة الحق لخاطبها (لأهلها) ..."3.
فحجة الحق إنما تتضح لأهل البصائر وتنكشف لهم السرائر ولكن بشرط هو أن يطلب الحق فالخاطب هو السائر عليها، فمن لم يسر باتجاه الحق وعلى الطريق الموصل إلى الحق الذي هو محجته فلن يصل إليه، وإنما سيصل إلى ما يسير إليه، وإلى ما يوصله إلى الطريق الذي يسلكه إن حقاً فحق وإن باطلاً فباطل، لذلك فمن ينفرد من الحق ويهرب منه لن يستطيع أن يعرفه أو أن يعرف أهله.
عنه عليه السلام: "فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب، والباري من ذي السَّقَم"4.
ثم إن اللَّه عزَّ وجلّ عندما أعطى الإنسان امكانية وقدرة معرفة الحق من الباطل، فلا بد أن يوضح له طريق الحق الموصل إلى السعادة والبقاء الذي إليه يسعى الإنسان وطريق الباطل الموصل إلى الشقاء والفناء الذي منه يفر الإنسان.
وإلى هذا المعنى يشير كلامه المروي عنه عليه السلام في نهج البلاغة: "عباد اللَّه! اللَّه! اللَّه! في أعزِّ الأنفس عليكم وأحبِّها إليكم، فإن اللَّه قد أوضح لكم سبيل الحق، وأنار طرقه، فشقوة لازمة أو سعادة دائمة، فتزودوا في أيام الفناء لأيام البقاء"5.
فاللَّه أوضح سبيل الحق إلى السعادة وهي بالتزود لأيام البقاء في أيام الفناء، وأنار طريق الحق بحيث يستطيع الإنسان أن يميز بين الشقوة والسعادة وبين الفناء والبقاء.
بناء على الحديث السابق تعرف معنى الحقّ وهو الثابت الباقي كما هو معنى الحق في اللغة، وما يفنى هو الباطل الفاني كما هو معنى الباطل في اللغة، وعليه يدور معنى الحق والباطل مدار البقاء والاستمرار والخلود، أو الفناء والزوال والبطلان.
إن الحق لا يدور مدار آراء الناس ومعتقداتهم حتى يستطيع الإنسان أن ينسب للآخر الذي يخالفه اسم الباطل، فليس الشخص نفسه هو ميزان الحق بل الحق ثابت وهو واحد بالنسبة إلى جميع البشر لأن الفاني فانٍ بالنسبة لجميع البشر والباقي باقٍ بالنسبة إليهم جميعاً فلا يختلف الحق من شخص إلى آخر، فهو موجود وعلينا أن نتعرف عليه كما هو السابق لا كما نفهمه.
وهنا يبين الإمام عليه السلام فيما روي عنه في النهج أيضاً قوله:"فلا تقولوا بما لا تعرفون فإن أكثر الحق فيما تنكرون"6.
معنى الحق.. وما يميزه عن الباطل
1- الباقي والثابت: هذا أول ما يميز الحق عن الباطل وهو معنى الحق الذي هو الباقي والثابت، ومعنى الباطل وهو الفاني والزائل.
2- الحق هو الله: وما دونه باطل كما روي عنه عليه السلام:"هو اللَّه الحق المبين أحق وأبين".
لأن اللَّه هو وحده الباقي وكل ما سواه فانٍ وإن كان يبقى فهو باللَّه عزَّ وجلّ.
3- الآخرة هي الحق: ويبين عليه السلام ميزة أخرى للباطل مستفادة من الميزة الأولى وهي أن الدنيا هي الباطلة والآخرة هي الحق. باعتبار أن الدنيا هي الفانية فمن تعلق بها وعمل لها بطل وبطلت أعماله وكان من الهالكين الفانين في العذاب خالداً وباطل ما كانوا يعملون، ومن عمل للآخرة خلد وخلدت أعماله وبقيت وكانت الباقيات الصالحات.
عنه عليه السلام: "أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة ألا وإن الدنيا قد ولّت حذَّاء7، فلم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء اصطبَّها صاحبها، ألا وإن الآخرة قد أقبلت ولكل منهما بنون، فكوّنوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل ولد سيلحق بأبيه (بأمه) يوم القيامة..."8.
نرى أنه عليه السلام قد اعتبر الدنيا فانية ومولية بسرعة، والآخرة باقية، لذلك اعتبر أن اتباع أهواء النفس ومشتهياتها الدنيوية تصد عن الحق الباقي ومنه الآخرة، وطول الأمل يشغل الإنسان بالدنيا وينسيه الآخرة.
ولهذا ينهى أبا ذر رضوان اللَّه عليه عن قبول دنيا الحاكمين وأمره أن يستوحش منها لأنها باطل، وأن يستأنس بالحق الذي هو غير الدنيا وأهلها وهو اللَّه والآخرة.
عنه عليه السلام: "لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لأمَّنوك"9.
فقد جعل قبوله لدنياهم باطلاً وأمره أن يستوحش منه بل أن لا يستوحش من غيره، وتركه لدنياهم حقاً يجب أن يستأنس به وهو الآخرة وما بعد الحق إلا الضلال.
أسباب اشتباه الحق بالباطل
لقد مر أن الحق واضح، وأن اللَّه عزَّ وجلّ قد أوضح طرقه، وأعطى الإنسان ما يمكنه من معرفته، فلماذا إذن يضل عنه كثير من الناس أو يشبهون به، فيخلطون بينه وبين الباطل؟
الإمام عليه السلام يجيب عن هذا التساؤل فيما روي عنه في نهج البلاغة:
أولاً: أنه وكما سيأتي فيما بعد هناك أشخاص يدعون العلم يضلّون الناس عندما يفسرون كتاب اللَّه بآرائهم الشخصية دون علمٍ وبينة وبدافع الهوى وحب النفس والدنيا والتقرب للسلاطين لجمع المال والدنيا والحصول على المنصب ونحو ذلك.
عنه عليه السلام: "وآخر قد تسمى عالماً وليس به فاقتبس جهائل من جهّال وأضاليل من ضُلاَّل، ونصب للناس أشراكاً من حبائل غرور وقول زور، حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحق على أهوائه..."10.
ثانياً: اختلاط الحق بالباطل: قد يكون هناك تشابه بين الحق والباطل فيشتبه الإنسان بينهما كما لو رأى الدنيا وطول بقائها ومدتها فيتوهم أنها باقية، فيشتبه بينهما وبين الآخرة، وقد يختلط الحق بالباطل كما لو علم الإنسان بأن اللَّه سبحانه رحيم ورحمته واسعة وهذا أمر حق، فيجوز لنفسه المعاصي بدليل رحمة اللَّه، أو أن يستصغر بعض المعاصي باعتبار أن اللَّه عزَّ وجلّ لا يهتم بها، فيخلط الحق بالباطل فيقع تدريجياً في المعاصي ويعتاد عليها، وقد يصل به الأمر إلى إنكار العقائد أو الواجبات الإلهية فيقع في الكفر.
لذلك حتى لا يقع الإنسان بالباطل لا بد أن يلتفت الإنسان، فكما يجب أن يختار الحق في ما يعتقد به كذلك فيما يفعله، وخصوصاً إذا خلط أهوائه بفهم الحق فإنه قطعاً لن يصل إليه.
عنه عليه السلام: "إنما بدء وقوع الفتن أهوا تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب اللَّه، ويتولى عليها رجال على غير دين اللَّه، فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل، انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان! فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو (الذين سبقت لهم منا الحسنى)"11.
إذن الفتن والضلالات سببها الأهواء وحب الدنيا، التي تختلط بالحق، وتجعل الإنسان يصدر أحكاماً مبتدعة جديدة مخالفة لكتاب اللَّه، والمبتدع في الدين يعمل بغير الدين ويسن سنة غيره، فإن لم يكن هو على غير الدين فإنه سيفتح باباً لغير أهل الدين يتولوا على أهله ويضلّوهم كما تعلم من تاريخ الإسلام الذي تحول فيه إلى ملكية وراثية يرثها أهل الفسق والخمر والفساد.
ثالثا: تغليب الباطل على الحق، ورفض الحق وقبول الباطل يؤدي إلى انتصار الباطل وظهوره ودفن الحق تحته بل قد يصل إلى درجة يحتاج اخراج الحق إلى جهد أكبر ممن ينقب الصخر ليخرج الماء.
عنه عليه السلام: "أيها الناس! لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقوَ من قوي عليكم، لكنكم تُهْتُم متاه بني إسرائيل، ولعمري! ليضعفنَّ لكم التيه من بعدي أضعافاً بما خلفتم الحق وراء ظهوركم..."12.
فهم قد تاهوا بسبب تقديمهم وتغليبهم للباطل بترك نصرتهم للحق، فأضاعوه وتضاعف ضياعهم وتيههم أشد من بني إسرائيل، ودفنوا الحق تحت التراب بل تحت الصخر، وصعبوا مهمة إخراج الحق وإظهاره حتى صار بحاجة إلى بقر الباطل أو نقبه ليظهر الحق.
عنه عليه السلام: "وأيم اللَّه، لأبقُرَنَّ الباطل حتى أُخرجَ الحق من خاصرته"13.
وعنه عليه السلام أيضاً: "فلأنقبن الباطل حتى يخرج الحق من جنبه"14.
رابعاً: ترك أئمة الهدى عليهم السلام:
في الحديث الذي مر سابقاً عنه عليه السلام يقول فيه: "... ولعمري، ليضعفنَّ لكم التيه بعدي أضعافاً بما خلَّفتم الحق وراء ظهوركم، وقطعتم الأدنى ووصلتم الأبعد، واعلموا أنكم إن اتبعتم الداعي لكم سلك بكم منهاج الرسول، وكفيتم مؤونة الاعتساف، ونبذتم الثقل الفادح عن الأعناق"15.
فهم بتركهم للدعاة إلى اللَّه ضلوا عن منهاج الرسول وأوقعوا أنفسهم في التعسّف وتحت ثقل ونير ظلم ولاة الجور.
وعنه عليه السلام: "فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب، والباري من ذي السَّقم، واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه، فالتمسوا ذلك من عند أهله"16.
فما لم يميز الإنسان بين من أمسك بالرشد ومن تركه، ومن أخذ بالكتاب ومن نقضه، فلن يستطيع الاقتراب من الحق بل سينفر من الحق ويهرب منه هرب الصحيح من الأجرب، فإذا أراد أن يميز فليلجأ إلى أهل الرشد وأهل الكتاب فهم يولّونه إلى الحق ويهدونه إليه.
للمطالعة
الحق والباطل "كلمة حق عند سلطان جائر"
أروى بنت الحارث بن عبد المطلب
قال ابن عبد البرِّ: إنَّ أروى بنت الحارث بن عبد المطلب دخلت على معاوية وهي عجوز كبيرة، فلمّا رآها معاوية قال: مرحباً بك وأهلاً يا عمَّة! فكيف كنت بعدنا؟.
فقالت: يا ابن أخي لقد كفرت يد النعمة، وأسأت لابن عمِّك الصحبة، وتسمَّيت بغير اسمك، وأخذت غير حقِّك من غير دين كان منك ولا من آبائك، ولا سابقة في الإسلام بعد أن كفرتم برسول اللَّه صلى الله عليه وآله فأتعس اللَّه منكم الجدود، وأضرع اللَّه منكم الخدود، وردّ الحق إلى أهله ولو كره المشركون، وكانت كلمتنا هي العليا، ونبينا صلى الله عليه وآله هو المنصور، فولّيتم علينا بعده، تحتجّون بقرابتكم من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر، فكنّا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان عليُّ بن أبي طالب عليه السلام بعد نبيَّنا بمنزلة هارون من موسى، فغايتنا الجنَّة، وغايتكم النَّار.
إنَّ عليّاً أدَّى الأمانة، وعمل بأمر اللَّه، وأخذ به، وأنت ضيَّعت أمانتك، وخنت اللَّه في ماله، فأعطيت مال اللَّه من لا يستحقّه، وقد فرض اللَّه في كتابه الحقوق لأهلها وبيَّنها فلم تأخذ بها، ودعانا عليُّ إلى أخذ حقّنا الّذي فرض اللَّه لنا، فشغل بحربك عن وضع الأمور مواضعها، وما سألتك مالك شيئاً فتمنَّ به إنَّما سألتك من حقّنا، ولا نرى أخذ شيء غير حقّنا أتذكر عليّاً فضَّ اللَّه فاك وأجهد بلاغك؟ ثمَّ علا بكاؤها وقالت:
ألا يا عين ويحك أسعدينا ألا وأبكي أمير المؤمنينا
رُزينا خير من ركب المطايا وفارسها ومن ركب السَّفينا
ومن لبس النعال أو احتذاها ومن قرأ المثاني والمئينا
إذ استقبلت وجه أبي حسين رأيت البدر راع النّاظرينا
ولا واللَّه لا أنسى عليّاً وحسن صلاته في الراكعينا
أفي الشهر الحرام فجعتمونا بخير النّاس طرّاً أجمعينا
فأمر معاوية لها بستَّة آلاف دينار، وقال لها: يا عمَّة أنفقي هذه فيما تحبِّين ...
وفي رواية قال لها: يا عمَّة! عفا اللَّه عما سلف، يا خاله هات حاجتك، قالت: ما لي إليك حاجة، وخرجت عنه، فقال معاوية لأصحابه: واللَّه لو كلّمها من في مجلسي جميعاً لأجابت كلَّ واحد بغير ما تجيب به الآخر، وإنَّ نساء بني هاشم لأفصح من رجال غيرهم"17.
-----
1- عبده، محمد، نهج البلاغة، خطبة 902.
2- ن.م.
3- ن.م، خطبة 108.
4- ن.م، خطبة 174.
5- م.س، خطبة 157.
6- ن.م، خطبة 154، ص 177.
7- حذَّاء: مسرعة.
8- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة، حديث 42.
9- ن.م، خطبة 130.
10- م.س، خطبة 87.
11- ن.م.س، خطبة 4.
12- خطبة 166.
13- م.س، خطبة 104.
14- ن.م، خطبة 33.
15- ن.م، خطبة 166.
16- ن.م، خطبة 147.
17- ابن عبد ربّه: العقد الفريد، ج1، ص457، والتعس: الإنحطاط، والجدود: الحظوظ، وأضرع: أذل. وترم: تبلى.
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
إمكان معرفة الحق
إن البشر كلهم منذ بداية خلقهم وعلى اختلاف توجهاتهم وعقائدهم وآرائهم يدعون أنهم على الحق، وأن الحق معهم ولهم، وعلى هذا الأساس يقاتلون بعضهم البعض وتراق الدماء وتزهق الأرواح، حتى وصل الأمر بالبعض للقول بأن ليس هناك شيء اسمه الحق والحقيقة، فالكل يدعيه من وجهة نظره وقالوا بأن الحق من الأمور النسبية التي تختلف من شخص إلى آخر بحسب مقياس كل شخص أو فئة أو أمة، فتاهوا في معناه، وإمكان معرفته.
الإمام علي عليه السلام الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله:"علي مع الحق والحق مع علي يدور معه كيفما دار".
تكلم عن الحق كثيراً وعن امكانية معرفته وحدد معناه ومميزاته عن الباطل وتكلم عن أهل الباطل وصفاتهم وتركِ الحق وآثاره.
ففي نهج البلاغة عنه عليه السلام في خطبة له يصف بها الحق يقول: "الحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف"1.
وكأنه عليه السلام يؤكد أن معنى الحق قد يختلف فيه لسعة هذا المعنى واختلافه من جهة إلى جهة إلا أنه يبين كما سيأتي أن له معنى ثابتاً ويبين أن اللَّه عزَّ وجلّ خلق الإنسان وأعطاه القدرة على معرفة الحق والباطل والتمييز بينهما.
عنه عليه السلام: "ثم نفخ فيها من روحه فتمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها وفِكَرٍ يتصرف بها وجوارح يختدمها، وأدوات يقلبها، ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل..."2.
وعنه عليه السلام: "قد انجابت السرائر لأهل البصائر، ووضحت حجة الحق لخاطبها (لأهلها) ..."3.
فحجة الحق إنما تتضح لأهل البصائر وتنكشف لهم السرائر ولكن بشرط هو أن يطلب الحق فالخاطب هو السائر عليها، فمن لم يسر باتجاه الحق وعلى الطريق الموصل إلى الحق الذي هو محجته فلن يصل إليه، وإنما سيصل إلى ما يسير إليه، وإلى ما يوصله إلى الطريق الذي يسلكه إن حقاً فحق وإن باطلاً فباطل، لذلك فمن ينفرد من الحق ويهرب منه لن يستطيع أن يعرفه أو أن يعرف أهله.
عنه عليه السلام: "فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب، والباري من ذي السَّقَم"4.
ثم إن اللَّه عزَّ وجلّ عندما أعطى الإنسان امكانية وقدرة معرفة الحق من الباطل، فلا بد أن يوضح له طريق الحق الموصل إلى السعادة والبقاء الذي إليه يسعى الإنسان وطريق الباطل الموصل إلى الشقاء والفناء الذي منه يفر الإنسان.
وإلى هذا المعنى يشير كلامه المروي عنه عليه السلام في نهج البلاغة: "عباد اللَّه! اللَّه! اللَّه! في أعزِّ الأنفس عليكم وأحبِّها إليكم، فإن اللَّه قد أوضح لكم سبيل الحق، وأنار طرقه، فشقوة لازمة أو سعادة دائمة، فتزودوا في أيام الفناء لأيام البقاء"5.
فاللَّه أوضح سبيل الحق إلى السعادة وهي بالتزود لأيام البقاء في أيام الفناء، وأنار طريق الحق بحيث يستطيع الإنسان أن يميز بين الشقوة والسعادة وبين الفناء والبقاء.
بناء على الحديث السابق تعرف معنى الحقّ وهو الثابت الباقي كما هو معنى الحق في اللغة، وما يفنى هو الباطل الفاني كما هو معنى الباطل في اللغة، وعليه يدور معنى الحق والباطل مدار البقاء والاستمرار والخلود، أو الفناء والزوال والبطلان.
إن الحق لا يدور مدار آراء الناس ومعتقداتهم حتى يستطيع الإنسان أن ينسب للآخر الذي يخالفه اسم الباطل، فليس الشخص نفسه هو ميزان الحق بل الحق ثابت وهو واحد بالنسبة إلى جميع البشر لأن الفاني فانٍ بالنسبة لجميع البشر والباقي باقٍ بالنسبة إليهم جميعاً فلا يختلف الحق من شخص إلى آخر، فهو موجود وعلينا أن نتعرف عليه كما هو السابق لا كما نفهمه.
وهنا يبين الإمام عليه السلام فيما روي عنه في النهج أيضاً قوله:"فلا تقولوا بما لا تعرفون فإن أكثر الحق فيما تنكرون"6.
معنى الحق.. وما يميزه عن الباطل
1- الباقي والثابت: هذا أول ما يميز الحق عن الباطل وهو معنى الحق الذي هو الباقي والثابت، ومعنى الباطل وهو الفاني والزائل.
2- الحق هو الله: وما دونه باطل كما روي عنه عليه السلام:"هو اللَّه الحق المبين أحق وأبين".
لأن اللَّه هو وحده الباقي وكل ما سواه فانٍ وإن كان يبقى فهو باللَّه عزَّ وجلّ.
3- الآخرة هي الحق: ويبين عليه السلام ميزة أخرى للباطل مستفادة من الميزة الأولى وهي أن الدنيا هي الباطلة والآخرة هي الحق. باعتبار أن الدنيا هي الفانية فمن تعلق بها وعمل لها بطل وبطلت أعماله وكان من الهالكين الفانين في العذاب خالداً وباطل ما كانوا يعملون، ومن عمل للآخرة خلد وخلدت أعماله وبقيت وكانت الباقيات الصالحات.
عنه عليه السلام: "أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة ألا وإن الدنيا قد ولّت حذَّاء7، فلم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء اصطبَّها صاحبها، ألا وإن الآخرة قد أقبلت ولكل منهما بنون، فكوّنوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل ولد سيلحق بأبيه (بأمه) يوم القيامة..."8.
نرى أنه عليه السلام قد اعتبر الدنيا فانية ومولية بسرعة، والآخرة باقية، لذلك اعتبر أن اتباع أهواء النفس ومشتهياتها الدنيوية تصد عن الحق الباقي ومنه الآخرة، وطول الأمل يشغل الإنسان بالدنيا وينسيه الآخرة.
ولهذا ينهى أبا ذر رضوان اللَّه عليه عن قبول دنيا الحاكمين وأمره أن يستوحش منها لأنها باطل، وأن يستأنس بالحق الذي هو غير الدنيا وأهلها وهو اللَّه والآخرة.
عنه عليه السلام: "لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لأمَّنوك"9.
فقد جعل قبوله لدنياهم باطلاً وأمره أن يستوحش منه بل أن لا يستوحش من غيره، وتركه لدنياهم حقاً يجب أن يستأنس به وهو الآخرة وما بعد الحق إلا الضلال.
أسباب اشتباه الحق بالباطل
لقد مر أن الحق واضح، وأن اللَّه عزَّ وجلّ قد أوضح طرقه، وأعطى الإنسان ما يمكنه من معرفته، فلماذا إذن يضل عنه كثير من الناس أو يشبهون به، فيخلطون بينه وبين الباطل؟
الإمام عليه السلام يجيب عن هذا التساؤل فيما روي عنه في نهج البلاغة:
أولاً: أنه وكما سيأتي فيما بعد هناك أشخاص يدعون العلم يضلّون الناس عندما يفسرون كتاب اللَّه بآرائهم الشخصية دون علمٍ وبينة وبدافع الهوى وحب النفس والدنيا والتقرب للسلاطين لجمع المال والدنيا والحصول على المنصب ونحو ذلك.
عنه عليه السلام: "وآخر قد تسمى عالماً وليس به فاقتبس جهائل من جهّال وأضاليل من ضُلاَّل، ونصب للناس أشراكاً من حبائل غرور وقول زور، حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحق على أهوائه..."10.
ثانياً: اختلاط الحق بالباطل: قد يكون هناك تشابه بين الحق والباطل فيشتبه الإنسان بينهما كما لو رأى الدنيا وطول بقائها ومدتها فيتوهم أنها باقية، فيشتبه بينهما وبين الآخرة، وقد يختلط الحق بالباطل كما لو علم الإنسان بأن اللَّه سبحانه رحيم ورحمته واسعة وهذا أمر حق، فيجوز لنفسه المعاصي بدليل رحمة اللَّه، أو أن يستصغر بعض المعاصي باعتبار أن اللَّه عزَّ وجلّ لا يهتم بها، فيخلط الحق بالباطل فيقع تدريجياً في المعاصي ويعتاد عليها، وقد يصل به الأمر إلى إنكار العقائد أو الواجبات الإلهية فيقع في الكفر.
لذلك حتى لا يقع الإنسان بالباطل لا بد أن يلتفت الإنسان، فكما يجب أن يختار الحق في ما يعتقد به كذلك فيما يفعله، وخصوصاً إذا خلط أهوائه بفهم الحق فإنه قطعاً لن يصل إليه.
عنه عليه السلام: "إنما بدء وقوع الفتن أهوا تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب اللَّه، ويتولى عليها رجال على غير دين اللَّه، فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل، انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان! فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو (الذين سبقت لهم منا الحسنى)"11.
إذن الفتن والضلالات سببها الأهواء وحب الدنيا، التي تختلط بالحق، وتجعل الإنسان يصدر أحكاماً مبتدعة جديدة مخالفة لكتاب اللَّه، والمبتدع في الدين يعمل بغير الدين ويسن سنة غيره، فإن لم يكن هو على غير الدين فإنه سيفتح باباً لغير أهل الدين يتولوا على أهله ويضلّوهم كما تعلم من تاريخ الإسلام الذي تحول فيه إلى ملكية وراثية يرثها أهل الفسق والخمر والفساد.
ثالثا: تغليب الباطل على الحق، ورفض الحق وقبول الباطل يؤدي إلى انتصار الباطل وظهوره ودفن الحق تحته بل قد يصل إلى درجة يحتاج اخراج الحق إلى جهد أكبر ممن ينقب الصخر ليخرج الماء.
عنه عليه السلام: "أيها الناس! لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقوَ من قوي عليكم، لكنكم تُهْتُم متاه بني إسرائيل، ولعمري! ليضعفنَّ لكم التيه من بعدي أضعافاً بما خلفتم الحق وراء ظهوركم..."12.
فهم قد تاهوا بسبب تقديمهم وتغليبهم للباطل بترك نصرتهم للحق، فأضاعوه وتضاعف ضياعهم وتيههم أشد من بني إسرائيل، ودفنوا الحق تحت التراب بل تحت الصخر، وصعبوا مهمة إخراج الحق وإظهاره حتى صار بحاجة إلى بقر الباطل أو نقبه ليظهر الحق.
عنه عليه السلام: "وأيم اللَّه، لأبقُرَنَّ الباطل حتى أُخرجَ الحق من خاصرته"13.
وعنه عليه السلام أيضاً: "فلأنقبن الباطل حتى يخرج الحق من جنبه"14.
رابعاً: ترك أئمة الهدى عليهم السلام:
في الحديث الذي مر سابقاً عنه عليه السلام يقول فيه: "... ولعمري، ليضعفنَّ لكم التيه بعدي أضعافاً بما خلَّفتم الحق وراء ظهوركم، وقطعتم الأدنى ووصلتم الأبعد، واعلموا أنكم إن اتبعتم الداعي لكم سلك بكم منهاج الرسول، وكفيتم مؤونة الاعتساف، ونبذتم الثقل الفادح عن الأعناق"15.
فهم بتركهم للدعاة إلى اللَّه ضلوا عن منهاج الرسول وأوقعوا أنفسهم في التعسّف وتحت ثقل ونير ظلم ولاة الجور.
وعنه عليه السلام: "فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب، والباري من ذي السَّقم، واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه، فالتمسوا ذلك من عند أهله"16.
فما لم يميز الإنسان بين من أمسك بالرشد ومن تركه، ومن أخذ بالكتاب ومن نقضه، فلن يستطيع الاقتراب من الحق بل سينفر من الحق ويهرب منه هرب الصحيح من الأجرب، فإذا أراد أن يميز فليلجأ إلى أهل الرشد وأهل الكتاب فهم يولّونه إلى الحق ويهدونه إليه.
للمطالعة
الحق والباطل "كلمة حق عند سلطان جائر"
أروى بنت الحارث بن عبد المطلب
قال ابن عبد البرِّ: إنَّ أروى بنت الحارث بن عبد المطلب دخلت على معاوية وهي عجوز كبيرة، فلمّا رآها معاوية قال: مرحباً بك وأهلاً يا عمَّة! فكيف كنت بعدنا؟.
فقالت: يا ابن أخي لقد كفرت يد النعمة، وأسأت لابن عمِّك الصحبة، وتسمَّيت بغير اسمك، وأخذت غير حقِّك من غير دين كان منك ولا من آبائك، ولا سابقة في الإسلام بعد أن كفرتم برسول اللَّه صلى الله عليه وآله فأتعس اللَّه منكم الجدود، وأضرع اللَّه منكم الخدود، وردّ الحق إلى أهله ولو كره المشركون، وكانت كلمتنا هي العليا، ونبينا صلى الله عليه وآله هو المنصور، فولّيتم علينا بعده، تحتجّون بقرابتكم من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر، فكنّا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان عليُّ بن أبي طالب عليه السلام بعد نبيَّنا بمنزلة هارون من موسى، فغايتنا الجنَّة، وغايتكم النَّار.
إنَّ عليّاً أدَّى الأمانة، وعمل بأمر اللَّه، وأخذ به، وأنت ضيَّعت أمانتك، وخنت اللَّه في ماله، فأعطيت مال اللَّه من لا يستحقّه، وقد فرض اللَّه في كتابه الحقوق لأهلها وبيَّنها فلم تأخذ بها، ودعانا عليُّ إلى أخذ حقّنا الّذي فرض اللَّه لنا، فشغل بحربك عن وضع الأمور مواضعها، وما سألتك مالك شيئاً فتمنَّ به إنَّما سألتك من حقّنا، ولا نرى أخذ شيء غير حقّنا أتذكر عليّاً فضَّ اللَّه فاك وأجهد بلاغك؟ ثمَّ علا بكاؤها وقالت:
ألا يا عين ويحك أسعدينا ألا وأبكي أمير المؤمنينا
رُزينا خير من ركب المطايا وفارسها ومن ركب السَّفينا
ومن لبس النعال أو احتذاها ومن قرأ المثاني والمئينا
إذ استقبلت وجه أبي حسين رأيت البدر راع النّاظرينا
ولا واللَّه لا أنسى عليّاً وحسن صلاته في الراكعينا
أفي الشهر الحرام فجعتمونا بخير النّاس طرّاً أجمعينا
فأمر معاوية لها بستَّة آلاف دينار، وقال لها: يا عمَّة أنفقي هذه فيما تحبِّين ...
وفي رواية قال لها: يا عمَّة! عفا اللَّه عما سلف، يا خاله هات حاجتك، قالت: ما لي إليك حاجة، وخرجت عنه، فقال معاوية لأصحابه: واللَّه لو كلّمها من في مجلسي جميعاً لأجابت كلَّ واحد بغير ما تجيب به الآخر، وإنَّ نساء بني هاشم لأفصح من رجال غيرهم"17.
-----
1- عبده، محمد، نهج البلاغة، خطبة 902.
2- ن.م.
3- ن.م، خطبة 108.
4- ن.م، خطبة 174.
5- م.س، خطبة 157.
6- ن.م، خطبة 154، ص 177.
7- حذَّاء: مسرعة.
8- عبده، محمد، شرح نهج البلاغة، حديث 42.
9- ن.م، خطبة 130.
10- م.س، خطبة 87.
11- ن.م.س، خطبة 4.
12- خطبة 166.
13- م.س، خطبة 104.
14- ن.م، خطبة 33.
15- ن.م، خطبة 166.
16- ن.م، خطبة 147.
17- ابن عبد ربّه: العقد الفريد، ج1، ص457، والتعس: الإنحطاط، والجدود: الحظوظ، وأضرع: أذل. وترم: تبلى.
تعليق