النهضة الحسينية وامتدادية النموذج النقي
كنّا قد أشرنا إلى صلاحية الدين الإسلامي للامتداد والشمول، وهنا نحاول الربط بين الاستمرارية المذكورة وبين النموذج النقي من زاوية نسأل من خلالها: هل يشترط أن يتكون لدينا مجتمع يحتوي على نموذج نقي مستمر؛ لكي يتلاءم مع استمرارية المنهج وشموليته، أم تكفي صلاحية المنهج للاستمرار فقط دون نموذجه؟
فلو قلنا بعدم الملازمة؛ فهذا القول يستلزم عدم التوازن في الكفّة؛ إذ كيف يتلاءم المنهج القابل للاستمرار في استمراريته بدون النموذج النقي.
إذاً؛ فلا بدّ من القول بالملازمة وعدم الانفكاك بين الطرفين؛ لكي نضمن الاستمرارية بكلّ أبعادها؛ ولكي نتقصّى من حالة الشكّ في استمرارية المنهج، ورفع النقض الوارد في المقام.
وبناءً على هذا؛ فلا بدّ من امتدادية النموذج النقي، وهو هنا ـ وعلى نظرية المذهب الإمامي ـ ممتدّ بوجود المعصوم الذي نصبه الله عز وجل لهداية البشر وحفظ شريعته بعد النبي علیها السلام، وكما قال الإمام الحسين علیه السلام: «إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله. ولكن نُصبح وتُصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة»[2].
هذا المقطع من كلام الإمام الحسين علیه السلام يوضّح تفاصيل الامتداد للنموذج النقي، المعتمد في عملية الإصلاح في المساحة المخرَّبة من أرضية الأُمّة، على عمق الجذور المرتبطة بالسماء والمؤيّدة بها.
وقد أحسّ يزيد بهذا النموذج وأحسّ بخطره، كما أحسّت بطانته المنتفعة من قربها من أميرها الوهمي، وإنّ هذا النموذج يشكّل مصدراً للثورة، ويُهدّد المصالح المادّية لهم، ويعلّق مشروعهم التشويهي المعتمد على سياسة التزييف في بناء الأُمّة العَقَدي والتاريخي، وهذه الامتدادية تسعى إلى قلب الموازين التي تعتمد عليها آليات الاستعباد والاستبداد، وآليات مصادرة الحقوق والحرّيات، والتلاعب بمصائر الأُمّة.
وقد ساهمت في هذا الامتداد عوامل مختلفة على قمّة هرمها الوراثة، ذلك العامل المهم في سلّم الكمال، كما لمسناه في تركيبة الإمام الحسين علیه السلام الكمالية «إنّا أهل بيت النبوة» كمختصة لم يشاركه أحد فيها من الأغيار، كما أنّها في الوقت نفسه جلبت له هذا الكمّ الهائل من مشاعر الحقد والكراهية لدى ذوي النزعات المادية، المُختلّي التركيب وراثياً (التركيب النفسي).
وهذا الامتداد للنموذج مستمدّ من شعار إسلامي غاية في الخطورة على الآخرين (من هم بالاتجاه المعاكس)؛ لأنّه مهدِّد لهم بكل مفردة من مفرداته، ألا وهو شعار «أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطانٍ جائر»[3].
هذا الشعار هو اللائحة السياسية للمنهج الممتدّ، حمله وحكم به مفردات الحياة والدولة، وألزم الأُمّة المشاركة في صنع وتطبيق هذه اللائحة، التي ترفض مفهوم الاستبداد والعبثيّة بجميع صورها، وأيّاً كان مصدرها.
ولم يكن الإمام بغافل عمّا تمارسه السلطة الأُموية، بقيادة العبثي يزيد وهو يلاحق الرساليين، ويُحصي عليهم الأنفاس؛ استمراراً منه لمنهجية الطلقاء.
وكان الإمام يرى مقدار الخسف الحاصل في أرضية الأُمّة الإسلامية العقائدية والمبدئية، والتي إن استمرّ الوضع بها كذلك سوف لا يبقى لهذا المنهج الرسالي شيءٌ يُذكر، وسيسقط الإسلام ولن تقوم له قائمة.
فكان تشخيصاً دقيقاً وحاذقاً استدعى من الإمام الحسين علیه السلام أن يخطّط للثورة؛ لكي تستعيد الأُمّة عافيتها، ولكي يضع الأُمور في نصابها الصحيح، كما جسّدها النبي الأكرم علیها السلام؛ ولذا نرى أنّ الإمام علیه السلام اعتمد سلوكيات يعلم مُسبقاً أنّها ستكلّفه المزيد من التضحيات، فتارة نراه يقول: «ومثلي لا يبايع مثله». وأُخرى يقول: «وأنا أحقّ مَن غيَّر»[4]. ووفقاً لهذه السلوكيات وما سواها يُعلن أنّه النموذج المتّحد والأمثل لتطبيق النهج الرسالي.
وأحقّية الخلافة ليست حكراً وملكاً مادّياً كما يراه الاتجاه اليزيدي، حتّى يأتي دور الصراعات الشخصية هنا، بين مَن هو ملك وآخر يرى الأحقّية له بالخلافة، بل المسألة تتعلّق بروح المنهج السماوي المتكامل، حيث قطع سبل المنازعة في الموضوع، ونصَّ عليها في مواطن عدّة، وحْيَاً وحديثاً، ويعنينا مسألة عليها مئة وعشرون ألف شاهد، وقعت في بقعة اسمها خم، حدّدت بموجبها مواصفات الخليفة، ونصّ عليه، وقيل فيها: بخٍ بخٍ...
ومن التطبيق أنّ هذه المواصفات والعقلية المذكورة لا تنسجم مع روح المبدأ المادّي للتيارات المعاكسة؛ لأنّها ستُترجم إلى سلوكيات ونهج سياسة تبقى تحرّك الأجيال على مرّ العصور والأزمان، ملازمةً لاستمرارية المنهج وامتداده.
وهكذا تحرّك الإمام علیه السلام في الأُمّة المقهورة الضعيفة ليُعيدها إلى جادّة الصواب، بعد أن أوشكت على تقبّل الفكرة اليزيدية التي أخذت بالتجذّر والالتصاق، وفعلاً تحرّك الإمام علیه السلام.
الكاتب: السيد نعمة جابر آل نور
جزء من مقال