هل ارتكب داود (عليه السلام) الذنب؟
هناك آيات في القرآن الكريم تشير إلى أنَّ نبيّ الله العظيم داود (عليه السلام) قد استغفر ربّه لعمل قام به، وأنَّ الله تعالى قد غفر له، وذلك قوله: ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ* فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ (ص/ 24- 25).
ألم يكن استغفار داود والعفو عنه من قبل الله سبحانه وتعالى دليلًا على صدور الذّنب منه؟ وهل يتلاءم هذا ومقام عصمته؟
للحصول على جواب هذا السؤال، لا بدَّ من الرجوع إلى القرآن، والبحث قبل كلّ شيء عن العمل الذي يرتبط به هذا الابتلاء وتلك المغفرة.
تحكي الآيات التي سبقت آيات بحثنا، أنّ خصمين تسوّرا محراب داود (عليه السلام)، ودخلا عليه على حين غرّة، ففزع لدخولهما المفاجئ عليه: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَاتَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ* إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِى الْخِطَابِ﴾ (ص/ 22- 23).
فقال داود بدون تحقيق أو استفسار: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ...﴾ (ص/ 24).
هذه هي القصّة التي ذكرت في آيات القرآن بأكملها بلا زيادة أو نقصان.
هناك تفاسير مقبولة قدّمت تفسيراً مقنعاً لهذه الآيات، كما أنَّ هناك روايات موضوعة وردت في بعض الكتب، تعرَّضت لمعاني هذه الآيات بشكل مسيء ومشوَّه.
أمّا ما يتّفق ومحتوى الآيات المذكورة، فهو القول: إنّ الشيء الوحيد الذي صدر عن داود (عليه السلام)، كان فقط تركه للأَولى، وذلك بتسرّعه في القضاء، لكن لا بتلك السرعة التي تكون على خلاف «واجبات» موازين القضاء، إذ «يستحبّ» للقاضي التمعّن أكثر ما يمكن، فلو ترك الأكثر واكتفى بالحدّ الأوسط أو الأقلّ، فقد ترك الأَولى، وهذا ما فعله داود، فقد قضى بظلم الأخ لأخيه الفقير، وربّما كان السبب وراء هذا التسرّع، هو ذعره من دخولهما المفاجئ عليه في خلوته، فضلًا عن أنّ إجحافاً كهذا من قبل أخ لأخيه، يبعث على الأسف والشفقة.
صحيح أنّ داود (عليه السلام) أصغى لادّعاء طرف واحد فقط، لكن سكوت الطرف الآخر وعدم التفوّه بأي كلام أو اعتراض، يعدّ في نفسه دليلًا على اعترافه. وعلى أيّة حال، فمن آداب مجلس القضاء، أن يطلب القاضي توضيحاً أكثر من الطرف المقابل، وهذا ما لم يفعله داود.
وما استغفار داود إلّا لتركه الأولى، وقد تقبَّل الله تعالى توبته وغفر له. وهو أفضل دليل على عدم صدور أيّ ذنب عن داود (عليه السلام). والجملة الواردة في ذيل نفس هذه الآيات: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ تشير إلى ذلك، كما أنّ هناك أوصافاً أخرى كثيرة في حقّه قد وردت في الآيات السابقة، ونُعت بتلك المنزلة الرفيعة عند الله تعالى، بحيث غدت سيرته نموذجاً لنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) يقتدى به، ولا شكّ أنَّ هذا المعنى لا يتناسب مع العصيان والذنب أبداً.
حينما يصرّح القرآن في ذيل هذه الآيات ويقول: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ ...﴾ (ص/ 26)، يتبيّن بكلّ وضوح أنّ خليفة الله لا يذنب، ومسألة ردعه من اتّباع هوى النفس، إنّما هي بمثابة الأمر، ولا تدلّ على ارتكاب معصية.
ومن هنا، يتّضح مدى تفاهة تلك القصّة التي أبرزتها التوراة بشكل مُشوَّه، وبالغت في تضخيمها أكثر من الوضع الطبيعي، وربطت هذه القضيّة بحادثة مختلقة، وهي عشق داود (عليه السلام) لزوجة أحد ضبّاط جيشه وهيامه في حبّها، والتدبير لقتله في خاتمة المطاف وأخذ زوجته.
تشتمل التوراة التي حُرِّفت عن مواضعها على بعض العبارات التي تبيّن مدى فظاعة هذه القصّة، والتي لا تسمح عفّة القلم ومنزلة الأنبياء (عليه السلام) بذكرها. هذه القصص الموضوعة، والعبارات البذيئة، تعدّ بنفسها أفضل دليل على تحريف التوراة الحاليّة.
من الطبيعي أنّ مثل هذا التحريف ليس غريباً بالنسبة إلى محقّقي تاريخ التوراة على مدى آلاف السنين، لكنّ العجب إنّما هو من كيفيّة إقدام بعض المفسّرين المسلمين على نقل تلك الخرافات القبيحة في كتبهم، في الوقت الذي نقرأ في رواية عن عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «لا أوتى برجل يزعم أنّ داود تزوّج امرأة أُوريا إلّا جلدته حدّين؛ حدّاً للنبوّة، وحدّاً للإسلام».
كما احتمل البعض كون هذه الحادثة إشارة إلى أنّ داود (عليه السلام) لم يأسف لنبأ مقتل أوريا في ميدان القتال كأسفه على غيره، وذلك لرغبته في الزّواج من امرأته بعد مصرعه، ولكن من دون (اتّفاق مسبق) حول الموضوع.
لكن، وكما أشار المرحوم السيّد المرتضى أيضاً، فإنّ هذه التصرّفات وإن لم تعدّ ذنباً، لكنّها ممّا تشمئزّ منها النفوس، ومعلوم أنّه لا ينبغي للأنبياء والأئمّة القيام بمثلها.
كما احتمل بعض المفسّرين أنّ العادة في ذلك الزمان كانت جارية على عدم تزويج المرأة الأيّم أبداً، وأنّ داود قد تزوّج زوجة أوريا بعد موته لتحطيم هذه السنّة الخاطئة.
لكنَّ هذا التفسير أيضاً لا يتناسب بدوره مع ظاهر الآيات التي تبيِّن صدور ترك الأولى من داود، لأنَّ تحطيم هذه السنَّة الخاطئة يعدّ واجباً، فضلًا عن عدم كونه تركاً للأولى، إلّا أن يقال: إنّ هذا العمل كان سبب العناء الروحي لُأوريا، كما جاء في إحدى الروايات.
لكنَّ التفسير الأوَّل هو الأنسب من بين هذه التّفاسير.
"نفحات القرآن" - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
هناك آيات في القرآن الكريم تشير إلى أنَّ نبيّ الله العظيم داود (عليه السلام) قد استغفر ربّه لعمل قام به، وأنَّ الله تعالى قد غفر له، وذلك قوله: ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ* فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ (ص/ 24- 25).
ألم يكن استغفار داود والعفو عنه من قبل الله سبحانه وتعالى دليلًا على صدور الذّنب منه؟ وهل يتلاءم هذا ومقام عصمته؟
للحصول على جواب هذا السؤال، لا بدَّ من الرجوع إلى القرآن، والبحث قبل كلّ شيء عن العمل الذي يرتبط به هذا الابتلاء وتلك المغفرة.
تحكي الآيات التي سبقت آيات بحثنا، أنّ خصمين تسوّرا محراب داود (عليه السلام)، ودخلا عليه على حين غرّة، ففزع لدخولهما المفاجئ عليه: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَاتَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ* إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِى الْخِطَابِ﴾ (ص/ 22- 23).
فقال داود بدون تحقيق أو استفسار: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ...﴾ (ص/ 24).
هذه هي القصّة التي ذكرت في آيات القرآن بأكملها بلا زيادة أو نقصان.
هناك تفاسير مقبولة قدّمت تفسيراً مقنعاً لهذه الآيات، كما أنَّ هناك روايات موضوعة وردت في بعض الكتب، تعرَّضت لمعاني هذه الآيات بشكل مسيء ومشوَّه.
أمّا ما يتّفق ومحتوى الآيات المذكورة، فهو القول: إنّ الشيء الوحيد الذي صدر عن داود (عليه السلام)، كان فقط تركه للأَولى، وذلك بتسرّعه في القضاء، لكن لا بتلك السرعة التي تكون على خلاف «واجبات» موازين القضاء، إذ «يستحبّ» للقاضي التمعّن أكثر ما يمكن، فلو ترك الأكثر واكتفى بالحدّ الأوسط أو الأقلّ، فقد ترك الأَولى، وهذا ما فعله داود، فقد قضى بظلم الأخ لأخيه الفقير، وربّما كان السبب وراء هذا التسرّع، هو ذعره من دخولهما المفاجئ عليه في خلوته، فضلًا عن أنّ إجحافاً كهذا من قبل أخ لأخيه، يبعث على الأسف والشفقة.
صحيح أنّ داود (عليه السلام) أصغى لادّعاء طرف واحد فقط، لكن سكوت الطرف الآخر وعدم التفوّه بأي كلام أو اعتراض، يعدّ في نفسه دليلًا على اعترافه. وعلى أيّة حال، فمن آداب مجلس القضاء، أن يطلب القاضي توضيحاً أكثر من الطرف المقابل، وهذا ما لم يفعله داود.
وما استغفار داود إلّا لتركه الأولى، وقد تقبَّل الله تعالى توبته وغفر له. وهو أفضل دليل على عدم صدور أيّ ذنب عن داود (عليه السلام). والجملة الواردة في ذيل نفس هذه الآيات: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ تشير إلى ذلك، كما أنّ هناك أوصافاً أخرى كثيرة في حقّه قد وردت في الآيات السابقة، ونُعت بتلك المنزلة الرفيعة عند الله تعالى، بحيث غدت سيرته نموذجاً لنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) يقتدى به، ولا شكّ أنَّ هذا المعنى لا يتناسب مع العصيان والذنب أبداً.
حينما يصرّح القرآن في ذيل هذه الآيات ويقول: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ ...﴾ (ص/ 26)، يتبيّن بكلّ وضوح أنّ خليفة الله لا يذنب، ومسألة ردعه من اتّباع هوى النفس، إنّما هي بمثابة الأمر، ولا تدلّ على ارتكاب معصية.
ومن هنا، يتّضح مدى تفاهة تلك القصّة التي أبرزتها التوراة بشكل مُشوَّه، وبالغت في تضخيمها أكثر من الوضع الطبيعي، وربطت هذه القضيّة بحادثة مختلقة، وهي عشق داود (عليه السلام) لزوجة أحد ضبّاط جيشه وهيامه في حبّها، والتدبير لقتله في خاتمة المطاف وأخذ زوجته.
تشتمل التوراة التي حُرِّفت عن مواضعها على بعض العبارات التي تبيّن مدى فظاعة هذه القصّة، والتي لا تسمح عفّة القلم ومنزلة الأنبياء (عليه السلام) بذكرها. هذه القصص الموضوعة، والعبارات البذيئة، تعدّ بنفسها أفضل دليل على تحريف التوراة الحاليّة.
من الطبيعي أنّ مثل هذا التحريف ليس غريباً بالنسبة إلى محقّقي تاريخ التوراة على مدى آلاف السنين، لكنّ العجب إنّما هو من كيفيّة إقدام بعض المفسّرين المسلمين على نقل تلك الخرافات القبيحة في كتبهم، في الوقت الذي نقرأ في رواية عن عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «لا أوتى برجل يزعم أنّ داود تزوّج امرأة أُوريا إلّا جلدته حدّين؛ حدّاً للنبوّة، وحدّاً للإسلام».
كما احتمل البعض كون هذه الحادثة إشارة إلى أنّ داود (عليه السلام) لم يأسف لنبأ مقتل أوريا في ميدان القتال كأسفه على غيره، وذلك لرغبته في الزّواج من امرأته بعد مصرعه، ولكن من دون (اتّفاق مسبق) حول الموضوع.
لكن، وكما أشار المرحوم السيّد المرتضى أيضاً، فإنّ هذه التصرّفات وإن لم تعدّ ذنباً، لكنّها ممّا تشمئزّ منها النفوس، ومعلوم أنّه لا ينبغي للأنبياء والأئمّة القيام بمثلها.
كما احتمل بعض المفسّرين أنّ العادة في ذلك الزمان كانت جارية على عدم تزويج المرأة الأيّم أبداً، وأنّ داود قد تزوّج زوجة أوريا بعد موته لتحطيم هذه السنّة الخاطئة.
لكنَّ هذا التفسير أيضاً لا يتناسب بدوره مع ظاهر الآيات التي تبيِّن صدور ترك الأولى من داود، لأنَّ تحطيم هذه السنَّة الخاطئة يعدّ واجباً، فضلًا عن عدم كونه تركاً للأولى، إلّا أن يقال: إنّ هذا العمل كان سبب العناء الروحي لُأوريا، كما جاء في إحدى الروايات.
لكنَّ التفسير الأوَّل هو الأنسب من بين هذه التّفاسير.
"نفحات القرآن" - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تعليق