بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين و صلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين الى قيام يوم الدين .
عظم الله أجورنا وأجوركم أيها القراء الكرام وأجور المؤمنين والمؤمنات ومراجع الدين العظام و بقية الله في الأرض الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) بذكرى استشهاد الإمام المسموم المظلوم جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) .
عرفت الفترة التي عايشها الإمام الصادق (عليه السلام ) بفترة ازدهار موجات الإلحاد والتصوف ، والفرق الضالة ، والتضليل الإعلامي المدروس الذي تبنته المدرسة العباسية للوقوف أمام الخط الأصيل للإسلام والمتمثل في أهل البيت (عليهم السلام) ، يضاف إلى ذلك ظهور مدارس الرأي والقياس التي تحولت فيما بعد إلى مذاهب وفرق ، وفي هذا الجو الصاخب من الموجات المتضاربة والحركات المتعارضة وظهور طاغي وظاهر للزنادقة والملاحدة ، سارع الإمام الصادق لهذا الأمر وتصدى له بقوة وقام بإعداد وتهيئة مجموعة من الثلة المؤمنة المخلصة من تلاميذه العلماء الأكفاء لدفع ورفع الشبهات والمغالطات متسلحين بأسلحة العقيدة الحقة والفكر الصحيح والمنهج الحق الذي تعلموه على يدي الإمام الصادق (عليه السلام) فاشعل الإمام ثورة الردود العقائدية الصحيحة للرد على هذه الموجات الإلحادية والفرق الضالة والقضاء على ذلك المد الرهيب من الأفكار المنحرفة والشاذة .
فمواجهة الإمام الصادق (عليه السلام) وطلابه لتلك الهجمات الفكرية الشرسة المنحرفة والقضاء عليها ، كان أشبه بمواجهة جيش جرار للعدو مسلح بالأسنة والسيوف والرماح والدروع في ساحات القتال والانتصار عليهم .
وفعلا لقد انتصر الإمام الصادق (عليه السلام) وأصحابه في كل مناظرة جرت مع المخالفين أو الملحدين في شتى المجالات العقائدية وفي كافة الحوارات .
فقضى الإمام الصادق وأصحابه على الأفكار الضالة والمسمومة التي طرحها الملحدين وأزال الخطر المحدق بالإسلام والمسلمين . ورد الشبهات والمغالطات التي يطرحها المخالفين لأهل البيت (سلام الله تعالى عليهم أجمعين) .
واليكم أخوتي وأخواتي القراء الأفاضل الكرام جانب من مناظرات ومجادلات الإمام الصادق وأصحابه مع الملحدين والمخالفين في الأمور العقائدية وأمور الدين .
*** مناظرات الإمام الصادق (عليه السلام) :
1/ مع الفرق والمذاهب الإسلامية :
مناظرة الإمام الصادق (ع) وأبي حنيفة في القياس :
وفد ابن شبرمة مع أبي حنيفة على الإمام الصادق فقال لابن شبرمة. «مَن هذا الذي معك؟» فأجابه قائلاً : رجل له بصر، و نفاذ في أمر الدين.فقال له الإمام جعفر الصادق : « لعله الذي يقيس أمر الدين برأيه؟» فأجابه: نعم.والتفت الإمام جعفر الصادق إلى أبي حنيفة قائلاً له: «ما اسمك ؟» فقال: النعمان.فسأله الإمام جعفر الصادق: «يا نعمان ! هل قست رأسك ؟»فأجابه : كيف أقيس رأسي؟.فقال له الإمام جعفر الصادق: « ما أراك تحسن شيئاً. هل علمت ما الملوحة في العينين ؟ والمرارة في الاُذنين ، والبرودة في المنخرين والعذوبة في الشفتين؟فأنكر أبو حنيفة معرفة ذلك ووجّه الإمام جعفر الصادق إليه السؤال التالي: « هل علمت كلمة أوّلها كفر، وآخرها إيمان ؟» فقال:لا .والتمس أبو حنيفة من الإمام جعفر الصادق أن يوضّح له هذه الاُمور فقال الإمام جعفر الصادق: «أخبرني أبي عن جدّي رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن الله بفضله ومنّه جعل لابن آدم الملوحة في العينين ليلتقطا ما يقع فيهما من القذى ، وجعل المرارة في الاذنين حجاباً من الدوابّ فإذا دخلت الرأس دابّة ، والتمست إلى الدماغ ، فإن ذاقت المرارة التمست الخروج، وجعل الله البرودة في المنخرين يستنشق بهما الريح ولولا ذلك لانتن الدماغ ، وجعل العذوبة في الشفتين ليجد لذة استطعام كل شيء».والتفت أبو حنيفة إلى الإمام الإمام جعفر الصادق قائلاً : أخبرني عن الكلمة التي أوّلها كفر وآخرها إيمان ؟فقال له الإمام جعفر الصادق: «إن العبد إذا قال: لا إله فقد كفر فإذا قال إلاّ الله فهو الإيمان » .وأقبل الإمام على أبي حنيفة ينهاه عن العمل بالقياس حيث قال له: « يا نعمان حدثني أبي عن جدّي رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) إنه قال : أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال له الله : اسجد لآدم فقال: ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) » .و التقى أبو حنيفة مرّة اُخرى بالإمام الصادق فقال له الإمام : «ما تقول في محرم كسر رباعية ظبي ؟».فأجابه أبو حنيفة: ياابن رسول الإسلام ما أعلم ما فيه.فقال له الإمام جعفر الصادق : « ألا تعلم أن الظبي لا تكون له رباعية ، وهو ثني أبداً ؟!» .
ثم التقى أبو حنيفة مرّة ثالثة بالإمام جعفر الصادق ، وسأله الإمام جعفر الصادق عن بعض المسائل ، فلم يجبه عنها.وكان من بين ما سأله الإمام جعفر الصادق هو : « أيّهما أعظم عند الله القتل أو الزنا ؟» فأجاب : بل القتل.فقال الإمام جعفر الصادق: « كيف رضي في القتل بشاهدين، ولم يرضَ في الزنا إلاّ بأربعة ؟»ثم وجّه الإمام جعفر الصادق إلى أبي حنيفة السؤال التالي : «الصلاة أفضل أم الصيام؟» فقال: بل الصلاة أفضل .فقال الإمام جعفر الصادق : « فيجب ـ على قياس قولك ـ على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب الله قضاء الصوم دون الصلاة؟!» .ثم سأله جعفر الصادق: « البول أقذر أم المني ؟» فقال له : البول أقذر .فقال جعفر الصادق: « يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول; لأنه أقذر، دون المنيّ ، وقد أوجب الله الغسل من المنيّ دون البول ».
ثم قال الإمام جعفر الصادق: « ما ترى في رجل كان له عبد فتزوّج ، وزوّج عبده في ليلة واحدة فدخلا بأمراتيهما في ليلة واحدة، ثم سافرا وجعلا إمرأتيهما في بيت واحد وولدتا غلامين فسقط البيت عليهم فقتلت المرأتان ، وبقي الغلامان أيهما في رأيك المالك ؟ وأيّهما المملوك وأيّهما الوارث ؟ وأيّهما الموروث ؟».وهنا أيضاً صرّح أبو حنيفة بعجزه قائلاً : إنما أنا صاحب حدود .وهنا وجّه اليه الإمام جعفر الصادق السؤال التالي : « ما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح، وقطع يد رجل كيف يقام عليهما الحدّ ؟». فقال الإمام أبو حنيفة: أنا رجل عالم بمباعث الأنبياء.ثم سأله الإمام الصادق: « أخبرني عن قول الله لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون (لعلّه يتذكّر أو يخشى) ـ ولعلّ منك شكّ ؟ فقال: نعم. فقال له الإمام جعفر الصادق : « وكذلك من الله شكّ إذ قال : لعله ؟ ! » فقال : لا علم لي .ثم قال الإمام جعفر الصادق: « تزعم أنك تفتي بكتاب الله ، ولست ممّن ورثه، وتزعم أنك صاحب قياس، وأوّل من قاس إبليس لعنه الله ولم يُبنَ دينُ الاسلام على القياس وتزعم أنك صاحب رأي، و كان الرأي من رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) صواباً ومن دونه خطأ، لأنّ الله قال: (فاحكم بينهم بما أراك الله) ولم يقل ذلك لغيره، وتزعم أنك صاحب حدود، ومن أُنزلت عليه أولى بعلمها منك وتزعم أنك عالم بمباعث الانبياء، وخاتم الانبياء أعلم بمباعثهم منك.لولا أن يقال دخل على ابن رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) فلم يسأله عن شيء ماسألتك عن شيء. فقس إن كنت مقيساً.وهنا قال أبو حنيفة للإمام جعفر الصادق : لا أتكلم بالرأي والقياس في دين الله بعد هذا المجلس.وأجابه الإمام جعفر الصادق: « كلاّ إنّ حبّ الرئاسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك ».
======================
2/ مع الملحدين:
أ- رُوي أن ثلاثة من الدهريه اتفقوا على أن يعارض كل واحد منهم ربع القرآن ، وكانوا بمكة ، وتعاهدوا على ان يجيئوا بمعارضته في العام القابل (1) .
وكان من هؤلاء الثلاثة عبد الكريم بن أبي العوجاء ، وهو من الملاحدة المشهورين الذي اعترف بدسه الأحاديث الكاذبة على أحاديث النبي (صلى الله عليه واله) .
وكان ابن أبي العوجاء في بداية أمره موحداً مؤمناً حسن السيرة والسلوك يتردد على مدرسة الحسن البصري ، فلما انحرف عن التوحيد ، اعتزل حوزة الحسن البصري . وانتهى أمره بالقتل لأنه ملحد ، قتله محمد بن سليمان عامل الكوفة من قبل المنصورالعباسي .
كان ابن أبي العوجاء يوماً هو وعبد الله بن المقفع في المسجد الحرام ، فقال ابن المقفع : ترون هذا الخلق ، وأومأ بيده إلى موضع الطواف . ما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانية إلا ذلك الشيخ الجالس يعني أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) ، أما الباقون فرعاع وبهائم .
فقال ابن أبي العوجاء : وكيف أوجب هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء ؟
فقال : لأني رأيت عنده ما لم اره عندهم .
فقال أبن أبي العوجاء : لا بد من اختبار ما قلت فيه منه .
فقال ابن القفع : لا تفعل ، فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك .
فقال : ليس ذا رأيك ، لكن تخاف أن يضعف رأيك عندي في احلالك إياه هذا المحل الذي وصفت .
فقال ابن المقفع : أما إذا توسمت علي ، فقم إليه وتحفظ من الذل ، ولا تثن عنانك إلى استرسال فيسلمك إلى عقال .
فقام أبن أبي العوجاء إلى الصادق (عليه السلام) فلما رجع منه قال : ويلك يا أبن المقفع ، ما هذا ببشر، وإن كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ظاهراً ، ويتروح إذا شاء باطناً ، فهو هذا .
فقال له : كيف ذلك ؟
فقال : جلست إليه ، فلما لم يبق عنده أحد غيري ، ابتداني فقال : إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء ، وهو على ما يقولون ـ يعني أهل الطواف ـ فقد سلموا وعطبتم ، وإن يكن الأمر كما تقولون وليس هو كما تقولون ، فقد استويتم وهم .
فقلت : يرحمك الله ، وأي شيء نقول ، وأي شيء يقولون ؟ ما قولي وقولهم إلا واحد .
فقال : وكيف يكون قولك وقولهم واحد ، وهم يقولون إن لهم معاداً وثواباً وعقاباً ، ويدينون بأن للسماء إلهاً وإنها عمران ، وأنتم تزعمون ان السماء خراب ليس فيها أحد .
قال : فأغتنمتها منه ، فقلت له : ما منعه إن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه يدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف فيه اثنان . ولم يحتجب عنهم ، ويرسل إليهم الرسل ، ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به ؟
فقال لي : ويلك كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك ، نشؤك (2) بعد أن لم تكن ، وكبرك بعد صغرك ، وقوتك بعد ضعفك ، وضعفك بعد قوتك ، وسقمك بعد صحتك ، وصحتك بعد سقمك ، ورضاك بعد غضبك ، وغضبك بعد رضاك ، وحزنك بعد فرحك ، وفرحك بعد بغضك ، وبغضك بعد حبك ، وعزمك بعد إنابتك(3) ، ورغبتك بعد رهبتك ، ورهبتك بعد رغبتك ، ورجاؤك بعد يأسك ، ويأسك بعد رجاؤك ، وخاطرك لما لم يكن في وهمك وغروب ما أنت معتقده عن ذهنك .
وما زال يعد علي قدرته التي هي في التي لا أدفعها ، حتى ظننت انه سيظهر فيما بيني وبينه (4) .
ودخل أبن أبي العوجاء على الصادق (عليه السلام) يوماً فقال : أليس تزعم أن الله تعالى خالق كل شيء ؟
فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : بلى .
فقال : أنا أخلق .
فقال له : كيف تخلق ؟
فقال : أحدث في الموضوع ، ثم ألبث عنه ، فيصير دواب ، فكنت أنا الذي خلقتها .
فقال ابو عبد الله (عليه السلام) : أليس خالق الشيء يعرف كم خلقه ؟
قال : بلى .
قال : أفتعرف الذكر من الأنثى وتعرف عمرها ؟ فسكت ابن أبي العوجاء .
ثم أنه عاد في اليوم الثاني إلى الصادق (عليه السلام) فجلس وهو ساكت لا ينطق .
فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) : كأنك جئت تعيد بعض ما كنا فيه .
فقال : أردت ذلك يا ابن رسول الله (صلى الله عليه واله) .
فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : ما أعجب من هذا !!! تنكر الله وتشهد أني ابن رسول الله (صلى الله عليه واله) ؟ فقال : العادة تحملني على ذلك .
فقال له الصادق (عليه السلام) : فما يمنعك من الكلام ؟
قال : إجلال لك ومهابة ، ما ينطق لساني بين يديك ، فإني شاهدت العلماء ، وناظرت المتكلمين ، فما تداخلني هيبة قط مثلما تداخلني من هيبتك .
فقال الصادق (عليه السلام) : يكون ذلك ، ولكن أفتح عليك سؤالاً ، ثم أقبل عليه فقال له : أمصنوع أنت أم غير مصنوع ؟
فقال له ابن أبي العوجاء : أنا غير مصنوع .
فقال له الصادق (عليه السلام) : فصف لي لو كنت مصنوعاً كيف كنت تكون ؟ فبقي عبد الكريم مليا لا يحير جوابا وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول :
طويل عريض ، عميق قصير ، متحرك ساكن ، كل ذلك من صفة خلقه .
فقال له الصادق (عليه السلام) فأن كنت لم تعلم صفة الصنعة من غيرها ، فاجعل نفسك مصنوعا لما تجد في نفسك مما يحدث من هذه الأمور .
فقال له عبد الكريم : سألتني عن مسألة لم يسالني أحد عنها قبلك ، ولا يسالني أحد بعدك عن مثلها.
فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) : هبك علمت أنك لم تسال في ما مضى ، فما علمك أنك لم تسأل في ما بعد ؟ على أنك يا عبد الكريم نقضت قولك ، لأنك تزعم أن الأشياء من الأول سواء ، فكيف قدمت وأخرت ؟
ثم قال : يا عبد الكريم أنزيدك وضوحاً ؟ أرأيت لو كان معك كيس فيه جواهر، فقال لك قائل : هل في الكيس دينار؟ فنفيت كون الدينار في الكيس ، فقال لك قائل : صف لي الدينار ، وكنت غير عالم بصفته ، هل لك أن تنفي كون الدينار في الكيس وأنت لا تعلم ، قال لا .
فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : فالعالم أكبر وأطول وأعرض من الكيس ، فلعل في العالم صنعة من حيث لا تعلم ، صفة الصنعة من غير الصنعة .
فانقطع عبد الكريم ، وأجاب بعض أصحابه ، وبقي معه بعض .
فعاد في اليوم الثالث فقال : أقلب السؤال ، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : سل عما شئت.
فقال : ما الدليل على حدوث الأجسام ؟
فقال (عليه السلام) : أني ما وجدت صغيراً ولا كبيراً إلا وإذا ضم إليه مثله صار أكبر ، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الأولى ، ولو كان قديماً ما زال ولا حال ، لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل ، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث ، وفي كونه في الأولى دخوله في العدم ، ولن تجتمع صفة الأزل والعدم في شيء واحد.
فقال عبد الكريم : هبك علمت بجري الحالين والزمانين على ما ذكرت ، واستدلت على حدوثها ، فلو بقيت الأشياء على صغرها ، من أين لك أن تستدل على حدوثها ؟
فقال الصادق (عليه السلام) : إنما نتكلم على هذا العالم الموضوع ، فلو رفعناه ووضعنا عالم آخر، كان لا شيء أدل على الحدث من رفعنا إياه ووضعنا غيره ، ولكن أجبت من حيث قدرت إنك تلزمنا وتقول : إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم لأنه متى ما ضم شيء منه إلى مثله كان أكبر، وفي جواز التغيير عليه خروج من القدم ، كما بان في تغيير دخوله في الحدث أن ليس وراءه يا عبد الكريم ، فانقطع ابن أبي العوجاء .
ولما كان في العام القابل ، التقى الإمام في الحرم ، فقال له بعض شيعته إن أبي العوجاء قد أسلم .
فقال الصادق (عليه السلام) : هو أعمى من ذلك ، لا يسلم ، فلما بصر بالصادق (عليه السلام) قال : سيدي ومولاي .
فقال له الإمام (عليه السلام) ما جاء بك إلى هذا الوضع ؟
فقال : عادة الجسد وسنة البلد ولنبصر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة .
فقال له الصادق (عليه السلام) : أنت بعد على عتوك وضلالك يا عبد الكريم .
فذهب يتكلم ، فقال له الإمام (عليه السلام) : لا جدال في الحج ، ونفض رداءة من يده ، وقال :
إن يكن الأمر كما تقول ، وليس كما تقول ، وهو كما نقول ، نجونا وهلكت (5).
وسأل أبن أبي العوجاء الصادق (عليه السلام) يوماً في تبديل الجلود في النار.
فقال : ما تقول هذه الآية : (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها) (6) ؟
هب هذه الجلود عصت فعذبت فما بال الغير يعذب ؟
قال أبو عبد الله (عليه السلام) : ويحك هي هي ، وهي غيرها .
قال: أعقلني هذا القول .
فقال له الصادق (عليه السلام) : أرأيت أن رجلاً عهد إلى لبنة فكسرها ثمَّ صب عليها الماء وجبلها (7) ثمَّ ردها إلى هيئتها الأولى ، ألم تكن هي هي وهي غيرها ؟ فقال : بلى أمتع الله بك (8) .
ب - وكان من كلامه عليه السّلام في التوحيد ، ما يروى عن هشام بن الحكم ، قال : كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أشياء ، فخرج الى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها ، وقيل : إِنه خارج بمكّة ، فخرج الى مكّة ونحن مع أبي عبد اللّه عليه السّلام فصادفنا ونحن مع أبي عبد اللّه في الطواف وكان اسمه عبد الملك وكنيته أبو عبد اللّه ، فضرب كتفه كتف أبي عبد اللّه عليه السّلام ، فقال له : ما اسمك ؟
قال : عبد الملك .
قال : فما كنيتك ؟
قال : أبو عبد اللّه،
فقال أبو عبد اللّه الصادق عليه السلام : فمن هذا الملك الذي أنت عبده ؟ أمن ملوك الأرض أم ملوك السماء ؟ واخبرني عن ابنك عبد إِله السماء أم عبد إِله الأرض ؟ قل ما شئت تخصم . فلم يحر جواباً .
ثمّ أن الصادق عليه السّلام قال له : اذا فرغت من الطواف فأتنا ، فلما فرغ أبو عبد اللّه عليه السّلام أتاه الزنديق فقعد بين يديه عليه السّلام ونحن مجتمعون عنده ، فقال أبو عبد اللّه الصادق للزنديق : أتعلم أن للأرض تحتاً وفوقاً ؟
قال : نعم .
قال : فدخلت تحتها ؟ قال : لا.
قال : فما يدريك ما تحتها ؟ قال : لا أدري إِلا أني أظن أن ليس تحتها شيء .
فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام : فالظنّ عجز فلِم لا تستيقن .
ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام : أفصعدت الى السماء ؟ قال : لا.
قال : أفتدري ما فيها ؟ قال : لا .
قال : عجباً لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ، ولم تنزل الى الأرض ولم تصعد الى السماء ، ولم تجز هناك فتعرف ما خلفهنّ ، وأنت جاحد بما فيهنّ ، فهل يجحد العاقل ما لا يعرف ؟ قال الزنديق : ما كلّمني بها أحد غيرك .
فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام : فأنت من ذلك في شكّ فلعلّه هو ولعلّه ليس هو ، فقال الزنديق : ولعلّ ذلك .
فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام : أيّها الرجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم ، ولا حجّة للجاهل ، يا أخا أهل مصر تفهم عنّي فإنّا لا نشكّ في اللّه أبداً ، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان ، قد اضطرّا ليس لهما مكان إِلا مكانهما فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلِم يرجعان ؟ وإن كانا غير مضطرّين فلِم لا يصير الليل نهاراً والنهار ليلاً ؟ اضطرّا واللّه يا أخا أهل مصر الى دوامهما والذي اضطرّهما أحكم منهما واكبر (أي أكبر في القوّة والقدرة وما شابه ذلك) فقال الزنديق : صدقت .
ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام : يا أخا أهل مصر إِن الذي تذهبون اليه وتظنّون أنه الدهر إِن كان الدهر يذهب بهم فلِم لا يردّهم ؟ وإِن كان يردّهم لِم لا يذهب بهم ؟ القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر، لِم السماء مرفوعة والأرض موضوعة ؟ لِم لا تنحدر السماء على الأرض ؟ لِم لا تنحدر الأرض فوق طباقها ؟ ولا يتماسكان ولا يتماسك مَن عليها ؟
قال الزنديق : أمسكهما اللّه ربّهما سيّدهما .
قال : فآمن الزنديق على يدي أبي عبد اللّه عليه السّلام ، فقال حمران بن أعين : جعلت فداك إِن آمنت الزنادقة على يدك فقد آمن الكفّار على يد أبيك .
فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبد اللّه عليه السلام : اجعلني من تلامذتك ، فقال أبو عبد اللّه : يا هشام بن الحكم خذه اليك ، فعلّمه هشام ، وكان معلّم أهل الشام وأهل مصر الايمان ، وحسنت طهارته حتّى رضي بها أبو عبد اللّه عليه السّلام .
ج - وجاء الى الإمام الصادق زنديق آخر وسأله عن أشياء نقتطف منها ما يلي :
قال له : كيف يعبد اللّه الخلق ولم يروه ؟ قال أبو عبد اللّه عليه السلام : رأته القلوب بنور الايمان ، وأثبتته العقول بيقظتها إِثبات العيان ، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإِحكام التأليف ، ثمّ الرسل وآياتها ، والكتب ومحكماتها، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته .
قال : أليس هو قادر أن يظهر لهم حتّى يروه فيعرفونه فيُعبد على يقين ؟
قال عليه السلام : ليس للمحال جواب (أي إِنما الرؤية تثبت للأجسام وإِذا لم يكن تعالى جسماً استحالت رؤيته ، والمحال غير مقدور لا من جهة النقص في القدرة ، بل النقص في المقدور) .
قال الزنديق : فمن أين أثبت أنبياءً ورسلاً ، قال عليه السلام : إِنّا لمّا أثبتنا أنَّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا أن يلامسوه ولا أن يباشرهم ويباشروه ويحاجّهم ويحاجّوه ، ثبت أن له سفراء في خلقه وعباده يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك أن لهم معبّرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين عنه ، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إِحياء الموتى وإِبراء الأكمه والأبرص .
ثمّ قال الزنديق : من أيّ شيء خلق الأشياء ؟
قال عليه السّلام : من لا شيء ، فقال : كيف يجيء شيء من لا شيء ؟
قال عليه السلام : إِن الأشياء لا تخلو إِما أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء فإن كانت خلقت من شيء كان معه ، فإن ذلك الشيء قديم ، والقديم لا يكون حديثاً ، ولا يتغيّر ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهراً واحداً ولوناً واحداً ، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتّى ؟ ومن أين جاء الموت إِن كان الشيء الذي اُنشئت منه الأشياء حيّاً ؟ أو من أين جاءت الحياة إِن كان ذلك الشيء ميّتاً ؟ ولا يجوز أن يكون من حيّ وميّت قديمين لم يزالا ، لأن الحيّ لا يجيء منه ميّت وهو لم يزل حيّاً ، ولا يجوز أيضاً أن يكون الميّت قديماً لم يزل لما هو به من الموت ، لأن الميّت لا قدرة به ولا بقاء.
أقول : إِن هذا الأمر على دقّته قد أوضحه الامام بأحسن بيان وردّده بين اُمور لا يجد العقل سلواها عند الترديد ، وحقّاً إِن كان الشيء الذي خلقت الأشياء منه قديماً لزم أن يكون مع اللّه تعالى شيء قديم غير مخلوق له ، ولو فرض أنه مخلوق له عاد الكلام الأول أنه من أيّ شيء كان مخلوقاً ، هذا غير أن القديم لا يكون حادثاً ، والميّت لا يكون منه الحيّ ، والحيّ لا يكون منه الميّت ، والحياة والممات لا يتركّبان ، ولو تركّبا عاد الكلام السابق ، فإن الموت لا يصلح أن يكون في الأشياء الحيّة ، ولا بقاء ولا دوام ليكون باقياً إِلى أن خلق اللّه منه الأشياء الحيّة ، فلا بدّ إِذن من أن يكون تعالى قد خلق الأشياء من لا شيء .
ثمّ قال : من أين قالوا إِن الأشياء أزليّة ؟
قال عليه السّلام : هذه مقالة قوم جحدوا مدبّر الأشياء فكذّبوا الرسل ومقالتهم ، والأنبياء وما أنبأوا عنه ، وسمّوا كتبهم أساطير، ووضعوا لأنفسهم ديناً بآرائهم واستحسانهم ، وإِن الأشياء تدلّ على حدوثها من دوران الفلك بما فيه وهي سبعة أفلاك ، وتحرّك الأرض ومن عليها ، وانقلاب الأزمنة ، واختلاف الحوادث التي تحدث في العالم من زيادة ونقصان ، وموت وبلى ، واضطرار الأنفس الى الإقرار بأن لها صانعاً ومدبّراً ، ألا ترى الحلو يصير حامضاً ، والعذاب مرّاً ، والجديد بالياً ، وكلّ الى تغيّر وفناء .
أقول : إِن الاستدلال بانقلاب الأزمنة ودوران الفلك من أدقّ الأدلّة العلميّة على حدوث العالم ، الذي قصرت عنه أفهام كثير من الفلاسفة العظام كما أنه جعل الفلك الدائر فلكاً واحداً ثمّ تفسيره بالأفلاك السبعة لا ينطبق إِلا على نظرية الهيئة الحديثة إِذ يراد به النظام الشمسي ، ومثله تصريحه بحركة الأرض التي لم يكن يحلم بها أحد من السابقين ، وهي من مكتشفات العلم الحديث .
وللصادق عليه السلام نظير ذلك مع الجعد بن درهم ، وكان من أهل الضلال والبدع ، وقتله والي الكوفة يوم النحر لذلك ، قال ابن شهر اشوب : قيل إِن الجعد بن درهم جعل في قارورة ماءً وتراباً فاستحال دوداً وهواماً فقال لأصحابه : أنا خلقت ذلك لأني كنت سبب كونه ، فبلغ ذلك جعفر بن محمّد عليهما السلام ، فقال: ليقل كم هي ؟ وكم الذكران منه والاناث إِن كان خلقه ، وكم وزن كلّ واحدة منهنّ ، وليأمر الذي سعى الى هذا الوجه أن يرجع الى غيره . فانقطع وهرب .
يتبع
تعليق