بينما كانت ام هدى تنشر الغسيل كعادتها على سطح بيتهم في احدى القرى الكربلائية التي انتقلت إليها مؤخرا، رأت ألسنة من اللهب والنار تندلع من البيت المحاذي لبيتها, أفزعها منظر الدخان المتصاعد فهرعت الى السلم تستعين بزوجها وهي تخبره بأنفاس لاهثة "إنهض إن في بيت جارنا حريق لربما لا يعلمون به او يكونوا بحاجة للمساعدة".
غاب عنها لبضع دقائق حتى عاد متبسما, تمالكتها الدهشة وقبل ان تسأله سمعته يقول ان جارتنا تعد الخبز لعيالها بتنور الطين.
جلست على الاريكة وانفجرت اساريرها بالضحك وانتابتها الحيرة والتساؤل.. برغم كل ما نشهده من تطور هل ما زال هناك من يقتني تنور الطين ويستخدمه؟
وحول هذا الموضوع اجرت (بشرى حياة) جولة استطلاعية في احدى القرى الكربلائية التي ما زالت نساؤها تصنع خبزها بتنور الطين لمعرفة سبب اقتنائهم وصناعتهم له رغم ما نشهده من تقدم حضاري.
البركة والأصالة
تقول ام جاسم وهي تملك تنور الطين في بيتها: "ان للتنور الطين مكانة خاصة في بيتي، فهو يعني البركة والأصالة وما تبقى من رائحة الاهل".
وتؤكد: "أن أغلبية النساء يتبركن بوجود تنور الطين في بيوتهن، وهناك من تنظر له باحترام وقدسية وتسميه تنور الزهراء لكونه طاهراً ومعطاء دائما،حتى ان البعض يخشى هدمه حينما يصبح قديما أو حين تنتقل العائلة لبيت اخر فتبقيه كما هو ليظل بمثابة أثر في المكان".
اما الحاج ابو هادي/ 70 سنة قال لنا: "لقد اعتدت منذ سنين ان اتناول وجبة الافطار الصباحية مع أول بزوغ لضوء الفجر، إلا بقرص خبز حار خبزته لي (أم الجهال) على حد تعبيره.
ويشير بقوله: "ان رائحة الخبز تذكره بأمه وقبلها جدته, وهو يشتاق الى نكهته فمنذ وفاة زوجته لم تعد ابنته ولا كنته يصنعن له خبزه المفضل, حتى انه يحزن كثيرا لرؤية تنوره المفضل قد هجر".
ويضيف: "انه يفضل تنور الطين على تنور الغاز داخل بيته، لعدة أسباب منها نكهته الخاصة التي لا تتوفر بتنور الغاز، وكذلك كونه أكثر أمانا فهو يعتمد على الحطب ومن السهل السيطرة عليه، في حين التنور الغاز قد يتسرب منه الغاز وقد يؤدي الى حريق من الصعب إخماده، بحيث تصل خطورته أحيانا الى انفجار أنبوبة الغاز وهي مصدر خطر على الممتلكات والأرواح في الوقت نفسه".
بينما أكدت الحاجة ام سمير على سبب إصرارها على خبز تنور الطين قائلة: "ليس هناك نكهة لأي خبز في العالم بأكمله تضاهي نكهة الخبز العراقي المخبوز بتنور الطين".
وتضيف: "ان تقدمي في السن حال دون صناعتي له, وانا شديدة الانزعاج من عدم امتثال زوجات ابنائي الى رغبتي في صناعة الخبز فيه, حيث اعتدن على صناعة الخبز في تنور الغاز وما طرأ مؤخرا التنور الكهربائي الذي افقد لرغيف الخبز نكهته وطعمه تماما".
صناعة التنور
وكانت لنا وقفة في جولتنا مع الحاجة ام قيس وهي خبيرة في صناعة تنور الطين في قرية السوادة في محافظة كربلاء المقدسة حيث قالت:
"ان صناعة التنور كانت تمتد جذورها من اجدادنا وقد تعلمت هذه الحرفة من والدتي التي علمها لها والدها حيث كان هو الاخر خبير في هذا المجال ولم يكن يتوقف فقط على صناعة تنور البيت بل حتى تنور المخابز والطابق (الطابك) الذي يصنعون فيه خبز التمن".
وتضيف ام قيس "انها ما زالت تصنع تنور الطين لبعض النسوة لكن حسب الطلب فقد باتت صناعته وعرضه شيء مستحيل لتلاشي هذه المهنة, ولصناعة التنور مراحل متعددة حيث تسمى بمجملها (الجعوب) والتي يجب ان يقوم بها (الخلفة او الاسطة)".
وتابعت حديثها قائلة: "ان افضل طين يستخدم في صناعته هو طين بحر النجف, او مادة الطين الحري النظيف، اضافةً الى خلطه مع القليل من التبن أو أحيانا شعر الحيوانات لزيادة قوته وتماسكه, حيث تبدأ المرحلة الاولى بفتل وطوي الطين على شكل كتل دائرية بعدما يتم نقع مزيج الطين بالماء ودعكه جيدا حتى يمتزج وتسمى هذه العملية بالتخمير حيث تصل ما يقارب من 12 ساعة الى 24 ساعة, ثم نبدأ بصنع التنور بوضع الفتايل الدائرية واحدة فوق الاخرى وهكذا, من القاعدة حتى فوهة التنور, حيث يكون التنور جاهزا في غضون ثلاثة ايام في الصيف, وفي الشتاء سبعة ايام وهذا يتوقف حسب حالة الطقس".
وتشير ام قيس بقولها: "بأن أحجام التنور مختلفة وتكون حسب الرغبة أما بالنسبة لمتانته فهو ممكن ان يبقى في البيت لأكثر من عشر سنوات إن بني بشكل جيد فمن الضروري بناء سياج حوله وجعله مائلا اما في افران المخابز يبقى لمدة 25 عام, اما ما يخص الأسعار فهي تبيع القطعة بثمانية ألاف دينار فقط وهناك قطع تباع حسب أحجامها وان معظم الزبائن هم النسوة كبار السن, وهناك رجال يعملون بها ايضا حسب الطلب لأصحاب المخابز وتكون الأسعار مختلفة لان أحجام تنانيرهم كبيرة".
الموروث الشعبي
وكانت للباحث الاجتماعي حيدر حسنين هذه المشاركة في جولتنا حول تنور الطين العراقي حيث قال: "في الموروث الشعبي الذي تحتفظ به ذاكرة الحياة الاجتماعية العراقية الكثير من المشاهد الحية التي تدل على عراقة هذا البلد واصالة ابنائه ومن تلك الموروثات انتشار المهن او الحرف الشعبية التي عادة ما كانت تنجز بأدوات بسيطة واغراض بدائية لتنتج حاجيات منزلية, ومنها صناعة التنانير الطينية التي تفردت بإنضاج أرغفة الخبز الشهية, وهذه الحرفة تعد إحدى ابرز الصناعات الشعبية التي عرفت في وادي الرافدين ثم انتقلت إلى الأصقاع والبلدان الأخرى خلال مسيرة التاريخ وتلاحق الحضارات المستمر".
وأضاف: "إن هذه الصناعة تعتمد على مادة الطين المحلي في انجازها حيث هناك من يسمى من يعمل بها (الكوازيون) وتعد كلمة الكواز لفظة تركية الأصل حملها العثمانيون آنذاك وتطلق عادة على الأشخاص الذين يختارون مثل هذه الصنعة حرفة لهم, وبحسب معرفتي لبعض الأبحاث إن مدينة الموصل كانت أقدم مدينة لصناعة التنور حيث مازالت اثار سوق الكوازين قائمة لهذا اليوم, وعلى الرغم من التغيرات التي يشهدها المجتمع من تقدم تكنلوجي إلا إن هذه الحرفة ما زالت محتفظة بمكانها فما زال البعض يزاولها ويقولون إنهم يجدون فيها متعة وفائدة كونها حرفة فنية, أكثر ماهي مصدر للرزق فحسب".
كتبه
زهراء الكناني