"قوم صالح" وهم الذين عاشوا في وادي القرى بين المدينة والشام، حسب ما تنقله التواريخ عنهم.
ونرى هنا أيضاً أنّ القرآن حين يتحدث عن نبيهم "صالح" يذكره على أنّه أخوهم، وأي تعبير أروع وأجمل
أخ محترق القلب ودود مشفق ليس له هدف إلاّ الخير لجماعته
(وإلى ثمود أخاهم صالحاً).
ونجد أيضاً أنّ منهج الأنبياء جميعاً يبدأ بمنهج التوحيد ونفي أي نوع من أنواع الشرك وعبادة الأوثان التي هي أساس جميع المتاعب (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).
ولكي يحرك إحساسهم بمعرفة الحق أشار إلى عدد من نعم الله المهمّة التي استوعبت جميع وجودهم فقال: (هو انشأكم من الأرض).
فأين هذه الأرض والتراب الذي لا قيمة له، وأين هذا الوجود العالي والخلقة البديعة ؟
ترى هل يجيز العقل أن يترك الإنسان خالقه العظيم الذي لديه هذه القدرة العظيمة وهو واهب هذه النعم، ثمّ يمضي إلى عبادة الأوثان التي تثير السخرية.
ثمّ يُذكّر هؤلاء المعاندين بعد أن أشار إلى نعمة الخلقة بنعم أُخرى موجودة في الأرض حيث قال: (واستعمركم فيها).
وأصل "الإستعمار" و "الإعمار" في اللغة يعني تفويض عمارة الأرض لأي كان، وطبيعي أنّ لازم ذلك يجعل الوسائل والأسباب في اختيار من يفوّض إليه ذلك تحت تصرفه!
وعلى كل حال فهذا الموضوع يصدق بمعنييه في ثمود، حيث كانت لديهم أراض خصبة وخضراء ومزارع كثيرة الخيرات والبركات، وكانوا يبذلون في الزراعة ابتكارات وقدرات واسعة، وإلى ذلك كله كانت أعمارهم مديدة وأجسامهم قويّة وكانوا متطورين في بناء المساكن والبيوت، كما يقول القرآن الكريم: (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين)
((جواب قومه ))
الآن لنلاحظ ما الذي كان جواب المخالفين لنبيّ الله "صالح (عليه السلام) " إزاء منطقه الحي الداعي إلى الحق.
لقد استفادوا من عامل نفسي للتأثير على النّبي "صالح" أو على الأقل للمحاولة في عدم تأثير كلامه على المستمعين له من جمهور الناس،
فقالوا: (يا صالح قد كنت فينا مرجوّاً قبل هذا) وكنّا نتوجه إليك لحل مشاكلنا ونستشيرك في أُمورنا ونعتقد بعقلك وذكائك ودرايتك، ولم نشك في إشفاقك واهتمامك بنا، لكن رجاءنا فيك ذهب ادراج الرياح، حيث خالفت ما كان يعبد آباؤنا من الأوثان وهو منهج اسلافنا ومفخرة قومنا، فأبديت عدم احترامك للأوثان وللكبار وسخرت من عقولنا (اتنهانا عمّا كان يعبد آباؤنا) والحقيقة أننا نشكُّ في دعوتك للواحد الأحد (وإننا لفي شك ممّا تدعونا إليه مريب).
نجد هنا أن القوم الضّالين يلتجؤون تحت غطاء الاسلاف والآباء الذين تحيط بهم هالة من القدسية لتوجيه أخطائهم وأعمالهم وأفكارهم غير الصحيحة، وهو ذلك المنطق القديم الذي كان يتذرع به المنحرفون وما زالوا يتذرعون به في عصر الذّرة والفضاء أيضاً.
لكن هذا النّبي الكبير لم ييأس من هدايتهم ولم تؤثر كلماتهم المخادعة في روحه الكبيرة فأجابهم قائلاً: (يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربّي وآتاني منه رحمة) أفأسكت عن دعوتي ولا أبلغ رسالة الله ولا أواجه المنحرفين (فمن ينصرني من الله إن عصيته)..
ولكن اعلموا أن كلامكم هذا واحتجاجكم بمنهج السلف والآباء لا يزيدني إلاّ إيماناً بضلالتكم وخسرانكم: (فما تزيدونني غير تخسير..).
وبعد هذا كلّه ومن أجل البرهان على صدق دعوته، وبيان المعاجز الإلهية التي دونها قدرة الإنسان جاءهم بالناقة التي هي آية من آيات الله وقال: (ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية) فاتركوها وذروها تأكل في أرض الله (ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم).
ناقة صالح:
"النّاقة" في اللغة هي اُنثى الجمل، وهي الآية الآنفة في آيات أُخرى أُضيفت إلى لفظ الجلالة "الله"
هناك احتمالان:
الأوّل: إنّ الناقة كانت تشرب ماءً كثيراً بحيث تأتي على ماء "النبع" كله.
والثاني: إنّه حين كانت ترد الماء لا تجرؤ الحيوانات الأُخرى على الورود إلى الماء معها.
[SIZE=5]
فمع جميع ما أكّده نبيّهم العظيم "صالح" في شأن الناقة، فقد صمّموا أخيراً على القضاء عليها، لأنّ وجودها مع مافيها من خوارق مدعاة لتيقظ الناس والتفافهم حول النّبي صالح، لذلك فإنّ جماعة من المعاندين لصالح من قومه الذين كانوا يجدون في دعوة صالح خطراً على مصالحهم، ولا يرغبون أن يستفيق الناس من غفلتهم فتتعرض دعائم استعمارهم للتقويض والانهيار، فتآمروا للقضاء على الناقة وهيأوا جماعة لهذا الغرض، وأخيراً أقدم أحدهم على مهاجمتها وضربها بالسكين فهوت إلى الأرض (فعقروها).
"عقروها" مشتقة من مادة "العُقر" على وزن "الظلم" ومعناه: أصل الشيء وأساسه وجذره، و"عقرت البعير" معناه نحرته واحتززت رأسه، لأنّ نحر البعير يستلزم زوال وجوده من الأصل، وأحياناً تستعمل هذه الكلمة لطعن الناقة في بطنها.
أو لتقطيع أطراف الناقة بدل النحر وكل ذلك في الواقع يرجع إلى معنى واحد "فتأمل"!...".
العلاقة الدّينية:
الطريف أنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الذي عقر الناقة لم يكن إلاّ واحداً، لكن القرآن ينسب هذا العمل إلى جميع المخالفين من قوم صالح "ثمود" ويقول بصيغة الجمع: (فعقروها) وذلك لأنّ الإسلام يعدّ الرضا الباطني في أمر ما والإرتباط معه ارتباطاً عاطفياً بمنزلة الإشتراك فيه، وفي الواقع فإنّ التآمر على هذا العمل لم يكن له جانب فردي، وحتى ذلك الذي أقدم على عمله لم يكن معتمداً على قوته الشخصيّة فجميعهم كانوا مرتاحين لعمله وكانوا يسندونه، ومن المسلّم أنّه لا يمكن أن يعدّ هذا العمل عملاً فردياً.
بل يعد عملاً جماعياً.
يقول الإمام علي (عليه السلام): "وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم الله بالعذاب لمّا عمّوه بالرضا" (7).
ويقول الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) "لو أنّ رجلاً قُتل في المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند الله عزَّوجلَّ شريك القاتل" (9).
ومن أجل أن نعرف عمق العلاقة الفكرية والعاطفية في الإسلام وسعتها بحيث لا يُعرف لها حد من جهة الزمان والمكان، فيكفي أن نذكر هذا الكلام للإمام علي (عليه السلام) من نهج البلاغة لنلفت إليه الأنظار: "حين انتصر الإمام علي في حرب الجمل على المتمردين ومثيري الفتنة وفرح أصحاب علي بهذا الإنتصار الذي يُعدّ انتصاراً للإسلام على الشرك والجاهلية، قال له أحد أصحابه: "وودت لو أنّ أخي شهدنا هنا في الميدان ليرى انتصارك على عدوك".
فالتفت الإمام (عليه السلام) إليه قائلاً: "أهوى أخيك معنا" فقال: "نعم" فقال الإمام (عليه السلام): "شَهِدنَا" ثمّ قال: "ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان
ولا شك أنّ أُولئك الذين يساهمون في منهج ما ويشتركون فيه ويتحملون كل مشاكله وأتعابه، لهم امتياز خاص، ولكن هذا لا يعني أن الآخرين لم يشتركوا في ذلك أبداً، بل سواءً كانوا في عصرهم أو العصور والقرون المقبلة ولهم ارتباط عاطفي وفكري بهم فهم مشتركون معهم بنحو من الانحاء.
هذه المسألة التي قد لا نجد لها نظيراً في أي مذهب من مذاهب العالم، قائمة على أساس من حقيقة اجتماعية هامة، وهي أن المنسجمون فكرياً وعقائدياً حتى لو لم يشتركوا في منهج معيّن، إلاّ أنّهم سيدخلون قطعاً في مناهج مشابهة له في محيطهم وزمانهم، لأنّ أعمال الناس منعكسة عن أفكارهم، ولا يمكن أن يرتبط الإنسان بمذهب معين ولا يظهر أثره في عمله.
والإسلام منذ الخطوة الأُولى يهتم بايجاد اصلاحات في روح الإنسان ونفسه لإصلاح عمله تلقائياً وعلى ضوء الرّوايات المتقدمة فإنّ أي مسلم يبلغه أنّ فلاناً عمل عملاً صالحاً - أو سيئاً - ينبغي أن يتخذ الموقف الصحيح من ذلك العمل فوراً ويجعل قلبه وروحه منسجمين مع "الصالحات" وأن ينفر من "السيئات" فهذا السعي و"الجد" الداخلي لا شك سيكون له أثر في أعماله، وسيتعمق الترابط بين الفكر والعمل.
وفي نهاية الآية نقرأ أنّ النّبي "صالحاً" بعد أن رأى تمرّد قومه وعقرهم الناقة أنذرهم (فقال تمتعوا في دارك ثلاثة أيّام ذلك وعد غير مكذوب) فهو وعد الله الذي لا يتغير وما أنا من الكاذبين.