بسم الله الرحمن الرحيم
نص السؤال
هناك من يقول: إن علينا أن نأخذ بالأقدم فيما يرتبط بنصوص السيرة الحسينية، فما رأيكم؟ وبماذا تنصحون قراء المنبر الحسيني؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
و بعد..
1 ـ فإن المصادر المعتبرة للسيرة الحسينية كثيرة ومتنوعة فمن المصادر، كتب الحديث مثل أمالي الصدوق والمفيد وغيرهما..
وقد جمع في البحار كمية كبيرة من النصوص المأخوذة من المصادر المعتبرة على اختلافها، فلا بأس باعتمادها كأساس للانطلاقة الأوسع والأتم للحصول على كثير من النصوص الأخرى المبثوثة في مختلف المصادر الإسلامية ولا نستثني منها كتب الحديث والأدب، والأنساب والبلدان، والتراجم وغيرها، فبالإمكان جمع جزئيات كثيرة منها وضم بعضها إلى بعض للحصول على سياق عام للأحداث التي تحكي لنا ما جرى في كربلاء، أو قبلها وبعدها.
وقد حاول السيد عبد الرزاق المقرم أن يفعل ذلك.. كما يظهر من مراجعة كتابه: مقتل الحسين (عليه السلام).. وهذا ما فعله آخرون سبقوه، كابن طاووس وابن نما وغيرهما..
2 ـ إن استهجان بعض الأمور لا يصلح دائماً لردها، والحكم عليها بالبطلان.
فكما أنه قد يكون منشأ الاستهجان هو آفة يعاني منها النص، فإنه قد يكون أيضاً ناشئاً عن عدم وجود تهيؤ ذهني ونفسي لقبول أمر ما، بسبب فقد الركائز والمنطلقات التي تساعد على المزيد من الوعي للحقائق خصوصاً فيما يرتبط بمقامات الأولياء والأصفياء التي يحتاج تكوّن القناعات بما لها من آثار إلى سبق المعرفة اليقينية بمناشئها. وقد يكون سبب هذا الاستهجان هو افتراضات غير واقعية فيما يرتبط بالمؤثرات في الحدث التاريخي. وفي كلتا هاتين الحالتين، فإن اللازم هو تصحيح المنطلقات التي أوجبت الوقوع في أسر التصور الخاطئ، الذي يدفع إلى الاستهجان ثم إلى الرفض..
وإن الإعداد القوي والرصين لإنجاز عمل معرفي وتربية إيمانية وروحية ونفسية ليمكن من خلال ذلك تحقيق درجة من الانسجام بين المعارف الإيمانية ويقينياتها وبين ما ينشأ عنها من آثار في حركة الواقع، وفي وعي الأحداث، إن الإعداد لإنجاز عمل كهذا يعتبر أمراً ضرورياً ولازماً وله مقام الأفضلية بالقياس إلى ما عداه من مهام.
وبدون ذلك فإن أي عمل يكون من قبيل القفز في الهواء من دون مبرر معقول ومقبول. وكذلك من دون نتيجة مقنعة ومرضية..
ولأجل ذلك.. فإنني أقترح أرشفة المعلومات المرتبطة بالحركة الجهادية للإمام الحسين (عليه السلام)، وفق نظام الأولويات المرتبطة بالمستوى الذي يخضع لاعتبارات كثيرة تجعله يتنوع ويتخالف بحسب الأفكار والثقافات ويتأثر بالحالات الروحية والفكرية، وسواها مما لا بد من أخذه بنظر الاعتبار في رصد الواقع وجدولة أولوياته.
3 ـ إن علينا أن لا نشارك في هدم المنبر الحسيني، عن طريق تشكيك الناس به، إن من خلال إطلاق العبارات العامة والغائمة والرنانة، أو من خلال إطلاق التهم بالكذب والتحريف، والافتعال..
فإن كل عمل يسهم في إفقاد الناس الثقة بالمجالس الحسينية يعتبر خيانة للدين، ويعتبر اعتداء على عاشوراء..
وإن الطريقة التي توجه فيها التهم إلى قراء العزاء تجعل الناس يرونهم أناساً جهلة لا يرجعون إلى خُلق ولا إلى دين، ولا همّ لهم إلا تزييف الحقائق، وتزيين الخرافات والأباطيل للناس..
مع أنهم لا ذنب لهم سوى أنهم ينقلون ما وجدوه ويتلون علينا ما قرؤوه. فإن كان ثمة من ذنب، فإنما يقع على غيرهم..
إنني أؤكد على أنه لا بد من أن يكون ثمة دعوة جادة، وعمل دائب في سبيل توطيد الثقة بين الناس وبين خطباء المنبر الحسيني.
مع الاهتمام برفع النقائص، والتخلي عن بعض السلبيات التي ربما نواجهها مع أفراد هم قلة منهم، فإن إصلاح هؤلاء ثم رفع مستوى الثقافة الإيمانية الذي يحتم على خطيب المنبر الحسيني أن يرتفع هو الآخر بثقافته تبعاً لذلك، هما السبيل القويم والسليم، لتجاوز بعض الحالات النادرة التي قد تعرض هنا أو هناك..
ولو افترضنا أن واحداً منهم روى رواية تفيد أن الإمام الحسين (عليه السلام) كانت له عشر حملات، قتل في كل حملة عشرة آلاف، ولم يستطع أن يناقش في ذلك لأنه لم يلتفت إلى أن جميع من حضروا كربلاء هم ثلاثون ألفاً، وليس ثلاث مئة ألف..
فإن ذلك لا يبرر اتهام عامة القراء بالجهل، والغوغائية، وبالكذب والتزوير وما إلى ذلك..
بل علينا إما أن ننبه ذلك الذي أخطأ إلى الصواب ليرتدع وينزجر ويُقلع، وإما أن نسميه للناس إن كان لا بد من ذلك.
أما أن نتهم الأبرياء بسببه، فلا وألف لا..
والخلاصة: إن وجود فرد أو أفراد يسيئون الاستفادة من هذا المنبر المقدس ولو عمداً، لا يعني ذلك أن نبادر إلى مهاجمة كل أهل هذا المنبر، تماماً، كما لو أن البعض أساء الاستفادة من الصلاة، وجعلها وسيلة لخداع الناس والمكر بهم، فإن ذلك لا يخولنا شن هجوم ساحق على جميع المصلين..
4 ـ إنه لا بد من الإقلاع عن تضخيم الأمور، بإطلاق الدعاوى العريضة حول وجود مكذوبات في أمر عاشوراء، إذ أن حدثاً خالداً عظيماً بدأت أحداثه قبل عشرات السنين، ولم يزل هو الشغل الشاغل لطائفة كبيرة من الناس ويتناقلونه عبر القرون والأحقاب.. إن هذا الحدث رغم أنه يشتمل على المئات من الخصوصيات والأحداث والتفاصيل الكثيرة والمتنوعة..
ثم رغم المحاولات الكثيرة التي تستهدف النيل منه في كل جيل، ورغم كل هذا الضجيج والعجيج الذي يثيره المغرضون حوله وضده، فإنه لم يستطع، ولن يستطيع أحد مهما جدّ واجتهد، إثبات التزوير والخرافة إلا في مقدار يسير جداً قد لا يصل إلى عدد أصابع اليدين.
وذلك يعني: أن الله قد حفظ هذا الدم الزاكي ليكون وسيلة لحفظ هذا الدين، وظهر بذلك مصداق قوله (صلى الله عليه وآله): إن الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة..
5 ـ إننا إذا أردنا أن نستعمل أسلوب الاستنساب في اختيار الأحداث والنصوص من جهة.
ثم نتحصن خلف الادعاءات العريضة وغير المسؤولة من جهة أخرى.
ثم نستعمل أسلوب التهويل والتضخيم لأمور جزئية وخارجة عن الموضوع الأساس من جهة ثالثة لتكون النتيجة هي استبعاد هذا النص، والتشكيك بذاك، واستنساب هذا وعدم استنساب ذاك، فإن ذلك سيكون جريمة ما بعدها جريمة ترتكب بحق الدم الزاكي الذي سفكته سيوف الحقد والشر في كربلاء..
6 ـ إن البكاء هو الإثارة العاطفية والتي تعني استجابة المشاعر والأحاسيس ليقظة الوجدان، وحياة الضمير وتعني أيضاً الإحساس بحجم الخسارة، وبمدى الجرأة على المثل والقيم، والمقدسات.. فلا بد إذن من التركيز على هذا الأمر. لأن حياة الوجدان ويقظة الضمير تجعل المنبر الحسيني قادراً على الإسهام الحقيقي في صنع المشاعر التي هي الرافد الأساس للإيمان والحافظ له من أن يتأثر بالهزات أو أن ينهار أمام الكوارث والأزمات، خصوصاً حين يكون هذا الإيمان قائماً على أساس الرؤية اليقينية والوضوح والواقعية. لأن من المعلوم أن الفكر الجاف الذي لا يحتضنه القلب، ولا ترفده المشاعر لن يتحول إلى إيمان راسخ ولن يفتح إيمان كهذا أمام هذا الإنسان آفاق التضحية، والفداء والإيثار والجهاد وسائر المعاني والقيم الكبرى، التي يريد الله لهذا الإنسان أن يقتحمها بقوة وبعزيمة ووعي وثبات.
وذلك يعطينا: أن علينا أن نخطط للبكاء الذي يحيي الضمير ويطلق الوجدان من أسر غفلاته، ويبعده عن دائرة اللامبالاة..
وذلك بإثارة الموضوعات التي تحمل هذه السمات، مثل قضية ذبح إبراهيم لولده إسماعيل ثم استجابة إسماعيل لهذا الأمر، وكذلك قصة حجر بن عدي وولده، وكثير من مفردات كربلاء، وسائر ما يخدم هذا الهدف السامي والنبيل..
7 ـ إن علينا أن نرتفع بالناس إلى مستوى الخطاب الحسيني من خلال التبني لمنهج تربوي، وتثقيفي عقائدي وإيماني، يعتمد تعريف الناس بالمعايير والضوابط الإيمانية ويقدم لهم ثقافة شاملة ومتنوعة تجعلهم يطلون من خلالها على مختلف حقائق هذا الدين وعلى الكثير من آفاقه الرحبة، ليخرجوا بذلك عن هذا الروتين الذي أفهمهم بصورة تلقينية خفية، أن الإسلام مجرد سياسة واقتصاد وعبادة وأخلاق في عملية فصل خطيرة جداً عن المعارف الشاملة والمتنوعة التي ترفد ذلك كله وسواه، وتشكل بمجموعها قاعدة إيمانية قوية وراسخة، تفتح أمام هذا الإنسان آفاقاً يشتاق إلى اقتحامها، وتعطيه المزيد من الإحساس بالغيب، وبالحكمة الإلهية ومزيداً من القرب والزلفى منه تعالى.
إن علينا أن لا نكتفي بأن نعّرف الناس بالأئمة (عليهم السلام) على الطريقة المألوفة، وهي التاريخ الشخصي لهم، حيث نعرضهم كشخصيات عاشت في الماضي، وكانت لها سياستها، وعباداتها وأخلاقها الحسنة، ثم.. ما وراء عبادان قرية.
بل علينا: أن نلخص لهم وفق برامج تربوية وتثقيفية كل المعارف التي وردت في كتاب الكافي بل وفي كتاب البحار، ولو بطريقة الفهرسة لتمر على مسامعهم لأن المعصومين ما قالوا شيئاً ليبقى مغيباً في بطون الكتب والموسوعات ولا بد أن يعرف الناس ما قاله الأئمة حول السماء، والعالم، والخلق والتكوين والآخرة والدنيا، وكل شيء.
ولتقرع مسامعهم الكثير من الأمور التي سيستغربونها لأن ذلك سيثير فضولهم، ويدفعهم للسؤال والبحث، وليشرفوا من ثم على آفاق جديدة من المعرفة التي لم تزل مدفونة في كتب التراث التي تحتضنها الأتربة. ويستقر فوقها غبار التاريخ، وإن ذلك ولا شك سيسهل عليهم فهم الكثير من أحداث كربلاء مما يستهجنونه ويستعظمونه منها..
8 ـ إن السيرة التي تقرأ في اليوم العاشر من المحرم قد يمكن الاقتصار فيها على نصوص معينة، وذلك لأكثر من سبب، ولكن ذلك لا يمنع من كتابة سيرة تفصيلية يتداولها الناس، وخطباء المنبر أيضاً، ليثقفوا الناس بها في الحالات الميسورة، يكون فيها الكثير من الأمور التي يحتاج الناس إلى معرفتها في نطاق الإطلاع على التفاصيل وفي هذا خدمة جليلة للمنبر الحسيني..
وذلك يجعلنا أبعد عن ممارسة أسلوب الانتقاء الذي من شأنه أن يعطي الانطباع السيء، من خلال ما يستبطنه من إدانة أو اتهام لكل نص لا يقع في دائرة الانتقاء، رغم أنه أحياناً يكون في غاية الأهمية والحساسية..
9 ـ إن علينا أن لا نحرم الآخرين من فرصة التفكير في أمر التراث، فكما أن لنا حق الاستفادة منه بما يتناسب مع حاجاتنا وإمكاناتنا الفكرية وغيرها، فإن علينا أن لا نحرم الأجيال الآتية من هذا الحق أيضاً.. وذلك بأن نقطع الطريق عليهم في مجال التعاطي معه، حتى وهم يكتشفون خطأنا الخطير والفادح في بعض تقييماتنا لقضاياه.. بسبب خطئنا في اختيار المعايير الصحيحة، أو لأي سبب آخر.. وهذا الأمر يحتم علينا أن نقف عند حدود العرض والتوثيق، ولا نبادر إلى الحكم بالإعدام على كثير من حقائقه استناداً إلى استنسابات قد تكون خاضعة لظرف سياسي أو نفسي، أو ما إلى ذلك..
وفقكم الله، وسدد في سبيل الحق والخير والهدى خطاكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
المصدر / مختصر مفيد (أسئلة وأجوبة في الدين والعقيدة)، السيد جعفر مرتضى العاملي .
نص السؤال
هناك من يقول: إن علينا أن نأخذ بالأقدم فيما يرتبط بنصوص السيرة الحسينية، فما رأيكم؟ وبماذا تنصحون قراء المنبر الحسيني؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
و بعد..
1 ـ فإن المصادر المعتبرة للسيرة الحسينية كثيرة ومتنوعة فمن المصادر، كتب الحديث مثل أمالي الصدوق والمفيد وغيرهما..
وقد جمع في البحار كمية كبيرة من النصوص المأخوذة من المصادر المعتبرة على اختلافها، فلا بأس باعتمادها كأساس للانطلاقة الأوسع والأتم للحصول على كثير من النصوص الأخرى المبثوثة في مختلف المصادر الإسلامية ولا نستثني منها كتب الحديث والأدب، والأنساب والبلدان، والتراجم وغيرها، فبالإمكان جمع جزئيات كثيرة منها وضم بعضها إلى بعض للحصول على سياق عام للأحداث التي تحكي لنا ما جرى في كربلاء، أو قبلها وبعدها.
وقد حاول السيد عبد الرزاق المقرم أن يفعل ذلك.. كما يظهر من مراجعة كتابه: مقتل الحسين (عليه السلام).. وهذا ما فعله آخرون سبقوه، كابن طاووس وابن نما وغيرهما..
2 ـ إن استهجان بعض الأمور لا يصلح دائماً لردها، والحكم عليها بالبطلان.
فكما أنه قد يكون منشأ الاستهجان هو آفة يعاني منها النص، فإنه قد يكون أيضاً ناشئاً عن عدم وجود تهيؤ ذهني ونفسي لقبول أمر ما، بسبب فقد الركائز والمنطلقات التي تساعد على المزيد من الوعي للحقائق خصوصاً فيما يرتبط بمقامات الأولياء والأصفياء التي يحتاج تكوّن القناعات بما لها من آثار إلى سبق المعرفة اليقينية بمناشئها. وقد يكون سبب هذا الاستهجان هو افتراضات غير واقعية فيما يرتبط بالمؤثرات في الحدث التاريخي. وفي كلتا هاتين الحالتين، فإن اللازم هو تصحيح المنطلقات التي أوجبت الوقوع في أسر التصور الخاطئ، الذي يدفع إلى الاستهجان ثم إلى الرفض..
وإن الإعداد القوي والرصين لإنجاز عمل معرفي وتربية إيمانية وروحية ونفسية ليمكن من خلال ذلك تحقيق درجة من الانسجام بين المعارف الإيمانية ويقينياتها وبين ما ينشأ عنها من آثار في حركة الواقع، وفي وعي الأحداث، إن الإعداد لإنجاز عمل كهذا يعتبر أمراً ضرورياً ولازماً وله مقام الأفضلية بالقياس إلى ما عداه من مهام.
وبدون ذلك فإن أي عمل يكون من قبيل القفز في الهواء من دون مبرر معقول ومقبول. وكذلك من دون نتيجة مقنعة ومرضية..
ولأجل ذلك.. فإنني أقترح أرشفة المعلومات المرتبطة بالحركة الجهادية للإمام الحسين (عليه السلام)، وفق نظام الأولويات المرتبطة بالمستوى الذي يخضع لاعتبارات كثيرة تجعله يتنوع ويتخالف بحسب الأفكار والثقافات ويتأثر بالحالات الروحية والفكرية، وسواها مما لا بد من أخذه بنظر الاعتبار في رصد الواقع وجدولة أولوياته.
3 ـ إن علينا أن لا نشارك في هدم المنبر الحسيني، عن طريق تشكيك الناس به، إن من خلال إطلاق العبارات العامة والغائمة والرنانة، أو من خلال إطلاق التهم بالكذب والتحريف، والافتعال..
فإن كل عمل يسهم في إفقاد الناس الثقة بالمجالس الحسينية يعتبر خيانة للدين، ويعتبر اعتداء على عاشوراء..
وإن الطريقة التي توجه فيها التهم إلى قراء العزاء تجعل الناس يرونهم أناساً جهلة لا يرجعون إلى خُلق ولا إلى دين، ولا همّ لهم إلا تزييف الحقائق، وتزيين الخرافات والأباطيل للناس..
مع أنهم لا ذنب لهم سوى أنهم ينقلون ما وجدوه ويتلون علينا ما قرؤوه. فإن كان ثمة من ذنب، فإنما يقع على غيرهم..
إنني أؤكد على أنه لا بد من أن يكون ثمة دعوة جادة، وعمل دائب في سبيل توطيد الثقة بين الناس وبين خطباء المنبر الحسيني.
مع الاهتمام برفع النقائص، والتخلي عن بعض السلبيات التي ربما نواجهها مع أفراد هم قلة منهم، فإن إصلاح هؤلاء ثم رفع مستوى الثقافة الإيمانية الذي يحتم على خطيب المنبر الحسيني أن يرتفع هو الآخر بثقافته تبعاً لذلك، هما السبيل القويم والسليم، لتجاوز بعض الحالات النادرة التي قد تعرض هنا أو هناك..
ولو افترضنا أن واحداً منهم روى رواية تفيد أن الإمام الحسين (عليه السلام) كانت له عشر حملات، قتل في كل حملة عشرة آلاف، ولم يستطع أن يناقش في ذلك لأنه لم يلتفت إلى أن جميع من حضروا كربلاء هم ثلاثون ألفاً، وليس ثلاث مئة ألف..
فإن ذلك لا يبرر اتهام عامة القراء بالجهل، والغوغائية، وبالكذب والتزوير وما إلى ذلك..
بل علينا إما أن ننبه ذلك الذي أخطأ إلى الصواب ليرتدع وينزجر ويُقلع، وإما أن نسميه للناس إن كان لا بد من ذلك.
أما أن نتهم الأبرياء بسببه، فلا وألف لا..
والخلاصة: إن وجود فرد أو أفراد يسيئون الاستفادة من هذا المنبر المقدس ولو عمداً، لا يعني ذلك أن نبادر إلى مهاجمة كل أهل هذا المنبر، تماماً، كما لو أن البعض أساء الاستفادة من الصلاة، وجعلها وسيلة لخداع الناس والمكر بهم، فإن ذلك لا يخولنا شن هجوم ساحق على جميع المصلين..
4 ـ إنه لا بد من الإقلاع عن تضخيم الأمور، بإطلاق الدعاوى العريضة حول وجود مكذوبات في أمر عاشوراء، إذ أن حدثاً خالداً عظيماً بدأت أحداثه قبل عشرات السنين، ولم يزل هو الشغل الشاغل لطائفة كبيرة من الناس ويتناقلونه عبر القرون والأحقاب.. إن هذا الحدث رغم أنه يشتمل على المئات من الخصوصيات والأحداث والتفاصيل الكثيرة والمتنوعة..
ثم رغم المحاولات الكثيرة التي تستهدف النيل منه في كل جيل، ورغم كل هذا الضجيج والعجيج الذي يثيره المغرضون حوله وضده، فإنه لم يستطع، ولن يستطيع أحد مهما جدّ واجتهد، إثبات التزوير والخرافة إلا في مقدار يسير جداً قد لا يصل إلى عدد أصابع اليدين.
وذلك يعني: أن الله قد حفظ هذا الدم الزاكي ليكون وسيلة لحفظ هذا الدين، وظهر بذلك مصداق قوله (صلى الله عليه وآله): إن الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة..
5 ـ إننا إذا أردنا أن نستعمل أسلوب الاستنساب في اختيار الأحداث والنصوص من جهة.
ثم نتحصن خلف الادعاءات العريضة وغير المسؤولة من جهة أخرى.
ثم نستعمل أسلوب التهويل والتضخيم لأمور جزئية وخارجة عن الموضوع الأساس من جهة ثالثة لتكون النتيجة هي استبعاد هذا النص، والتشكيك بذاك، واستنساب هذا وعدم استنساب ذاك، فإن ذلك سيكون جريمة ما بعدها جريمة ترتكب بحق الدم الزاكي الذي سفكته سيوف الحقد والشر في كربلاء..
6 ـ إن البكاء هو الإثارة العاطفية والتي تعني استجابة المشاعر والأحاسيس ليقظة الوجدان، وحياة الضمير وتعني أيضاً الإحساس بحجم الخسارة، وبمدى الجرأة على المثل والقيم، والمقدسات.. فلا بد إذن من التركيز على هذا الأمر. لأن حياة الوجدان ويقظة الضمير تجعل المنبر الحسيني قادراً على الإسهام الحقيقي في صنع المشاعر التي هي الرافد الأساس للإيمان والحافظ له من أن يتأثر بالهزات أو أن ينهار أمام الكوارث والأزمات، خصوصاً حين يكون هذا الإيمان قائماً على أساس الرؤية اليقينية والوضوح والواقعية. لأن من المعلوم أن الفكر الجاف الذي لا يحتضنه القلب، ولا ترفده المشاعر لن يتحول إلى إيمان راسخ ولن يفتح إيمان كهذا أمام هذا الإنسان آفاق التضحية، والفداء والإيثار والجهاد وسائر المعاني والقيم الكبرى، التي يريد الله لهذا الإنسان أن يقتحمها بقوة وبعزيمة ووعي وثبات.
وذلك يعطينا: أن علينا أن نخطط للبكاء الذي يحيي الضمير ويطلق الوجدان من أسر غفلاته، ويبعده عن دائرة اللامبالاة..
وذلك بإثارة الموضوعات التي تحمل هذه السمات، مثل قضية ذبح إبراهيم لولده إسماعيل ثم استجابة إسماعيل لهذا الأمر، وكذلك قصة حجر بن عدي وولده، وكثير من مفردات كربلاء، وسائر ما يخدم هذا الهدف السامي والنبيل..
7 ـ إن علينا أن نرتفع بالناس إلى مستوى الخطاب الحسيني من خلال التبني لمنهج تربوي، وتثقيفي عقائدي وإيماني، يعتمد تعريف الناس بالمعايير والضوابط الإيمانية ويقدم لهم ثقافة شاملة ومتنوعة تجعلهم يطلون من خلالها على مختلف حقائق هذا الدين وعلى الكثير من آفاقه الرحبة، ليخرجوا بذلك عن هذا الروتين الذي أفهمهم بصورة تلقينية خفية، أن الإسلام مجرد سياسة واقتصاد وعبادة وأخلاق في عملية فصل خطيرة جداً عن المعارف الشاملة والمتنوعة التي ترفد ذلك كله وسواه، وتشكل بمجموعها قاعدة إيمانية قوية وراسخة، تفتح أمام هذا الإنسان آفاقاً يشتاق إلى اقتحامها، وتعطيه المزيد من الإحساس بالغيب، وبالحكمة الإلهية ومزيداً من القرب والزلفى منه تعالى.
إن علينا أن لا نكتفي بأن نعّرف الناس بالأئمة (عليهم السلام) على الطريقة المألوفة، وهي التاريخ الشخصي لهم، حيث نعرضهم كشخصيات عاشت في الماضي، وكانت لها سياستها، وعباداتها وأخلاقها الحسنة، ثم.. ما وراء عبادان قرية.
بل علينا: أن نلخص لهم وفق برامج تربوية وتثقيفية كل المعارف التي وردت في كتاب الكافي بل وفي كتاب البحار، ولو بطريقة الفهرسة لتمر على مسامعهم لأن المعصومين ما قالوا شيئاً ليبقى مغيباً في بطون الكتب والموسوعات ولا بد أن يعرف الناس ما قاله الأئمة حول السماء، والعالم، والخلق والتكوين والآخرة والدنيا، وكل شيء.
ولتقرع مسامعهم الكثير من الأمور التي سيستغربونها لأن ذلك سيثير فضولهم، ويدفعهم للسؤال والبحث، وليشرفوا من ثم على آفاق جديدة من المعرفة التي لم تزل مدفونة في كتب التراث التي تحتضنها الأتربة. ويستقر فوقها غبار التاريخ، وإن ذلك ولا شك سيسهل عليهم فهم الكثير من أحداث كربلاء مما يستهجنونه ويستعظمونه منها..
8 ـ إن السيرة التي تقرأ في اليوم العاشر من المحرم قد يمكن الاقتصار فيها على نصوص معينة، وذلك لأكثر من سبب، ولكن ذلك لا يمنع من كتابة سيرة تفصيلية يتداولها الناس، وخطباء المنبر أيضاً، ليثقفوا الناس بها في الحالات الميسورة، يكون فيها الكثير من الأمور التي يحتاج الناس إلى معرفتها في نطاق الإطلاع على التفاصيل وفي هذا خدمة جليلة للمنبر الحسيني..
وذلك يجعلنا أبعد عن ممارسة أسلوب الانتقاء الذي من شأنه أن يعطي الانطباع السيء، من خلال ما يستبطنه من إدانة أو اتهام لكل نص لا يقع في دائرة الانتقاء، رغم أنه أحياناً يكون في غاية الأهمية والحساسية..
9 ـ إن علينا أن لا نحرم الآخرين من فرصة التفكير في أمر التراث، فكما أن لنا حق الاستفادة منه بما يتناسب مع حاجاتنا وإمكاناتنا الفكرية وغيرها، فإن علينا أن لا نحرم الأجيال الآتية من هذا الحق أيضاً.. وذلك بأن نقطع الطريق عليهم في مجال التعاطي معه، حتى وهم يكتشفون خطأنا الخطير والفادح في بعض تقييماتنا لقضاياه.. بسبب خطئنا في اختيار المعايير الصحيحة، أو لأي سبب آخر.. وهذا الأمر يحتم علينا أن نقف عند حدود العرض والتوثيق، ولا نبادر إلى الحكم بالإعدام على كثير من حقائقه استناداً إلى استنسابات قد تكون خاضعة لظرف سياسي أو نفسي، أو ما إلى ذلك..
وفقكم الله، وسدد في سبيل الحق والخير والهدى خطاكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
المصدر / مختصر مفيد (أسئلة وأجوبة في الدين والعقيدة)، السيد جعفر مرتضى العاملي .
تعليق