قال -تعالى-: ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ ﴾ [ص: 30]
منح الذرية الصالحة الماجدة من أعظم هبات الله لعبده.
﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 30]
الوصف الأول: وصف يستحق أن يمدح من أجله، وهو تحققه بالعبودية لربه، وهذا يستحق من أجله أن يقول الله بشأنه: ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ ﴾[ص: 30].
الوصف الثاني: بيان أنه أوَّاب؛ أي: رجَّاع إلى الله بالاستغفار والتوبة وذكر الله.
لقد ورث سليمان عن داود - عليهما السلام - خلافة إيمانية، ودولة قوية، ومملكة متكاملة؛ فحافظ عليها، وقوَّاها ووسَّع رقعتها، وضم لها بقاعًا أخرى، وطبَّق فيها شرع الله، وأسعد الناس، وسار بهم في طريق مرضاة الله.
وبلغت المملكة الإسرائيلية في عهد داود ثم سليمان - عليهما السلام - الذروة والأوج والقمة، وبعد وفاة سليمان - عليه السلام - بدأت المملكة تضعف، وابتعد الناس عن مرضاة الله، وساروا في طريق معصيته، وانتهى الأمر بإزالة هذه الدولة بسبب كفر اليهود بالله - تعالى[9].
ومن حسن نظامه وعلو همته وحزمه: تفقد الجنود بنفسه، مع أنه قد جعل لهم مديرين؛ فإن قوله: ﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ [النمل: 17] دليل على ذلك، حتى إنه تفقد الطير لينظر هل هي لازمة لمراكزها؟[10]
وتفقُّد الجند من شعائر الملك والأمراء، وهو من واجبات ولاة الأمور: تفقد أحوال الرعية، وتفقد العمال ونحوهم بنفسه، ويؤخذ من هذا جواز عقاب الجندي إذا خالف ما عين له من عمل أو تغيب عنه[15]، إن تفقد سليمان - عليه السلام - لهذا الهدهد سمة من سمات شخصيته: سمة اليقظة والدقة والحزم؛ فهو لم يَغفُل عن غَيبة جندي من هذا الحشد الضخم من الجن والإنس والطير، ويعلم الجميع من سؤال سليمان - عليه السلام - عن الهدهد أنه غائب بغير إذن، وحينئذٍ يتعيَّن أن يأخذ الأمر بالحزم؛ كي لا تكون الأمور فوضى، ومن ثم نجد سليمان الملك الحازم يتهدَّد الجندي[16].
وأكد عزمه على عقابه بتأكيد الجملتين: "لأعذبنَّه، ولأذبحنَّه" باللام المؤكدة، التي تسمى لام القسم، وبنون التوكيد؛ ليعلم الجند ذلك حتى إذا فقد الهدهد ولم يرجع؛ يكون ذلك التأكيد زاجرًا لباقي الجند عن أن يأتوا بمثل فعلته، فينالهم العقاب[17] هذه الفقرة مكررة.
ثانيًا: علو همته - عليه السلام - في الثبات على المبدأ:
قال -تعالى-: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [النمل: 36، 37].
ثالثًا: علو همته في طلب رضا ربه - عز وجل -:
وتكمن علو همته في هذا الأمر في قوله -تعالى-: ﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19]؛ ففي هذه الآية طلب سليمان - عليه السلام - من ربه ثلاثة أمور:
الأول: أن يلهمه الله -تعالى- ويوفقه لشكر النعم التي أنعم الله بها عليه، وعلى والديه.
الثاني: أن يوفِّقه لكل عمل صالح يحبه الله ويرضاه.
الثالث: أن يُدخِله الجنة مع عباده الصالحين.
فانظر إلى هذه المطالب العالية، والأهداف السامية، التي تدل بكل وضوح على علو همته وقوة عزيمته.
﴿ أَوْزِعْنِي ﴾: اجعلني أزع شكر نعمتك عندي،
﴿ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ﴾؛ فذلك لأنه عدَّ نعم الله -تعالى- على والديه نعمة عليه.
ومعنى قوله: ﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ﴾ طلب الإعانة في الشكر وفي العمل الصالح.
ثم قال: ﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19]، فلما طلب في الدنيا الإعانة على الخيرات، طلب أن يجعل في الآخرة من الصالحين.
تعليق