السؤال: الاستثناء فيها منقطع لا متصل
قال ابن منظور في باب (ودد): ((لأنّ المودّة في القربى ليست بأجر))(1)، بناء على أنّ الإستثناء هنا منقطع، فما هو الجواب؟
(1) لسان العرب 3: 454.
الجواب:
أولاً: ينبغي تقديم مقدّمة عن ظهور الإستثناء ودلالاته عند استعماله، فنقول:
قال العلاّمة التستري: ((الظاهر أنّ دعوى الإختلاف إختلاق من الناصب الذي ليس له خلاق، لما تقرّر عند المحقّقين من أهل العربية والأُصول: أنّ الإستثناء المنقطع مجاز واقع على خلاف الأصل، وأنّه لا يحمل على المنقطع إلاّ لتعذّر المتّصل، بل ربّما عدلوا عن ظاهر اللفظ الذي هو المتبادر إلى الذهن، مخالفين له لغرض الحمل على المتّصل، الذي هو الظاهر من الإستثناء، كما صرّح به الشارح العضدي، حيث قال: واعلم أنّ الحقّ أنّ المتّصل أظهر، فلا يكون مشتركاً [لفظاً] ولا للمشترك [معنى] بل حقيقة فيه ومجاز في المنقطع، ولذلك لم يحمله علماء الأمصار على المنفصل إلاّ عند تعذّر المتّصل، حتّى عدلوا للحمل على المتّصل عن الظاهر وخالفوه...، فيرتكبون الإضمار وهو خلاف الظاهر ليصير متّصلاً، ولو كان في المنقطع ظاهراً لم يرتكبوا مخالفة ظاهرٍ حذراً عنه))(1).
ثمّ قال السيّد المرعشي النجفي معلّقاً: ((إنّ المستثنى إن لم يكن داخلاً في المذكور كان استثناؤه عنه لغواً غير صالح لأن يذكر في كلام العقلاء، فالمستثنى عند انقطاع الإستثناء أيضاً داخل في المذكور بنحو من الدخول، وليس الإستثناء إلاّ إخراج ما لولاه لدخل، ومعلوم أنّ الإخراج فرع الدخول بالضرورة العقلية، والبداهة الأوّلية...، والذي هو الفارق بين المتّصل والمنقطع من الإستثناء بعد اشتراكهما في دخول المستثنى في المستثنى منه، دخوله فيه على نحو الحقيقة في المتّصل، وبنحو من أنحاء الدخول غير الدخول على نحو الحقيقة في المنقطع.
فتحصّل: أنّ مصحّح الإستثناء دخول المستثنى في المستثنى منه بنحوٍ من الدخول، وإلاّ فلا يسوغ في قانون المحاورات العرفية استثناؤه عنه، فلابدّ لمن يريد فهم مفاد الآية الكريمة: (( قُل لاَّ أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُربَى )) (الشورى:23) بحسب المحاورات العرفية، أن يحاول التفهّم والتفحّص عن مصحّح استثناء المودّة في القربى عن أجر الرسالة))(2).
فتبيّن ممّا قدّمنا:
1- إنّ الأصل في الإستثناء هو الحمل على المتّصل مهما أمكن، ولو بارتكاب مخالفة ظاهر أو ما شابه، وإلاّ فإنّه منقطع.
2- وعلى التسليم بأنّ الاستثناء هنا منقطع يتمّ به المطلوب أيضاً، حيث إنّ الاستثناء لا يصحّ إلاّ لوجود علاقة بين المستثنى والمستثنى منه ولو بنحو من الدخول، كأن يكون من توابعه، أو من شأنه وليس داخلاً حقيقة، كما سنوضّحه لاحقاً.
ثانياً: لننقل الكلام الآن في البحث عن سبب صرفهم الآية عن ظاهرها، والإستثناء عن ظاهره أيضاً، وهو كونه متّصلاً وجعله منقطعاً، فنقول:
إنّهم فعلوا ذلك للأسباب التالية:
أ - لقولهم: بأنّ المودّة ليست بأجر؛ لأنّها ليست أجراً دنيوياً مادّياً، فلا يصحّ إدخالها في جملة الأجور التي تقدّم مقابل أيّ شيء، لاسيّما تبليغ الرسالة.
ب - عدم جواز سؤال النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) الناس أن يكافؤوه ويشكروه، وينتظر منهم الأجر على ما قدّمه لهم من نصح وهداية، وتبليغ رسالة ربّه لهم؛ لأنّ ذلك ينافي الإخلاص، وانتظار الأجر والثواب من الله تعالى.
ج - مخالفة هذه الآية لآيات أُخَر كثيرة تذكر حوار الأنبياء والرسل، وكذلك نبيّنا(صلّى الله عليه وآله وسلّم) نفسه مع قومه، كما حكى سبحانه عنهم: (( وَمَا أَسأَلُكُم عَلَيهِ مِن أَجرٍ إِن أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ )) (الشعراء:109)، وقوله: (( وَيَا قَومِ لا أَسأَلُكُم عَلَيهِ مَالاً إِن أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ )) (هود:29)، وقوله: (( يَا قَومِ لا أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجرًا إِن أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعقِلُونَ )) (هود:51)، وقوله: (( قُل لاَّ أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجرًا إِن هُوَ إِلاَّ ذِكرَى لِلعَالَمِينَ )) (الأنعام:90) وغيرها من الآيات، فهذه أهمّ ما يمكن أن يتسبّب في قولهم بالاستثناء المنقطع.
وللجواب عن هذه الأُمور نقول:
أ - يجوز أن تكون المودّة والمحبّة لأهل البيت(عليهم السلام) أجراً للنبي(صلى الله عليه وآله) لعدّة أسباب:
1- كونه ظاهر الآية، وكذلك كونه ظاهر الاستثناء، كما بيّنا في المقدّمة، من وجوب البناء على كونه متّصلاً، إلاّ إذا استحال ذلك، وعلى أقلّ تقدير كون المتّصل أظهر من المنقطع، أو أنّه حقيقة والمنقطع مجاز، ما شئت فعبّر، فظاهر القرآن جعل المودّة أجراً.
2- كون الأجر غير محصور بالأجر المادّي، وإنّما يشمل المعنوي أيضاً؛ لأنّه عمل اختياري ذو قيمة محترمة، ومعتدّ بها شرعاً وعقلاً وعرفاً، فتدخل المودّة في مصاديق عنوان الأجر.
فالمحبّة لله ولرسوله ولأهل البيت وللمؤمنين عموماً ثابتة، ومأمور بها شرعاً، كقوله تعالى: (( وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاء بَعضٍ )) (التوبة:71)، وقوله: (( قُل إِن كُنتُم تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )) (آل عمران:31)، فبيّن سبحانه وتعالى في هذه الآية: بأنّ محبّتنا لله وللرسول لها أجر، هو مبادلتنا الحبّ مع غفران الذنوب، وهذا يدلّ على قيمة هذا العمل واحترامه والأمر به.
3- الكثير من الروايات(3)، والكثير من المتقدّمين والمتأخّرين ينصّون عند تفسير آية المودّة على جعل المودّة أجراً بصراحة ووضوح(4)، وهذا يدلّ على صحّة كون المودّة أجراً.
4- كون المودّة والمحبّة أنسب أجرٍ يقدّمه المهتدي لهاديه، مع نفعه العظيم لنفس المكلّف، فإنّ المحبّة تستلزم الاتباع المطلق والولاية المطلقة، ومحبّة أولياء الله الكاملين، وتستلزم أيضاً محبّة الطرف الثاني له، والشفاعة له والحشر معه، فـ((من أحبّ قوماً حشر معهم))(5).
5- كون المحبّة والمودّة لأهل البيت(عليهم السلام) عمل يستطيع كلّ مكلّف فعله، لقدرة الجميع عليها، فيناسب جعلها أجراً لعدم اختصاصها بشخص دون شخص، وبلا فرق بين صغير وكبير، رجل وامرأة، صحيح ومريض، مطيع وعاصٍ، غني وفقير، وبلا استثناء أو تخلّف.
فتبيّن: أنّ توهّمهم بأنّ المودّة لا تكون أجراً واضح البطلان.
ب - قد يجاب عن هذه النقطة، وهذا الإشكال بأُمور منها:
1- إنّ طلب الجزاء والشكر من قبل المحسن، من الذين أحسن إليهم ليس مستحيلاً ولا معيباً، بل هو أمر وارد وعقلائي وعرفي، بل وقرآني، فقد حكى القرآن الكريم ذلك عن الله تعالى، إذ قال: (( إِنَّ اللهَ لَذُو فَضلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَــكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَشكُرُونَ ))(6)، وقوله تعالى: (( لِتُؤمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكرَةً وَأَصِيلاً )) (الفتح:9)، وراجع الآيات التالية أيضاً: آية (37) من سورة إبراهيم، وآية (73) من سورة النمل، وآية (73) من سورة ياسين.
وكذلك ما يؤخذ من أجور من مثل الخليفة والقاضي والطبيب ومعلّم القرآن وغيرها من الأعمال القربية والتعبّدية، ولا ينافي أخذهم الأجر الدنيوي لمعاشهم، مع طلبهم الثواب منه سبحانه.
2- قد ثبت طلب النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لبعض الأُمور والمنافع له - كما هو الحال هنا - ولم ينكره أحد، كطلبه من أُمّته الصلاة والسلام عليه(7)، وكذلك لمن يسمع الأذان، أو يؤذّن أو يقيم أن يسأل له(صلّى الله عليه وآله وسلّم) الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود(8)، وكذلك طلب من الناس محبّته ومحبّة أهل بيته(9)، وعدم أذيته أو أحد من أهل بيته في كثير من الأحاديث المستفيضة، فهذا كهذا سيّان.
3- في هذا الطلب بيان من النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أهمّية أهل بيته(عليهم السلام)، والاهتمام بهم ومحبّتهم والإحسان إليهم، وأنّ ذلك يريحه ويفرحه، ويكون وفاءً حقيقياً له، وشكرهم وامتنانهم لهذا البيت الطاهر على ما قدّمه وضحّى وصبر من أجلهم.
4- إنّ كون طلب الأجر هنا لا ينافي الإخلاص، لأنّه جاء بأمر من الله تعالى، فإنّه أمر نبيّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يطلب الأجر على الرسالة بمودّة أهل بيته.
ج - أمّا ادعاء التعارض بين ظاهر هذه الآية والآيات الكريمة الأُخرى التي تنفي سؤال الأنبياء والرسل الأجر من الناس على أداء وتبليغ رسالة ربّهم ودينهم، فنقول:
يمكن تصنيف الآيات الواردة في موضوع الأجر إلى أربعة أصناف، وهي:
1- أمره سبحانه بأن يخاطبهم بأنّه لا يطلب منهم أجراً، قال سبحانه: (( إِن هُوَ إِلاَّ ذِكرَى لِلعَالَمِينَ ))(10)، أو قوله تعالى: (( قُل مَا أَسأَلُكُم عَلَيهِ مِن أَجرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ )) (ص:86).
2- ما يشعر بأنّه طلب منهم أجراً يرجع نفعه إليهم دون النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقول سبحانه: (( قُل مَا سَأَلتُكُم مِّن أَجرٍ فَهُوَ لَكُم إِن أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ )) (سبأ:74).
3- ما يعرف أجره بقوله: (( قُل مَا أَسأَلُكُم عَلَيهِ مِن أَجرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً )) (الفرقان:57)، فكان اتخاذ السبيل إلى الله هو أجر الرسالة.
4- ما يجعل مودّة القربى أجراً للرسالة، فيقول: (( قُل لاَّ أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُربَى )) (الشورى:23).
فتبيّن من مجموع هذه الآيات: بأنّه هناك أجر دنيوي وأُخروي، وما تجمع على نفيه جميع هذه الآيات هو الأجر الدنيوي، فيبقى الأجر الأُخروي.
فنستطيع فهمه على الاتصال، كما يلي:
إنّ الأجر المطلوب من الناس للنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، مطلوب من أُناس يريدون أن يتقرّبوا إلى الله تعالى، ويتّخذوا له سبيلاً، فبهذه المودّة يثبت لهم ما يريدون، فإنّه بالتالي يكون التزامهم بالمودّة وإرادتهم سبيل الله تعالى، يكون نفعه عائد إليهم أوّلاً، ومن ثمّ يعود أجره وثوابه للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)؛ لأنّ الدالّ على الخير كفاعله(11)، فهو السبب والدليل لجميع القربات، فيرجع له(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أجر أيضاً، وبالتالي نستطيع إثبات أنّ المودّة أجر دون أيّ مانع، أو تصادم أو تعارض.
وكلّ ذلك على القول بأنّ الإستثناء هنا متّصل.
وأمّا على القول بالانقطاع، فثبوت ذلك أسهل وأوضح دون أيّ مشكلة، بل أكثر علمائنا أكّدوا على وجوب كون الاستثناء هنا منقطعاً؛ لأنّه بذلك يثبت المدّعى بسهولة ويسر ووضوح، فنقول لبيان ذلك:
قال الشيخ السبحاني: ((إنّ مودّة ذي القربى وإن تجلّت بصورة الأجر، حيث استثنيت من نفي الأجر لكنّه أجر صوري، وليس أجراً واقعياً، فالأجر الواقعي عبارة عمّا إذا عاد نفعه إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنّه في المقام يرجع إلى المحبّ قبل رجوعه إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)؛ وذلك لأنّ مودّة ذي القربى تجرّ المحبّ إلى أن ينهج سبيلهم في الحياة، ويجعلهم أسوة في دينه ودنياه، ومن الواضح أنّ الحبّ بهذا المعنى ينتهي لصالح المحبّ....
إنّ طلب المودّة من الناس أشبه بقول طبيب لمريضه بعدما فحصه وكتب له وصفة: لا أُريد منك أجراً إلاّ العمل بهذه الوصفة، فإنّ عمل المريض بوصفة الطبيب وإن خرجت بهذه العبارة بصورة الأجر، ولكنّه ليس أجراً واقعياً يعود نفعه إلى الطبيب، بل يعود نفعه إلى نفس المريض الذي طلب منه الأجر.
وعلى ذلك فلابدّ من حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع، كأنّ يقول: قل لا أسألكم عليه أجراً، وإنّما أسألكم مودّة ذي القربى، وليس الاستثناء المنقطع أمراً غريباً في القرآن، بل له نظائر مثل قوله: (( لاَ يَسمَعُونَ فِيهَا لَغوًا إِلاَّ سَلاَمًا )) (مريم:62).
وعلى ذلك جرى شيخ الشيعة المفيد في تفسير الآية، حيث طرح السؤال، وقال: «... والاستثناء في هذا المكان ليس هو من الجملة، لكنّه استثناء منقطع، ومعناه: قل لا أسألكم عليه أجراً، لكن ألزمكم المودّة في القربى وأسألكموها))(12)(13).
وقال السيّد المرعشي النجفي: ((والذي لا ينكره ذو نظر سليم، وفهم مستقيم غير منحرف عن جادّة الإنصاف، أنّه بعد قيام القرائن الخارجية على أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يطالب من الناس أجراً لرسالته، لكون تحمّله لأعباء الرسالة خالصاً لوجه الله الكريم ومرضاته، إنّ المصحّح لاستثناء المودّة في القربى عن أجر الرسالة دخولها في أجر الرسالة شأناً (كما بيّننا آنفاً في الاستثناء المنقطع)، وأنّ المودّة في قربى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أجر لرسالته، لولا أنّ الرسالة لا تقبل الأجر عن الناس، فتبيّن إنّ مفاد الآية: أنّ أجر الرسالة لولا كون مقام الرسالة أجل من أن يؤدّي الشاكرون ما يحاذيها من العوض، وكون مقام النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أرفع من سؤال الأجر على تحمّل الرسالة، وأسنى من تنزيل شأن الرسالة إلى حيث يقابلها الناس بشيء ممّا يقدرون عليه من الأعواض والأبدال، وبنى الأمر على ما هو طريقة العقلاء من مطالبة الأعواض بإزاء المنافع الواصلة منهم إلى الناس، لا يكون ممّا طلبه النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بإزاء رسالته إلاّ المودّة في قرباه، وقد أمره الله بهذه المطالبة تنبيهاً لجماعة المسلمين على أمرين:
الأوّل: إنّ الاهتمام بالمودّة في قربى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أشدّ عند الله من سائر الحسنات طرّاً، بحيث كانت هي التي تنبغي مطالبتها أجراً للرسالة.
الثاني: بيان شدّة محبّة النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لقرباه، بحيث لو بنى على مطالبته من الناس أجراً على رسالته لم يطالب منهم أجراً إلاّ المودّة في قرباه، والإحسان إليهم))(14).
(1) شرح إحقاق الحقّ 3: 21 الرابعة قوله تعالى: (( قُل لاَّ أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجرًا... )).
(2) شرح إحقاق الحقّ 3: 19، الهامش (1).
(3) أنظر قرب الاسناد: 78 الحديث (254)، الأمالي للصدوق: 621، الخصال للصدوق: 213 باب (الأربعة) قول معاوية لابن عباس: اني لأحبك لخصال أربع، عيون أخبار الرضا(ع) 2: 211 باب (ذكر مجلس الرضا(ع) مع المأمون، أمالي المفيد: 152 المجلس التاسع عشر.
(4) الأمالي للصدوق: 739 المجلس الثالث والتسعون، تفسير ابن أبي حاتم 1: 3277 الحديث (18477)، تفسير الثعلبي 8: 310 قوله تعالى: (( ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ... )).
(5) المستدرك على الصحيحين 3: 18.
(6) البقرة (29): 243، يونس (10): 60، غافر (40): 61.
(7) قوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا ))(الأحزاب (33): 56).
(8) أنظر سنن النسائي 2: 27 كتاب (الأذان)، السنن الكبرى للبيهقي 1: 410 باب (الدعاء بين الأذان)، صحيح ابن خزيمة 1: 220، صحيح ابن حبان 4: 586، وغيرها.
(9) أنظر مسند أحمد بن حنبل 4: 367، سنن الدارمي 2: 432 كتاب فضائل القرآن، صحيح مسلم 7: 123، وغيرها.
(10) الأنعام (6): 90، يوسف (12): 104.
(11) كما في الحديث، مسند أحمد 5: 374، 357.
(12) تصحيح اعتقادات الإمامية: 141.
(13) مفاهيم القرآن 10: 264.
(14) شرح إحقاق الحقّ 3: 20 - 21.
قال ابن منظور في باب (ودد): ((لأنّ المودّة في القربى ليست بأجر))(1)، بناء على أنّ الإستثناء هنا منقطع، فما هو الجواب؟
(1) لسان العرب 3: 454.
الجواب:
أولاً: ينبغي تقديم مقدّمة عن ظهور الإستثناء ودلالاته عند استعماله، فنقول:
قال العلاّمة التستري: ((الظاهر أنّ دعوى الإختلاف إختلاق من الناصب الذي ليس له خلاق، لما تقرّر عند المحقّقين من أهل العربية والأُصول: أنّ الإستثناء المنقطع مجاز واقع على خلاف الأصل، وأنّه لا يحمل على المنقطع إلاّ لتعذّر المتّصل، بل ربّما عدلوا عن ظاهر اللفظ الذي هو المتبادر إلى الذهن، مخالفين له لغرض الحمل على المتّصل، الذي هو الظاهر من الإستثناء، كما صرّح به الشارح العضدي، حيث قال: واعلم أنّ الحقّ أنّ المتّصل أظهر، فلا يكون مشتركاً [لفظاً] ولا للمشترك [معنى] بل حقيقة فيه ومجاز في المنقطع، ولذلك لم يحمله علماء الأمصار على المنفصل إلاّ عند تعذّر المتّصل، حتّى عدلوا للحمل على المتّصل عن الظاهر وخالفوه...، فيرتكبون الإضمار وهو خلاف الظاهر ليصير متّصلاً، ولو كان في المنقطع ظاهراً لم يرتكبوا مخالفة ظاهرٍ حذراً عنه))(1).
ثمّ قال السيّد المرعشي النجفي معلّقاً: ((إنّ المستثنى إن لم يكن داخلاً في المذكور كان استثناؤه عنه لغواً غير صالح لأن يذكر في كلام العقلاء، فالمستثنى عند انقطاع الإستثناء أيضاً داخل في المذكور بنحو من الدخول، وليس الإستثناء إلاّ إخراج ما لولاه لدخل، ومعلوم أنّ الإخراج فرع الدخول بالضرورة العقلية، والبداهة الأوّلية...، والذي هو الفارق بين المتّصل والمنقطع من الإستثناء بعد اشتراكهما في دخول المستثنى في المستثنى منه، دخوله فيه على نحو الحقيقة في المتّصل، وبنحو من أنحاء الدخول غير الدخول على نحو الحقيقة في المنقطع.
فتحصّل: أنّ مصحّح الإستثناء دخول المستثنى في المستثنى منه بنحوٍ من الدخول، وإلاّ فلا يسوغ في قانون المحاورات العرفية استثناؤه عنه، فلابدّ لمن يريد فهم مفاد الآية الكريمة: (( قُل لاَّ أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُربَى )) (الشورى:23) بحسب المحاورات العرفية، أن يحاول التفهّم والتفحّص عن مصحّح استثناء المودّة في القربى عن أجر الرسالة))(2).
فتبيّن ممّا قدّمنا:
1- إنّ الأصل في الإستثناء هو الحمل على المتّصل مهما أمكن، ولو بارتكاب مخالفة ظاهر أو ما شابه، وإلاّ فإنّه منقطع.
2- وعلى التسليم بأنّ الاستثناء هنا منقطع يتمّ به المطلوب أيضاً، حيث إنّ الاستثناء لا يصحّ إلاّ لوجود علاقة بين المستثنى والمستثنى منه ولو بنحو من الدخول، كأن يكون من توابعه، أو من شأنه وليس داخلاً حقيقة، كما سنوضّحه لاحقاً.
ثانياً: لننقل الكلام الآن في البحث عن سبب صرفهم الآية عن ظاهرها، والإستثناء عن ظاهره أيضاً، وهو كونه متّصلاً وجعله منقطعاً، فنقول:
إنّهم فعلوا ذلك للأسباب التالية:
أ - لقولهم: بأنّ المودّة ليست بأجر؛ لأنّها ليست أجراً دنيوياً مادّياً، فلا يصحّ إدخالها في جملة الأجور التي تقدّم مقابل أيّ شيء، لاسيّما تبليغ الرسالة.
ب - عدم جواز سؤال النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) الناس أن يكافؤوه ويشكروه، وينتظر منهم الأجر على ما قدّمه لهم من نصح وهداية، وتبليغ رسالة ربّه لهم؛ لأنّ ذلك ينافي الإخلاص، وانتظار الأجر والثواب من الله تعالى.
ج - مخالفة هذه الآية لآيات أُخَر كثيرة تذكر حوار الأنبياء والرسل، وكذلك نبيّنا(صلّى الله عليه وآله وسلّم) نفسه مع قومه، كما حكى سبحانه عنهم: (( وَمَا أَسأَلُكُم عَلَيهِ مِن أَجرٍ إِن أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ )) (الشعراء:109)، وقوله: (( وَيَا قَومِ لا أَسأَلُكُم عَلَيهِ مَالاً إِن أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ )) (هود:29)، وقوله: (( يَا قَومِ لا أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجرًا إِن أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعقِلُونَ )) (هود:51)، وقوله: (( قُل لاَّ أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجرًا إِن هُوَ إِلاَّ ذِكرَى لِلعَالَمِينَ )) (الأنعام:90) وغيرها من الآيات، فهذه أهمّ ما يمكن أن يتسبّب في قولهم بالاستثناء المنقطع.
وللجواب عن هذه الأُمور نقول:
أ - يجوز أن تكون المودّة والمحبّة لأهل البيت(عليهم السلام) أجراً للنبي(صلى الله عليه وآله) لعدّة أسباب:
1- كونه ظاهر الآية، وكذلك كونه ظاهر الاستثناء، كما بيّنا في المقدّمة، من وجوب البناء على كونه متّصلاً، إلاّ إذا استحال ذلك، وعلى أقلّ تقدير كون المتّصل أظهر من المنقطع، أو أنّه حقيقة والمنقطع مجاز، ما شئت فعبّر، فظاهر القرآن جعل المودّة أجراً.
2- كون الأجر غير محصور بالأجر المادّي، وإنّما يشمل المعنوي أيضاً؛ لأنّه عمل اختياري ذو قيمة محترمة، ومعتدّ بها شرعاً وعقلاً وعرفاً، فتدخل المودّة في مصاديق عنوان الأجر.
فالمحبّة لله ولرسوله ولأهل البيت وللمؤمنين عموماً ثابتة، ومأمور بها شرعاً، كقوله تعالى: (( وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاء بَعضٍ )) (التوبة:71)، وقوله: (( قُل إِن كُنتُم تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )) (آل عمران:31)، فبيّن سبحانه وتعالى في هذه الآية: بأنّ محبّتنا لله وللرسول لها أجر، هو مبادلتنا الحبّ مع غفران الذنوب، وهذا يدلّ على قيمة هذا العمل واحترامه والأمر به.
3- الكثير من الروايات(3)، والكثير من المتقدّمين والمتأخّرين ينصّون عند تفسير آية المودّة على جعل المودّة أجراً بصراحة ووضوح(4)، وهذا يدلّ على صحّة كون المودّة أجراً.
4- كون المودّة والمحبّة أنسب أجرٍ يقدّمه المهتدي لهاديه، مع نفعه العظيم لنفس المكلّف، فإنّ المحبّة تستلزم الاتباع المطلق والولاية المطلقة، ومحبّة أولياء الله الكاملين، وتستلزم أيضاً محبّة الطرف الثاني له، والشفاعة له والحشر معه، فـ((من أحبّ قوماً حشر معهم))(5).
5- كون المحبّة والمودّة لأهل البيت(عليهم السلام) عمل يستطيع كلّ مكلّف فعله، لقدرة الجميع عليها، فيناسب جعلها أجراً لعدم اختصاصها بشخص دون شخص، وبلا فرق بين صغير وكبير، رجل وامرأة، صحيح ومريض، مطيع وعاصٍ، غني وفقير، وبلا استثناء أو تخلّف.
فتبيّن: أنّ توهّمهم بأنّ المودّة لا تكون أجراً واضح البطلان.
ب - قد يجاب عن هذه النقطة، وهذا الإشكال بأُمور منها:
1- إنّ طلب الجزاء والشكر من قبل المحسن، من الذين أحسن إليهم ليس مستحيلاً ولا معيباً، بل هو أمر وارد وعقلائي وعرفي، بل وقرآني، فقد حكى القرآن الكريم ذلك عن الله تعالى، إذ قال: (( إِنَّ اللهَ لَذُو فَضلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَــكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَشكُرُونَ ))(6)، وقوله تعالى: (( لِتُؤمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكرَةً وَأَصِيلاً )) (الفتح:9)، وراجع الآيات التالية أيضاً: آية (37) من سورة إبراهيم، وآية (73) من سورة النمل، وآية (73) من سورة ياسين.
وكذلك ما يؤخذ من أجور من مثل الخليفة والقاضي والطبيب ومعلّم القرآن وغيرها من الأعمال القربية والتعبّدية، ولا ينافي أخذهم الأجر الدنيوي لمعاشهم، مع طلبهم الثواب منه سبحانه.
2- قد ثبت طلب النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لبعض الأُمور والمنافع له - كما هو الحال هنا - ولم ينكره أحد، كطلبه من أُمّته الصلاة والسلام عليه(7)، وكذلك لمن يسمع الأذان، أو يؤذّن أو يقيم أن يسأل له(صلّى الله عليه وآله وسلّم) الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود(8)، وكذلك طلب من الناس محبّته ومحبّة أهل بيته(9)، وعدم أذيته أو أحد من أهل بيته في كثير من الأحاديث المستفيضة، فهذا كهذا سيّان.
3- في هذا الطلب بيان من النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أهمّية أهل بيته(عليهم السلام)، والاهتمام بهم ومحبّتهم والإحسان إليهم، وأنّ ذلك يريحه ويفرحه، ويكون وفاءً حقيقياً له، وشكرهم وامتنانهم لهذا البيت الطاهر على ما قدّمه وضحّى وصبر من أجلهم.
4- إنّ كون طلب الأجر هنا لا ينافي الإخلاص، لأنّه جاء بأمر من الله تعالى، فإنّه أمر نبيّه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يطلب الأجر على الرسالة بمودّة أهل بيته.
ج - أمّا ادعاء التعارض بين ظاهر هذه الآية والآيات الكريمة الأُخرى التي تنفي سؤال الأنبياء والرسل الأجر من الناس على أداء وتبليغ رسالة ربّهم ودينهم، فنقول:
يمكن تصنيف الآيات الواردة في موضوع الأجر إلى أربعة أصناف، وهي:
1- أمره سبحانه بأن يخاطبهم بأنّه لا يطلب منهم أجراً، قال سبحانه: (( إِن هُوَ إِلاَّ ذِكرَى لِلعَالَمِينَ ))(10)، أو قوله تعالى: (( قُل مَا أَسأَلُكُم عَلَيهِ مِن أَجرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ )) (ص:86).
2- ما يشعر بأنّه طلب منهم أجراً يرجع نفعه إليهم دون النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقول سبحانه: (( قُل مَا سَأَلتُكُم مِّن أَجرٍ فَهُوَ لَكُم إِن أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ )) (سبأ:74).
3- ما يعرف أجره بقوله: (( قُل مَا أَسأَلُكُم عَلَيهِ مِن أَجرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً )) (الفرقان:57)، فكان اتخاذ السبيل إلى الله هو أجر الرسالة.
4- ما يجعل مودّة القربى أجراً للرسالة، فيقول: (( قُل لاَّ أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُربَى )) (الشورى:23).
فتبيّن من مجموع هذه الآيات: بأنّه هناك أجر دنيوي وأُخروي، وما تجمع على نفيه جميع هذه الآيات هو الأجر الدنيوي، فيبقى الأجر الأُخروي.
فنستطيع فهمه على الاتصال، كما يلي:
إنّ الأجر المطلوب من الناس للنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، مطلوب من أُناس يريدون أن يتقرّبوا إلى الله تعالى، ويتّخذوا له سبيلاً، فبهذه المودّة يثبت لهم ما يريدون، فإنّه بالتالي يكون التزامهم بالمودّة وإرادتهم سبيل الله تعالى، يكون نفعه عائد إليهم أوّلاً، ومن ثمّ يعود أجره وثوابه للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)؛ لأنّ الدالّ على الخير كفاعله(11)، فهو السبب والدليل لجميع القربات، فيرجع له(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أجر أيضاً، وبالتالي نستطيع إثبات أنّ المودّة أجر دون أيّ مانع، أو تصادم أو تعارض.
وكلّ ذلك على القول بأنّ الإستثناء هنا متّصل.
وأمّا على القول بالانقطاع، فثبوت ذلك أسهل وأوضح دون أيّ مشكلة، بل أكثر علمائنا أكّدوا على وجوب كون الاستثناء هنا منقطعاً؛ لأنّه بذلك يثبت المدّعى بسهولة ويسر ووضوح، فنقول لبيان ذلك:
قال الشيخ السبحاني: ((إنّ مودّة ذي القربى وإن تجلّت بصورة الأجر، حيث استثنيت من نفي الأجر لكنّه أجر صوري، وليس أجراً واقعياً، فالأجر الواقعي عبارة عمّا إذا عاد نفعه إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنّه في المقام يرجع إلى المحبّ قبل رجوعه إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)؛ وذلك لأنّ مودّة ذي القربى تجرّ المحبّ إلى أن ينهج سبيلهم في الحياة، ويجعلهم أسوة في دينه ودنياه، ومن الواضح أنّ الحبّ بهذا المعنى ينتهي لصالح المحبّ....
إنّ طلب المودّة من الناس أشبه بقول طبيب لمريضه بعدما فحصه وكتب له وصفة: لا أُريد منك أجراً إلاّ العمل بهذه الوصفة، فإنّ عمل المريض بوصفة الطبيب وإن خرجت بهذه العبارة بصورة الأجر، ولكنّه ليس أجراً واقعياً يعود نفعه إلى الطبيب، بل يعود نفعه إلى نفس المريض الذي طلب منه الأجر.
وعلى ذلك فلابدّ من حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع، كأنّ يقول: قل لا أسألكم عليه أجراً، وإنّما أسألكم مودّة ذي القربى، وليس الاستثناء المنقطع أمراً غريباً في القرآن، بل له نظائر مثل قوله: (( لاَ يَسمَعُونَ فِيهَا لَغوًا إِلاَّ سَلاَمًا )) (مريم:62).
وعلى ذلك جرى شيخ الشيعة المفيد في تفسير الآية، حيث طرح السؤال، وقال: «... والاستثناء في هذا المكان ليس هو من الجملة، لكنّه استثناء منقطع، ومعناه: قل لا أسألكم عليه أجراً، لكن ألزمكم المودّة في القربى وأسألكموها))(12)(13).
وقال السيّد المرعشي النجفي: ((والذي لا ينكره ذو نظر سليم، وفهم مستقيم غير منحرف عن جادّة الإنصاف، أنّه بعد قيام القرائن الخارجية على أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يطالب من الناس أجراً لرسالته، لكون تحمّله لأعباء الرسالة خالصاً لوجه الله الكريم ومرضاته، إنّ المصحّح لاستثناء المودّة في القربى عن أجر الرسالة دخولها في أجر الرسالة شأناً (كما بيّننا آنفاً في الاستثناء المنقطع)، وأنّ المودّة في قربى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أجر لرسالته، لولا أنّ الرسالة لا تقبل الأجر عن الناس، فتبيّن إنّ مفاد الآية: أنّ أجر الرسالة لولا كون مقام الرسالة أجل من أن يؤدّي الشاكرون ما يحاذيها من العوض، وكون مقام النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أرفع من سؤال الأجر على تحمّل الرسالة، وأسنى من تنزيل شأن الرسالة إلى حيث يقابلها الناس بشيء ممّا يقدرون عليه من الأعواض والأبدال، وبنى الأمر على ما هو طريقة العقلاء من مطالبة الأعواض بإزاء المنافع الواصلة منهم إلى الناس، لا يكون ممّا طلبه النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بإزاء رسالته إلاّ المودّة في قرباه، وقد أمره الله بهذه المطالبة تنبيهاً لجماعة المسلمين على أمرين:
الأوّل: إنّ الاهتمام بالمودّة في قربى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أشدّ عند الله من سائر الحسنات طرّاً، بحيث كانت هي التي تنبغي مطالبتها أجراً للرسالة.
الثاني: بيان شدّة محبّة النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لقرباه، بحيث لو بنى على مطالبته من الناس أجراً على رسالته لم يطالب منهم أجراً إلاّ المودّة في قرباه، والإحسان إليهم))(14).
(1) شرح إحقاق الحقّ 3: 21 الرابعة قوله تعالى: (( قُل لاَّ أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجرًا... )).
(2) شرح إحقاق الحقّ 3: 19، الهامش (1).
(3) أنظر قرب الاسناد: 78 الحديث (254)، الأمالي للصدوق: 621، الخصال للصدوق: 213 باب (الأربعة) قول معاوية لابن عباس: اني لأحبك لخصال أربع، عيون أخبار الرضا(ع) 2: 211 باب (ذكر مجلس الرضا(ع) مع المأمون، أمالي المفيد: 152 المجلس التاسع عشر.
(4) الأمالي للصدوق: 739 المجلس الثالث والتسعون، تفسير ابن أبي حاتم 1: 3277 الحديث (18477)، تفسير الثعلبي 8: 310 قوله تعالى: (( ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ... )).
(5) المستدرك على الصحيحين 3: 18.
(6) البقرة (29): 243، يونس (10): 60، غافر (40): 61.
(7) قوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا ))(الأحزاب (33): 56).
(8) أنظر سنن النسائي 2: 27 كتاب (الأذان)، السنن الكبرى للبيهقي 1: 410 باب (الدعاء بين الأذان)، صحيح ابن خزيمة 1: 220، صحيح ابن حبان 4: 586، وغيرها.
(9) أنظر مسند أحمد بن حنبل 4: 367، سنن الدارمي 2: 432 كتاب فضائل القرآن، صحيح مسلم 7: 123، وغيرها.
(10) الأنعام (6): 90، يوسف (12): 104.
(11) كما في الحديث، مسند أحمد 5: 374، 357.
(12) تصحيح اعتقادات الإمامية: 141.
(13) مفاهيم القرآن 10: 264.
(14) شرح إحقاق الحقّ 3: 20 - 21.