رقية النملة
بسم الله
أخرج الحاكم أن أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة القرشي حدثه أن رجلا من الأنصار خرجت به نملة ، فدل أن الشفاء بنت عبد الله ترقي من النملة ، فجاءها فسألها أن ترقيه ، فقالت : و الله ما رقيت منذ أسلمت ، فذهب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي قالت الشفاء ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفاء ، فقال اعرضي علي ، فعرضتها عليه فقال : ( ارقيه ، و علميها حفصة ، كما علمتيها الكتاب ، و في رواية الكتابة ) صححة الالبانى
وفى رواية بلفظ : " دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم و أنا عند حفصة ، فقال لي : ألا تعلمين هذه رقية النملة ، كما علمتها الكتابة ؟ " .
فلم يذكر فيه عرضها الرقية عليه صلى الله عليه وسلم و أمره إياها بالرقية ، و ستعلم أهمية ذلك في فهم الحديث على الوجه الصحيح قريبا إن شاء الله تعالى .
و الرواية الأولى عن كريب بن سليمان الكندي قال :" أخذ بيدي علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم حتى انطلق بي إلى رجل من قريش أحد بني زهرة يقال له : ابن أبي حثمة ، و هو يصلي قريبا منه ، حتى فرغ ابن أبي حثمة من صلاته ، ثم أقبل علينا بوجهه ، فقال له علي بن الحسين : الحديث الذي ذكرت عن أمك في شأن الرقية ؟ فقال : نعم : حدثتني أمي أنها كانت ترقي برقية في الجاهلية فلما أن جاء الإسلام قالت : لا أرقي حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي " أرقي ما لم يكن شرك بالله عز و جل " .
وفى رواية عثمان بن سليمان عن أبيه عن أمه الشفاء بنت عبد الله أنها كانت ترقي برقى الجاهلية ، و أنها لما هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قدمت عليه فقالت : يا رسول الله إني كنت أرقي برقى في الجاهلية ، فقد رأيت أن أعرضها عليك ، فقال : اعرضيها فعرضتها عليه ، و كانت منها رقية النملة ، فقال ارقي بها و علميها حفصة :
بسم الله ، صلوب ، حين يعود من أفواهها ، و لا تضر أحدا ، اللهم اكشف البأس ، رب الناس ، قال : ترقي بها على عود كركم سبع مرات ، و تضعه مكانا نظيفا ، ثم تدلكه على حجر ، و تطليه على النملة
و هذه الطريق مع ضعفها و كذا التي قبلها ، فلا بأس بهما في المتابعات .
غريب الحديث
( نملة ) هي هنا قروح تخرج في الجنب .( رقية النملة ) قال الشوكاني في تفسيرها :
" هي كلام كانت نساء العرب تستعمله ، يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر و لا ينفع ، و رقية النملة التي كانت تعرف بينهن أن يقال للعروس تحتفل و تختضب ، و تكتحل ، و كل شيء يفتعل ، غير أن لا تعصي الرجل " .
كذا قال و لا أدري ما مستنده في ذلك ، و لاسيما و قد بني عليه قوله الآتي تعليقا على قوله صلى الله عليه وسلم : " ألا تعلمين هذه ... " :" فأراد صلى الله عليه وسلم بهذا المقال تأنيب حفصة و التأديب لها تعريضا ، لأنه ألقى إليها سرا فأفشته على ما شهد به التنزيل في قوله تعالى ( و إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا ) الآية " .
و ليت شعري ما علاقة الحديث بالتأنيب لإفشاء السر، و هو يقول :" كما علمتها الكتاب " ، فهل يصح تشبيه تعليم رقية لا فائدة منها بتعليم الكتابة ؟ ! و أيضا فالحديث صريح في أمره صلى الله عليه وسلم للشفاء بترقية الرجل الأنصاري من النملة و أمره إياها بأن تعلمها لحفصة ،
فهل يعقل بأن يأمر صلى الله عليه وسلم بهذه الترقية لو كان باللفظ الذي ذكره الشوكاني بدون أي سند و هو بلا شك كما قال كلام لا يضر و لا ينفع ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أسمى من أن يأمر بمثل هذه الترقية و لئن كان لفظ رواية أبي داود يحتمل تأويل الحديث على التأنيب المزعوم ،
( كركم ) هو الزعفران ، و قيل العصفر ، و قيل شجر كالورس ، و هو فارسي معرب . ( صلوب ) كذا و لم أعرف له معنى ، و لعله - إن سلم من التحريف - لفظ عبري . و الله أعلم .
من فوائد الحديث
و في الحديث فوائد كثيرة أهمها اثنتان :
الأولى : مشروعية ترقية المرء لغيره بما لا شرك فيه من الرقى ، بخلاف طلب الرقية من غيره فهو مكروه لحديث " سبقك بها عكاشة " و هو معروف مشهور .
و الأخرى : مشروعية تعليم المرأة الكتابة . و من أبواب البخاري في " الأدب المفرد " باب الكتابة إلى النساء و جوابهن " .
ثم روى بسنده الصحيح عن موسى بن عبد الله قال :
" حدثتنا عائشة بنت طلحة قالت : قلت لعائشة - و أنا في حجرها ، و كان الناس يأتونها من كل مصر ، فكان الشيوخ ينتابوني لمكاني منها ، و كان الشباب يتأخوني فيهدون إلي ، و يكتبون إلي من الأمصار ، فأقول لعائشة - يا خالة هذا كتاب فلان و هديته . فتقول لي عائشة أي بنية ! فأجيبيه و أثيبيه ، فإن لم يكن عندك ثواب أعطيتك ، قالت : فتعطيني " .
. و قال المجد ابن تيمية في " منتقى الأخبار " عقب الحديث :" و هو دليل على جواز تعلم النساء الكتابة "
" و أما حديث " لا تعلموهن الكتابة ، و لا تسكنوهن الغرف ، و علموهن سورة النور " ، فالنهي عن تعليم الكتابة في هذا الحديث محمول على من يخشى من تعليمها الفساد " . موضوع
و الآخر : لو كان المراد من حديث النهي من يخشى عليها الفساد من التعليم لم يكن هناك فائدة من تخصيص النساء بالنهي ، لأن الخشية لا تختص بهن ، فكم من رجل كانت الكتابة عليه ضررا في دينه و خلقه ، أفينهى أيضا الرجال أن يعلموا الكتابة ؟ ! بل و عن تعلم القراءة أيضا لأنها مثل الكتابة من حيث الخشية !
و الحق أن الكتابة و القراءة ، نعمة من نعم الله تبارك و تعالى على البشر كما يشير إلى ذلك قوله عز و جل ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق . اقرأ و ربك الأكرم . الذي علم بالقلم ) ،
و هي كسائر النعم التي امتن الله بها عليهم و أراد منهم استعمالها في طاعته ، فإذا وجد فيهم من يستعملها في غير مرضاته ، فليس ذلك بالذي يخرجها عن كونها نعمة من نعمه ، كنعمة البصر و السمع و الكلام و غيرها ، فكذلك الكتابة و القراءة ، فلا ينبغي للآباء أن يحرموا بناتهم من تعلمها شريطة العناية بتربيتهن على الأخلاق الإسلامية ، كما هو الواجب عليهم بالنسبة لأولادهم الذكور أيضا ، فلا فرق في هذا بين الذكور و الإناث .
و الأصل في ذلك أن كل ما يجب للذكور وجب للإناث ، و ما يجوز لهم جاز لهن و لا فرق ، كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما النساء شقائق الرجال " ، فلا يجوز التفريق إلا بنص يدل عليه ، و هو مفقود فيما نحن فيه ، بل النص على خلافه ، و على وفق الأصل ، و هو هذا الحديث الصحيح ، فتشبث به و لا ترض به بديلا ، و لا تصغ إلى من قال :
ما للنساء و للكتابة و العمالة و الخطابة هذا لنا و لهن منا أن يبتن على جنابة !
فإن فيه هضما لحق النساء و تحقيرا لهن ، و هن كما عرفت شقائق الرجال .
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإنصاف و الاعتدال في الأمور كلها .