السؤال: جواب على ما قاله الآلوسي في تفسيره (روح المعاني)
قال محمود الآلوسي (ت1270هـ) في تفسيره (روح المعاني) في تفسير قوله تعالى: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ )):
*************************
ثمّ إنّه سبحانه لمّا قال: (( لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ )) (المائدة:51) وعلّله بما علّله، ذكر عقب ذلك من هو حقيق بالموالاة بطريق القصر، فقال عزّ وجلّ: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ))، فكأنّه قيل: لا تتّخذوا أولئك أولياء لأنّ بعضهم أولياء بعض وليسوا بأوليائكم، إنّما أولياؤكم الله تعالى ورسوله(صلّى الله عليه وسلّم) والمؤمنون، فاختصوهم بالموالاة ولا تتخطّوهم إلى الغير..
وأفرد الوليّ مع تعدّده ليفيد كما قيل: أنّ الولاية لله تعالى بالأصالة وللرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بالتبع؛ فيكون التقدير: إنّما وليّكم الله سبحانه، وكذلك رسوله(صلّى الله عليه وسلّم) والذين آمنوا، فيكون في الكلام أصل وتبع، لا أنّ (وليّكم) مفرد استعمل استعمال الجمع، كما ظنّ صاحب (الفرائد)؛ فاعترض بأنّ ما ذكر بعيد عن قاعدة الكلام لما فيه من جعل ما لا يستوي الواحد والجمع جمعاً، ثمّ قال: ويمكن أن يقال: التقدير: إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا أولياؤكم، فحذف الخبر لدلالة السابق عليه، وفائدة الفصل في الخبر هي: التنبيه على أنّ كونهم أولياء بعد كونه سبحانه وليّاً، ثمّ بجعله إيّاهم أولياء، ففي الحقيقة هو الوليّ. انتهى.
ولا يخفى على المتأمّل أنّ المآل متّحد والمورد واحد، وممّا تقرر يعلم أنّ قول الحلبـي: ويحتمل وجهاً آخر، وهو: أنّ وليّاً زنة فعيل، وقد نصّ أهل اللسان أنّه يقع للواحد والاثنين والجمع تذكيراً وتأنيثاً بلفظ واحد، كـ(صديق)، غير واقع موقعه؛ لأنّ الكلام فيه سرّ بياني، وهو: نكتة العدول من لفظ إلى لفظ..
ولا يرد على ما قدّمنا أنّه: لو كان التقدير كذلك لنافى حصر الولاية في الله تعالى ثمّ إثباتها للرسول(صلّى الله عليه وسلّم) وللمؤمنين؛ لأنّ الحصر باعتبار أنّه سبحانه الوليّ أصالة وحقيقة، وولاية غيره إنّما هي بالإسناد إليه عزّ شأنه.
(( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ )) بدل من الموصول الأوّل، أو صفة له باعتبار إجرائه مجرى الأسماء؛ لأنّ الموصول وصلَة إلى وصف المعارف بالجمل، والوصف لا يوصف إلاّ بالتأويل، ويجوز أن يعتبر منصوباً على المدح، ومرفوعاً عليه أيضاً، وفي قراءة عبد الله: (( و - الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ )) بالواو.
(( وَهُم رَاكِعُونَ )): حال من فاعل الفعلين، أي: يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعون لله تعالى.
وقيل: هو حال مخصوصة بإيتاء الزكاة، والركوع ركوع الصلاة، والمراد بيان كمال رغبتهم في الإحسان ومسارعتهم إليه.
وغالب الأخباريين على أنّها نزلت في عليّ كرّم الله تعالى وجهه؛ فقد أخرج الحاكم وابن مردويه وغيرهما عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما بإسناد متّصل، قال: (( أقبل ابن سلام ونفر من قومه آمنوا بالنبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) فقالوا: يا رسول الله! إنّ منازلنا بعيدة وليس لنا مجلس ولا متحدّث دون هذا المجلس، وإنّ قومنا لمّا رأونا آمنا بالله تعالى ورسوله(صلّى الله عليه وسلّم) وصدّقناه رفضونا، وآلوا على نفوسهم أن لا يجالسونا، ولا يناكحونا، ولا يكلّمونا، فشقّ ذلك علينا.
فقال لهم النبـيّ(صلّى الله عليه وسلّم): إنّما وليّكم الله ورسوله.
ثمّ إنّه (صلّى الله عليه وسلّم) خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع، فبصر بسائل، فقال: هل أعطاك أحد شيئاً؟ فقال: نعم، خاتم من فضّة. فقال: من أعطاكه؟ فقال: ذلك القائم. وأومأ إلى عليّ كرّم الله تعالى وجهه، فقال النبـيّ (صلّى الله عليه وسلّم): على أيّ حال أعطاك؟ فقال: وهو راكع. فكبر النبـيّ (صلّى الله عليه وسلّم) ثمّ تلا هذه الآية ))، فأنشأ حسان رضي الله تعالى عنه يقول:
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي ***** وكلّ بطيء في الهدى ومسارع
أيذهب مديحك المحبّر ضائعاً ***** وما المدح في جنب الإله بضائع
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعاً ***** زكاة فدتك النفس يا خير راكــع
فأنزل فيك الله خير ولايــــة ***** وأثبتها أثنا كتاب الشرائـــع
واستدلّ الشيعة بها على إمامته كرّم الله تعالى وجهه، ووجه الاستدلال بها عندهم أنّها بالإجماع أنّها نزلت فيه كرّم الله تعالى وجهه، وكلمة (إِنَّمَا) تفيد الحصر، ولفظ الوليّ بمعنى المتولّي للأمور والمستحقّ للتصرّف فيها، وظاهر أنّ المراد هنا: التصرّف العام المساوي للإمامة، بقرينة ضم ولايته كرّم الله تعالى وجهه بولاية الله تعالى ورسوله(صلّى الله عليه وسلّم)، فثبتت إمامته وانتفت إمامة غيره وإلاّ لبطل الحصر، ولا إشكال في التعبير عن الواحد بالجمع؛ فقد جاء في غير ما موضع، وذكر علماء العربية أنّه يكون لفائدتين: تعظيم الفاعل، وأنّ من أتى بذلك الفعل عظيم الشأن بمنزلة جماعة، كقوله تعالى: (( إِنَّ إِبراهِيمَ كَانَ أُمَّةً )) (النحل:12)، ليرغب الناس في الإتيان بمثل فعله، وتعظيم الفعل أيضاً حتى أنّ فعله سجية لكلّ مؤمن، وهذه نكتة سرية (سارية) تعتبر في كلّ مكان بما يليق به.
وقد أجاب أهل السُنّة عن ذلك بوجوه:
الأوّل: النقض، بأنّ هذا الدليل كما يدلّ بزعمهم على نفي إمامة الأئمّة المتقدّمين كذلك يدلّ على سلب الإمامة عن الأئمّة المتأخّرين، كالسبطين رضي الله تعالى عنهما وباقي الاثني عشر رضي الله تعالى عنهم أجمعين بعين ذلك التقرير، فالدليل يضر الشيعة أكثر ممّا يضر أهل السُنّة كما لا يخفى.
ولا يمكن أن يقال: الحصر إضافي بالنسبة إلى من تقدّمه؛ لأنّا نقول: إنّ حصر ولاية من استجمع تلك الصفات لا يفيد إلاّ إذا كان حقيقياً، بل لا يصحّ لعدم استجماعها فيمن تأخّر عنه كرّم الله تعالى وجهه.
وإن أجابوا عن النقض بأنّ المراد حصر الولاية في الأمير كرّم الله تعالى وجهه في بعض الأوقات، أعني: وقت إِمامته لا وقت إمامة السبطين ومن بعدهم رضي الله تعالى عنهم، قلنا: فمرحباً بالوفاق؛ إذ مذهبنا أيضاً أنّ الولاية العامّة كانت له وقت كونه إماماً، لا قبله، وهو زمان خلافة الثلاثة، ولا بعده، وهو زمان خلافة من ذكر.
فإن قالوا: إنّ الأمير كرّم الله تعالى وجهه لو لم يكن صاحب ولاية عامّة في عهد الخلفاء يلزمه نقص بخلاف وقت خلافة أشباله الكرام رضي الله تعالى عنهم، فإنّه لمّا لم يكن حيّاً لم تصر إمامة غيره موجبة لنقص شرفه الكامل؛ لأنّ الموت رافع لجميع الأحكام الدنيوية.
يقال: هذا فرار وانتقال إلى استدلال آخر ليس مفهوماً من الآية؛ إذ مبناه على مقدّمتين: الأولى: إنّ كون صاحب الولاية العامّة في ولاية الآخر -. ولو في وقت من الأوقات -. غير مستقلّ بالولاية نقص له، والثانية: إنّ صاحب الولاية العامّة لا يلحقه نقص مّا بأي وجه وأي وقت كان، وكلتاهما لا يفهمان من الآية أصلاً كما لا يخفى على ذي فهم..
على أنّ هذا الاستدلال منقوض بالسبطين زمن ولاية الأمير كرّم الله تعالى وجهه، بل وبالأمير أيضاً في عهد النبـيّ(صلّى الله عليه وسلّم).
والثاني: إنّا لا نسلّم الإجماع على نزولها في الأمير كرّم الله تعالى وجهه؛ فقد اختلف علماء التفسير في ذلك، فروى أبو بكر النقّاش صاحب التفسير المشهور عن محمد الباقر رضي الله تعالى عنه: أنّها نزلت في المهاجرين والأنصار، وقال قائل: نحن سمعنا أنّها نزلت في عليّ كرّم الله تعالى وجهه، فقال: هو منهم، يعني أنّه كرّم الله تعالى وجهه داخل أيضاً في المهاجرين والأنصار ومن جملتهم.
وأخرج أبو نعيم في (الحلية) عن عبد الملك بن أبـي سليمان وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبـي حاتم عن الباقر رضي الله تعالى عنه أيضاً نحو ذلك، وهذه الرواية أوفق بصيغ الجمع في الآية.
وروى جمع من المفسّرين عن عكرمة أنّها نزلت في شأن أبـي بكر رضي الله تعالى عنه.
والثالث: أنّا لا نسلّم أنّ المراد بالوليّ: المتولّي للأمور والمستحقّ للتصرّف فيها تصرّفاً عامّاً، بل المراد به: الناصر، لأنّ الكلام في تقوية قلوب المؤمنين وتسليتها وإزالة الخوف عنها من المرتدّين، وهو أقوى قرينة على ما ذكره، ولا يأباه الضم، كما لا يخفى على من فتح الله تعالى عين بصيرته.
ومن أنصف نفسه علم أنّ قوله تعالى في ما بعد: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُم هُزُواً وَلَعِباً مّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَـابَ مِن قَبلِكُم وَالكُفَّارَ أَولِيَاء )) (المائدة:57) آبٍ عن حمل الوليّ على ما يساوي الإمام الأعظم؛ لأنّ أحداً لم يتّخذ اليهود والنصارى والكفّار أئمّة لنفسه، وهم أيضاً لم يتّخذ بعضهم بعضاً إماماً، وإنّما اتّخذوا أنصاراً وأحباباً.
وكلمة (إِنَّمَا) المفيدة للحصر تقتضي ذلك المعنى أيضاً؛ لأنّ الحصر يكون في ما يحتمل اعتقاد الشركة والتردّد والنزاع، ولم يكن بالإجماع وقت نزول هذه الآية تردّد ونزاع في الإمامة وولاية التصرّف، بل كان في النصرة والمحبّة.
والرابع: أنّه لو سلم أنّ المراد ما ذكروه، فلفظ الجمع عام، أو مساوٍ له - كما ذكره المرتضى في (الذريعة)، وابن المطهّر في (النهاية) - والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، كما اتّفق عليه الفريقان، فمفاد الآية حينئذٍ حصر الولاية العامّة لرجال متعدّدين يدخل فيهم الأمير كرّم الله تعالى وجهه، وحمل العام على الخاص خلاف الأصل، لا يصحّ ارتكابه بغير ضرورة ولا ضرورة.
فإن قالوا: الضرورة متحقّقة هاهنا إذ التصدّق على السائل في حال الركوع لم يقع من أحد غير الأمير كرّم الله تعالى وجهه، قلنا: ليست الآية نصّاً في كون التصدّق واقعاً في حال ركوع الصلاة؛ لجواز أن يكون الركوع بمعنى التخشّع والتذلّل لا بالمعنى المعروف في عرف أهل الشرع، كما في قوله:
لا تهين الفقير علّك أن ***** (تركع) يوماً والدهر قد رفعه
وقد استعمل بهذا المعنى في القرآن أيضاً، كما قيل في قوله سبحانه: (( وَاركَعِي مَعَ الراكِعِينَ )) (آل عمران:43)؛ إذ ليس في صلاة من قبلنا من أهل الشرائع ركوع هو أحد الأركان بالإجماع، وكذا في قوله تعالى: (( وَخَرَّ رَاكِعاً )) (ص:24)، وقوله عزّ وجلّ: (( وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركَعُوا لاَ يَركَعُونَ )) (المرسلات:48) على ما بيّنه بعض الفضلاء، وليس حمل الركوع في الآية على غير معناه الشرعي بأبعد من حمل الزكاة المقرونة بالصلاة على مثل ذلك التصدّق، وهو لازم على مدّعى الإمامية قطعاً.
وقال بعض منّا أهل السُنّة: إنّ حمل الركوع على معناه الشرعي وجعل الجملة حالاً من فاعل (( يُؤتُونَ )) يوجب قصوراً بيّناً في مفهوم (( يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ ))؛ إذ المدح والفضيلة في الصلاة كونها خالية عمّا لا يتعلّق بها من الحركات سواءً كانت كثيرة أم قليلة، غاية الأمر أنّ الكثيرة مفسدة للصلاة دون القليلة، ولكن تؤثّر قصوراً في معنى إقامة الصلاة ألبتة، فلا ينبغي حمل كلام الله تعالى الجليل على ذلك، انتهى.
وبلغني أنّه قيل لابن الجوزي رحمه الله تعالى: كيف تَصَدَّقَ عليّ كرّم الله تعالى وجهه بالخاتم وهو في الصلاة، والظنّ فيه -. بل العلم الجازم - أنّ له كرّم الله تعالى وجهه شغلاً شاغلاً فيها عن الالتفات إلى ما لا يتعلّق بها، وقد حكي ممّا يؤيد ذلك كثير؟ فأنشأ يقول:
يسقي ويشرب لا تلهيه سكرته ***** عن النديم ولا يلهو عن الناس
أطاعه سكره حتى تمكّن من ***** فعل الصحاة فهذا واحد الناس
وأجاب الشيخ إبراهيم الكردي قدس سره عن أصل الاستدلال، بأنّ: الدليل قائم في غير محلّ النزاع، وهو كون عليّ كرّم الله تعالى وجهه إماماً بعد رسول الله(صلّى الله عليه وسلّم) من غير فصل؛ لأنّ ولاية الذين آمنوا على زعم الإمامية غير مرادة في زمان الخطاب، لأنّ ذلك عهد النبوّة، والإمامة نيابة، فلا تتصوّر إلاّ بعد انتقال النبـيّ(صلّى الله عليه وسلّم)، وإذا لم يكن زمان الخطاب مراداً، تعيّن أن يكون المراد الزمان المتأخر عن زمن الانتقال ولا حدّ للتأخير، فليكن ذلك بالنسبة إلى الأمير كرّم الله تعالى وجهه بعد مضي زمان الأئمّة الثلاثة، فلم يحصل مدّعى الإمامية.
ومن العجائب أنّ صاحب (إظهار الحقّ) قد بلغ سعيه الغاية القصوى في تصحيح الاستدلال بزعمه، ولم يأت بأكثر ممّا يضحك الثكلى، وتفزع من سماعه الموتى؛ فقال: إنّ الأمر بمحبّة الله تعالى ورسوله(صلّى الله عليه وسلّم) يكون بطريق الوجوب لا محالة، فالأمر بمحبّة المؤمنين المتّصفين بما ذكر من الصفات وولايتهم أيضاً كذلك، إذ الحكم في كلام واحد يكون موضوعه متّحداً أو متعدّداً أو متعاطفاً، لا يمكن أن يكون بعضه واجباً وبعضه مندوباً، وإلاّ لزم استعمال اللفظ بمعنيين، فإذا كانت محبّة أولئك المؤمنين وولايتهم واجبة وجوب محبّة الله تعالى ورسوله (صلّى الله عليه وسلّم) امتنع أن يراد منهم كافة المسلمين وكلّ الأمّة، باعتبار أنّ من شأنّهم الاتّصاف بتلك الصفات؛ لأنّ معرفة كلّ منهم ليحبّ ويوالي ممّا لا يمكن لأحد من المكلفين بوجه من الوجوه، وأيضاً قد تكون معاداة المؤمنين لسبب من الأسباب مباحة بل واجبة، فتعين أن يراد منهم البعض، وهو عليّ المرتضى كرّم الله تعالى وجهه. انتهى.
ويرد عليه: أنّه مع تسليم المقدّمات أين اللزوم بين الدليل والمدّعى؟ وكيف استنتاج المتعين من المطلق؟
وأيضاً لا يخفى على من له أدنى تأمّل أنّ موالاة المؤمنين من جهة الإيمان أمر عام بلا قيد ولا جهة، وترجع إلى موالاة إيمانهم في الحقيقة، والبغض لسبب غير ضار فيها.
وأيضاً ماذا يقول في قوله سبحانه: (( وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَـاتُ بَعضُهُم أَولِيَاء بَعضٍ... )) (التوبة:71) الآية؟
وأيضاً ماذا يجاب عن معاداة الكفّار، وكيف الأمر فيها وهم أضعاف المؤمنين؟ ومتى كفت الملاحظة الإجمالية هناك فلتكف هنا، وأنت تعلم أنّ ملاحظة الكثرة بعنوان الوحدة ممّا لا شك في وقوعها، فضلاً عن إمكانها.
والرجوع إلى علم الوضع يهدي لذلك، والمحذور كون الموالاة الثلاثة في مرتبة واحدة وليس فليس، إذ الأولى: أصل. والثانية: تبع. والثالثة: تبع التبع، فالمحمول مختلف، ومثله الموضوع؛ إذ الموالاة من الأمور العامّة، وكالعوارض المشكّكة، والعطف موجب للتشريك في الحكم لا في جهته، فالموجود في الخارج الواجب والجوهر والعرض مع أنّ نسبة الوجود إلى كلّ غير نسبته إلى الآخر، والجهة مختلفة بلا ريب، وهذا قوله سبحانه: (( قل هَـذِهِ سَبِيلِي أَدعُو إلى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي )) (يوسف:108)، مع أنّ الدعوة واجبة على الرسول(صلّى الله عليه وسلّم) مندوبة في غيره، ولهذا قال الأُصوليون: القِران في النظم لا يوجب القِران في الحكم، وعدوا هذا النوع من الاستدلال من المسالك المردودة.
ثمّ إنّه أجاب عن حديث عدم وقوع التردد مع اقتضاء (إِنَّمَا) له بأنّه: يظهر من بعض أحاديث أهل السُنّة أنّ بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم التمسوا من حضرة النبـيّ(صلّى الله عليه وسلّم) الاستخلاف؛ فقد روى الترمذي عن حذيفة (( أنّهم قالوا: يا رسول الله لو استخلفت؟ قال: (لو استخلفت عليكم فعصيتموه عُذّبتم، ولكن ما حدّثكم حذيفة فصدّقوه، وما أقرأكم عبد الله فاقرؤوه ) )).
وأيضاً استفسروا منه عليه الصلاة والسلام عمّن يكون إماماً بعده(صلّى الله عليه وسلّم)؛ فقد أخرج أحمد عن عليّ كرّم الله تعالى وجهه، قال: (( قيل: يا رسول الله من نؤمّر بعدك؟ قال: (إن تؤمروا أبا بكر رضي الله تعالى عنه تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة، وإن تؤمّروا عمر رضي الله تعالى عنه تجدوه قوياً أميناً لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمّروا عليّاً -. ولا أراكم فاعلين -. تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الصراط المستقيم ) ))، وهذا الإلتماس والاستفسار يقتضي كلّ منهما وقوع التردد في حضوره(صلّى الله عليه وسلّم) عند نزول الآية، فلم يبطل مدلول (إِنَّمَا). انتهى.
وفيه أنّ محض السؤال والاستفسار لا يقتضي وقوع التردد، نعم لو كانوا شاوروا في هذا الأمر ونازع بعضهم بعضاً بعدما سمعوا من النبـيّ(صلّى الله عليه وسلّم) جواب ما سألوه لتحقّق المدلول، وليس فليس، ومجرد السؤال والاستفسار غير مقتض لـ(إنّما) ولا من مقاماته، بل هو من مقامات (إنّ)، والفرق مثل الصبح ظاهر، وأيضاً لو سلّمنا التردد، ولكن كيف العلم بأنّه بعد الآية أو قبلها، منفصلاً أو متّصلاً، سبباً للنزول أو اتّفاقياً، ولا بدّ من إثبات القبلية والاتّصال والسببية، وأين ذلك؟ والاحتمال غير مسموع ولا كاف في الاستدلال.
وبعد هذا كلّه الحديث الثاني ينافي الحصر صريحاً؛ لأنّه(صلّى الله عليه وسلّم) في مقام السؤال عن المستحقّ للخلافة ذكر الشيخين، فإن كانت الآية متقدّمة لزم مخالفة الرسول(صلّى الله عليه وسلّم) القرآن، أو بالعكس لزم التكذيب، والنسخ لا يعقل في الأخبار على ما قرر، ومع ذا تقدم كلّ على الآخر مجهول فسقط العمل.
فإن قالوا: الحديث خبر الواحد، وهو غير مقبول في باب الإمامة.
قلنا: وكذلك لا يقبل في إثبات التردد والنزاع الموقوف عليه التمسّك بالآية، والحديث الأوّل يفيد أنّ ترك الاستخلاف أصلح فتركه -. كما تفهمه الآية بزعمهم -. تركه، وهم لا يجوّزونه؛ فتأمّل!
وذكر الطبرسي في (مجمع البيان) وجهاً آخر غير ما ذكره صاحب (إظهار الحقّ) في أنّ الولاية مختصّة، وهو: (( أنّه سبحانه قال: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ))، فخاطب جميع المؤمنين، ودخل في الخطاب النبـيّ(صلّى الله عليه وسلّم) وغيره، ثمّ قال تعالى: (( وَرَسُولُهُ )) فأخرج نبيّه عليه الصلاة والسلام من جملتهم؛ لكونهم مضافين إلى ولايته، ثمّ قال جلّ وعلا: (( وَالَّذِينَ آمَنُوا )) فوجب أن يكون الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية، وإلاّ لزم أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه، وأن يكون كلّ واحد من المؤمنين وليّ نفسه وذلك محال )). انتهى.
وأنت تعلم أنّ المراد ولاية بعض المؤمنين بعضاً، لا أن يكون كلّ واحد منهم وليّ نفسه، وكيف يتوهّم من قولك مثلاً: أيّها الناس لا تغتابوا الناس، أنّه نهي لكلّ واحد من الناس أن يغتاب نفسه؟
وفي الخبر أيضاً: (صوموا يوم يصوم الناس)، ولا يختلج في القلب أنّه أمر لكلّ أحد أن يصوم يوم يصوم الناس، ومثل ذلك كثير في كلامهم.
وما قدّمناه في سبب النزول ظاهر في أنّ المخاطب بذلك: ابن سلام وأصحابه.
وعليه لا إشكال إلاّ أنّ ذلك لا يعّد مخصّصاً، كما لا يخفى، فالآية على كلّ حال لا تدلّ على خلافة الأمير كرّم الله تعالى وجهه على الوجه الذي تزعمه الإمامية، وهو ظاهر لمن تولّى الله تعالى حفظ ذهنه عن غبار العصبية.
*************************
ما جواب هذا التفسير؟
يتبع
قال محمود الآلوسي (ت1270هـ) في تفسيره (روح المعاني) في تفسير قوله تعالى: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ )):
*************************
ثمّ إنّه سبحانه لمّا قال: (( لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ )) (المائدة:51) وعلّله بما علّله، ذكر عقب ذلك من هو حقيق بالموالاة بطريق القصر، فقال عزّ وجلّ: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ))، فكأنّه قيل: لا تتّخذوا أولئك أولياء لأنّ بعضهم أولياء بعض وليسوا بأوليائكم، إنّما أولياؤكم الله تعالى ورسوله(صلّى الله عليه وسلّم) والمؤمنون، فاختصوهم بالموالاة ولا تتخطّوهم إلى الغير..
وأفرد الوليّ مع تعدّده ليفيد كما قيل: أنّ الولاية لله تعالى بالأصالة وللرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بالتبع؛ فيكون التقدير: إنّما وليّكم الله سبحانه، وكذلك رسوله(صلّى الله عليه وسلّم) والذين آمنوا، فيكون في الكلام أصل وتبع، لا أنّ (وليّكم) مفرد استعمل استعمال الجمع، كما ظنّ صاحب (الفرائد)؛ فاعترض بأنّ ما ذكر بعيد عن قاعدة الكلام لما فيه من جعل ما لا يستوي الواحد والجمع جمعاً، ثمّ قال: ويمكن أن يقال: التقدير: إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا أولياؤكم، فحذف الخبر لدلالة السابق عليه، وفائدة الفصل في الخبر هي: التنبيه على أنّ كونهم أولياء بعد كونه سبحانه وليّاً، ثمّ بجعله إيّاهم أولياء، ففي الحقيقة هو الوليّ. انتهى.
ولا يخفى على المتأمّل أنّ المآل متّحد والمورد واحد، وممّا تقرر يعلم أنّ قول الحلبـي: ويحتمل وجهاً آخر، وهو: أنّ وليّاً زنة فعيل، وقد نصّ أهل اللسان أنّه يقع للواحد والاثنين والجمع تذكيراً وتأنيثاً بلفظ واحد، كـ(صديق)، غير واقع موقعه؛ لأنّ الكلام فيه سرّ بياني، وهو: نكتة العدول من لفظ إلى لفظ..
ولا يرد على ما قدّمنا أنّه: لو كان التقدير كذلك لنافى حصر الولاية في الله تعالى ثمّ إثباتها للرسول(صلّى الله عليه وسلّم) وللمؤمنين؛ لأنّ الحصر باعتبار أنّه سبحانه الوليّ أصالة وحقيقة، وولاية غيره إنّما هي بالإسناد إليه عزّ شأنه.
(( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ )) بدل من الموصول الأوّل، أو صفة له باعتبار إجرائه مجرى الأسماء؛ لأنّ الموصول وصلَة إلى وصف المعارف بالجمل، والوصف لا يوصف إلاّ بالتأويل، ويجوز أن يعتبر منصوباً على المدح، ومرفوعاً عليه أيضاً، وفي قراءة عبد الله: (( و - الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ )) بالواو.
(( وَهُم رَاكِعُونَ )): حال من فاعل الفعلين، أي: يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعون لله تعالى.
وقيل: هو حال مخصوصة بإيتاء الزكاة، والركوع ركوع الصلاة، والمراد بيان كمال رغبتهم في الإحسان ومسارعتهم إليه.
وغالب الأخباريين على أنّها نزلت في عليّ كرّم الله تعالى وجهه؛ فقد أخرج الحاكم وابن مردويه وغيرهما عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما بإسناد متّصل، قال: (( أقبل ابن سلام ونفر من قومه آمنوا بالنبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) فقالوا: يا رسول الله! إنّ منازلنا بعيدة وليس لنا مجلس ولا متحدّث دون هذا المجلس، وإنّ قومنا لمّا رأونا آمنا بالله تعالى ورسوله(صلّى الله عليه وسلّم) وصدّقناه رفضونا، وآلوا على نفوسهم أن لا يجالسونا، ولا يناكحونا، ولا يكلّمونا، فشقّ ذلك علينا.
فقال لهم النبـيّ(صلّى الله عليه وسلّم): إنّما وليّكم الله ورسوله.
ثمّ إنّه (صلّى الله عليه وسلّم) خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع، فبصر بسائل، فقال: هل أعطاك أحد شيئاً؟ فقال: نعم، خاتم من فضّة. فقال: من أعطاكه؟ فقال: ذلك القائم. وأومأ إلى عليّ كرّم الله تعالى وجهه، فقال النبـيّ (صلّى الله عليه وسلّم): على أيّ حال أعطاك؟ فقال: وهو راكع. فكبر النبـيّ (صلّى الله عليه وسلّم) ثمّ تلا هذه الآية ))، فأنشأ حسان رضي الله تعالى عنه يقول:
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي ***** وكلّ بطيء في الهدى ومسارع
أيذهب مديحك المحبّر ضائعاً ***** وما المدح في جنب الإله بضائع
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعاً ***** زكاة فدتك النفس يا خير راكــع
فأنزل فيك الله خير ولايــــة ***** وأثبتها أثنا كتاب الشرائـــع
واستدلّ الشيعة بها على إمامته كرّم الله تعالى وجهه، ووجه الاستدلال بها عندهم أنّها بالإجماع أنّها نزلت فيه كرّم الله تعالى وجهه، وكلمة (إِنَّمَا) تفيد الحصر، ولفظ الوليّ بمعنى المتولّي للأمور والمستحقّ للتصرّف فيها، وظاهر أنّ المراد هنا: التصرّف العام المساوي للإمامة، بقرينة ضم ولايته كرّم الله تعالى وجهه بولاية الله تعالى ورسوله(صلّى الله عليه وسلّم)، فثبتت إمامته وانتفت إمامة غيره وإلاّ لبطل الحصر، ولا إشكال في التعبير عن الواحد بالجمع؛ فقد جاء في غير ما موضع، وذكر علماء العربية أنّه يكون لفائدتين: تعظيم الفاعل، وأنّ من أتى بذلك الفعل عظيم الشأن بمنزلة جماعة، كقوله تعالى: (( إِنَّ إِبراهِيمَ كَانَ أُمَّةً )) (النحل:12)، ليرغب الناس في الإتيان بمثل فعله، وتعظيم الفعل أيضاً حتى أنّ فعله سجية لكلّ مؤمن، وهذه نكتة سرية (سارية) تعتبر في كلّ مكان بما يليق به.
وقد أجاب أهل السُنّة عن ذلك بوجوه:
الأوّل: النقض، بأنّ هذا الدليل كما يدلّ بزعمهم على نفي إمامة الأئمّة المتقدّمين كذلك يدلّ على سلب الإمامة عن الأئمّة المتأخّرين، كالسبطين رضي الله تعالى عنهما وباقي الاثني عشر رضي الله تعالى عنهم أجمعين بعين ذلك التقرير، فالدليل يضر الشيعة أكثر ممّا يضر أهل السُنّة كما لا يخفى.
ولا يمكن أن يقال: الحصر إضافي بالنسبة إلى من تقدّمه؛ لأنّا نقول: إنّ حصر ولاية من استجمع تلك الصفات لا يفيد إلاّ إذا كان حقيقياً، بل لا يصحّ لعدم استجماعها فيمن تأخّر عنه كرّم الله تعالى وجهه.
وإن أجابوا عن النقض بأنّ المراد حصر الولاية في الأمير كرّم الله تعالى وجهه في بعض الأوقات، أعني: وقت إِمامته لا وقت إمامة السبطين ومن بعدهم رضي الله تعالى عنهم، قلنا: فمرحباً بالوفاق؛ إذ مذهبنا أيضاً أنّ الولاية العامّة كانت له وقت كونه إماماً، لا قبله، وهو زمان خلافة الثلاثة، ولا بعده، وهو زمان خلافة من ذكر.
فإن قالوا: إنّ الأمير كرّم الله تعالى وجهه لو لم يكن صاحب ولاية عامّة في عهد الخلفاء يلزمه نقص بخلاف وقت خلافة أشباله الكرام رضي الله تعالى عنهم، فإنّه لمّا لم يكن حيّاً لم تصر إمامة غيره موجبة لنقص شرفه الكامل؛ لأنّ الموت رافع لجميع الأحكام الدنيوية.
يقال: هذا فرار وانتقال إلى استدلال آخر ليس مفهوماً من الآية؛ إذ مبناه على مقدّمتين: الأولى: إنّ كون صاحب الولاية العامّة في ولاية الآخر -. ولو في وقت من الأوقات -. غير مستقلّ بالولاية نقص له، والثانية: إنّ صاحب الولاية العامّة لا يلحقه نقص مّا بأي وجه وأي وقت كان، وكلتاهما لا يفهمان من الآية أصلاً كما لا يخفى على ذي فهم..
على أنّ هذا الاستدلال منقوض بالسبطين زمن ولاية الأمير كرّم الله تعالى وجهه، بل وبالأمير أيضاً في عهد النبـيّ(صلّى الله عليه وسلّم).
والثاني: إنّا لا نسلّم الإجماع على نزولها في الأمير كرّم الله تعالى وجهه؛ فقد اختلف علماء التفسير في ذلك، فروى أبو بكر النقّاش صاحب التفسير المشهور عن محمد الباقر رضي الله تعالى عنه: أنّها نزلت في المهاجرين والأنصار، وقال قائل: نحن سمعنا أنّها نزلت في عليّ كرّم الله تعالى وجهه، فقال: هو منهم، يعني أنّه كرّم الله تعالى وجهه داخل أيضاً في المهاجرين والأنصار ومن جملتهم.
وأخرج أبو نعيم في (الحلية) عن عبد الملك بن أبـي سليمان وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبـي حاتم عن الباقر رضي الله تعالى عنه أيضاً نحو ذلك، وهذه الرواية أوفق بصيغ الجمع في الآية.
وروى جمع من المفسّرين عن عكرمة أنّها نزلت في شأن أبـي بكر رضي الله تعالى عنه.
والثالث: أنّا لا نسلّم أنّ المراد بالوليّ: المتولّي للأمور والمستحقّ للتصرّف فيها تصرّفاً عامّاً، بل المراد به: الناصر، لأنّ الكلام في تقوية قلوب المؤمنين وتسليتها وإزالة الخوف عنها من المرتدّين، وهو أقوى قرينة على ما ذكره، ولا يأباه الضم، كما لا يخفى على من فتح الله تعالى عين بصيرته.
ومن أنصف نفسه علم أنّ قوله تعالى في ما بعد: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُم هُزُواً وَلَعِباً مّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَـابَ مِن قَبلِكُم وَالكُفَّارَ أَولِيَاء )) (المائدة:57) آبٍ عن حمل الوليّ على ما يساوي الإمام الأعظم؛ لأنّ أحداً لم يتّخذ اليهود والنصارى والكفّار أئمّة لنفسه، وهم أيضاً لم يتّخذ بعضهم بعضاً إماماً، وإنّما اتّخذوا أنصاراً وأحباباً.
وكلمة (إِنَّمَا) المفيدة للحصر تقتضي ذلك المعنى أيضاً؛ لأنّ الحصر يكون في ما يحتمل اعتقاد الشركة والتردّد والنزاع، ولم يكن بالإجماع وقت نزول هذه الآية تردّد ونزاع في الإمامة وولاية التصرّف، بل كان في النصرة والمحبّة.
والرابع: أنّه لو سلم أنّ المراد ما ذكروه، فلفظ الجمع عام، أو مساوٍ له - كما ذكره المرتضى في (الذريعة)، وابن المطهّر في (النهاية) - والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، كما اتّفق عليه الفريقان، فمفاد الآية حينئذٍ حصر الولاية العامّة لرجال متعدّدين يدخل فيهم الأمير كرّم الله تعالى وجهه، وحمل العام على الخاص خلاف الأصل، لا يصحّ ارتكابه بغير ضرورة ولا ضرورة.
فإن قالوا: الضرورة متحقّقة هاهنا إذ التصدّق على السائل في حال الركوع لم يقع من أحد غير الأمير كرّم الله تعالى وجهه، قلنا: ليست الآية نصّاً في كون التصدّق واقعاً في حال ركوع الصلاة؛ لجواز أن يكون الركوع بمعنى التخشّع والتذلّل لا بالمعنى المعروف في عرف أهل الشرع، كما في قوله:
لا تهين الفقير علّك أن ***** (تركع) يوماً والدهر قد رفعه
وقد استعمل بهذا المعنى في القرآن أيضاً، كما قيل في قوله سبحانه: (( وَاركَعِي مَعَ الراكِعِينَ )) (آل عمران:43)؛ إذ ليس في صلاة من قبلنا من أهل الشرائع ركوع هو أحد الأركان بالإجماع، وكذا في قوله تعالى: (( وَخَرَّ رَاكِعاً )) (ص:24)، وقوله عزّ وجلّ: (( وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركَعُوا لاَ يَركَعُونَ )) (المرسلات:48) على ما بيّنه بعض الفضلاء، وليس حمل الركوع في الآية على غير معناه الشرعي بأبعد من حمل الزكاة المقرونة بالصلاة على مثل ذلك التصدّق، وهو لازم على مدّعى الإمامية قطعاً.
وقال بعض منّا أهل السُنّة: إنّ حمل الركوع على معناه الشرعي وجعل الجملة حالاً من فاعل (( يُؤتُونَ )) يوجب قصوراً بيّناً في مفهوم (( يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ ))؛ إذ المدح والفضيلة في الصلاة كونها خالية عمّا لا يتعلّق بها من الحركات سواءً كانت كثيرة أم قليلة، غاية الأمر أنّ الكثيرة مفسدة للصلاة دون القليلة، ولكن تؤثّر قصوراً في معنى إقامة الصلاة ألبتة، فلا ينبغي حمل كلام الله تعالى الجليل على ذلك، انتهى.
وبلغني أنّه قيل لابن الجوزي رحمه الله تعالى: كيف تَصَدَّقَ عليّ كرّم الله تعالى وجهه بالخاتم وهو في الصلاة، والظنّ فيه -. بل العلم الجازم - أنّ له كرّم الله تعالى وجهه شغلاً شاغلاً فيها عن الالتفات إلى ما لا يتعلّق بها، وقد حكي ممّا يؤيد ذلك كثير؟ فأنشأ يقول:
يسقي ويشرب لا تلهيه سكرته ***** عن النديم ولا يلهو عن الناس
أطاعه سكره حتى تمكّن من ***** فعل الصحاة فهذا واحد الناس
وأجاب الشيخ إبراهيم الكردي قدس سره عن أصل الاستدلال، بأنّ: الدليل قائم في غير محلّ النزاع، وهو كون عليّ كرّم الله تعالى وجهه إماماً بعد رسول الله(صلّى الله عليه وسلّم) من غير فصل؛ لأنّ ولاية الذين آمنوا على زعم الإمامية غير مرادة في زمان الخطاب، لأنّ ذلك عهد النبوّة، والإمامة نيابة، فلا تتصوّر إلاّ بعد انتقال النبـيّ(صلّى الله عليه وسلّم)، وإذا لم يكن زمان الخطاب مراداً، تعيّن أن يكون المراد الزمان المتأخر عن زمن الانتقال ولا حدّ للتأخير، فليكن ذلك بالنسبة إلى الأمير كرّم الله تعالى وجهه بعد مضي زمان الأئمّة الثلاثة، فلم يحصل مدّعى الإمامية.
ومن العجائب أنّ صاحب (إظهار الحقّ) قد بلغ سعيه الغاية القصوى في تصحيح الاستدلال بزعمه، ولم يأت بأكثر ممّا يضحك الثكلى، وتفزع من سماعه الموتى؛ فقال: إنّ الأمر بمحبّة الله تعالى ورسوله(صلّى الله عليه وسلّم) يكون بطريق الوجوب لا محالة، فالأمر بمحبّة المؤمنين المتّصفين بما ذكر من الصفات وولايتهم أيضاً كذلك، إذ الحكم في كلام واحد يكون موضوعه متّحداً أو متعدّداً أو متعاطفاً، لا يمكن أن يكون بعضه واجباً وبعضه مندوباً، وإلاّ لزم استعمال اللفظ بمعنيين، فإذا كانت محبّة أولئك المؤمنين وولايتهم واجبة وجوب محبّة الله تعالى ورسوله (صلّى الله عليه وسلّم) امتنع أن يراد منهم كافة المسلمين وكلّ الأمّة، باعتبار أنّ من شأنّهم الاتّصاف بتلك الصفات؛ لأنّ معرفة كلّ منهم ليحبّ ويوالي ممّا لا يمكن لأحد من المكلفين بوجه من الوجوه، وأيضاً قد تكون معاداة المؤمنين لسبب من الأسباب مباحة بل واجبة، فتعين أن يراد منهم البعض، وهو عليّ المرتضى كرّم الله تعالى وجهه. انتهى.
ويرد عليه: أنّه مع تسليم المقدّمات أين اللزوم بين الدليل والمدّعى؟ وكيف استنتاج المتعين من المطلق؟
وأيضاً لا يخفى على من له أدنى تأمّل أنّ موالاة المؤمنين من جهة الإيمان أمر عام بلا قيد ولا جهة، وترجع إلى موالاة إيمانهم في الحقيقة، والبغض لسبب غير ضار فيها.
وأيضاً ماذا يقول في قوله سبحانه: (( وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَـاتُ بَعضُهُم أَولِيَاء بَعضٍ... )) (التوبة:71) الآية؟
وأيضاً ماذا يجاب عن معاداة الكفّار، وكيف الأمر فيها وهم أضعاف المؤمنين؟ ومتى كفت الملاحظة الإجمالية هناك فلتكف هنا، وأنت تعلم أنّ ملاحظة الكثرة بعنوان الوحدة ممّا لا شك في وقوعها، فضلاً عن إمكانها.
والرجوع إلى علم الوضع يهدي لذلك، والمحذور كون الموالاة الثلاثة في مرتبة واحدة وليس فليس، إذ الأولى: أصل. والثانية: تبع. والثالثة: تبع التبع، فالمحمول مختلف، ومثله الموضوع؛ إذ الموالاة من الأمور العامّة، وكالعوارض المشكّكة، والعطف موجب للتشريك في الحكم لا في جهته، فالموجود في الخارج الواجب والجوهر والعرض مع أنّ نسبة الوجود إلى كلّ غير نسبته إلى الآخر، والجهة مختلفة بلا ريب، وهذا قوله سبحانه: (( قل هَـذِهِ سَبِيلِي أَدعُو إلى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي )) (يوسف:108)، مع أنّ الدعوة واجبة على الرسول(صلّى الله عليه وسلّم) مندوبة في غيره، ولهذا قال الأُصوليون: القِران في النظم لا يوجب القِران في الحكم، وعدوا هذا النوع من الاستدلال من المسالك المردودة.
ثمّ إنّه أجاب عن حديث عدم وقوع التردد مع اقتضاء (إِنَّمَا) له بأنّه: يظهر من بعض أحاديث أهل السُنّة أنّ بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم التمسوا من حضرة النبـيّ(صلّى الله عليه وسلّم) الاستخلاف؛ فقد روى الترمذي عن حذيفة (( أنّهم قالوا: يا رسول الله لو استخلفت؟ قال: (لو استخلفت عليكم فعصيتموه عُذّبتم، ولكن ما حدّثكم حذيفة فصدّقوه، وما أقرأكم عبد الله فاقرؤوه ) )).
وأيضاً استفسروا منه عليه الصلاة والسلام عمّن يكون إماماً بعده(صلّى الله عليه وسلّم)؛ فقد أخرج أحمد عن عليّ كرّم الله تعالى وجهه، قال: (( قيل: يا رسول الله من نؤمّر بعدك؟ قال: (إن تؤمروا أبا بكر رضي الله تعالى عنه تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة، وإن تؤمّروا عمر رضي الله تعالى عنه تجدوه قوياً أميناً لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمّروا عليّاً -. ولا أراكم فاعلين -. تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الصراط المستقيم ) ))، وهذا الإلتماس والاستفسار يقتضي كلّ منهما وقوع التردد في حضوره(صلّى الله عليه وسلّم) عند نزول الآية، فلم يبطل مدلول (إِنَّمَا). انتهى.
وفيه أنّ محض السؤال والاستفسار لا يقتضي وقوع التردد، نعم لو كانوا شاوروا في هذا الأمر ونازع بعضهم بعضاً بعدما سمعوا من النبـيّ(صلّى الله عليه وسلّم) جواب ما سألوه لتحقّق المدلول، وليس فليس، ومجرد السؤال والاستفسار غير مقتض لـ(إنّما) ولا من مقاماته، بل هو من مقامات (إنّ)، والفرق مثل الصبح ظاهر، وأيضاً لو سلّمنا التردد، ولكن كيف العلم بأنّه بعد الآية أو قبلها، منفصلاً أو متّصلاً، سبباً للنزول أو اتّفاقياً، ولا بدّ من إثبات القبلية والاتّصال والسببية، وأين ذلك؟ والاحتمال غير مسموع ولا كاف في الاستدلال.
وبعد هذا كلّه الحديث الثاني ينافي الحصر صريحاً؛ لأنّه(صلّى الله عليه وسلّم) في مقام السؤال عن المستحقّ للخلافة ذكر الشيخين، فإن كانت الآية متقدّمة لزم مخالفة الرسول(صلّى الله عليه وسلّم) القرآن، أو بالعكس لزم التكذيب، والنسخ لا يعقل في الأخبار على ما قرر، ومع ذا تقدم كلّ على الآخر مجهول فسقط العمل.
فإن قالوا: الحديث خبر الواحد، وهو غير مقبول في باب الإمامة.
قلنا: وكذلك لا يقبل في إثبات التردد والنزاع الموقوف عليه التمسّك بالآية، والحديث الأوّل يفيد أنّ ترك الاستخلاف أصلح فتركه -. كما تفهمه الآية بزعمهم -. تركه، وهم لا يجوّزونه؛ فتأمّل!
وذكر الطبرسي في (مجمع البيان) وجهاً آخر غير ما ذكره صاحب (إظهار الحقّ) في أنّ الولاية مختصّة، وهو: (( أنّه سبحانه قال: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ))، فخاطب جميع المؤمنين، ودخل في الخطاب النبـيّ(صلّى الله عليه وسلّم) وغيره، ثمّ قال تعالى: (( وَرَسُولُهُ )) فأخرج نبيّه عليه الصلاة والسلام من جملتهم؛ لكونهم مضافين إلى ولايته، ثمّ قال جلّ وعلا: (( وَالَّذِينَ آمَنُوا )) فوجب أن يكون الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية، وإلاّ لزم أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه، وأن يكون كلّ واحد من المؤمنين وليّ نفسه وذلك محال )). انتهى.
وأنت تعلم أنّ المراد ولاية بعض المؤمنين بعضاً، لا أن يكون كلّ واحد منهم وليّ نفسه، وكيف يتوهّم من قولك مثلاً: أيّها الناس لا تغتابوا الناس، أنّه نهي لكلّ واحد من الناس أن يغتاب نفسه؟
وفي الخبر أيضاً: (صوموا يوم يصوم الناس)، ولا يختلج في القلب أنّه أمر لكلّ أحد أن يصوم يوم يصوم الناس، ومثل ذلك كثير في كلامهم.
وما قدّمناه في سبب النزول ظاهر في أنّ المخاطب بذلك: ابن سلام وأصحابه.
وعليه لا إشكال إلاّ أنّ ذلك لا يعّد مخصّصاً، كما لا يخفى، فالآية على كلّ حال لا تدلّ على خلافة الأمير كرّم الله تعالى وجهه على الوجه الذي تزعمه الإمامية، وهو ظاهر لمن تولّى الله تعالى حفظ ذهنه عن غبار العصبية.
*************************
ما جواب هذا التفسير؟
يتبع
تعليق