بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين الى قيام يوم الدين .
إن غيرة الرجل على أهله هي أحد الامور الفطرية والاساسية التي حث عليها الاسلام الحنيف وأكد عليها لصيانة المجتمع المسلم من الانحراف والانجرار نحو الزنا والفساد وباقي الامور المحرمة .
ومن المعلوم ان الله سبحانه وتعالى قد بعث خاتم الانبياء الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ليحث على مثل هذه الأخلاق الحميدة فقال تعالى واصفا نبيه : (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) . (سورة القلم / الاية 4) . ولقد أكد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأيد القرآن الكريم معرفا ومبينا لاحد أهداف بعثة الله له وللانبياء السابقين فقال : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) .
وممن تعلم من نبع هذه الاخلاق الالهية النبوية واستقى منها هو الامام الحسين (عليه السلام) فلقد كان غيورا على حرمه وعياله ، وكذلك كان غيورا أشد الغيرة على دينه وعقيدته - كغيرة أبيه علي وأخيه الحسن (عليهما السلام) - في زمن كانت الغيرة قد ماتت عند أغلب الرجال وباعوا دينهم بملذات الدنيا وخسروا الدنيا والاخرة . فبذل الامام الحسين (عليه السلام) دمه الطاهر ودماء أهل بيته واصحابه (عليهم السلام) وقاد نسائه وأطفاله كل ذلك لاجل امتلاكه لهذه الغيرة الفطرية والمؤهلات الايمانية التي بها حافظ على دين وشريعة جده الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من الاندراس والضياع .
والان سوف نشرع في بيان مفهوم وتعريف الغيرة في اللغة والاصطلاح ، ثم نبين أنقسام الغيرة الى ممدوحة ومذمومة ، ونبين أقسام الغيرة المذمومة وأقسام الغيرة الممدوحة .
=== تعريف الغيرة :
أ - معنى الغَيْرة لغةً :
الغَيْرة بالفتح المصدر من قولك: غار الرجل على أَهْلِه والمرأَة على بَعْلها تَغار غَيْرة وغَيْرًا وغارًا وغِيارًا والغَيْرة هي الحَمِيَّة والأنَفَة . مختار الصحاح للرازي ص 232 . ولسان العرب لابن منظور ج 5 ص 34 .
ب - معنى الغَيْرة اصطلاحًا:
الغَيْرة: كراهة الرجل اشتراك غيره فيما هو حقه . المصدر : الكليات لابي البقاء الكفوي ص671 . وبنحوه قال الجرجاني : ( الغيرة : كراهة شركة الغير في حقه ) التعريفات ص 163 .
- وقال الراغب الأصفهاني : (الغَيْرة : ثوران الغضب حماية على أكرم الحرم ، وأكثر ما تراعى في النساء) . المصدر : الذريعة الى مكارم الشريعة ص 347 .
=== انقسام الغيرة إلى ممدوحة ومذمومة :
إن الغيرة ممدوحة عموماً ، ولكن هناك غيرة مذمومة ، ومنها :
1- غيرة النساء : إن غيرة النساء - في بعض الحالات - تكون في غير محلها ، فإذا قام الزوج بأي عمل ؛ يفسر تفسيراً غير شرعي ... هذا المعنى موجود في عامة النساء ، من باب حب التفرد ... ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله : (غَيْرَةُ الْمَرْأَةِ كُفْرٌ ، وَغْيْرَةُ الرَّجُلِ إيمَانٌ) ؛ فهي في بعض الأوقات تطلب من الرجل ما يتجاوز الحكم الشرعي ... إذن ، هذه غيرة مذمومة.
2- غيرة الرجل من دون سبب : إن هذه الحالة عند الرجال ، هي من الغيرة المذمومة أيضاً .
أ- عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) قال : (من الغيرة ما يحب الله ، ومنها ما يكره الله ... فأما ما يحب ؛ فالغيرة في الريبة ... وأما ما يكره ؛ فالغيرة في غير ريبة) ... الرواية جداً صريحة وجميلة ، فروايات أهل البيت (عليهم السلام) تقسم الأمور تقسيماً جميلاً ...
- ( فأما ما يحب ؛ فالغيرة في الريبة) ... أي إذا كان هناك حركة غير طبيعية ، مشكوك فيها ، أو إذا كان هناك أمر مريب ؛ هنا يجب على الإنسان أن يغار ... كأن يرى ابنته - مثلاً- تحدث شاباً !.. عندئذ يشك في الأمر، فيسألها عنه وعن صلتها به .
- (وأما ما يكره ؛ فالغيرة في غير ريبة) ... مثال ذلك : كأن يمشي الرجل مع زوجته في مكان عام ، وإذا به يقول لها : لماذا تنظرين إلى الرجال؟.. من أين علم أن هذه الزوجة المؤمنة تنظر نظرة محرمة ؟.. فالإنسان عندما ينظر في مكان مفتوح ، يمكن أن يحدق في حرام ، ويمكن أن ينظر بشكل عام ... فإذن ، إذا الجو لم يكن فيه ريبة ، لا معنى لهذه الغيرة !..
ب- يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن (عليه السلام) : (إياك والتغاير في غير موضع الغيرة !.. فإن ذلك يدعو الصحيحة منهن إلى السقم) ...
- (إياك والتغاير في غير موضع الغيرة) !.. التغاير يعني بذل الغيرة في غير موضع الغيرة.
- (فإن ذلك يدعو الصحيحة منهن إلى السقم) ... عندما يلقن الزوج زوجته بأنها غير عفيفة - وهي بريئة - ؛ فإن هذه المرأة بعد فترة يذهب حياؤها ... فيكون هو - من دون أن يشعر- قد لقنها ذلك ؛ عندئذ من الممكن أن ترتكب الحرام ... لأن الشيطان يدخل على الخط ، فتقول بلسان حالها : مادام الزوج يشك فيك ، ولا يرى لك عفة ؛ فافعلي ما تشاءين !.. بعض الأوقات الإنسان بسوء تصرفه ، يحول زوجته أو ابنته إلى سقيمة .
=== عدم الغيرة والحمية :
وهو الاهمال في محافظة ما يلزم محافظته : من الدين ، والعرض ، والأولاد ، والاموال . وهو من نتائج صغر النفس وضعفها ، ومن المهلكات العظيمة ، وربما يؤدي إلى الدياثة والقيادة . قال رسول الله (ص) : "اذا لم يغر الرجل فهو منكوس القلب ". وقال (ص) : " إذا غير الرجل في اهله أو بعض مناكحه من مملوكته فلم يغر، بعث الله إليه طائراً يقاله (القندر) حتى يسقط على عارضة بابه ، ثم يمهله اربعين يوماً ، ثم يهتف به : ان الله غيور يحب كل غيور، فان هو غار وغير وانكر ذلك فاكبره ، والا طار حتى يسقط على رأسه فيخفق بجناحيه على عينيه ثم يطير عنه ، فينزع الله منه بعد ذلك روح الايمان ، وتسميه الملائكة : الديوث ". وقال (ص) : " كان إبراهيم غيوراً وانا اغير منه ، وجدع الله انف من لا يغار على المؤمنين والمسلمين ". وقال أمير المؤمنين (ع) : " يا أهل العراق : نبئت ان نساءكم يدافعن الرجال في الطريق ، اما تستحيون؟ ". وقال (ع) : " اما تستحيون ولا تغارون ، نساؤكم يخرجن إلى الاسواق ويزاحمن العلوج؟ ".
=== (الغيرة والحمية) :
الغيرة والحمية : وهي السعي في محافظة ما يلزم محافظته ، وهو من نتائج الشجاعة وكبر النفس وقوتها . وهي شرائف الملكات ، وبها تتحقق الرجولية والفحلية ، والفاقد لها غير معدود من الرجال . قال رسول الله (ص) : " ان سعداً لغيور، وأنا أغير من سعد ، والله أغير مني ". وقال (ص) : " ان الله لغيور، ولاجل غيرته حرم الفواحش " وقال : " ان الله يغار، والمؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي الرجل المؤمن ما حرم الله عليه ". وقال الصادق (ع) : " ان الله تعالى غيور ويحب الغيرة ، ولغيرته حرم الفواحش ظاهرها وباطنها ".
=== أقسام الغيرة الممدوحة : (الغيرة على الدين والحريم والاولاد) :
مقتضى الغيرة والحمية في (الدين) ان يجتهد في حفظه عن بدع المبتدعين ، وانتحال المبطلين ، وقصاص المرتدين ، واهانة من يستخف به من المخالفين ، ورد شبه الجاحدين ، ويسعى في ترويجه ونشر أحكامه ، ويبالغ في تبيين حلاله وحرامه ، ولا يتسامح في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومقتضى الغيرة على (الحريم) ألا يتغافل عن مباديء الامور التي تخشى غوائلها ، فيحفظهن عن اجانب الرجال ، ويمنعهن عن الدخول في الاسواق . ومن قول رسول الله (ص) لفاطمة (ع) : " أي شيء خير للمرأة ؟ فقالت : أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل . فضمها اليه ، وقال : ذرية بعضها من بعض". فلقنت فاطمة الزهراء (عليها السلام) درسا أخلاقيا للنساء في المحافظة على العفة والحجاب التي هي أساس الحياء عند المرأة .
================================
=== الغيرة الإسلامية عند الإمام الحسين (عليه السلام) :
الغيرة أو الحمية : هي السعي في محافظة ما يلزم محافظته ، وهي من نتائج الشجاعة وكِبَر النَّفسِ وقوّتها (1) .
قال أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) : (( على قدر الحميّة تكون الشجاعة )) (2) .
وقال (سلام الله عليه) أيضاً : (( ثمرة الشجاعة الغيرة )) (3) .
والغيرة هي من شرائف الملكات ، وبها تتحقَّق الرجولية ، والفاقد لها غير معدود من الرجال (4) . وهي تُعبِّر ـ فيما تُعبِّر عنه ـ عن الاعتزاز بالشرف والكرامة ، وعن اليقظة والمروءة والنخوة ، وهذه من مثيرات الشجاعة ، ومن دواعي رفض العدوان .
ومقتضى الغيرة والحمية في الدين أن يجتهد المرء في حفظه عن بِدَع المبتدعين ، وانتحال المبطلين ، وإهانة مَن يستخف به من المخالفين ، وردِّ شُبَه الجاحدين ، ويسعى في ترويجه ، ولا يتسامح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومقتضى الغيرة على الحريم ألاَّ يتغافل عن حفظهنَّ عن أجانب الرجال ، وعن الاُمور التي تُخشى غوائلها ، ويمنعهنَّ عن جميع ما يمكن أن يُؤدِّي إلى فساد وريبة .
وأما مقتضى الغيرة على الأولاد فأن تراقبهم من أول أمرهم ، فإذا بدأت فيهم خمائل التمييز فينبغي أن يُؤدَّبوا بآداب الأخيار ، ويُعلَّموا محاسن الأخلاق والأفعال ، والعقائد الحقَّة (5) .
ولأهمية الغيرة في حفظ المقدَّسات ، وسلامة الاُمّة وشرف كرامتها ، جاءت الآيات الكريمة والأحاديث المنيفة تُؤكَّد عليها ، وتبيِّن فضائلها ، وتدعو إليها ؛ إذ هي خُلق من أخلاق الله تبارك وتعالى ، ومن أخلاق الأنبياء والمرسلين ، والأئمة الهداة المهديين (صلوات الله عليهم أجمعين) .
قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) : (( ألا وإنَّ الله حرَّم الحرام ، وحدَّ الحدود ، وما أحدٌ أغير من الله . ومن غيرته حرَّم الفواحش )) (6) .
وعنه (صلَّى الله عليه وآله) أيضاً قال : (( إنِّي لغيور ، واللهُ (عزَّ وجلَّ) أغير مني . وإنَّ الله تعالى يُحبُّ من عباده الغيور )) (7) .
والغيرة مُفْصِحة عن الإيمان ؛ لقول المصطفى (صلَّى الله عليه وآله) : (( إنَّ الغيرة من الإيمان )) (8) .
وهي من نتائج القوة الغضبية في الإنسان ، قد تنتج مساوئ أخلاقية ؛ كالتهوُّر ؛ وسوء الظن ؛ والغضب المذموم ، وقد تنتج محاسن أخلاقية ؛ كالغضب لله تعالى ، والشجاعة ؛ والعزَّة والإباء .
وقد عُرف الإمام الحسين (عليه السّلام) بخُلق الغيرة على الدين والحريم والأولاد , وهو الذي تربَّى في ظل أغير الناس ؛ جده المصطفى ، وأبيه المرتضى ، وأُمّه فاطمة الزهراء (صلوات الله عليهم) . وعاش في بيت العصمة والطهارة والنجابة ، والشرف المؤبَّد والكرامة ، ونشأ في أهل بيت لم تنجِّسهم الجاهليّة بأنجاسها ، ولم تُلبسهم من مُدلهمَّات ثيابها ؛ فالنبي (صلَّى الله عليه وآله) كان ـ كما يقول الإمام علي (عليه السّلام) : ـ (( لا يُصافح النساء . فكان إذا أراد أن يبايع النساء اُتي بإناء فيه ماء فغمس يده ، ثمَّ يخرجها ، ثمَّ يقول : أغمسنَ أيديكنَّ فيه , فقد بايعتكنَّ )) (9) .
أمَّا ابنته فاطمة (صلوات الله عليها) فقد سألها أبوها (صلَّى الله عليه وآله) يوماً : (( أي شيءٍ خيرٌ للمرأة ؟ )) . فقالت : (( أن لا ترى رجلاً ، ولا يراها رجل )) . فضمَّها إليه وقال : (( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ))(آل عمران / 34) (10) .
وأمّا أمير المؤمنين (سلام الله عليه) فيكفي ما ذكره يحيى المازني ، حيث قال : كنتُ جوار أمير المؤمنين (عليه السّلام) مدة مديدة ، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته ، فوالله ما رأيت لها شخصاً ، ولا سمعتُ لها صوتاً . وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) تخرج ليلاً ، والحسنُ عن يمينها ، والحسينُ عن شمالها ، وأمير المؤمنين أمامها . فإذا قَرُبت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين (عليه السّلام) فأخمد ضوء القناديل ، فسأله الحسن مرةً عن ذلك ، فقال : (( أخشى أن ينظر أحد إلى شخص اُختك زينب )) (11) .
هذه الخَفِرة عقيلة بني هاشم (سلام الله عليها) ، كان لا بدّ ـ من أجل إنقاذ الدين ، وفضح الجاهليِّين ـ أن تخرج إلى كربلاء ؛ لتُثبت أنَّ بني اُميّة لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة ، ولا يحفظون حرمةً لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ؛ حيث أُسرت بناته في كربلاء ، وساقهنَّ أعداء الله في مسيرة وعرة إلى الكوفة ، ثمَّ إلى الشام ، في حال من الجوع والإعياء ، واُسكنَّ الخرائب مقيَّدات بالحبال .
ويأبى ذلك لهنَّ كل غيور له غيرة على الدين ؛ حيث لا ينقذ الدين إلاَّ في موقف يُقتل فيه حزب الله النجباء ، بيد حزب الشيطان الطلقاء ، وتُؤسر فيه بنات الرسالة ، ويُقضي الأطفال بين الجوع والعطش والهلع ، وحوافر الخيل ؛ والضياع في الصحارى . إنّ كل ذلك من أجل الدين الذي دونه الأنفس وكل عزيز .
ولقد كان الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أغير الناس على دين الله ؛ فأقدم على ما أحجم عنه غيره ، وقدَّمَ ما بَخِلَ به غيره . وقد شهدت له مواقف كربلاء أنه الغيور الذي لم تشغله الفجائع ، ولا أهوال الطفِّ عن حماسة حرم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) .
في يوم العاشر ، وبعد أن قُتِل جميع أنصار الحسين (عليه السّلام) ، وأصحابه وأهل بيته (عليهم السّلام) ، وقُبيل الاشتباك بالآلاف ؛ صاح عمر بن سعد بالجمع : هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتَّال العرب ، احملوا عليه من كل جانب .
فأتته (عليه السّلام) أربعة آلاف نَبْلَة (12) ، وحال الرجال بينه وبين رَحْله ، فصاح بهم : (( يا شيعة آل أبي سفيان ، إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم , وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون )) .
فناداه شمر : ما تقول يابن فاطمة ؟
قال : (( أنا الذي أُقاتلُكم ، والنساء ليس عليهنَّ جُناح ، فامنعوا عُتاتكم عن التعرُّض لحرمي ما دمت حيَّاً )) .
فقال الشمر : لك ذلك .
وقصده القوم ، واشتد القتال ، وقد اشتدَّ به العطش (13) .
قيل : وقصده القوم من كل جانب ، وافترقوا عليه أربع فِرق ، من جهاته الأربع :
فِرقَة بالسيوف : وهم القريبون منه .
وفِرقَة بالرماح : وهم المحيطون به .
وفِرقَة بالسهام والنبال : وهم الذين في أعالي التلال ورؤوس الهضاب .
وفِرقَة بالحجارة : وهم رَجْلة العسكر .
ازدحم عليه العسكر ، واستعر القتال ، وهو يقاتلهم ببأس شديد وشجاعة لا مثيل لها (14) .
وحمل (عليه السّلام) من نحو الفرات على عمرو بن الحجاج ـ وكان في أربعة آلاف ـ فكشفهم عن الماء ، وأقحم الفَرَس الماء ، فلمَّا مدَّ الحسين (عليه السّلام) يده ليشرب ، ناداه رجل : أتلتذُّ بالماء وقد هُتِكَت حرمك ؟! فرمى الماء ولم يشرب ، وقصد الخيمة (15) .
وفي رواية الشيخ الدربندي (رحمه الله) : فنفض الماء من يده ، وحمل (عليه السّلام) على القوم فكشفهم ، فإذا الخيمة سالمة .
إنّ الإمام (عليه السّلام) كان سيد سادات أهل النفوس الأبيَّة ، والهمم العالية ، فلمَّا سمع أنّ المنافقين يذكرون اسم الحرم والعترة الطاهرة كفَّ نفسه عن شرب الماء بمحض ذكرهم هذا ؛ فقد سَنَّ (روحي له الفداء) لأصحاب الشِّيَم الحميدة والغيرة سنّةً بيضاء ، وطريقةً واضحة في مراعاة الناموس والغيرة (16) .
وهذه خصيصة شريفة اُخرى من الخصائص الحسينيّة ؛ حيث وقف عليها الشيخ التُسْتري (أعلا الله مقامه) ، فقال : ومنها الغيرة بالنسبة إلى النفس ، وبالنسبة إلى الأهل والعيال .
أمّا بالنسبة إلى النفس فأقواله في ذلك ـ شعره ونثره ونظمه حين حملاته ـ معروفة ، وأفعاله الدالة على ذلك كثيرة . لكن قد أقرح القلب واحد منها ، وهو أنه (عليه السّلام) لمَّا ضَعُف عن الركوب ؛ لضربة صالح بن وهب ، نزل ـ أو سقط ـ عن فرسه على خدِّه الأيمن ، فلم تدعه الغيرة للشماتة ، والغيرة على العيال لأن يبقى ساقطاً ، فقام (صلوات الله عليه) ، وبعد ذلك أصابته صدمات أضعفته عن الجلوس ، فجعل يقوم مرة ويسقط اُخرى ؛ كل ذلك لئلاَّ يروه مطروحاً فيشمتون .
وأمّا بالنسبة إلى العيال فقد بذل جهده في ذلك في حفر الخندق واضطرام النار فيه ، وقوله : (( اقصدوني دونهم )) . ووصلت إلى أنَّه صبَّ الماء الذي في كفه ، وقد أدناه إلى فمه وهو عطشان ؛ لمَّا سمع القول بأنَّه : قد هُتِكَت خيمة حرمك (17) .
وحينما عاد الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى المُخيمَّ ، ورَامَ توديع العيال الوداع الثاني ؛ ليُسْكِن روعتهم ، ويُخفِّف لوعتهم ، ويُصبِّرهم على فِراقه ؛ قال عمر بن سعد لأصحابه : ويحكم ! اهجموا عليه ما دام مشغولاً بنفسه وحَرَمِه ؛ والله إن فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم .
فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتّى تخالفت السهام بين أطناب المُخيمَّ ، وشكَّ سهم بعض أزر النساء ، فدُهشن وأُرْعِبن وصحن , ودخلن الخيمة ينظرن إلى الحسين كيف يصنع ، فحمل عليهم كالليث الغضبان ، فلا يلحق أحداً إلاَّ بعجه بسيفه فقتله ، والسهام تأخذه من كل ناحية ، وهو يتَّقيها بصدره ونحره (18) .
ورجع إلى مركزه يُكثر من قول : (( لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العظيم )) (19) .
بـأبـي مـن رسـيم ضـيمٍ فأبى
أن يُـسام الـضيمَ واخـتار الردى
كـيف يـأوي الـضيمُ مـنه جـانباً
هــو مــأوى كـلِّ عـزٍّ وإبـا
فـغدا يـسطو عـلى جَـمْعِ العِدى
مـثل صـقرٍ شـدَّ في سربِ القَطا
شـبـلُ آســادٍ إذا مـا غـضبوا
زلزلوا الأرضَ بحملات الوَغى (20)
* * *
يـلقى كـتائبَهمْ بـجأشٍ طـامنٍ
والـصدرُ في ضيقِ المجالِ رحيبُ
ويـرى إلى نحو الخيامِ ونحوهمْ
مـن طـرفه التصعيد والتصويبُ
لـلمشرفيّةِ والـسهامُ بـجسمه
والـسمهريّةِ لـلجراحِ ضـروبُ
حتّى هوى فوقَ الصعيدِ وحان من
بدرِ التمامِ عن الأنامِ غروبُ (21)
ثمَّ إنَّ الإمام الحسين (عليه السّلام) لمَّا سقط ولده علي الأكبر (عليه السّلام) أتاه مُسرعاً وانكبّ عليه ، بعد أن كشف عنه قَتَلَته ، فوضع خدّه على خدّه وقال : (( على الدنيا بعدك العَفا ! يَعِزُّ على جدّك وأبيك أن تدعوهم فلا يُجيبونك ، وتستغيث فلا يُغيثونك )) (22) .
ولمَّا ضرب عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي رأس القاسم ابن الإمام الحسن (عليه السّلام) بالسيف وقع الغلام لوجهه ؛ فقال : يا عمّاه ! فأتاه الحسين (عليه السّلام) كالليث الغضبان ، فضرب عمراً بالسيف ، فاتّقاه بالساعد ، فأطنَّها (23) من المرفق ، وانجلت الغُبرة ؛ وإذا الحسين (عليه السّلام) قائم على رأس الغلام ، وهو يفحص برجليه ، والحسين (عليه السّلام) يقول : (( بُعداً لقوم قتلوك ، خصمهم يوم القيامة جدُّك )) . ثمَّ قال : (( عَزَّ ـ والله ـ على عمِّك أن تدعوه فلا يُجيبك ، أو يُجيبك ثمَّ لا ينفعك )) (24) .
وروى بعضهم أنَّ الإمام الحسين (عليه السّلام) لمَّا أُصيب بالسِّهَام والحجارة ، وأعياه نزف الدم ، سقط على الأرض لا يقوى على القيام والنهوض ، فلبثوا هنيئة وعادوا إليه وأحاطوا به ، فنظر عبد الله بن الحسن السبط (عليه السّلام) ـ وله إحدى عشرة سنة ـ إلى عمِّه ، وقد أحدق به القوم ، فأقبل يشتد نحو عمِّه , وأرادت زينب حبسه ، فأفلت منها وجاء إلى عمِّه ، وأهوى بحر بن كعب بالسيف ليضرب الحسين (عليه السّلام) ، فصاح الغلام : يابن الخبيثة ! أتضرب عمِّي ؟
فضربه ، واتّقاها الغلام بيده , فأطنَّها إلى الجلد ، فإذا هي معلَّقة ، فصاح الغلام : يا عمَّاه ! ووقع في حجر الحسين (عليه السّلام) ، فضمه إليه وقال : (( يابن أخي ، اصبر على ما نزل بك ، واحتسب في ذلك الخير ؛ فإنَّ الله تعالى يلحقك بآبائك الصالحين )) (25) . وأخذه الإعياء فلا تقوى جوارحه من شدة النزف على أن يجلس .
روى بعضهم أنَّ أعداء الله أرادوا أن يتأكَّدوا من عجزه عن القيام لمواجهتهم ، فنادوا عليه بأنَّ رحله قد هُتك ، فقام وسقط ، وحاول النهوض ؛ غيرة على عياله , فسقط ، وجاهد ذلك ثالثة فسقط ؛ حينذاك اطمئنوا أنَّه لا يقوى على قيام .
وقد قال الشيخ التُّسْتَري في (خصائصه) : وكان (عليه السّلام) حين وقوعه صريعاً مطروحاً ، يسعى لتخليص أهله ومَن يجيء إليه ، فهو المطروح الساعي (26) .
=================
(*) تجدر الإشارة إلى أنّ بعض هذا المقال مُقتبَس من كتاب الأخلاق الحسينيّة , للمؤلِّف نفسه , مع مراجعة وضبط النص (موقع معهد الإمامين الحسنين) . والبعض الأخر من إعدادي الشخصي .
(1) جامع السعادات 1 / 265 , باب الغيرة والحمية .
(2) غُرَر الحِكَم .
(3) غُرَر الحِكَم .
(4) جامع السعادات 1 / 265 .
(5) يراجع في تفصيل ذلك وبيانه المصدر السابق .
(6) أمالي الصدوق : 257 .
(7) كنز العمال ـ الخبر 7076 .
(8) مَن لا يحضره الفقيه 3 / 381 .
(9) تحف العقول / 457 .
(10) المناقب ، عن (حلية الأولياء) لأبي نعيم ، ومسند أبي يعلى .
(11) زينب الكبرى (عليها السّلام) / 22 .
(12) المناقب 2 / 223 .
(13) اللهوف / 67 .
(14) إبصار العين ـ للشيخ السماوي .
(15) مقتل العوالم ـ للشيخ عبد الله البحراني / 98 ، ونَفَس المهموم / 188 .
(16) في كتابه (أسرار الشهادة) / 411 .
(17) الخصائص الحسينيّة / 37 ـ 38 .
(18) مثير الأحزان ـ للشيخ شريف آل صاحب الجواهر .
(19) اللهوف / 67 .
(20) من قصيدة للسيد محسن الأمين في كتابه (الدر النضيد في مراثي السبط الشهيد) / 5 .
(21) له أيضاً في المصدر نفسه / 26 .
(22) تاريخ الطبري 6 / 265 ، ومقتل العوالم / 95 .
(23) أي : قطعها .
(24) تاريخ الطبري 6 / 257 ، والبداية والنهاية 8 / 186 .
(25) تاريخ الطبري 6 / 259 ، واللهوف / 68 .
(26) الخصائص الحسينيّة / 42 .
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم يا كريم .