بداية قصّة أصحاب الكهف
في الآيات السابقة كانت هُناك صورة للحياة الدينا، وكيفية اختبار الناس فيها، ومسير حياتهم عليها، ولأنَّ القرآن غالباً ما يقوم بضرب الأمثلة للقضايا الحسَّاسة، أو أنَّهُ يذكر نماذج مِن التأريخ لتجسيد الوعي بالقضية، لذا قام في هذه السورة بتوضيح قصّة أصحاب الكهف، وعبرَّت عنهم الآيات بأنّهم (أنموذج) أو (أسوة).
إِنّهم مجموعة من الفتية الأذكياء المؤمنين، الذين كانوا يعيشون في ظل حياة مُترفة بالزّينة وأنواع النعم، إِلاَّ أنّهم انسلخوا مِن كل ذلك لأجل حفظ عقيدتهم وللصراع ضدَّ الطاغوت; طاغوت زمانهم، وذهبوا إِلى غار خال مِن جميع أشكال الزّينة والنعم، وقد أثبتوا بهذا المسلك أمر استقامتهم في سبيل الإِيمان والثبات عليه.
المُلفت للنظر أنَّ القرآن ذكر في البداية قصّة هذه المجموعة مِن الفتية بشكل مجمل، مُوظفاً بذلك أحد أُصول فن الفصاحة والبلاغة، وذلك لِتهيئة أذهان المستمعين ضمن أربع آيات، ثمّ بعد ذلك ذكر التفاصيل في (14) آية.
في البداية يقول تعالى: (أم حسبت أنَّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا مِن آياتنا عجباً).
إِنَّ لنا آيات أكثر عجباً في السموات والأرض، وإِن كل واحد منها نموذج لعظمة الخالق جلَّ وعلا، وفي حياتكم - أيضاً - أسرار عجبية تُعتبر كل واحدة مِنها علامة على صدق دعوتك، وفي كتابك السماوي الكبير هذه آيات عجيبة كثيرة، وبالطبع فإِنَّ قصّة أصحاب الكهف ليست بأعجب مِنها.
أمّا لماذا سميت هذه المجموعة بأصحاب الكهف؟ فذلك يعود إِلى لجوئهم إِلى الغار كي يُنقذوا أنفسهم، كما سيأتي ذلك لاحقاً إِن شاء الله.
أمّا "الرقيم" ففي الأصل مأخودة مِن (رقم) وتعني الكتابة(1)، وحسب اعتقاد أغلب المفسّرين فإِنَّ هذا هو اسم ثان لأصحاب الكهف، لأنَّهُ في النهاية تمت كتابة أسمائهم على لوحة وُضعت على باب الغار.
البعض يرى أنَّ "الرقيم" اسم الجبل الذي كان فيه الغار.
والبعض الآخر اعتبر ذلك إسماً للمنطقة التي كان الجبل يقع فيها.
أمّا بعضهم فقد اعتبر ذلك إسماً للمدينة التي خرجَ مِنها أصحاب الكهف، إِلاَّ أنَّ المعنى الأوّل أكثر صحة كما يظهر.
ثمّ تقول الآيات بعد ذلك: (إِذ أوى الفتية إِلى الكهف) وعندما انقطعوا عن كل أمل توجهوا نحو خالقهم: (فقالوا ربّنا آتنا مِن لدنك رحمة) ثم: (وهيىء لنا مِن أمرنا رشداً).
أي أرشدنا إِلى طريق يُنقذنا مِن هذا الضيق ويقربنا مِن مرضاتك وسعادتك، الطريق الذي فيه الخير والسعادة وإِطاعة أوامر الله تعالى.
وقد أستُجيبت دعوتهم: (فضربنا على أذانهم في الكهف سنين عدداً).
(ثمّ بعثناهم لِنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً).
ملاحظات
1 - جملة (أوى الفتية) مِن مادة (مأوى) وتعني المكان الآمن، وهو إِشارة إِلى أنَّ هؤلاء الفتية الهاربين مِن بيئتهم الفاسدة المنحرفة قد أحسّوا بالأمن عندما وصلوا إِلى الغار.
2 - (فتية) جمع (فتى) وهو الشاب الحدث، ولكنها تطلق أحياناً على الأشخاص الكبار والمسنين الذين يملكون روحية شابَّة، وقد ذُكرت هذه الكلمة مَع نوع مِن الإِشادة والمدح لأصحاب الكهف بسبب صفات الفتوة والشهامة والتسليم في مقابل الحق.
والشاهد على هذا الكلام ما نُقل عن الإِمام الصادق في أصحاب الكهف إِذ قال: "أمّا علمت أنَّ أصحاب الكهف كانوا كُلّهم كهولا فسمّاهم الله فتية بإِيمانهم".
بعد ذلك أضاف الإِمام الصادق في معنى الفتوة قولهُ(ع): "مَن آمن بالله واتقى فهو الفتى"(2).
وقد نقل عن الإِمام الصادق ما يشبه هذا الحديث في (روضة الكافي)(3)أيضاً.
3 - استخدام تعبير (مِن لدنك رحمة) إِشارة إِلى أنَّ هؤلاء الفتية عندما لجأوا إِلى الغار تركوا جميع الوسائل والأسباب الظاهرية، وكانوا لا يأملون سوى رحمة الله.
4 - جملة (ضربنا على آذانهم) كناية لطيفة عن (التنويم)، كأنّما يُوضع ستار على أذُن الشخص بحيث لا يسمع أي شيء، وهو ستار النوم.
ولهذا فإِنَّ النوم الحقيقي هو النوم الذي يطغى على السمع، وكذلك إِذا أردنا أن نوقظ شخصاً مِن نومه، فإنّنا نصيح به ونناديه حتى ينفذ الصوت إِلى مسامعه.
5 - إنَّ استخدام تعبير (سنين عدداً) إِشارة إِلى أنَّ نومهم قد استمرَّ لعدّة سنين
6 - إِنّ استخدام تعبير (بعثناهم) لِيقظتهم مِن النوم، قد يكون لأنّ نومهم أصبح مِن الطول بمقدار بحيث كانوا كالموتى.
فيقظتهم مِن النوم كبعثهم إِلى الحياة مرّة أُخرى.
7 - جملة (لنعلم ... ) لا تعني أنّ الله يريد أن يعلم شيئاً جديداً.
ويكثُر استخدام هذا التعبير في القرآن، والغرض مِنهُ هو تحقق العلم الإِلهي، بمعنى نحنُ أيقظناهُم مِن المنام حتى يتحقق هذا المعنى، أى حتى يسأل كل واحد الآخر عن مقدار نومهم.
تفسير الامثل
تعليق