المستظهر من القرآن الكريم والعديد من الروايات الواردة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليه السلام) أنَّ هاروت وماروت من الملائكة. قال تعالى: ï´؟وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَï´¾(1)، فالقرآن وصفهما في هذه الآية بالملَكين، وأما ما ادّعاه البعض من أنَّ القراءة الصحيحة هي بكسر اللام لا بفتحها فيكون هاروت وماروت من الملوك وليسا من الملائكة فإن هذه الدعوى مضافاً إلى استنادها إلى قراءةٍ شاذة جداً ومنافية لما عليه جمهور القرّاء والمفسّرين، فإنها منافية أيضاً لما أفادته الروايات ـ سواءً المعتبرة منها أو الضعيفة ـ من أن هاروت وماروت كانا من الملائكة.

وأمّا أنهما كانا يعلّمان الناس السحر، فيمكن استظهاره من قوله تعالى: ï´؟وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا..ï´¾(2).
فإن المستظهر من الآية أن هاروت وماروت كانا قد علّما بعض الناس السحر إلا أن تعليمهما لهؤلاء الناس كان بعد التحذير من الافتتان والكفر، وهذا معناه التحذير من العمل بالسحر.
وأمّا منشأ تصديهما لتعليم هؤلاء الناس السحر فهو ـ كما أفادت بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) ـ أنّ في زمنٍ من الأزمنة الغابرة كثر بين الناس السحرة والمموّهون، وكانوا يستغلّون جهل الناس بحقيقة السحر، وكان من كيدهم أنهم يدّعون القدرة على ما يأتي به الأنبياء من معجزات فيصرفون ـ بما يُظهرونه من غرائب ـ الناسَ عن النبي المبعوث لهم، وكانت لهم مع الناس أفعال تضرّ بحالهم وعلائقهم، فأنزل الله الملَكين هاروت وماروت على نبي ذلك الزمان ليعرّفانه سرّ ما يظهره السحرة من غرائب، ويعرّفانه الكيفية التي بها يبطل أثر سحرهم وتمويهاتهم، فكلَّف النبي (عليه السلام) الملَكين هاروت وماروت بأن يتصدّى كلٌّ منهما لتعريف الناس بذلك، فظهرا للناس ـ بإذن الله تعالى ـ في صورة بشرين وعرّفاهم سرَّ ما يظهره السحرة من غرائب وكيفية الوقاية من أثر سحرهم والوسيلة لإبطال سحرهم. فكان ذلك مقتضياً لتعليم هؤلاء الناس أصول السحر، إذ لا سبيل للوقاية منه وإبطاله إلا بالوقوف على أصوله، إلا أنهما كانا يُحذِّران كلَّ من يتعلّم منهما السحر من الافتتان، إذ أن المعرفة بالسحر قد تُغري العارف به وتدفعه إلى أن يُسخرّه فيما يضرُّ بعباد الله، وهو على حدِّ الكفر كما هو مفاد قوله تعالى على لسان الملَكين: ï´؟إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْï´¾، فكان المتعلّمون يدركون عاقبة الزيغ والانحراف عن الهدف من تعليم الملكين لهم، قال تعالى: ï´؟وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍï´¾(3).

فتعليم السحر من قبل هاروت وماروت لهؤلاء الناس لم يكن مستقبحاً بعد أن كانت هذه هي غايته التي قدّر الله تعالى أن يكون ذلك هو علاجها، وبعد أن كانا يحذِّران مَن يتعلّم منهما مغبة الانحراف والزيغ.
فكما أن تعليم الناس العناصر التي يتكوّن منها السمّ وتعليمهم كيفية تحضيره من أجل الوقاية منه ولغرض الوقوف على وسيلة الإبطال لمفعوله وأثره، فكما أن تعليم ذلك للعقلاء وتحذيرهم في ذات الوقت ليس قبيحاً، فكذلك هو تعليم الملكين للسحر في الظرف المذكور لم يكن قبيحاً.
هذا هو حاصل الرواية المأثورة عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن أبيه عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقد ورد في نصّها أنه: ((وكان بعد نوح (ع) قد كثر السحرة والمموِّهون فبعث الله عزّ وجلّ ملكين إلى نبي ذلك الزمان بذكر ما تَسَحَّرَ به السحرة وذكر ما يبطل به سحرهم ويردُّ به كيدهم فتلقّاه النبي (ع) عن الملكين وأدّاه إلى عباد الله بأمر الله عزّ وجلّ فأمرهم أن يقِفوا به على السحر وأن يبطلوه ونهاهم أن يَسْحَروا به الناس وهذا كما يدل على السمّ ما هو وعلى ما يُدْفَعُ به غائلة السمّ ثم قال عزّ وجلّ ï´؟وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْï´¾ يعنى أن ذلك النبي (ع) أمر الملكين أن يَظهَرا للناس بصوره بشرين ويعلِّماهُم ما علَّمهُما الله من ذلك فقال الله عزّ وجلّ: ï´؟وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍï´¾ ذلك السحر وإبطالَه ï´؟حَتَّى يَقُولَاï´¾ للمتعلِّم ï´؟إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌï´¾ وامتحان للعباد ليطيعوا الله عزّ وجلّ فيما يتعلَّمون من هذا ويُبطلوا به كيد السحرة ولا يسحروهم ï´؟فَلَا تَكْفُرْï´¾ باستعمال هذا السحر وطلب الاضرار به ودعاء الناس إلى أن يعتقدوا أنك به تُحيي وتُميت وتفعل ما لا يقدر عليه إلا الله عزّ وجلّ فإنَّ ذلك كفرٌ..))(4)

والمتحصَّل ممّا ورد في الرواية الشريفة أن تعليم الملكين هاروت وماروت السحر كان لغرض إيقاف الناس على حقيقة ما يفعله السحرة من إيهام وتمويه حتى يتّقوا أثره، وحتى لا يغترّوا بدعواهم القدرة على ما لا يقدر عليه إلا الله عزّ وجلّ كإحياء الموتى الذي قد يصدر عن بعض الأنبياء، ولكن بإذن الله تعالى وإقداره.

فتلك هي الغاية من تعليم الملكين الناس للسحر. إلا أن المفتونين ممّن تعلموا السحر من الملكين سَخّروه لغير الغاية التي من أجلها بُعث الملكان، ويبدو أن أصول ما تعلّمه هؤلاء المفتونون قد تمّ تدوينه، فاستغلَّه آخرون من أهل الضلال جاؤوا بعدهم.
وأمّا ما نسب إلى الملكين هاروت وماروت من الله تعالى أراد امتحانهما فأهبطهما إلى الأرض وطبَّعهم بغرائز الإنسان فأفتتنا بامرأة حسناء فراوداها عن نفسها فأبت عليهما إلا أن يسجدا لصنمها ويشربا من الخمر ففعلا ذلك، وحين علم رجل بأمرهما قتلاه، فغضب الله عليها فهما في عذابه إلى أن تقوم الساعة. فكل ذلك مكذوب على هذين الملكين الكريمين لمنافاته مع ظاهر القرآن الكريم وما هو متسالمٌ عليه من عصمة الملائكة، وقد رُوي عن الإمام العسكري (عليه السلام) أنه قيل له: ((فإن قومًا عندنا يزعمون أن هاروت وماروت ملكان اختارهما الله لما كثر عصيان بني آدم وأنزلهما مع ثالث لهما إلى دار الدنيا وأنهما افتتنا بالزهرة وأرادا الزنا بها وشربا الخمر وقتلا النفس المحرمة وأن الله عزّ وجلّ يعذّبهما ببابل، وأن السحرة منهما يتعلّمون السحر، وأن الله تعالى مسخ تلك المرأة هذا الكوكب الذي هو الزهرة، فقال الإمام (ع): معاذ الله من ذلك! إن ملائكة الله معصومون محفوظون من الكفر والقبائح بألطاف الله تعالى قال الله عزّ وجلّ فيهم: ï´؟لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَï´¾(5) وقال الله عزّ وجلّ: ï´؟وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُï´¾(6) يعنى الملائكة {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَï´¾(7) وقال عزّ وجلّ في الملائكة أيضًا: ï´؟بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَï´¾(8) )) (9).

فالقرآن الكريم ظاهر في تكذيب ما نُسب إلى الملكين هاروت وما روت. وعليه، فكل ما رُوي من نسبة المعاصي المذكورة إلى هذين الملكين الكريمين فهو ساقطٌ عن الاعتبار، على أن أكثر ما رُوي في ذلك لم يرد من طرقنا، وما ورد في طرقنا فهو ضعيف السند.

موقع: هدى القرآن، سماحة الشيخ محمَّد صنقور، بتصرّف.