لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة
الحمد لله رب العالمين
هل حديث : ( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة )
إذا لم يجرِ العمل به من السلف هل يضعف من دلالته مع أنهم كانوا يعرفونه ؟
فنقول بالنسبة لحديث: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة» قد يكون غريبا على كثير من الناس عامة بل والخاصة منهم
ومنهم من ينكر الحديث ويحتج بان يقول لو كان الأمر كذلك لنقل إلينا بالتكرار والأسانيد المتكاثرة،
أولا يؤسفني أن نقول، هذه شنشنة نعرفها من أخزم،
وهي رد الأحاديث الصحيحة بالجهل بالعامل بها، رد العمل بالحديث الصحيح للجهل بمن عمل بها، وهنا نقول إن الله عزّ وجلّ
تعهد للمسلمين أن يحفظ لهم دينهم بحفظ الكتاب والسنَّة الصحيحة،
ولم يتعهد لهم أن يحفظ لهم في كل حديث من عَمِلَ به من المسلمين،
وهذا ما صرّح به الإمام الهاشمي القرشي المطّلبي الإمام الشافعي في رسالته المسمّاة بهذا الاسم (الرسالة)، قال:
((الحديث أصل في نفسه))
فإذا ثبت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وكانت دلالته واضحة وجب العمل به لأنه أصل في نفسه ولا نتوقف عن العمل به حتى نجد من سبقنا إلى العمل به.
نعم أنا مقتنع تماماً أن الحديث إذا كان يحتمل أكثر من وجه في معناه فهنا لابد لطالب العلم من أمثالنا أن يجد من سبقه إلى تفسير الحديث بالفهم الذي هو يجنح إليه حتى يكون ذلك له مستنداً في أنه لم يسئ فهم الحديث، أما إذا كان الحديث واضح المعنى جليا كالمبنى فحينئذ لا حاجة للمسلم أو لطالب العلم أن يتوقف عن العمل بالحديث لأنه أصلٌ في نفسه.
فحديثنا هذا - - وهو قوله عليه السلام: «لا اعتكاف إلا في ثلاثة مساجد»
فهو على وزان الحديث المعروف، والمعروف عند كثير من المسلمين، والمجهول عند آخرين منهم، إما أن يكون مجهولاً روايةً ودرايةً وإما أن يكون مجهولا دراية ومعروفا رواية، ألا وهو حديث:
«لا تشدُّ الرحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد»، على وزان هذا الحديث جاء الذي نحن في صدد الكلام حوله: « لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة»
وذكرها، القول بأن هذا الحديث لا يجوز العمل به لأنه لم يعمل به أحد من السلف فهذا تعطيل للعلم بالجهل، العلم هنا كما ابن قيم الجوزية رحمه الله
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ...
العلم قال الله قال رسوله، فإذن نحن ما نقول رأيا من عندنا، وإنما نقول قال نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلّم:
«لا اعتكاف إلا بالمساجد الثلاثة»، هذا علم ، بماذا رُدّ هذا العلم؟ بقول من سمعتم الإشارة إليهم: ((لا نعلم))، قولهم: ((لا نعلم)) جهلٌ، لا نعلم من عمل بهذا الحديث، هذا لو سُلِّمَ لهم هذا الجهل ولم يكن عندنا علم آخر وهو أن بعض السلف قد عمل بهذا الحديث،
ألا وهو حذيفة بن اليمان
وهو راوي الحديث حيث أنكر -وعلى صحابي جليل- وأصحابه من التابعين وهو عبد الله بن مسعود الذين كانوا يعتكفون في بعض المساجد، في البصرة، فاحتجّ حذيفة على هؤلاء المعتكفين بأنه سمع من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم هذا الحديث الصحيح:
«لا اعتكاف إلا بالمساجد الثلاثة»
فبهذا يكون قد اثبت العلم عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم بهذا الحديث واثبت أيضا أن بعض السلف عمل بهذا الحديث وأنكر تماما كما ننكر نحن اليوم الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة
وقبل أن أننتهي من الكلام هذا الحديث، لقد كان من عواقب فتح باب الاعتكاف في كل مسجد أن ظهرت بدعة عامة في كثير من البلاد حيث يكتب على قطع من الورق بخط كبير تعليما للداخلين إلى المسجد:
(نويت الاعتكاف في هذا المسجد ما دمت فيه)، من أين جاءت هذه البدعة؟ من فتح باب الاعتكاف في كل مسجد.
ثم ألفت النظر، نظر هؤلاء الريبيين والشكاكين في هذا الحديث وفي من عمل به من السلف،
هل الاعتكاف المشروع مشروع في كل مسجد سواء كان مسجدا جامعا أو كان مسجدا غير جامع أو كان مصلى أو كان دارا؟
فما كان جوابهم عن هذا السؤال فهو جوابنا وعندنا حيطة نستند فيها إلى حديث (لا اعتكاف)،
فإذا قال قائلهم مثلا سيقول الكثيرون – : لا يجوز الاعتكاف في البيت، سنقول له ما الدليل؟
أعندك نهي من الرسول صلى الله عليه وسلّم عن الاعتكاف في الدار؟
لا شيء من ذلك إطلاقاً، ثم نرتقي درجةً فنقول ما رأيك في الاعتكاف في مُسَيْجِدْ – سيقول بعضهم : لا يجوز، وهكذا لا أزال أرتقي حتى أصل إلى المسجد ليس المُسَيْجِدْ، ولكن ليس مسجداً جامعاً، أي تصلى فيه الجمعة، هل يجوز الاعتكاف في مثل هذا المسجد الذي لا تصلى فيه الجمعة، فإن قال يجوز، قلنا هاتوا برهانكم، وإن قال لا يجوز، قلنا هاتوا مستندكم.
وهكذا إلى أن لا نجد نفيا إلاَّ هذا الحديث: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة».
اما عن قولهم أن هذا الحديث كان موجوداً تحت بصر الأئمة المجتهدين ومع ذلك لا يؤثر على واحد منهم، سواءاً من المذاهب من الأئمة المتبوعين المعروفين أو من غيرهم أنه أفتى بمقتضى هذا الحديث، وهذا مما يضعف دلالته.
فنقول هذا ليس مما يضعف دلالته،
مما يضعف اسناده، هذا جرح، على كل حال نقول لهم : (أثبت العرش ثمّ انقش) أعني نقول لهم: ما دليلكم على أن هذا الحديث كان تحت بصر الأئمة المجتهدين ثم لم يعملوا به، هذه مجرد دعوى،
والدعاوي ما لم تقيموا عليها بيّناتٍ أبناؤها أدعياء،
ثالثا: ما هو المفروض في إمام من أئمة المسلمين إذا جاءه الحديث صحيحاً صريحا، صحيح السند صريح الدلالة، جاءه هكذا عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم، آلمفروض فيه هو الإعراض عن العمل به أم المبادرة إليه والخضوع له والاستسلام كما قال رب العالمين في القرآن الكريم:
﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[النساء:65]
لا شك أن الجواب عن مثل هذا السؤال هو أنهم عند حسن ظننا، أنهم إذا جاءهم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم صحيحاً صريحا أن يخضعوا له، وأن يعملوا به، فكيف هم يعكسون الأمر ويزعمون بأن هذا الحديث كان تحت بصر الأئمة ثم لم يعملوا به، هذا شيء،وشيء آخر:
لقد أنكر الإمام الشافعي رحمه الله على رجل قال له: أنت تقول كذا، حسب ما جاء في الحديث، وفلان من العلماء المعروفين في ذاك الزمان يقولون بخلاف قولك، يقول له مستنكراً بصيغة استنكار شديدة جداً، يقول له:
(أتراني قد خرجت من الكنيسة!! أتراني أشد الزمار من وسطه حتى أدع العمل بقول النبي صلى الله عليه وسلّم لقول فلان وفلان!!)
هذا شيء وشيء وشيء،
قول الإمام الشافعي أيضاً: ((ما من مسلم إلا وتخفى عليه سنّة من سنّة النبي صلى الله عليه وسلّم فهما أصّلت من أصل أوقلت من قول، وقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم، فخذوا بقوله صلى الله عليه وسلّم ودعوا قولي))،
أو قال: (فاضربوا بقولي عرض الحائط) هذا هو موقف العلماء.
والذين يقولون بأن هذا الحديث كان تحت بصر العلماء ومع ذلك لم يأخذوا به إنما يتهمونهم في دينهم وهم يشعرون أو لا يشعرون ما أدرى، لعلهم يريدون أن ينقذوا أنفسهم من المخالفة في طريق أن يرموا الأئمة في المخالفة حتى تبرأ ذمتهم بزعمهم من العمل بهذا الحديث الصحيح.
خلاصة الكلام:
هب أن هذا الحديث أو أي حديث آخر كان تحت بصر إمام أو أئمة من أئمة المسلمين، هل يجوز لمن بلغه هذا الحديث الذي يقطع بأنه كان قد علم به بعض علماء المسلمين ولكنه لرأي له لاجتهاد له لم يعمل به، أفيجوز لمن ثبت عنده وثبت وجوب العمل به أن يدع الحديث لأن فلان وفلان من العلماء لم يأخذوا بهذا الحديث؟
الجواب أيضا معروف من كلمات الأئمة الأربعة، والتي منها وقد اتفقوا عليها:
((إذا صح الحديث فهو مذهبي))
ومعلوم بصورة تفصيلية من رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى، وهي بعنوان:
(رفع الملام عن الأئمة الأعلام)
فإن الباحث في السنَّة، والباحث في أقوال الأئمة الأربعة فضلا عن غيرهم يجد كل واحد منهم قد ترك العمل بحديث ما ونستعير العبارة التي نقلها آنفاً لكي نضعها في موضعها، نعلم أن بعض الأحاديث كانت تحت بصرهم ومع ذلك لم يعملوا بتلك الأحاديث لكنها قد وصلت إلينا دون أن يصل إلينا ما يعارضها فهل نحن ندع العمل بها لأنهم تركوا العمل بها وقد كانت تحت بصرهم فعلاّ؟
والحمد لله رب العالمين
تعليق