السر كله في علي عليه السلام : لماذا كان اعظم قضية ف العالم؟
بعد مجيء آلاف الأنبياء تقبّلت البشريّة مثل هذا الدّور السّماويّ واستوعبت مبدأ الرّسالة الإلهيّة والحضور الرّبّاني في حياتها. لكن الكلفة الباهظة لمثل هذا الإنجاز كانت تعطّل تحقيق أحد أهم أهدافه. فقد اقتضى تحقيق الهدف الأوّل أن يظهر الأنبياء بمظهر من يفرض القوّة الإلهيّة عبر ما عُرف بالمعجزة، ممّا أدّى إلى احتجاب مهمّتهم الكبرى في تقديم النّموذج والمثل الأعلى خلف أعذار الناس وأوهامهم.. ولذلك كانت الحجّة، التي يستغلّها المعارضون للأنبياء، أينما أكّد الأنبياء على قضية الإنذار والتبليغ، هي أن يأتوا بآية تتوافق مع الأهواء.
لا شك بأنّ أنبياء الله لم ينساقوا لهذه الأهواء، لكنّهم اضطرّوا لاستخدام المعجزة من أجل إحداث الهزّة اللازمة لإدراك حضور الله تعالى. والمعجزة هي أمرٌ خارق خارج عن المسير الطبيعيّ للبشر. فكان ذلك سببًا لبروز مشكلة الاتّكالية والقعود. فأشهر الأنبياء في استخدام المعاجز الذي هو كليم الله موسى ـ على نبيّنا وآله وعليه السلام ـ نجده قد وصل في النهاية إلى مواجهة قوم شهدوا كل معاجزه وهم يقولون : {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُون} (سورة المائدة/ 24 )
لم يكن الهدف من وراء تثبيت الحضور الإلهيّ في الحياة إلّا أن يشعر النّاس بضرورة الإقبال على الله والسّير إليه حتّى الوصول إلى مقام رضوانه والتحقّق بأسمائه وصفاته. هذا السّير الذي لا يمكن أن يتم كما ينبغي، إلّا وفق حركة اختياريّة ممزوجة بالوعي العميق.. فلا يمكن هداية النّاس بالقهر والجبر، ولا يمكن للإنسان أن يستقر في مقام الكمال من دون وعيٍ واختيار.
لهذا، كان لا بدّ من تثبيت المبدأ الثاني مهما كلّف الثّمن. لأنّ عدم ترسيخه في الحياة البشريّة سيؤدّي إلى انتفاء المعنى الأساسيّ للنبوّة ويظهر الأنبياء وكأنّهم لم يبلّغوا رسالات الله. فما هي فائدة كل هذه الدعوات إن لم يستفد النّاس منها لأجل الوصول إلى كمالهم وإلى مقام قرب الحقّ تعالى؟!
بالتّأكيد، إنّ ترسيخ هذا المبدأ يتطلّب أوّلًا تحقيق نموذج واقعيّ يتمثّل في صناعة إنسانٍ كامل على يد النبوّة وفي حضن الرسالة؛ ويجب بعدها أن يؤمن النّاس أنّه بإمكانهم الوصول إلى أعلى مراتب الكمال فيما لو اتّبعوا النبيّ وسلكوا طريقه. ولا يتحقّق هذا الإيمان بمجرّد طرح الفكرة أو الإقناع بإمكانيّة حصولها، بل يجب أن يشاهدوا ويعايشوا ويشعروا بهذا الإنسان ويحبّوه وينجذبوا إليه ويطيعوه ويقتفوا أثره.
ويمكن في هذه العجالة أن نقول بأنّ النبيّ الوحيد الذي تمكّن من إنجاز هذه المهمّة وتربية إنسان كامل يحتوي على جميع مراتب الكمال ويكون مثلًا أعلى لله تعالى حيث يرى الله فيه كل ما يريده من الإنسان هو خاتم النبيّين محمد صلى الله عليه وآله.
ولا يشك أحد بأنّ صناعة النبيّ هذه قد ظهرت في شخصية عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
وبعد هذا الإنجاز الكبير، كان على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يجاهد من أجل ترسيخ مقام عليّ ومحوريّته في الرسالة وفي الدين وفي المشروع الإلهيّ، وأن يقول للنّاس انظروا إلى عليّ كأنكم تنظرون إلى الدين كلّه وكأنّكم ترون كل ما يريده الله متحقّقًا ومتجسّمًا أمامكم.
فأصبحت قضية عليّ عليه السلام قضيّة الدين وقضيّة الرسالات وقضيّة النبوّة وقضيّة الله عز وجلّ. وصار كل خلاف وائتلاف يدور حوله، وإن سعت الشياطين إلى طمس معالم هذه القضيّة.
فإن لم نؤمن بعلي كثمرة للنبوّة فكأنّنا لم نؤمن بالرسالة. فما نفع الشجرة دون الثمرة؟
السيّد عبّاس نورالدين
عن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «أَلاَ وإنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ جَمَعَ حِزْبَهُ، وَاسْتَجْلَبَ خَيْلَهُ وَرَجِلَهُ، وإِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتي: مَا لَبَّسْتُ عَلَى نَفْسِي، وَلاَ لُبِّسَ عَلَيَّ».
تتجلّى في شخصيّةِ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام) صفاتٌ ربّانيّةٌ، فهو الوليُّ الذي حظيَ بالرعايةِ الخاصّةِ من رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) فكان تجسيداً حقيقيّاً للولايةِ من بعدِه، ومن صفاتِه البارزةِ امتلاكُ البصيرةِ التي تجعلُه يرى الحقَّ تماماً، بل أصبحَ الحقُّ متّحداً معه فهو يدورُ معه كيفما دارَ، فقد وردَ عن رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «عليٌّ مع الحقِّ، والحقُّ يدورُ معه حيث دارَ، ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوضَ».
إنّ من يملكُ هذه الصفةَ لا يُمكنُ أنْ تُهيمنُ نفسُه عليه فتُخرجُه عن الحقِّ ولا أنْ يُهيمنُ عليه غيرُه، ومن الآثارِ المترتّبةِ على هذا أنْ يكونَ صاحبَ الحجّةِ القويةِ، ومن له الغلبةُ على خصومِه بلغةِ المنطقِ والحجّةِ قبلَ الحربِ والقتالِ، فقد وردَ عنه (عليه السلام): «أَنَا حَجِيجُ الْمَارِقِينَ، وَخَصِيمُ الْمُرْتَابِينَ، عَلَى كِتَابِ اللهِ تُعْرَضُ الأمْثالُ، وَبِمَا فِي الصُّدُورِ تُجَازَى الْعِبَادُ».
ومنْ امتلكَ الحقَّ وكان بصيراً به تماماً كان صاحبَ الموقفِ الصلبِ الذي يواجه الفتنَ ويتغلّبُ عليها، فقد وردَ عنه (عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي».
بل إنّه القدوةُ الذي يسيرُ الناسُ خلفَه؛ لأنّه المحقُّ وقد وردَ في روايةٍ أخرى عن رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله): «عليٌّ مع القرآنِ والقرآنُ معه، لا يفترقانِ حتى يردا عليَّ الحوضَ».
وهذا ما تحدَّثَ به الإمامُ عندما تحدَّثَ عن ملازمتِهِ لكتابِ اللهِ تعالى حيث يقولُ: «وَوَاللهِ إِنْ جِئْتُهَا إِنِّي لَلْمُحِقُّ الَّذِي يُتَّبَعُ، وَإِنَّ الْكِتَابَ لَمَعِي، مَا فَارَقْتُهُ مُذْ صَحِبْتُهُ».
إنّ من تجلياتِ هذه الصفةِ في أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام) أنّه كان يحملُ همّاً أساسيّاً وهو أنْ يأخذَ بالناسِ إلى الجنّةِ ويُجنّبَهم النارَ، ولذا يقولُ (عليه السلام) مخاطباً أهلَ البصرةِ: «فَإِنْ أَطَعْتُمُوني - فَإِنِّي حَامِلُكُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَنَّةِ - وَإِنْ كَانَ ذَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَمَذَاقَةٍ مَرِيرَةٍ»، ويقولُ الإمام الخامنئيُّ متحدّثاً عن هذه الخصوصيّةِ في شخصيّةِ الإمامِ (عليه السلام): «الهدفُ الذي كان لأميرِ المؤمنينَ (عليه السلام) تجاه الناسِ خلالَ فترةِ حكمِه... يقولُ إذا سمعتُم ما أقولُه لكم وعملتُم به، فإنّني سوف آخذكم إلى الجنّةِ إنْ شاءَ اللهُ. هذا هو هدفُ الإمامِ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام). إيصالُ الناسِ إلى الجنّةِ، سواء على الصعيدِ الفكريِّ [للناس]، أو على الصعيدِ الروحيِّ والقلبيِّ لهم، أو على صعيدِ حياتِهم الاجتماعيّةِ. إنّني أشدّدُ على هذه النقطةِ لأنّه يسمعُ أحياناً، هنا وهناك، عندما يجري الحديثُ عنِ الهدايةِ والإرشادِ وبيانِ حقائقِ الدينِ وما إلى ذلك، من يقولُ: يا سيّدي، وهل من واجبِنا أن نأخذَ الناسَ إلى الجنّةِ؟ نعم، نعم، هو كذلك. هذا هو الفرقُ بين الحاكمِ الإسلاميِّ وسائرِ الحكّامِ. يريدُ الحاكمُ الإسلاميُّ أنْ يعملَ لكي يوصلَ الناسَ إلى الجنّةِ ويتمتّعوا بالسعادةِ الحقيقيّةِ والأخرويّةِ... هذا هو واجبُنا، وهذا هو العملُ الذي حملَ الإمامُ أميرُ المؤمنينَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ (عليه السلام) أعباءَه على عاتقِه».
وختاماً، نبارك لكل شيعة العالم ذكرى ولادةِ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام).
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
تعليق