اللهم صل على محمد وآل محمد
الجزء الاول
في أعمق الأعماق من نفس الإنسان يوجد الدليل الأول على الله ، بل والدليل الأول على توحيده وتنزيهه والحافز الذاتي للإنسان على التوجه إليه .
في أعمق الأعماق من نفس هذا المخلوق المفكر ، حتى لو أطبق عينيه عن عجائب الكون ، وصرف فكره عن التأمل فيها والتدبر في قوانينها .
في فطرته حين يدع لها الحكم ويسند إليها الرأي .
في فقره الذاتي وهو يشير إلى غني مطلق يأمل منه الغنى ، و في نقصه الطبيعي وهو يتوجه إلى كامل أعلى يرجو منه الكمال ، وفي ضعفه الشديد وهو يتعلق بقوي غالب يستمد منه القوة ، وفي عجزه المتناهي وهو يلجأ إلى قادر قاهر يبتغي منه القدرة والنصرة . وبكلمة جامعة في قصوره الذاتي من كل ناحية وهو يتوجه إلى قوة عليا كاملة من كل ناحية ، متعالية عن الحدود ، مرتفعة عن الحاجة تفض الخير وتكفي السوء .
بلى وكل إنسان له ساعات لا يخادع فيها نفسه أو هو لا يستطيع أن يخادعها ، ساعات تتعرى له فيها الحقائق فيؤمن انه لا يملك شيئاً مما في يديه ، وان يك أغنى الأغنياء أو أقوى الأقوياء في مقاييس الناس .
وتستلفته نِعمٌ عظيمة تحوطه من شتى نواحيه ، ظاهرة وباطنة ، نِعمُ لا يحصيها عدداً ، ولا يملك لها وصفاً ، ولا يفي بها شكراً ، فيوقن بفطرته كذلك ان هذه الأيادي جمعاء صنيع تلك القوة العظمى التي لجأ إليها عند ضعفه وتعلق بها عند خوفه .
ويمتد بصره إلى ما يكتنفه من أحياء و أشياء فتقول له بداهته : هذه آثار لها مؤثر . وتقول له فطرته : موجد هذه المكونات هو تلك القدرة الغالبة التي لا ينتهي بها حد ، ولا يعجزها شيء . وهكذا يجد الإنسان دليل الربوبية ودليل التوحيد مطبوعين في ركائز شعوره ، فإذا ركن إلى العقل الواعي ليفصل له ما أجملته الفطرة وجده يقول : خالق الكون يجب أن يكون كاملاً ، لأنه يهب الكمال لخلقه ، وواهب الكمال لا يكون ناقصاً . وخالق الكون يجب أن يكون غير متناهي الحدود في كماله ، لأنه لو تناهى كماله لا فتقر إلى المزيد ، وهذا يعني انه مفتقر إلى العلة فلا يكون إلهاً .
والنتيجة اللازمة المحتومة لذلك أن إله الكون لن يكون الا واحداً ، لان الإلهين والإلهة الكثر لا محيد من أن يختص كل واحد منهم بحصة من الكمال لا تكون لشركائه ، فان هذا هو المعنى المفهوم للتعدد . وهذا يعني أن كل واحد منهم متناهي الحدود في كماله . فلا يكون إلهاً ولا خالقاً .
فإذا رجع إلى المنطق يتعرف حكمه في ذلك وجد البراهين النيرة متوفرة متضافرة عليه .
والعلم ؟ ماذا يؤمل منه أن يقول بعد أن لمس الوحدة الكونية في كل خطوة خطاها ، وفي كل ظاهرة أو خفية كشفها ؟ .
ماذا يؤمل من العلم أن يقول ؟ . لقد اعترف بوحدة الكون ، أفلا تكون هذه دليلاً على وحدة المكون؟ .
وهكذا تتأزر فطرة الإنسان الخاصة ، وفطرة الكون العامة ، وفطرة كل شيء من أشيائه وكل جزء من أجزائه على إثبات هذه الحقيقة وتجليتها للفكر الواعي ، حتى إذا جاء دور الدين ، دور وحي الله إلى أنبيائه المطهرين لم يبق له في مجال هذه العقيدة غير تبيين حدودها ورسم أبعادها ، وتوضيح لوازمها وآثارها . وغير هذا حفز الفطرة لتنتبه من سنة ، وتوجيه العقل ليعرف طرق البرهان .
ولا ادعي عصمة الإنسان في هذا المجال ، وان التوفيق حلفه فيه أنى سار وأنى توجه ، فكيف إذن ألحد من ألحد؟ وعلى م أشرك من أشرك؟ . ولكنني أقول : هذا هو الطريق الأحب الذي أعده التكوين لتجلية هذه العقيدة ، وهذا هو سبيلها المستقيم الذي اهتدى بإتباعه من اهتدى وضل عنه من ضل . وقد تحدثنا في أول الكتاب عن المؤثرات التي تنحرف بالفطرة ، والمعوقات التي تعترض الفكر .
وفي أعمق الأعماق من تاريخ الإنسان توجد آثار هذه الفطرة ، وتلمح ظلال هذه الفكرة ، آثار الفطرة السليمة التي أرشدت الإنسان إلى التوحيد ، والعقل المؤمن الذي أوضح له فكرة الإلوهية وان وجدت معها كذلك آثار الفطرة الملتوية . أو بالأحرى اثار الإنسان الذي التوى عن الفطرة ، وصدق عن هداها .
وهذه حقيقة لا يمتري فيها علماء التاريخ ولا علماء الآثار . فالتوحيد الخالص والشرك الصريح والإلحاد المرتاب وجدت جنبا إلى جنب في جميع عصور التاريخ ، وحالها في الأزمان الغابرة كما هي في الأزمان الحاضرة سواء بسواء . ومواقف دعاة التوحيد من المشركين والملحدين معروفة مشهورة في جميع الأدوار ، بل والحقيقة التي تثبتها الحجج القاطعة أن التوحيد سابق على الوثنية في النشأة .
وتتشهى فئة من الناس أن تحكم أهواءها في التاريخ لتحكم أهواءها في هذه العقيدة ، ثم في فكرة الدين !! .
لنقول : إن الله وهم أنتجه الخيال الأسطوري للإنسان ، وان الدين والنظم الأخلاقية وتعابير الشرف والاستقامة قيود صاغها السادة للعبيد!! .
تتشهى هذه الفئة أن تبتدع لعقيدة الإلوهية تأريخاً لا يعرفه التأريخ .
تقول : أن هذه العقيدة نشأت عند الإنسان القديم من فكرة بسيطة ، من طريق تشخيص القوى الطبيعية . ثم مرت مع الأزمان تنمو وتربو وتتحور وتتطور ، حتى بلغت الذروة في عقيدة التوحيد . ونشأت معها كذلك فكرة الدين ، وتطورت بتطورها ونضجت بنضوجها في الأديان التوحيدية . وإذن فالإله وهم اخترعه الخيال وعمل فيه التطور . والدين خرافة وضعها السادة ليقيدوا بها العبيد . وأقرأ إن شئت قول (فردريك انجلز) في كتابه لودفيج فيوربارخ :
[ ولم تكن الحاجة إلى العزاء الديني هي التي أدت إلى نشوء الوهم الممل عن الخلود الشخصي ، بل هي الحيرة القاسية التي نجمت عن الجهل العمومي المشترك بما ينبغي فعله مع هذه النفس ـ إذا ما قبلت فكرة بقائها حية ـ بعد موت الجسم وفنائه . وهكذا نشأت الآلهة الأولى ايضاً بطريق تشخيص القوى الطبيعية ، ثم اتخذت ـ خلال تطور الدين اللاحق ـ صورة تخرج أكثر فأكثر عن نطاق العالم الأرضي إلى أن ولدت هذه الالهة العديدة ، وهي ذات سلطة ضيقة على درجات متفاوتة ، وسلطة كل منها تحد من سلطة الآلهة الأخرى ـ خلال عملية طبيعة من التجريد ـ كدت أقول من التقطير ـ أقول ولدت في عقول الناس مفهوم الإله الواحد المتفرد الذي بشرت به الأديان التوحيدية ] 1 .
واقرأ أيضاً قول فؤاد أيوب في مقدمة هذا الكتاب : [ إن الله نتاج وجدان الإنسان الديني وخيالها الأسطوري ، أما العكس أي أن الوجدان الديني والأسطورة نتاج الوحي الإلهي فغير صحيح البتة . وان التاريخ ليثبت ذلك ، فالفكرة او الصورة اللتان صنعهما المؤمن عن الله قد تبدلتا خلال مراحل المدنية الانسانية ومع تبدل مستوى تطورها الأخلاقي ، هذا التطور الذي لا يزيد تانك الصورة او الفكرة عن أن يكون انعكاسا له أو إسقاطا . ذلك أن الإنسان يسمو بالصفات والقيم التي تدله المدنية على انها فضائل مرغوبة يستفيد النوع منها والتي لا ينجح هو الفرد الفاني الضيق الأفق في الحصول عليها أو تحقيقها بصورة كاملة ، يسمو إذن بتلك الصفات والقيم فيضيفها على فرد إلهي متسام . وهذا يعني أن الصفات الالهية نعوت إنسانية لا تخص الفرد بل تخص الجنس في المجموعه] 2 .
أقرأت؟
هذه هي دعواهم . . . . وهذه هي حجتهم . . .! ودليل الهراء لا يكون غير افتراء .
ويبدو أن نظرية التطور هي التي ساقتهم إلى هذا الغرض ثم إلى هذا الاستنتاج .
التطور قانون تخضع له كل الأشياء فلا بد أن تكون عقيدة الالوهية خاضعة له أيضاً .
وإذن ففكرة الإله قد خضعت للتطور . وإذن فقد نشأت في ذهن الإنسان القديم نشأة بسيطة وإذن فهي من مخترعات الإنسان ومبتدعاته ، وقد أنشاها وطورها وفقا لدوافعه . . . . والماركسيون يقولون بتطور الأشياء وتطور الآراء تطبيقا لمبدأ النقيض وللحركة الديالكتيكية . وقد تعرضنا من قبل لهذه الأوهام .
ويلاحظ أن انجلز في قوله المتقدم قد عجز أن ينشّىء الفكرة الإلهية نشأة اقتصادية وان يجعلها انعكاس للواقع الاقتصادي على ما يراه في كل فكرة ، وان يصورها فكرة بورجوازية كما يقول في غير هذا الوضع .
ثم ماذا؟
ثم لنفرض أن فكرة الإنسان عن الإلوهية بدأت كذلك بسيطة ثم تطورت ، فهل يدل هذا على أن الإله وهم ولا حقيقة له؟! وقد كانت للإنسان في القرون الأولى فكرة ما عن الشمس والقمر والنجوم وظواهر الكون ، ثم تبدلت الفكرة وتطورت حتى أخذت صورتها التجريبية في القرن العشرين ، فهل يدل هذا على أن الشمس والقمر والنجوم أوهام ليست لها حقائق؟!
ولماذا نذكر الشمس والنجوم وظواهر الكون فأكثر المفاهيم التي يتصورها الإنسان للأشياء تبدأ هكذا بسيطة ومخطئة ، ثم يمضي الإنسان مع الزمان يحك ويجرب وينقد ويمتحن حتى ينتهي المفهوم إلى صورته الأخيرة . وجميع المفاهيم والأفكار عند هؤلاء الماركسيين خاضعة للتطور . للحركة الديالكتيكية . فهل يدل ذلك على أن الأشياء كلها أوهام وأباطيل؟ .
أي منطق هذا المنطق ، وأي أسلوب من الاحتجاج هذا الأسلوب؟؟! .
فلنقل ـ ولا ضير ـ أن الفطرة دفعت بالإنسان إلى معرفة ربه ، فاندفع إلى ذلك منذ قرونه الأولى ، ولكنه اخطأ السبيل وقصر دون الغاية ، ووضع للإلوهية فكرة غامضة ، قبس بعض حدودها من محيطه المحدود ، وأكمل سائرها من فكره البسيط . ثم مضى مع الأزمان يصحح أخطاءه ويبتعد في حدوده . ويعمق في تفكيره ، ويرجع إلى ركائز المعرفة من نفسه والى دلائل التوحيد من سواه ، حتى بلغ الغاية التي يستطيعها الإنسان في هذا الميدان . وجاءت الأديان التوحيدية السماوية تبارك له جهوده وتسدد له خطواته . لنقل بهذا إذا لم يكن محيد عن تطور الفكرة ، ولم يكن محيد عن تأخر التوحيد عن الشرك في النشأة .
أما الأديان . أما المناهج العملية التي تقدمها الأديان للأخلاق والتربية والسلوك والاجتماع والمعاملات فلا محيد من أن تهبط من السماء موافقة لمنزلة المجتمع من التطور ، ولا محيد من أن تترتب شرائعها بحسب تلك الأدوار وقد تحدثنا عن هذا في بحوثنا عن الدين في ينابيعه الأولى .
فكرة عامة و عقيدة خاصة
والتوحيد في الإسلام فكرة عامة تتمثل في عقيدة خاصة .
فكرة عامة تقوم على طي الكون كله في وحدة ، وربطه كله في نسق ، وتأليفه كله على غاية .
الوجود المنبسط على هذا الملكوت ، المحيط بكل باد منه ومستور ، الشامل لكل صغير فيه وكبير ، هذا الوجود من أدناه إلى أعلاه ، ومن اقرب مظاهره إلى ابعد تخومه كله ظل واحد لموجد واحد ، والقانون العام الذي يسير عليه هذا الوجود المحيط توجيه واحد من مدبر واحد . والوجهة التي يتولى شطرها غاية واحدة لصانع مختار واحد . أما المادة فهي مظهر من مظاهر هذا الوجود ، وأما الطبيعة فهي الطريقة المعينة لسير الوجود في المادة . وأما الحياة فهي مرقاة من مراقيه ، وأما الإنسانية فهي النموذج الأعلى من نماذجه وأما كمال الإنسانية فهو القمة من التطور فيه .
فالكون والطبيعة والحياة الإنسانية مجموعة واحدة نشأت من معدن واحد عن علة واحدة وعلى طريقة واحدة . ونظم الكون والطبيعة والحياة والإنسانية متشابكة لا تنفصل ، وغاياتها متداخلة لا تفترق .
وهذه فكرة الإسلام العامة عن التوحيد العام ، واقرأ إن شئت هذه الآيات الكريمة : ï´؟ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَظ°لِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَظ°لِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَظ°لِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَىظ° فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ï´¾ 3.
لا أطوف بعيدا فاذكر أسرار أومأت إليها الآيات ثم كشفها العلم بعد نزولها بقرون . ولكن مع الآيات في دلالتها الواضحة وفي مدلولاتها القريبة .
للإنسان ولمنافعه ولحاجاته هيأ الله الكون الأعلى وما يظل واعد الكون الأدنى وما يحمل . هذا ما تقوله الآيات الكريمة . للإنسان ولمنافعه ولحاجاته التي تتطلبها حياته ويتطلبها بقاؤه . وتتطلبها سعادته وهناؤه ، بل وكرامته في الدنيا وسيادته في الأرض . للترفيه على الإنسان في شتى نواحيه كل هذا الأعداد وكل هذا الارصاد . للإنسان لينتفع به في حياته الأولى ، وله لينتفع به في حياته الأخرى . ليستدل بها على صانعها وعلى وحدت وحكمته ووجوب طاعته .
من آيات الكون
وسواءاً أكان نفع البشرية غاية مقصودة من خلق الكون والطبيعة والحياة أم كان فائدة مترتبة على وجودها فان في ذلك دلالة عميقة على التعاون البالغ بين مظاهر الكون وأجزائه وعلى الاشتباك القوي بين قوانينه وغايته .
وشد العلم إزر هذه الفكرة فأبرز وجوهاً من وحدة الكون ، وابدى ضروباً من أسانيد هذه الوحدة ومعززاتها ، وهو لا يفتأ يكتشف ويستدل ولا يخطؤه الاكتشاف ولا التدليل .
فهذه الأرض الكدرة هذه الشمس المنيرة وهذه الكواكب السيارة وما يتبعها من أقمار وما تحتوي عليه من أجرام وأجسام كلها من اصل واحد . ولقد كانت في بدء أمرها شيئاً واحداً . هكذا يقرر العلم التجريبي الحديث . وقد قال الله سبحانه في القرآن الكريم : ï´؟ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ... ï´¾ 4.
وشمسنا هذه التي نعيش على ظهر كوكب صغير من كواكبها مع ما في المجرة من ألوف ملايين الشموس أمثالها ، ومجرتنا هذه التي تحتل الشمس والكواكب ناحية صغيرة منها مع ما في الفضاء من ملايين المجرات أشكالها ، كل هذه العوالم الكثيرة المتباعدة في الأمكنة متحدة في المادة متسقة في النظم متفقة في الحركة 5 .
والحياة الموجودة على هذا الكوكب جزء من نظام الشمس ، لأنها تأنف من عناصرها وتغتذي من ثمراتها ، وتتقوم بحرارتها وإشعاعاتها .
والحيوان والنبات صنوان قريبان يمد احدهما الاخر بما يعوزه من العناصر ويرفده بما يفتقر إليه من الحاجات ، والطبيعة امهما الرؤوم والأرض مهدهما الوثير ومعهدهما المربي وحصنهما المنيع .
ونظام البصر في عين الإنسان واعداد طبقاتها وعدساتها وتحديد مجاري الضوء منها وتقدير منافذ الصورة ، كل هذا امتداد لقانون الأشعة التي توجهها الشمس ويمتلئ بها الأفق وتنتشر على كل مرئي وتنفذ إلى كل منظور .
وذرة الرمل الصغيرة مع المنظومة الشمسية الكبيرة شيء واحد فالمعدن فيها هو المعدن والطاقة هي الطاقة والنظام هو النظام .
وهذا الملكوت الواسع بمجراته الهائلة وعوالمه الكبيرة الكثيرة وأجرامه الفخمة الضخمة وما لها من توابع وظلال ومن أنظمة وحركات كلها يذعن لقانون عام واحد يقيه التصادم ويمنعه عن التخلف والاضطراب ويدفع به إلى التناسق والانسجام .
من صمم هذا القانون العام الواحد ينشعب قانون كل موجود ، وكل جزء من كل كائن ، وكل خلية من كل جزء وكل ذرة من كل خلية وكل نوية وجسيم من كل ذرة ، والى الغاية الكبرى المحيطة ترد كل غاية جزئية لأي كائن جزئي .
وعلى هذه الفكرة الجامعة يجب أن تقوم فكرة الدين ونظرة الاجتماع وفلسفة الخلق ومنهج التربية ونظام الاقتصاد وقانون السياسة والحكم ، وعلى هذا الأساس يجب أن ترتكز كل نظرة تبحث عن الإنسان الفرد أو الإنسان الأمة ، وكل تشريع يعد للإنسان الفرد أو للإنسان الأمة .
هذه الفكرة الإسلامية الجامعة عن التوحيد وهي التي اثبت العلم كل مقطع من مقاطعها ، وأكد العقل كل منحى من مناحيها .
وفي ضوء هذه الفكرة فالبشرية جماعة واحدة ذات اتجاه واحد ويتحتم أن يظللها دين واحد ، وان تذعن كذلك لحكومة واحدة يرأسها إمام واحد .
والمسلمون إخوة اشقاء يصل بينهم نسب البشرية ولحمة العقيدة ورحم الدين ، والمسلمون أولياء على تنفيذ هذه الخطة وتحقيق هذه الفكرة ، يرشدون من يجهلها بالحسنى ويقوّمون من يزيغ عنها بالحجة ويخضعون من يكيد لها بالقوة .
أما من لا يشاء أن يقتنع ولا يحاول أن يكيد فهو وان نشز عن الوحدة التي يفرضها الإسلام ، وعن الفكرة الجامعة التي يحتمها قانون التكوين ، الا أن دين الإسلام يقرر له حرية المعتقد ، وحرية العبادة ، وحرية العمل ، وحرية المعاملة ، والمساوات الكاملة أمام العدل والكرامة الموفورة في الحياة وله على حكومة الإسلامية أن تصون له هذه الحقوق ، وان تفي له بهذه الضمانات .
يقرر الإسلام له هذه الحقوق ويضمن له هذه الحريات وينجز له هذه الضمانات ما دام لا يريد به كيداً ولا يقف له في وجه .
وما دام لا يريد كيداً بالإسلام بما هو دين ، ولا يبدي له خلافاً بما هو دولة ولا يتربص به الدوائر بما هو وحدة ، ولا يبتغي الفتنة بأهله ولا الصد عن سبيله . فهذه جهات لا يتسامح فيها الإسلام ، ويتناقض مع نفسه لو تسامح فيها .
----------------
يتبع
الجزء الاول
في أعمق الأعماق من نفس الإنسان يوجد الدليل الأول على الله ، بل والدليل الأول على توحيده وتنزيهه والحافز الذاتي للإنسان على التوجه إليه .
في أعمق الأعماق من نفس هذا المخلوق المفكر ، حتى لو أطبق عينيه عن عجائب الكون ، وصرف فكره عن التأمل فيها والتدبر في قوانينها .
في فطرته حين يدع لها الحكم ويسند إليها الرأي .
في فقره الذاتي وهو يشير إلى غني مطلق يأمل منه الغنى ، و في نقصه الطبيعي وهو يتوجه إلى كامل أعلى يرجو منه الكمال ، وفي ضعفه الشديد وهو يتعلق بقوي غالب يستمد منه القوة ، وفي عجزه المتناهي وهو يلجأ إلى قادر قاهر يبتغي منه القدرة والنصرة . وبكلمة جامعة في قصوره الذاتي من كل ناحية وهو يتوجه إلى قوة عليا كاملة من كل ناحية ، متعالية عن الحدود ، مرتفعة عن الحاجة تفض الخير وتكفي السوء .
بلى وكل إنسان له ساعات لا يخادع فيها نفسه أو هو لا يستطيع أن يخادعها ، ساعات تتعرى له فيها الحقائق فيؤمن انه لا يملك شيئاً مما في يديه ، وان يك أغنى الأغنياء أو أقوى الأقوياء في مقاييس الناس .
وتستلفته نِعمٌ عظيمة تحوطه من شتى نواحيه ، ظاهرة وباطنة ، نِعمُ لا يحصيها عدداً ، ولا يملك لها وصفاً ، ولا يفي بها شكراً ، فيوقن بفطرته كذلك ان هذه الأيادي جمعاء صنيع تلك القوة العظمى التي لجأ إليها عند ضعفه وتعلق بها عند خوفه .
ويمتد بصره إلى ما يكتنفه من أحياء و أشياء فتقول له بداهته : هذه آثار لها مؤثر . وتقول له فطرته : موجد هذه المكونات هو تلك القدرة الغالبة التي لا ينتهي بها حد ، ولا يعجزها شيء . وهكذا يجد الإنسان دليل الربوبية ودليل التوحيد مطبوعين في ركائز شعوره ، فإذا ركن إلى العقل الواعي ليفصل له ما أجملته الفطرة وجده يقول : خالق الكون يجب أن يكون كاملاً ، لأنه يهب الكمال لخلقه ، وواهب الكمال لا يكون ناقصاً . وخالق الكون يجب أن يكون غير متناهي الحدود في كماله ، لأنه لو تناهى كماله لا فتقر إلى المزيد ، وهذا يعني انه مفتقر إلى العلة فلا يكون إلهاً .
والنتيجة اللازمة المحتومة لذلك أن إله الكون لن يكون الا واحداً ، لان الإلهين والإلهة الكثر لا محيد من أن يختص كل واحد منهم بحصة من الكمال لا تكون لشركائه ، فان هذا هو المعنى المفهوم للتعدد . وهذا يعني أن كل واحد منهم متناهي الحدود في كماله . فلا يكون إلهاً ولا خالقاً .
فإذا رجع إلى المنطق يتعرف حكمه في ذلك وجد البراهين النيرة متوفرة متضافرة عليه .
والعلم ؟ ماذا يؤمل منه أن يقول بعد أن لمس الوحدة الكونية في كل خطوة خطاها ، وفي كل ظاهرة أو خفية كشفها ؟ .
ماذا يؤمل من العلم أن يقول ؟ . لقد اعترف بوحدة الكون ، أفلا تكون هذه دليلاً على وحدة المكون؟ .
وهكذا تتأزر فطرة الإنسان الخاصة ، وفطرة الكون العامة ، وفطرة كل شيء من أشيائه وكل جزء من أجزائه على إثبات هذه الحقيقة وتجليتها للفكر الواعي ، حتى إذا جاء دور الدين ، دور وحي الله إلى أنبيائه المطهرين لم يبق له في مجال هذه العقيدة غير تبيين حدودها ورسم أبعادها ، وتوضيح لوازمها وآثارها . وغير هذا حفز الفطرة لتنتبه من سنة ، وتوجيه العقل ليعرف طرق البرهان .
ولا ادعي عصمة الإنسان في هذا المجال ، وان التوفيق حلفه فيه أنى سار وأنى توجه ، فكيف إذن ألحد من ألحد؟ وعلى م أشرك من أشرك؟ . ولكنني أقول : هذا هو الطريق الأحب الذي أعده التكوين لتجلية هذه العقيدة ، وهذا هو سبيلها المستقيم الذي اهتدى بإتباعه من اهتدى وضل عنه من ضل . وقد تحدثنا في أول الكتاب عن المؤثرات التي تنحرف بالفطرة ، والمعوقات التي تعترض الفكر .
وفي أعمق الأعماق من تاريخ الإنسان توجد آثار هذه الفطرة ، وتلمح ظلال هذه الفكرة ، آثار الفطرة السليمة التي أرشدت الإنسان إلى التوحيد ، والعقل المؤمن الذي أوضح له فكرة الإلوهية وان وجدت معها كذلك آثار الفطرة الملتوية . أو بالأحرى اثار الإنسان الذي التوى عن الفطرة ، وصدق عن هداها .
وهذه حقيقة لا يمتري فيها علماء التاريخ ولا علماء الآثار . فالتوحيد الخالص والشرك الصريح والإلحاد المرتاب وجدت جنبا إلى جنب في جميع عصور التاريخ ، وحالها في الأزمان الغابرة كما هي في الأزمان الحاضرة سواء بسواء . ومواقف دعاة التوحيد من المشركين والملحدين معروفة مشهورة في جميع الأدوار ، بل والحقيقة التي تثبتها الحجج القاطعة أن التوحيد سابق على الوثنية في النشأة .
وتتشهى فئة من الناس أن تحكم أهواءها في التاريخ لتحكم أهواءها في هذه العقيدة ، ثم في فكرة الدين !! .
لنقول : إن الله وهم أنتجه الخيال الأسطوري للإنسان ، وان الدين والنظم الأخلاقية وتعابير الشرف والاستقامة قيود صاغها السادة للعبيد!! .
تتشهى هذه الفئة أن تبتدع لعقيدة الإلوهية تأريخاً لا يعرفه التأريخ .
تقول : أن هذه العقيدة نشأت عند الإنسان القديم من فكرة بسيطة ، من طريق تشخيص القوى الطبيعية . ثم مرت مع الأزمان تنمو وتربو وتتحور وتتطور ، حتى بلغت الذروة في عقيدة التوحيد . ونشأت معها كذلك فكرة الدين ، وتطورت بتطورها ونضجت بنضوجها في الأديان التوحيدية . وإذن فالإله وهم اخترعه الخيال وعمل فيه التطور . والدين خرافة وضعها السادة ليقيدوا بها العبيد . وأقرأ إن شئت قول (فردريك انجلز) في كتابه لودفيج فيوربارخ :
[ ولم تكن الحاجة إلى العزاء الديني هي التي أدت إلى نشوء الوهم الممل عن الخلود الشخصي ، بل هي الحيرة القاسية التي نجمت عن الجهل العمومي المشترك بما ينبغي فعله مع هذه النفس ـ إذا ما قبلت فكرة بقائها حية ـ بعد موت الجسم وفنائه . وهكذا نشأت الآلهة الأولى ايضاً بطريق تشخيص القوى الطبيعية ، ثم اتخذت ـ خلال تطور الدين اللاحق ـ صورة تخرج أكثر فأكثر عن نطاق العالم الأرضي إلى أن ولدت هذه الالهة العديدة ، وهي ذات سلطة ضيقة على درجات متفاوتة ، وسلطة كل منها تحد من سلطة الآلهة الأخرى ـ خلال عملية طبيعة من التجريد ـ كدت أقول من التقطير ـ أقول ولدت في عقول الناس مفهوم الإله الواحد المتفرد الذي بشرت به الأديان التوحيدية ] 1 .
واقرأ أيضاً قول فؤاد أيوب في مقدمة هذا الكتاب : [ إن الله نتاج وجدان الإنسان الديني وخيالها الأسطوري ، أما العكس أي أن الوجدان الديني والأسطورة نتاج الوحي الإلهي فغير صحيح البتة . وان التاريخ ليثبت ذلك ، فالفكرة او الصورة اللتان صنعهما المؤمن عن الله قد تبدلتا خلال مراحل المدنية الانسانية ومع تبدل مستوى تطورها الأخلاقي ، هذا التطور الذي لا يزيد تانك الصورة او الفكرة عن أن يكون انعكاسا له أو إسقاطا . ذلك أن الإنسان يسمو بالصفات والقيم التي تدله المدنية على انها فضائل مرغوبة يستفيد النوع منها والتي لا ينجح هو الفرد الفاني الضيق الأفق في الحصول عليها أو تحقيقها بصورة كاملة ، يسمو إذن بتلك الصفات والقيم فيضيفها على فرد إلهي متسام . وهذا يعني أن الصفات الالهية نعوت إنسانية لا تخص الفرد بل تخص الجنس في المجموعه] 2 .
أقرأت؟
هذه هي دعواهم . . . . وهذه هي حجتهم . . .! ودليل الهراء لا يكون غير افتراء .
ويبدو أن نظرية التطور هي التي ساقتهم إلى هذا الغرض ثم إلى هذا الاستنتاج .
التطور قانون تخضع له كل الأشياء فلا بد أن تكون عقيدة الالوهية خاضعة له أيضاً .
وإذن ففكرة الإله قد خضعت للتطور . وإذن فقد نشأت في ذهن الإنسان القديم نشأة بسيطة وإذن فهي من مخترعات الإنسان ومبتدعاته ، وقد أنشاها وطورها وفقا لدوافعه . . . . والماركسيون يقولون بتطور الأشياء وتطور الآراء تطبيقا لمبدأ النقيض وللحركة الديالكتيكية . وقد تعرضنا من قبل لهذه الأوهام .
ويلاحظ أن انجلز في قوله المتقدم قد عجز أن ينشّىء الفكرة الإلهية نشأة اقتصادية وان يجعلها انعكاس للواقع الاقتصادي على ما يراه في كل فكرة ، وان يصورها فكرة بورجوازية كما يقول في غير هذا الوضع .
ثم ماذا؟
ثم لنفرض أن فكرة الإنسان عن الإلوهية بدأت كذلك بسيطة ثم تطورت ، فهل يدل هذا على أن الإله وهم ولا حقيقة له؟! وقد كانت للإنسان في القرون الأولى فكرة ما عن الشمس والقمر والنجوم وظواهر الكون ، ثم تبدلت الفكرة وتطورت حتى أخذت صورتها التجريبية في القرن العشرين ، فهل يدل هذا على أن الشمس والقمر والنجوم أوهام ليست لها حقائق؟!
ولماذا نذكر الشمس والنجوم وظواهر الكون فأكثر المفاهيم التي يتصورها الإنسان للأشياء تبدأ هكذا بسيطة ومخطئة ، ثم يمضي الإنسان مع الزمان يحك ويجرب وينقد ويمتحن حتى ينتهي المفهوم إلى صورته الأخيرة . وجميع المفاهيم والأفكار عند هؤلاء الماركسيين خاضعة للتطور . للحركة الديالكتيكية . فهل يدل ذلك على أن الأشياء كلها أوهام وأباطيل؟ .
أي منطق هذا المنطق ، وأي أسلوب من الاحتجاج هذا الأسلوب؟؟! .
فلنقل ـ ولا ضير ـ أن الفطرة دفعت بالإنسان إلى معرفة ربه ، فاندفع إلى ذلك منذ قرونه الأولى ، ولكنه اخطأ السبيل وقصر دون الغاية ، ووضع للإلوهية فكرة غامضة ، قبس بعض حدودها من محيطه المحدود ، وأكمل سائرها من فكره البسيط . ثم مضى مع الأزمان يصحح أخطاءه ويبتعد في حدوده . ويعمق في تفكيره ، ويرجع إلى ركائز المعرفة من نفسه والى دلائل التوحيد من سواه ، حتى بلغ الغاية التي يستطيعها الإنسان في هذا الميدان . وجاءت الأديان التوحيدية السماوية تبارك له جهوده وتسدد له خطواته . لنقل بهذا إذا لم يكن محيد عن تطور الفكرة ، ولم يكن محيد عن تأخر التوحيد عن الشرك في النشأة .
أما الأديان . أما المناهج العملية التي تقدمها الأديان للأخلاق والتربية والسلوك والاجتماع والمعاملات فلا محيد من أن تهبط من السماء موافقة لمنزلة المجتمع من التطور ، ولا محيد من أن تترتب شرائعها بحسب تلك الأدوار وقد تحدثنا عن هذا في بحوثنا عن الدين في ينابيعه الأولى .
فكرة عامة و عقيدة خاصة
والتوحيد في الإسلام فكرة عامة تتمثل في عقيدة خاصة .
فكرة عامة تقوم على طي الكون كله في وحدة ، وربطه كله في نسق ، وتأليفه كله على غاية .
الوجود المنبسط على هذا الملكوت ، المحيط بكل باد منه ومستور ، الشامل لكل صغير فيه وكبير ، هذا الوجود من أدناه إلى أعلاه ، ومن اقرب مظاهره إلى ابعد تخومه كله ظل واحد لموجد واحد ، والقانون العام الذي يسير عليه هذا الوجود المحيط توجيه واحد من مدبر واحد . والوجهة التي يتولى شطرها غاية واحدة لصانع مختار واحد . أما المادة فهي مظهر من مظاهر هذا الوجود ، وأما الطبيعة فهي الطريقة المعينة لسير الوجود في المادة . وأما الحياة فهي مرقاة من مراقيه ، وأما الإنسانية فهي النموذج الأعلى من نماذجه وأما كمال الإنسانية فهو القمة من التطور فيه .
فالكون والطبيعة والحياة الإنسانية مجموعة واحدة نشأت من معدن واحد عن علة واحدة وعلى طريقة واحدة . ونظم الكون والطبيعة والحياة والإنسانية متشابكة لا تنفصل ، وغاياتها متداخلة لا تفترق .
وهذه فكرة الإسلام العامة عن التوحيد العام ، واقرأ إن شئت هذه الآيات الكريمة : ï´؟ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَظ°لِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَظ°لِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَظ°لِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَىظ° فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ï´¾ 3.
لا أطوف بعيدا فاذكر أسرار أومأت إليها الآيات ثم كشفها العلم بعد نزولها بقرون . ولكن مع الآيات في دلالتها الواضحة وفي مدلولاتها القريبة .
للإنسان ولمنافعه ولحاجاته هيأ الله الكون الأعلى وما يظل واعد الكون الأدنى وما يحمل . هذا ما تقوله الآيات الكريمة . للإنسان ولمنافعه ولحاجاته التي تتطلبها حياته ويتطلبها بقاؤه . وتتطلبها سعادته وهناؤه ، بل وكرامته في الدنيا وسيادته في الأرض . للترفيه على الإنسان في شتى نواحيه كل هذا الأعداد وكل هذا الارصاد . للإنسان لينتفع به في حياته الأولى ، وله لينتفع به في حياته الأخرى . ليستدل بها على صانعها وعلى وحدت وحكمته ووجوب طاعته .
من آيات الكون
وسواءاً أكان نفع البشرية غاية مقصودة من خلق الكون والطبيعة والحياة أم كان فائدة مترتبة على وجودها فان في ذلك دلالة عميقة على التعاون البالغ بين مظاهر الكون وأجزائه وعلى الاشتباك القوي بين قوانينه وغايته .
وشد العلم إزر هذه الفكرة فأبرز وجوهاً من وحدة الكون ، وابدى ضروباً من أسانيد هذه الوحدة ومعززاتها ، وهو لا يفتأ يكتشف ويستدل ولا يخطؤه الاكتشاف ولا التدليل .
فهذه الأرض الكدرة هذه الشمس المنيرة وهذه الكواكب السيارة وما يتبعها من أقمار وما تحتوي عليه من أجرام وأجسام كلها من اصل واحد . ولقد كانت في بدء أمرها شيئاً واحداً . هكذا يقرر العلم التجريبي الحديث . وقد قال الله سبحانه في القرآن الكريم : ï´؟ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ... ï´¾ 4.
وشمسنا هذه التي نعيش على ظهر كوكب صغير من كواكبها مع ما في المجرة من ألوف ملايين الشموس أمثالها ، ومجرتنا هذه التي تحتل الشمس والكواكب ناحية صغيرة منها مع ما في الفضاء من ملايين المجرات أشكالها ، كل هذه العوالم الكثيرة المتباعدة في الأمكنة متحدة في المادة متسقة في النظم متفقة في الحركة 5 .
والحياة الموجودة على هذا الكوكب جزء من نظام الشمس ، لأنها تأنف من عناصرها وتغتذي من ثمراتها ، وتتقوم بحرارتها وإشعاعاتها .
والحيوان والنبات صنوان قريبان يمد احدهما الاخر بما يعوزه من العناصر ويرفده بما يفتقر إليه من الحاجات ، والطبيعة امهما الرؤوم والأرض مهدهما الوثير ومعهدهما المربي وحصنهما المنيع .
ونظام البصر في عين الإنسان واعداد طبقاتها وعدساتها وتحديد مجاري الضوء منها وتقدير منافذ الصورة ، كل هذا امتداد لقانون الأشعة التي توجهها الشمس ويمتلئ بها الأفق وتنتشر على كل مرئي وتنفذ إلى كل منظور .
وذرة الرمل الصغيرة مع المنظومة الشمسية الكبيرة شيء واحد فالمعدن فيها هو المعدن والطاقة هي الطاقة والنظام هو النظام .
وهذا الملكوت الواسع بمجراته الهائلة وعوالمه الكبيرة الكثيرة وأجرامه الفخمة الضخمة وما لها من توابع وظلال ومن أنظمة وحركات كلها يذعن لقانون عام واحد يقيه التصادم ويمنعه عن التخلف والاضطراب ويدفع به إلى التناسق والانسجام .
من صمم هذا القانون العام الواحد ينشعب قانون كل موجود ، وكل جزء من كل كائن ، وكل خلية من كل جزء وكل ذرة من كل خلية وكل نوية وجسيم من كل ذرة ، والى الغاية الكبرى المحيطة ترد كل غاية جزئية لأي كائن جزئي .
وعلى هذه الفكرة الجامعة يجب أن تقوم فكرة الدين ونظرة الاجتماع وفلسفة الخلق ومنهج التربية ونظام الاقتصاد وقانون السياسة والحكم ، وعلى هذا الأساس يجب أن ترتكز كل نظرة تبحث عن الإنسان الفرد أو الإنسان الأمة ، وكل تشريع يعد للإنسان الفرد أو للإنسان الأمة .
هذه الفكرة الإسلامية الجامعة عن التوحيد وهي التي اثبت العلم كل مقطع من مقاطعها ، وأكد العقل كل منحى من مناحيها .
وفي ضوء هذه الفكرة فالبشرية جماعة واحدة ذات اتجاه واحد ويتحتم أن يظللها دين واحد ، وان تذعن كذلك لحكومة واحدة يرأسها إمام واحد .
والمسلمون إخوة اشقاء يصل بينهم نسب البشرية ولحمة العقيدة ورحم الدين ، والمسلمون أولياء على تنفيذ هذه الخطة وتحقيق هذه الفكرة ، يرشدون من يجهلها بالحسنى ويقوّمون من يزيغ عنها بالحجة ويخضعون من يكيد لها بالقوة .
أما من لا يشاء أن يقتنع ولا يحاول أن يكيد فهو وان نشز عن الوحدة التي يفرضها الإسلام ، وعن الفكرة الجامعة التي يحتمها قانون التكوين ، الا أن دين الإسلام يقرر له حرية المعتقد ، وحرية العبادة ، وحرية العمل ، وحرية المعاملة ، والمساوات الكاملة أمام العدل والكرامة الموفورة في الحياة وله على حكومة الإسلامية أن تصون له هذه الحقوق ، وان تفي له بهذه الضمانات .
يقرر الإسلام له هذه الحقوق ويضمن له هذه الحريات وينجز له هذه الضمانات ما دام لا يريد به كيداً ولا يقف له في وجه .
وما دام لا يريد كيداً بالإسلام بما هو دين ، ولا يبدي له خلافاً بما هو دولة ولا يتربص به الدوائر بما هو وحدة ، ولا يبتغي الفتنة بأهله ولا الصد عن سبيله . فهذه جهات لا يتسامح فيها الإسلام ، ويتناقض مع نفسه لو تسامح فيها .
----------------
يتبع
تعليق