وارث... فلسفة جمالية كربلائية
سؤال واحد يجول منذ أمد لماذا أمسك بيد نافع بن هلال وسار معه في تلك الليلة ؟ إي نافع ... كلّمنا نحن التائهون في الظلام ماذا فعلت حتى أمسك بيدك وسرتما معاً .... متى تجيب ؟؟! متى تعطي السجناء هنا بعضاً من الماء متى تعطي الساكنين في الثلج سر دفء تلك اليد ... اعذر جرأتي يا نافع ... اعذر طمعي ... ظلام يلف صحراءنا .....
حادثة كربلاء باستثنائيتها تعد موضوعاً قابلاً للبحث، فهي حادثة إنسانية، فبالطبع متعددة الأبعاد، وهي حادثة للمقدس فيها موقع أساس، فلذا لها بعد ما فوق أرضي يتخطى المستوى التاريخي، وبذلك تنفتح لهذه الأسباب الثلاثة صفحات هذه الحادثة أمام البحث والتفكير بشكل واسع جداً يصعب الإحاطة به. تعامل الشيعة، أصحاب القضية، مع هذه الحادثة كأثر تاريخي تراجيدي، ثم كمحفز ثوري، ولاحقاً كشعار سياسي ومدماك لرؤية سياسية استراتيجية قائمة على إمكانية تحدي القوى المتفوقة بأضعاف عديدة. في المخيلة العامة، وفي عاطفة الجمهور الشيعي يقع الحزن في الأساس موقعاً شاملاً في النظر إلى الحادثة، فيغطي على أبعادها المترامية المنفتحة على كل صعيد وجانب، ليقتعد منزلاً أحادياً يختصر أغلب مساحة التخيل والتفاعل والاستفادة. بعد استلهام الحادثة الإستثنائية في الواقع التاريخي المعاصر، وبعد تحولها إلى أمثولة بنى عليها الشيعة رؤيتهم لإعادة تموضعهم السياسي والتاريخي في العالم الإسلامي والعالم بأسره، وأصبحو قوة محركة على مستوى القارات الخمس، رغم صغر مساحتهم وقلة عددهم، بعد كل هذا لا بد من إعادة النظر فيما يمكن أن نطل عليه من أبعاد جديدة، فقد انتقلت عاشوراء من طقس افتجاعي حزين، يرثي المقدس المظلوم، إلى طقس ثوري كامل، يستطيع أن ينقل الأمة الضعيفة المستفرد بها إلى مستوى التحدي والمجابهة والنصر في النهاية. هنا لا بد لنا من أن نعيد النظر، فهل نحن الآن في مرحلة اختزال أخرى، كتلك التي مرت على المخيلة الشيعية قبل ثورة الإمام الخميني، وهنا في هذا التحديد التاريخي طبعاً نتحدث بالإجمال، إذ كان ثمة استلهامات عديدة في التاريخ، ولكن لنتحدث عن المحطة البارزة على صعيد الخط البياني الشيعي، فهل نحن الآن نختصر عاشوراء في مفردتين: الحزن والثورة ؟ ألا يمكن أن تنطوي على أبعاد أخرى تضاف إلى هذين البعدين المركزيين؟ هنا كان لا بد من إعادة الحفر حول الحادثة وحول النص المعصوم الذي حاول تفسيرها وموضعتها من الحوادث التاريخية الأخرى، ليضعها على رأس تل لا يصله السيل. وكان إسم وارث، هو مفتاح رمزي للتفكير في مطاوي الحادثة ومجاهل أنوارها، فإن كان قطب الحادثة هو الحسين عليه السلام يرث كل الرسالات السماوية، فكيف حصل هذا التوريث ؟ ولماذا ؟ وبأي ظروف ؟ ولماذا انحصر التوريث بهذا الإمام دون غيره؟ إذا بدأنا من هذه الدلالة سينفتح أمامنا ألف باب، فالرسالات السماوية بأجمعها مدفونة في تراب كربلاء الدامي، فلذا كان علينا أن نذهب إلى هذا التراب، ونحفر قليلاً قليلاً على مهل، لنعرف أي دم أريق هناك، بل أي نور أريق في تلك الصحراء.
كربلاء إذن مفتاح الإرتباط بالرسالات السماوية، وهي خلاصة الوحي إذن، فهل يكفي أن تكون نظرتنا إليها محصورة في بعدين اثنين بشكل مركزي، فيما تبقى كل الأبعاد الأخرى قائمة بشكل هامشي ؟ إذا كان مفتاح الرسالة الإلهية للإنسان ذائباً في تلك الحادثة فلا بد لنا، إذا أردنا أن نستفيد منها كما يليق بها وبنا، أن نفتش عن الأبعاد الأخرى، فثمة غاية قائمة بذاتها من هذا التلخيص للرسالات الإلهية، وهو ليس أمراً ثانوياً بالتأكيد، بل دفع لأجله دم العترة وسبيت لأجله نساء الرسول صلوات الله عليه.
الحادثة التي أمامنا وقعت في الزمان التاريخي ولكنها حادثة مقدسة، فهي ليست حادثة عادية، فكل حركة فيها قائمة على دلالة مقدسة، وعلى ارتباط بالرسالة الإلهية، فهي إذن لها بعد ما ورائي، مضافاً إلى البعد الدنيوي التاريخي والسياسي والمادي، هنا نحتاج إلى منهج جديد في قراءة التاريخ، يدمج بين الواقعي المادي والمقدس المتعالي. المقدس ينطوي في شخصيات الحادثة، فهذه الشخصيات بدءاً من قمة الهرم، الإمام الحسين صلوات الله عليه، وصولاً إلى أهل بيته وأصحابه ونسائه، فلا بد من فهم الشخصيات فهماً تحقيقياً علمياً، فما هي دلالات سلوكياتها، وما هي فلسفة مواقفها، فلا نكتفي بالسرد الحدثي المباشر، فالحدث هنا له دلالة عليا، كربلاء التي بكى فيها الأنبياء حينما مرو بها، لم توجد لتكون طقساً رثائياً وليست حدثا تاريخياً، بل هي حدث ما فوق زمني، موجود في عالم المعنى، عالم الرسالة.
المنهج المطلوب ينبغي أن يجمع بين التاريخ والفلسفة، وبين التراجيديا والمقدس، وبين التشريع الإسلامي والمواقف والشخصيات، لكي نحاول الوصول إلى كربلاء المعنى، التي وقفت خلف كربلاء التاريخ، وأنتجتها حين وقع الزمان الخاص بها في التقدير الإلهي.
يساعدنا النص المقدس على البدء بطرق باب البحث، فثمة العديد من العبارات التي أرسلها المعصومون باختصار شديد لتعبر عن نظرتهم إلى تلك الحادثة، وفي الأعم الأغلب كانت تلك العبارات تشير إلى كربلاء المعنى، لا كربلاء التاريخ. الحسين عليه السلام أسماها الفتح، والسيدة زينب عليها السلام حصرت الحادثة في النطاق الجمالي، فما رأيت إلا جميلاً، تدلنا على أن كل ما حصل كان له دلالة جمالية، رسول الله صلى الله عليه وآله كان له تعبيرات متميزة مختصة بالحسين عليه السلام، فحسين مني وأنا من حسين، وأشار إلى أنه مصباح الهدى وسفينة النجاة، ففي كربلاء جمال ونور هداية لم تطمسه سنابك الخيل ولا الرماح والسيوف، بل هناك اشتعل ذلك المصباح، نحن هنا إذن أمام مشهد برزخي بين المادة والحدث وبين المعنى الكلي الملكوتي، وبين الشهادة والموت والهداية والرشاد للإنسانية، إذن نحن أمام هندسة إلهية لحدث ما فوق تاريخي فريد، أريد له أن يبقى حاضراً كحرارة في قلوب المؤمنين، وكطقس عبادي ديني مستمر، لا ينتهي، وهو في كل أرض وفي كل زمان. العبارات المطلقة للمعصوم تفتح الباب على البحث من كل زاوية، على أننا لن نلقي على كاهلها عبء تفسير هذه النصوص، بل سنستفيد منها في توسيع نطاق نظرنا.
شبكة المعارف الاسلامية - جزء من مقال
تعليق