بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أزاح المستور عن الظلامات الّتي وقعت على أُولي النعم وسادات الأمم ، محمّد وآل محمّد .
وأكمل الصلاة وأتمّ السلام على خاتم أنبيائه وسيّد رسله ، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ، الداعي إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ـ بدءاً بيوم الدار وآية الإنذار، وختماً بيوم الغدير الخالد الآثار ـ المستنقذ عباد الله المتّقين من الضلالة والهلكة ، الرؤوف بالمؤمنين الأبرار، والغليظ على الظالمين الكفّار.
والصلاة والسلام على وصيّه ، ووزيره ، وابن عمّه ، سيف الله الغالب عليّ بن أبي طالب ، زوج الزهراء البتول ، خليل النبوّة ، والمخصوص بالإخوّة ، سيّد المتّقين الأخيار، وقسيم الجنّة والنار.
وعلى ابنته الطاهرة البتول الّتي امتحنها الله قبل أن يخلقها، الحوراء الإنسيّة ، المحدَّثة العليمة ، التقيّة النقيّة ، الرضيّة المرضيّة ، الصدّيقة الكبرى، المؤيَّدة بالآية العظمى ، أُمّ الأئمة الميامين ، سيدة نساء العالمين ، اُمّ أبيها، وبضعته ، وروحه الّتي بين جنبيه ، الّتي من آذاها فقد آذى الله الخالق العلاّم , ونبيّه سيّد الأنام ، شهيدة سياط الفجّار، فاطمة بنت نبيّ الله المختار.
وعلى آل رسول الله , منهج الإيمان ، وهداة الإنس والجان ، مفاتيح الرحمة , ومقاليد المغفرة ، سحائب الرضوان , ومصابيح الجنان ، وحملة الفرقان ، خزنة علم الله ، وحفظة سرّه ، ومهبط وحيه ، وأركان تمجيده ، أشرف الدعاة إلى كتبه ، وأفضل الحفظة على ودائعه ، وهم لتوحيده خير أعوان وأنصار..
واللعن الوبيل الدائم على أعدائهم ، وعلى من ظلمهم حقّهم ، ودفعهم عن مقامهم وأزالهم عن مراتبهم الّتي رتّبهم الله فيها ، في كلّ ساعة وأوان إلى أن يقوم الخلق للحساب بين يديّ الواحد القهّار...
وبعد فحديثنا اليوم ذو شجون إذ نشد الرحال لتتبع شيئآ ممّا لحق بابنة خير خلق الله تعالى، سيّدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها والسرّ المستودع فيها، من حيف وظلم وجور وهضم للحقوق خلال سنيّات عمرها الشريف .
وقبل أن نسبر في ذلك نلقي نظرة على شيء من هويتها الشخصية عليها السلام :
هي فاطمة عليها السلام , الملقبة بالزهراء , كنيتها أُم الأئمة ,اسم أبيها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله , اسم امها خديجة بنت خويلد عليها السلام , ولدت في العشرين من جمادي الآخرة عام 5 بعد البعثة النبوية , واستشهدت رضوان الله عليها في الثالث من جمادي الآخرة عام 11 للهجرة على أشهر الروايات .
وقد دُفِنت سرآ في مكان مجهول عند عامة الناس , ولدت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام في بيت طاهر مفعم بالإيمان لتكون رمز المرأة المسلمة وسيدة نساء العالمين وأم الأئمة حيث كانت القطب الجامع بين النبوة والإمامة , نشأت فاطمة عليها السلام في بيت النبوة ومهبط الرسالة فكان أبوها رسول الله صلى الله عليه وآله يزقها العلوم الإلهية ويفيض عليها من معارفه الربانية
وشاءت حكمة الله تعالى أن تعاني هذه الابنة الطاهرة ما كان يعانيه أبوها من أذى المشركين فيما كان يدعوهم إلى عبادة الإله الواحد . ولم تكد تبلغ الخامسة من عمرها حتى توفيت أمها خديجة فكانت تلوذ بأبيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي بات سلوتها الوحيدة فوجدت عنده كل ما تحتاجه من العطف والحنان والحب والاحترام . ووجد فيها قرة عينه وسلوة أحزانه فكانت في حنانها عليه واهتمامها به كالأم الحنون حتى قال عنها : فاطمة ام أبيها .
هاجرت الى المدينة وعمرها سبع سنوات , لقد تميزت السيدة الزهراء ( عليها السلام ) بمستواها العلمي العميق من خلال اهتمامها بجمع آيات القرآن وتفسيرها والتعليق بخطها على هامش الآيات المباركة حتى صار عندها مصحف عُرف بمصحف فاطمة عليها السلام . وقد برزت علومها الإلهية في الخطبة الشهيرة التي ألقتها في مسجد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحضور المهاجرين والأنصار مطالبة بحقها في فدك حيث ظن بعض من سمعها أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بُعث من جديد لبلاغتها وفصاحتها وبعد مراميها وعمق فهمها للإسلام وأحكامه , لقد دعاها ذلك لتكون العابدة المتهجدة الناسكة الزاهدة الورعة حيث كانت تقوم في الليل حتى تتورّم قدماها ثم تدعو لجيرانها ثم لعموم المؤمنين قبل أن تدعو لنفسها .
لما بلغت التاسعة من العمر بدت عليها ملامح النضوج الفكري والرشد العقلي فتقدم سادات المهاجرين والأنصار لخطبتها طمعاً بمصاهرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولكنه كان يردهم بلطف معتذراً بأن أمرها الى ربها.
وخطبها علي ( عليه السلام ) فوافق النبي ( صلى الله عليه وآله) ووافقت فاطمة وتمّ الزواج على مهر قدره خمسمائة درهم ، فباع علي درعه لتأمين هذا المهر ولتأثيث البيت الذي سيضمهما فكان أن بسط أرض الحجرة بالرمل ونصب عوداً لتُعلق به القربة واشترى جرةً وكوزاً، وبسط فوق الرمل جلد كبش ومخدة من ليف.
لقد كان هذا البيت المتواضع غنياً بما فيه من القيم والأخلاق والروح الايمانية العالية فبات صاحباه زوجين سعيدين يعيشان الألفة والوئام والحب والاحترام حتى قال علي (عليه السلام ) يصف حياتهما معاً.
فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمرٍ حتى قبضها الله عزّ وجلّ ، ولا أغضبتني ولا عصت لي أمراً. لقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان .
وقد كانا قد تقاسما العمل ، فلها ما هو داخل عتبة البيت وله ما هو خارجها. وقد أثمر هذا الزواج ثماراً طيبة ، الحسن والحسين عليهما السلام سيدا شباب أهل الجنة والحوراء زينب .
تعلق رسول الله (صلى الله عليه وآله ) بإبنته فاطمة (عليها السلام ) تعلقاً خاصاً لِما كان يراه فيها من وعي وتقوى واخلاص فأحبها حباً شديداً الى درجة أنه كان لا يصبر على البعد عنها، فقد كان إذا أراد السفر جعلها اخر من يودع وإذا قدم من السفر جعلها أول من يلقى.
وكان إذا دخلت عليه وقف لها إجلالاً وقبلها بل ربما قبل يدها . وكان (صلى الله عليه وآله ) يقول: "فاطمة بضعة مني من اذاها فقد اذاني ومن اذاني فقد اذى الله".
ومع ذلك فقد جاءته يوماً تشكو إليه ضعفها وتعبها في القيام بعمل المنزل وتربية الأولاد وتطلب منه أن يهب لها جارية تخدمها. ولكنه قال لها: أعطيك ما هو خيرٌ من ذلك، وعلمها تسبيحة خاصة تستحب بعد كل صلاة وهي التكبير أربعاً وثلاثين مرة والتحميد ثلاثاً وثلاثين مرة والتسبيح ثلاثاً وثلاثين مرة وهذه التسبيحة عرفت فيما بعد بتسبيحة الزهراء.
وعندما حضرت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الوفاة أسرَّ إليها بكلمة فبكت ، ثم أسرّ إليها بكلمة فضحكت فسألها البعض عن ذلك بعد وفاته فقالت : أخبرني أنه راحل عن قريب فبكيت ثم أخبرني إني أول الناس لحوقاً به فضحكت .
ولم يكد جثمان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوارى الثرى حتى بدأت مظلومية الزهراء تتعاظم فقد انقلب الكثير ممن كان يدعي الإيمان كما قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } [آل عمران: 144] فتآمروا في سقيفة بني ساعده واغتصبوا حق بعلها بالخلافة بعد أن استيقنوا أحقيته بالخلافة في غدير خم , ثم اغتصبوا حقها في فدك ، وهي قرية كان النبي (صلى الله عليه وآله ) قد وهبها لها في حياته . ولم يراعِ القومُ في ذلك مقامها ومنزلتها عند النبي ولم يحفظوا فيها وصيته فأشتد حزنها على فراق أبيها ومظلومية بعلها فخرجت تحاجج القوم قائلة ( يا معاشر الفتية ، وأعضاد الملّة ، وأنصار الإسلام ، ما هذه الغميزة في حقّي ، والسنة عن ظلامتي؟!
فالحمد لله حمداً كثيراً ، فإنّ الحقّ يعلو ولا يعلى عليه ، وشمسه بازغة مشرقة أبداً ولو كره الكافرون ، والحقائق تبقى ثابتة هي هي ، تفصح حروفها بصدقها ، وتصرّح كلماتها بصحّتها وإن طالتها الأيادي الخبيثة ، ونالت منها الألسن المأجورة . والمظلوم يُنتَصفُ له ولو بعد حين ، ويؤخذ له بظلامته وإن مدّ الجور باعه ، وعلا بنيانه ، وتمادى في ظلمه وطغيانه... ) فما كان من القوم إلا أن يهجموا على دارها ويكسروا ضلعها ويسقطوا جنينها فكثر بكاؤها وأنينها حتى ماتت حزناً وكمداً بعد خمسٍ وسبعين يوماً من وفاة والدها ( صلى الله عليه وآله ) فدفنها علي عليه السلام سراً كي لا يعلم القوم بقبرها ، وذلك بوصية خاصة منها عليها السلام للتعبير عن سخطها على ظالميها .
إن الحديث عن شخصيّة سامية كشخصيّة فاطمة الزهراء (عليها السلام) حديث شاقّ، صعب، فقلم الكاتب وإن أجاد وأفاد، يتعثّر ويتلكّأ ويتوقّف إجلالاً وهيبة لعظم حقّها، وكبر مكانتها، وجلال شخصيّتها؛ ترى فأيّ عبارة سيختارها لتفي بمقام من اختارها الله ـ على علم ـ على نساء العالمين، وذكرها في محكم كتابه الكريم في آية المباهلة على إجماع المفسّرين(1)؟
وأيضاً قد بيّن سبحانه وتعالى منزلتها الرفيعة الّتي تتألّق وتتجلّى في الحديث القدسي في خطابه جلّ جلاله لسيّد رسله وأنبيائه (صلّى الله عليه وآله):
"يا أحمد! لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا عليّ لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما"(2)!!
____________
(1) أُنظر في ذلك تفاسير الخاصّة والعامّة في تفسير الآية الشريفة: 61 من سورة آل عمران {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ...} فقد صرّح المفسرون بأنّ المقصود من: ونساءنا. هي الزهراء "صلوات الله عليها" لاغير.
(2) أخرجه البحراني في ملتقى البحرين: 14، وابن العرندس في كشف اللآلي .
الحمد لله الذي أزاح المستور عن الظلامات الّتي وقعت على أُولي النعم وسادات الأمم ، محمّد وآل محمّد .
وأكمل الصلاة وأتمّ السلام على خاتم أنبيائه وسيّد رسله ، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ، الداعي إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ـ بدءاً بيوم الدار وآية الإنذار، وختماً بيوم الغدير الخالد الآثار ـ المستنقذ عباد الله المتّقين من الضلالة والهلكة ، الرؤوف بالمؤمنين الأبرار، والغليظ على الظالمين الكفّار.
والصلاة والسلام على وصيّه ، ووزيره ، وابن عمّه ، سيف الله الغالب عليّ بن أبي طالب ، زوج الزهراء البتول ، خليل النبوّة ، والمخصوص بالإخوّة ، سيّد المتّقين الأخيار، وقسيم الجنّة والنار.
وعلى ابنته الطاهرة البتول الّتي امتحنها الله قبل أن يخلقها، الحوراء الإنسيّة ، المحدَّثة العليمة ، التقيّة النقيّة ، الرضيّة المرضيّة ، الصدّيقة الكبرى، المؤيَّدة بالآية العظمى ، أُمّ الأئمة الميامين ، سيدة نساء العالمين ، اُمّ أبيها، وبضعته ، وروحه الّتي بين جنبيه ، الّتي من آذاها فقد آذى الله الخالق العلاّم , ونبيّه سيّد الأنام ، شهيدة سياط الفجّار، فاطمة بنت نبيّ الله المختار.
وعلى آل رسول الله , منهج الإيمان ، وهداة الإنس والجان ، مفاتيح الرحمة , ومقاليد المغفرة ، سحائب الرضوان , ومصابيح الجنان ، وحملة الفرقان ، خزنة علم الله ، وحفظة سرّه ، ومهبط وحيه ، وأركان تمجيده ، أشرف الدعاة إلى كتبه ، وأفضل الحفظة على ودائعه ، وهم لتوحيده خير أعوان وأنصار..
واللعن الوبيل الدائم على أعدائهم ، وعلى من ظلمهم حقّهم ، ودفعهم عن مقامهم وأزالهم عن مراتبهم الّتي رتّبهم الله فيها ، في كلّ ساعة وأوان إلى أن يقوم الخلق للحساب بين يديّ الواحد القهّار...
وبعد فحديثنا اليوم ذو شجون إذ نشد الرحال لتتبع شيئآ ممّا لحق بابنة خير خلق الله تعالى، سيّدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها والسرّ المستودع فيها، من حيف وظلم وجور وهضم للحقوق خلال سنيّات عمرها الشريف .
وقبل أن نسبر في ذلك نلقي نظرة على شيء من هويتها الشخصية عليها السلام :
هي فاطمة عليها السلام , الملقبة بالزهراء , كنيتها أُم الأئمة ,اسم أبيها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله , اسم امها خديجة بنت خويلد عليها السلام , ولدت في العشرين من جمادي الآخرة عام 5 بعد البعثة النبوية , واستشهدت رضوان الله عليها في الثالث من جمادي الآخرة عام 11 للهجرة على أشهر الروايات .
وقد دُفِنت سرآ في مكان مجهول عند عامة الناس , ولدت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام في بيت طاهر مفعم بالإيمان لتكون رمز المرأة المسلمة وسيدة نساء العالمين وأم الأئمة حيث كانت القطب الجامع بين النبوة والإمامة , نشأت فاطمة عليها السلام في بيت النبوة ومهبط الرسالة فكان أبوها رسول الله صلى الله عليه وآله يزقها العلوم الإلهية ويفيض عليها من معارفه الربانية
وشاءت حكمة الله تعالى أن تعاني هذه الابنة الطاهرة ما كان يعانيه أبوها من أذى المشركين فيما كان يدعوهم إلى عبادة الإله الواحد . ولم تكد تبلغ الخامسة من عمرها حتى توفيت أمها خديجة فكانت تلوذ بأبيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي بات سلوتها الوحيدة فوجدت عنده كل ما تحتاجه من العطف والحنان والحب والاحترام . ووجد فيها قرة عينه وسلوة أحزانه فكانت في حنانها عليه واهتمامها به كالأم الحنون حتى قال عنها : فاطمة ام أبيها .
هاجرت الى المدينة وعمرها سبع سنوات , لقد تميزت السيدة الزهراء ( عليها السلام ) بمستواها العلمي العميق من خلال اهتمامها بجمع آيات القرآن وتفسيرها والتعليق بخطها على هامش الآيات المباركة حتى صار عندها مصحف عُرف بمصحف فاطمة عليها السلام . وقد برزت علومها الإلهية في الخطبة الشهيرة التي ألقتها في مسجد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحضور المهاجرين والأنصار مطالبة بحقها في فدك حيث ظن بعض من سمعها أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بُعث من جديد لبلاغتها وفصاحتها وبعد مراميها وعمق فهمها للإسلام وأحكامه , لقد دعاها ذلك لتكون العابدة المتهجدة الناسكة الزاهدة الورعة حيث كانت تقوم في الليل حتى تتورّم قدماها ثم تدعو لجيرانها ثم لعموم المؤمنين قبل أن تدعو لنفسها .
لما بلغت التاسعة من العمر بدت عليها ملامح النضوج الفكري والرشد العقلي فتقدم سادات المهاجرين والأنصار لخطبتها طمعاً بمصاهرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولكنه كان يردهم بلطف معتذراً بأن أمرها الى ربها.
وخطبها علي ( عليه السلام ) فوافق النبي ( صلى الله عليه وآله) ووافقت فاطمة وتمّ الزواج على مهر قدره خمسمائة درهم ، فباع علي درعه لتأمين هذا المهر ولتأثيث البيت الذي سيضمهما فكان أن بسط أرض الحجرة بالرمل ونصب عوداً لتُعلق به القربة واشترى جرةً وكوزاً، وبسط فوق الرمل جلد كبش ومخدة من ليف.
لقد كان هذا البيت المتواضع غنياً بما فيه من القيم والأخلاق والروح الايمانية العالية فبات صاحباه زوجين سعيدين يعيشان الألفة والوئام والحب والاحترام حتى قال علي (عليه السلام ) يصف حياتهما معاً.
فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمرٍ حتى قبضها الله عزّ وجلّ ، ولا أغضبتني ولا عصت لي أمراً. لقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان .
وقد كانا قد تقاسما العمل ، فلها ما هو داخل عتبة البيت وله ما هو خارجها. وقد أثمر هذا الزواج ثماراً طيبة ، الحسن والحسين عليهما السلام سيدا شباب أهل الجنة والحوراء زينب .
تعلق رسول الله (صلى الله عليه وآله ) بإبنته فاطمة (عليها السلام ) تعلقاً خاصاً لِما كان يراه فيها من وعي وتقوى واخلاص فأحبها حباً شديداً الى درجة أنه كان لا يصبر على البعد عنها، فقد كان إذا أراد السفر جعلها اخر من يودع وإذا قدم من السفر جعلها أول من يلقى.
وكان إذا دخلت عليه وقف لها إجلالاً وقبلها بل ربما قبل يدها . وكان (صلى الله عليه وآله ) يقول: "فاطمة بضعة مني من اذاها فقد اذاني ومن اذاني فقد اذى الله".
ومع ذلك فقد جاءته يوماً تشكو إليه ضعفها وتعبها في القيام بعمل المنزل وتربية الأولاد وتطلب منه أن يهب لها جارية تخدمها. ولكنه قال لها: أعطيك ما هو خيرٌ من ذلك، وعلمها تسبيحة خاصة تستحب بعد كل صلاة وهي التكبير أربعاً وثلاثين مرة والتحميد ثلاثاً وثلاثين مرة والتسبيح ثلاثاً وثلاثين مرة وهذه التسبيحة عرفت فيما بعد بتسبيحة الزهراء.
وعندما حضرت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الوفاة أسرَّ إليها بكلمة فبكت ، ثم أسرّ إليها بكلمة فضحكت فسألها البعض عن ذلك بعد وفاته فقالت : أخبرني أنه راحل عن قريب فبكيت ثم أخبرني إني أول الناس لحوقاً به فضحكت .
ولم يكد جثمان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوارى الثرى حتى بدأت مظلومية الزهراء تتعاظم فقد انقلب الكثير ممن كان يدعي الإيمان كما قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } [آل عمران: 144] فتآمروا في سقيفة بني ساعده واغتصبوا حق بعلها بالخلافة بعد أن استيقنوا أحقيته بالخلافة في غدير خم , ثم اغتصبوا حقها في فدك ، وهي قرية كان النبي (صلى الله عليه وآله ) قد وهبها لها في حياته . ولم يراعِ القومُ في ذلك مقامها ومنزلتها عند النبي ولم يحفظوا فيها وصيته فأشتد حزنها على فراق أبيها ومظلومية بعلها فخرجت تحاجج القوم قائلة ( يا معاشر الفتية ، وأعضاد الملّة ، وأنصار الإسلام ، ما هذه الغميزة في حقّي ، والسنة عن ظلامتي؟!
فالحمد لله حمداً كثيراً ، فإنّ الحقّ يعلو ولا يعلى عليه ، وشمسه بازغة مشرقة أبداً ولو كره الكافرون ، والحقائق تبقى ثابتة هي هي ، تفصح حروفها بصدقها ، وتصرّح كلماتها بصحّتها وإن طالتها الأيادي الخبيثة ، ونالت منها الألسن المأجورة . والمظلوم يُنتَصفُ له ولو بعد حين ، ويؤخذ له بظلامته وإن مدّ الجور باعه ، وعلا بنيانه ، وتمادى في ظلمه وطغيانه... ) فما كان من القوم إلا أن يهجموا على دارها ويكسروا ضلعها ويسقطوا جنينها فكثر بكاؤها وأنينها حتى ماتت حزناً وكمداً بعد خمسٍ وسبعين يوماً من وفاة والدها ( صلى الله عليه وآله ) فدفنها علي عليه السلام سراً كي لا يعلم القوم بقبرها ، وذلك بوصية خاصة منها عليها السلام للتعبير عن سخطها على ظالميها .
إن الحديث عن شخصيّة سامية كشخصيّة فاطمة الزهراء (عليها السلام) حديث شاقّ، صعب، فقلم الكاتب وإن أجاد وأفاد، يتعثّر ويتلكّأ ويتوقّف إجلالاً وهيبة لعظم حقّها، وكبر مكانتها، وجلال شخصيّتها؛ ترى فأيّ عبارة سيختارها لتفي بمقام من اختارها الله ـ على علم ـ على نساء العالمين، وذكرها في محكم كتابه الكريم في آية المباهلة على إجماع المفسّرين(1)؟
وأيضاً قد بيّن سبحانه وتعالى منزلتها الرفيعة الّتي تتألّق وتتجلّى في الحديث القدسي في خطابه جلّ جلاله لسيّد رسله وأنبيائه (صلّى الله عليه وآله):
"يا أحمد! لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا عليّ لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما"(2)!!
____________
(1) أُنظر في ذلك تفاسير الخاصّة والعامّة في تفسير الآية الشريفة: 61 من سورة آل عمران {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ...} فقد صرّح المفسرون بأنّ المقصود من: ونساءنا. هي الزهراء "صلوات الله عليها" لاغير.
(2) أخرجه البحراني في ملتقى البحرين: 14، وابن العرندس في كشف اللآلي .
تعليق