يتضح من معجزات الانبياء آية ودليل على صدق دعواهم ومن هنا يطلق في علم الكلام مصطلح "المعجزة "،على الامر الخارق للعادة، أي هي عبارة عن الامر الخارق للعادة، تظهر من مدّعي النبوة بأرادة الله، وتكون دليلاً على صدق دعواه .
يمكن القول ان المعجزة في رسالات الانبياء، ليست بدعاً، بل هي أكراماً من اللّه "عزوجل" الى أنبياءه، لأنه عندما أرسل الأنبياء "عليهم السلام" للناس، لم يرد لهم أن يقدِّموا المعجزة أمامهم للإيمان، ولكنه أراد لهم من خلالها أن يفجّروا عقول الناس بالفكر، فيكون الإيمان فكراً يصلون إليه من خلال ما يقدّمه الأنبياء من الأدلّة والبراهين. وهذا أسلوب القرآن الكريم في دعوته الى التفكير المباشر او الاستفهام الإنكاري أو ألتقريعي على سبيل مثال لا الحصر في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾
وذلك ان المعجزة لم تكن هي القاعدة الاساسية في رسالات الانبياء، بل كانت استثناءً من خلال ظروف بعض الأنبياء وأولو العزم من الرُّسل، اذ لم يذكر القرآن الكريم ان نبي الله نوح "عليهم السلام" قدّم نفسه إلى النّاس بالمعجزة، وإن كان الطوفان معجزةً، ولكنّه كان ذلك بمستوى العقوبة لقومه، فقد بقي فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى اللّه بكلّ الأساليب، ومع ذلك لم يؤمن به إلا قليل﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾
في الوقت نفسه، ان الله "عزوجل" لم يرسل النبي إبراهيم "عليه السلام" بمعجزة ابتداءً، بل كانت دعوته في اول الامر موجه لأبيه ثم قومه ، ولذلك تحرك نبي الله ابراهيم بأساليب تربوية متعدّدة، منها أثارته لعلامات الاستفهام حول ما كانوا يعبدونه من الكواكب والشمس والقمر ﴿ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾، حتى عندما أجمعوا على إلقائه في النار، كانت عندئذٍ المعجزة التي تحدَّاهم اللّه "عزوجل" بها، ردّاً عليهم وإسقاطاً لهم حيث اشار الله تعالى في قوله : ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ كذلك في قوله :﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾.
وفي ضوء ذلك، برزت المعجزة بشكلها الصّارخ في قصَّة نبي الله موسى "عليه السلام"، اذ إنّها كانت هي الوسيلة الّتي يمكن أن يدخل بها النبي موسى بن عمران على فرعون، يبدو ان السبب في ذلك يعود الى ان النبي موسى بن عمران كان من المستضعفين، حيث كان فرعون يذبِّح أبناءهم ويستحيي نساءهم، ولذلك لم يكن يملك أيَّ موقع قوّة يسمح له بالدخول على فرعون، فضلاً عن تحدّيه له، فكانت معجزة النبي موسى "عليه السلام" تتناسب مع جبروت وطغيان فرعون وادّعائه الربوبيّة وسيطرته على الناس.
وكذلك المعجزة التي كانت مميّزة الا وهي ما جاء به عيسى بن مريم "عليه السلام" حيث كان عصره عصر الطّبّ والاطباء، فجاء بما أسقط كلّ عنفوان الأطبّاء، حيث أحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن اللّه، ﴿وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى ٌ﴾، يمكن القول ان معجزة النبي عيسى بن مريم كانت في دائرة زمنيّة محدودة لأجل مواجهة التحدّي، ولكن عندما انطلق نبي الله عيسى "عليه السلام"، لم يجعل معجزته هي أساس المواجهة الّتي يدعو الناس إلى الإيمان بالله الواحد من خلال تلك المعجزة، بل جاء بالإنجيل وعلمه الله تعالى بالتوراة، لأجل أن يفتح قلوب الناس وعقولهم على ذلك.
اما معجزة العصر هي معجزة النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله" الا وهي القرآن الكريم ، يمكن القول ان النبي الاكرم محمد لم يطرح المسألة في القضايا العامَّة على أساس المعجزة ، كما حدث لموسى بن عمران لأنّه أراد أن ينـزع الشّرك من قلوب المشركين بالحجَّة وبالبرهان، وكان النبي الاعظم يقول ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ يبدو من خلال الآية الكريمة ان النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله" يريد للناس أن يفكّروا ويحاوروا ويجادلوا بالّتي هي أحسن، وأن يجادلوا كلّ الّذين يختلفون معه بالرّسالات لان القرآن الكريم يؤكد لنا اهمية العلم والعقل اللّذين يصنعا الحضارة، ويرفعا مستوى المجتمع، وبهما تتقدّم الحياة، سواء كان العقل تأمّلياً أو عقلاً تجريبيّاً ينفتح على كلّ مواقع العلم، وقد بين الله "عزوجل" في كتابه هذه الحقيقة ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾. وكذلك اكد الامام علي بن ابي طالب اهمية العلم بقوله "قيمة كلّ امرئ ما يحسنه". ولكن مع ذلك، فإنَّ النبيّ الاكرم محمد "صلى الله عليه واله" كان يواجه بعض التحدّيات، فكان يردّ التحدّي بمثله لإسقاط المشركين والكافرين، كما نلاحظ في هذه الرواية التي يرويها الامام علي بن ابي طالب من خلال تجربة النبي الاكرم مع مشركين مكة الذين قرّروا أن لا يقتنعوا ولا يؤمنوا، وأن يغلقوا عقولهم وقلوبهم عن كلّ ما يقدَّم لهم من براهين ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
يقول الامام علي بن ابي طالب"عليه السلام" : " لما أتاه الملأ من قريش، فقالوا له: يا محمد إنك قد ادعيت عظيما لم يدعه آباؤك ولا أحد من بيتك، ونحن نسألك أمرا إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنك نبي ورسول، وإن لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب. فقال صلى الله عليه وآله: وما تسألون؟ قالوا تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك، فقال صلى الله عليه وآله: إن الله على كل شئ قدير، فإن فعل الله لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحق؟ قالوا نعم، قال فإني سأريكم ما تطلبون، وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير... ثم قال صلى الله عليه وآله: يا أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر وتعلمين أني رسول الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن الله. فو الذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوي شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله مرفرفة، وألقت بغصنها الأعلى على رسول الله صلى الله عليه وآله، وببعض أغصانها على منكبي، وكنت عن يمينه صلى الله عليه وآله فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا - علوا واستكبارا -: فمرها فليأتك نصفها ويبقي نصفها فأمرها بذلك، فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشده دويا، فكادت تلتف برسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا - كفرا وعتوا - فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان فأمره صلى الله عليه وآله فرجع. فقلت أنا: لا إله إلا الله فإني أول مؤمن بك يا رسول الله، وأول من أقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصديقا بنبوتك وإجلالا لكلمتك. فقال القوم كلهم: بل ساحر كذاب"[ ملاحظة، ان الامام علي "عليه السلام" وقد كرَّرها " لا إله إلا الله فإني أول مؤمن بك يا رسول الله" في أكثر من موقف، لأنَّ الإيمان كان يعيش في قلبه وعقله وحياته، لأنّ قلبه كان من قلب النبي الاكرم محمد "صلى الله عليه واله" وعقله من عقله، وكانت كلّ شخصيّته في عناصرها العلميّة والعقليّة والحركيّة من النبي الاكرم محمد .
نستنتج من ذلك، أنَّ المعجزة هي خارقة للعادة والتي لا يمكن ان توجد من خلال الاسباب والعلل العادية وان مثل هذا الامر يكون دليلا على صدق دعوى الانبياء وفي هذه الحالة يصطلح عليه بالمعجزة ، في نفس الوقت ان اللّه "عزوجل" خلق هذا الكون على أساس القوانين التي أودعها في حركته ونظامه، فالكون كلّه بيد اللّه، بل إنّنا نقول إنَّ الكون كلّه معجزة، فالشّمس التي تبقى ملايين السنين وهي تلتهب ضياءً هي معجزة، ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً﴾ ، كذلك خلق اللّه هو معجزة، سواء كان في خلق آدم "عليه السلام" وعيسى بن مريم "عليه السلام" ، وذلك لو درس الإنسان كلّ ظاهرة كونيّة، لوجد أنّ كلّ ظاهرة هي معجزة بحدّ ذاتها.
جعفر رمضان
محمد تقي مصباح اليزدي، دروس العقيدة الاسلامية ، ترجمة هاشم محمد، (قم: مؤسسة الهدى، 1427ه)، ص
تعليق