من المعروف ان الرشيد أتبع سياسة تضييق الخناق على العلويين وبصفة خاصة على الامام موسى بن جعفر الكاظم، فاتسمت تحركاتهم بالكتمان والسرية ومع هذا أستطاع الامام "عليه السلام" توجيه أتباعه ومريديه وفق المنهج العقدي بعدم التعامل مع السلطة الحاكمة بسبب عدم شرعيتها.
ولكنه في الوقت نفسه كان يعمل على معالجة الموضوع بالحكمة والمرونة العمليّة، فنراه في بعض الحالات يرفض لبعض أصحابه العمل مع السلطة من حيث المبدأ ويوحي له بالترك المطلق، بينما يؤكّد على بعضهم البقاء في عملهم داخل السلطة، ويشترط عليهم الالتزام برعاية إخوانهم وتفضيلهم على أساس استحقاقهم لذلك، من خلال ظلم الآخرين لهم وإهمالهم لحقوقهم بسبب انتمائهم لمدرسة اهل البيت "عليه السلام"
اذ نصح صفوان الجمّال الذي كان يملك قطيعاٍ من الجمال ومرتبط بعقد مع السلطة الحاكمة لنقل الأمتعة خلال السفر بفك ارتباطه مع السلطة[1] وذلك في ما رواه الكشي في كتابه قال: " ... دخلت على أبي الحسن الكاظم فقال: يا صفوان، كلُّ شيء منك حَسَنٌ جميل ما خلا شيئاً واحداً، قلت: جُعلت فداك أيّ شيء؟ قال: إكراؤك جمَالَك من هذا الرجل ]يعني هارون[ قلت: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للهو، ولكني أكريته لهذا الطريق]يعني طريق مكّة[ ـ ولا أتولاه ولكنْ أبعثُ معه غلماني، فقال لي: يا صفوان، أيقع أكراك عليهم؟ قلت: نعم جُعلت فداك، فقال لي: أتحبُّ بقاءَهم حتى يخرج كراك؟ قلت: نعم، قال: فمن أحبَّ بقاءهم فهو منهم، ومَن كان منهم ورد النّار. فقال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها"[2]، يبدو من النص ان صفوان بادر بفسخ العقد وباع جماله، فارسل الرشيد في طلبه لمعرفة السبب فتعذر صفوان باعتذارات شتى فعلم الرشيد ان هذا الامر وتوجيهاته لا تكون الا عن طريق موسى بن جعفر ولولا معرفته السابقة بصفوان لقتله بقوله :" ... بلغني أنَّك بعت جمالك، قلت: نعم، قال: لِمَ؟ قلت: أنا شيخٌ كبيرٌ وإنَّ الغلمان لا يفون بالأعمال، فقال: هيهات هيهات، إنّي لأعلم من أشار عليك بهذا، أَشَارَكَ موسى بن جعفر، فقلت: ما لي ولموسى بن جعفر، فقال: دعْ عنك هذا، فوالله لولا صحبتُك لقتلتك"[3].
يبدو من هذه الرواية أنَّ الإمام موسى بن جعفر الكاظم "عليه السلام" كان حاسماً مع صفوان الجمال في ترك عمله، من خلال الإيحاء بأنَّ القضيّة ليست قضيّة العمل ، بل القضيّة قضيّة الحالة النفسيّة التي قد يعيشها صفوان الجمال في الرغبة في بقائهم حتى تخرج إليه أجرتُه، أي ان صفوان في بعض الاحيان يصل به الامر الى التعاطف مع أوضاعهم العامة بشكل غير مباشر، وقد تكون هذه الأوضاع تشمل من الظلم والعدوان وارتكاب المحرّمات. وعليه يمكن القول ان عمل صفوان الجمال لا يتصل بالقضايا العامة للمسلمين، أي لم يكن هناك ضررٌ من خروجه ومن عمله لهم.
الا ان الامام موسى بن جعفر الكاظم استثنى علي بن يقطين وزير الرشيد في العمل مع السلطة الحاكمة، وقد يبدو ان الامام "عليه السلام" تصرف وفق ما تقتضيه المصلحة العامة اذ وجد في شخصيته المخلصة والمتفانية لخدمة اهل البيت ومواليهم ودفع الاذى والضرر عنهم قدر الامكان لذا عندما استشاره علي بن يقطين في ترك العمل مع السلطة الحاكمة لم يأذن له قائلاً :" لا تفعل فان لنا بك انساً ولإخوانك بك عزا وعسى ان يجبر الله بك كسراً ويكسر بك نائرة المخالفين عن اوليائه، يا علي كفارة اعمالكم الاحسان الى اخوانكم، اضمن الي واحدة واضمن لك ثلاثاً: أضمن لي ان لا تلقي أحداً من أوليائنا الا قضيت حاجته واكرمته، واضمن لك، ان لا يظلك سقف سجن ابداً، ولا ينالك حد السيف ابداً ولا يدخل الفقر بيتك ابداً يا علي من سر مؤمناً فبالله بداً والنبي ثنى وبنا ثلث"[4] وقد جاء في الكافي عن إبراهيم بن أبي محمود عن عليّ بن يقطين، قال: قلت لأبي الحسن "عليه السلام" : ما تقول في أعمال هؤلاء؟ قال "عليه السلام" : "إن كنت فاعلاً فاتّق أموال الشيعة. قال: فأخبرني عليّ بن يقطين أنَّه كان يجبيها من الشيعة علانيةً ويردُّها عليهم في السرّ"[5] .
يبدو ان عليّ بن يقطين كان يمثّل مركز قوّةٍ في السلطة الحاكمة، وكان الإمام الكاظم "عليه السلام" يرى فيه ضمانةً كبيرة لدفع الظلم عن أولياء الله، وحماية أموالهم وأنفسهم، حيث اصبح وجوده ضروريّاً، ولذلك لم يرضَ له الإمام بالاستقالة، بل فرض عليه البقاء بالشروط الشرعيّة التي تتمثّل في السير في هذا الخطّ.
يؤكد الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد قائلاً: "حمل الرشيد في بعض الأيام إلى عليِّ بن يقطين ثياباً أكرمه بها، وكان في جملتها دُرّاعةُ خزٍّ سوداءُ من لباس الملوك مُثقلة بالذهب، فأنفذَ علي بن يقطين جُلَّ تلك الثياب إلى موسى بن جعفر، وأنفذ في جملتها تلك الدُّرّاعة، وأضاف إليها مالاً كان عنده على رسمٍ له في ما يحمله إليه من خُمس ماله.. فلما وصل ذلك إلى أبي الحسن، قَبِلَ المالَ والثياب، وردَّ الدُّرّاعة على يد الرسول إلى عليِّ بن يقطين، وكتب إليه: "احتفظ بها ولا تُخرجها عن يدك، فسيكون لكَ بها شأنٌ تحتاج إليها معه"، فارتاب علي بن يقطين بردِّها عليه، ولم يدر ما سببُ ذلك، واحتفظ بالدُّرّاعة. فلما كان بعد أيام، تغيّر علي بن يقطين على غلامٍ كان يختصُّ به، فصرفه عن خدمته، وكان الغلام يعرف ميلَ عليِّ بن يقطين إلى أبي الحسن موسى، ويقف على ما يحمله إليه في كلِّ وقتٍ من مالٍ وثياب وألطاف وغير ذلك، فسعى به إلى الرشيد فقال: إنَّه يقول بإمامة موسى بن جعفر، ويحمل إليه خُمْسَ ماله في كلِّ سنة، وقد حمل إليه الدُّرّاعة التي أكرمه بها أمير المؤمنين في وقت كذا وكذا. فاستشاط الرشيد لذلك وغضب غضباً شديداً، وقال: لأكشفنَّ عن هذه الحال، فإن كان الأمر صحيحاً كما تقول أزهقتُ نفسه. وطلب بإحضار عليِّ بن يقطين، فلما مَثُلَ بين يديه قال له: ما فعلتِ الدُّرّاعةُ التي كسوتُك بها؟ قال: هي يا أمير المؤمنين عندي في سَفَطٍ مختومٍ فيه طيبٌ قد احتفظت بها، قلَّما أصبحت إلاَّ وفتحتُ السَفَطَ ونظرتُ إليها تبرّكاً بها وقبّلتُها ورددتُها إلى موضعها، وكلما أمسيتُ صنعتُ بها مثل ذلك.
قال: أحضرها الساعة، قال: نعم يا أمير المؤمنين. واستدعى بعض خدمه فقال له: إمضِ إلى البيت الفلانيّ من داري فخذ مفتاحه من خزانتي وافتحه، ثم افتح الصندوق الفلانيّ فجئني بالسَفَط الذي فيه بختمه، فلم يلبث الغلام أن جاء بالسَفَط مختوماً، فوُضِع بين يدي الرشيد، فأمر بكسر ختمه وفتحه.. فلما فُتِح نظر إلى الدُّرّاعة فيه بحالها، مطويّة مدفونة في الطيب، فسكن الرشيد من غضبه، ثم قال لعليِّ بن يقطين: اردُدها إلى مكانها وانصرف راشداً، فلن أصدّق عليك بعدها ساعياً" [6].
نستنتج من ذلك إبقاء الامام الكاظم "عليه السلام " لعليّ بن يقطين في وظيفته تؤكد لنا على اختيار بعض الشخصيّات الموثوقة التي تملك الكفاءة والأمانة الدينيّة للدخول في مراكز النفوذ الرسميّ في الدولة ، وذلك من أجل المصالح الإسلامية العليا على مستوى حماية الإسلام، والمسلمين، لأنَّ وجودها في هذه المواقع يحفظ الكثير من الأوضاع والمواقف ويحقّق الكثير من الإيجابيّات على أكثر من صعيد.
وفي ضوء ذلك، ان الموقف السلبيّ من السلطة الجائرة لا يبقى في دائرته السلبيّة وخصوصا ان كانت هناك قضايا مهمّة تتصل بحلِّ مشاكل المؤمنين من خلالهم، كما هو الحال في المرحلة التي كان الإمام موسى بن جعفر الكاظم "عليه السلام" يعيش فيها، لا سيما إذا كانت الظروف الموضوعيّة لا تسمح بسقوط هذه السلطة، وفي الوقت الذي تسيطر فيها على مقدّرات الواقع الحياتيّ كله، ما يستوجب الحَرَج الشديد عليهم، وهو منفيّ في الشريعة في قوله تعالى: ï´؟ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ï´¾[7].
في الوقت نفسه، ان لا تتحوّل هذه العلاقة إلى حالة استسلام للحكم وإقرار له بحيث تحقّق له الشرعيّة في نظر المسلمين، وخصوصا إذا كانت العلاقة من قِبَل بعض الأشخاص الذين ترتبط الشرعية الفقهيّة بأقوالهم وأفعالهم.
جعفر رمضان
[1] محمد بن عمر الكشي، رجال الكشي، تحقيق : السيد احمد الحسيني،( بيروت: مؤسسة الاعلمي، د.ت)، ص447
[2] المصدر نفسه ، ص447.
[3] محمد باقر المجلسي ، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (طهران: احياء الكتب الإسلامية) ، 48، ص136.
[4] محمد باقر المجلسي، المصدر السابق، ج 48، ص136.
[5] الكليني، اصول الكافي، تحقيق محمد الاخوندي، (طهران: دار الكتب الاسلامية، 1363ش) ، ج 5، ص 110.
[6] المفيد محمد بن محمد بن النعمان البغدادي ، الارشاد في معرفة حجج الله على العباد ،(بيروت: مؤسسة ال البيت عليهم السلام لأحياء التراث،1995)، ص:225-216
[7] سورة الحج ، الآية 78
تعليق