السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلي على محمد وال محمد
💫🧚♀️💫🧚♀️💫🧚♀️💫🧚♀️💫
ليلة القدر خير من ألف شهراللهم صلي على محمد وال محمد
💫🧚♀️💫🧚♀️💫🧚♀️💫🧚♀️💫
في حديث مروي عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حدّد فيه هدف خلقة الإنسان ضمن كلمات مختصرة هي غاية في العبقرية والبلاغة ، إذ يقول صلوات الله عليه :
"أيها الناس ؛ إن الله تبارك وتعالى لمّا خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة ، فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلاّ بأن يعرّفهم ما لهم وما عليهم ، والتعريف لا يكون إلاّ بالأمر والنهي ، والأمر والنهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد ، والوعد لا يكون إلاّ بالترغيب ، والوعيد لا يكون إلاّ بالترهيب ، والترغيب لا يكون إلاّ بما تشتهيه أنفسهم وتلذّه أعينهم ، والترهيب لا يكون إلاّ بضد ذلك . ثم خلقهم في داره وأراهم طرفاً من اللذات ليستدلّوا به على ما ورائهم من اللذات الخالصة التي لا يشوبها ألم ، ألا وهي الجنة . وأراهم طرفاً من الآلام ليستدلّوا به على ما ورائهم من الآلام الخالصة التي لا يشوبها لذة ، ألا وهي النار . فمن أجل ذلك ترون نعيم الدنيا مخلوطاً بمحنها ، وسرورها ممزوجاً بكدرها وغمومها 1 .
إن هذا القول الشريف تجسيد خالص لنظرية الإسلام في سبب الخلقة ، النظرية التي احتوتها عشرات الآيات القرآنية ومئات الروايات التي وصلتنا عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام ، وتناولها العلماء الاعلام قدس الله أرواحهم بالشرح والتفصيل . وعن هذا الحديث يقول الجاحظ ـ وهو من أشد المعاندين لحق أئمة أهل البيت ـ ما نصه : "هو جُماع الكلام الذي دوّنه الناس في كتبهم ، وتحاوروه بينهم" . أما أبو علي الجبائي ـ وهو من كبار علماء الكلام ـ فقد قال حينما سمع كلام الجاحظ ووصفه : "لقد صدق الجاحظ ، هذا ما لا يحتمله الزيادة والنقصان" .
وكما هو واضح ، فإن المفاهيم التي انطوى عليها حديث أمير المؤمنين عليه السلام مناسبة تماماً بالنسبة الى سياق أحاديثنا في هذه الأيام الرمضانية الجليلة ، لا سيما وأن هذه الأيام قد اجتمعت فيها مناسبتان عظيمتان ؛ إحداهما استشهاد سيدنا وإمامنا علي بن أبي طالب عليه السلام ، والذي نحزن لحزنه ونفرح لفرحه ونقتدي بهديه ، ويشعّ على قلوبنا ـ إن شاء الله تعالى ـ نور ولايته . والمناسبة الثانية هي ليلة القدر التي تبيّن للناس أكثر من غيرها عظمة الهيمنة الإلهية عليهم والعناية الربانية بهم ؛ الليلة التي هي مهبط الملائكة الداعين بالمغفرة لبني البشر . وهذا الهبوط قد يكون رمزاً يستطيع الناس الاستلهام منه ، كلٌ حسب مستوى إدراكه ووعيه . .
إن الله جل جلاله وصف نفسه بـ ﴿ ... الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ... ﴾2 والرحمن في اللغة يعني واسع الرحمة ، والرحيم يعني عميم الرحمة ودائمها . فهو ـ عظمت قدرته ـ تشتد عنايته بالناس في ليلة القدر ، إذ جعل الله سبحانه هذا الاشتداد قريناً بما يقرّر الإنسان لنفسه من مصير ، لا سيما وأنه قال في القرآن الكريم في وصف ليلة القدر بأنها: ﴿ ... خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ 3 أي ما يساوي معدل عمر الإنسان تقريباً . ثم قال عنها أيضاً :﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ 4 وقد ترتل الآيات وتتوقف بعد كلمة ﴿ سَلَامٌ ... ﴾ 4 أو قبلها في اختيار المعاني التي تعطيها القراءة . ففي كل أمر يقضى من ربّ العباد سلام ، وفيها سلام وتحية للإنسان من خالقه ، فينبغي له أن يرد التحية ويقول : يا رب ؛ وعليك السلام ومنك السلام وإليك السلام وأنت السلام ، حتى يُدخله الله سبحانه وتعالى دار السلام ويهديه سبل السلام . إذ في طريق الإنسان الذي يوصله الى رضوان الله تعالى مئات أو آلاف العثرات والسقطات والمهاوي والأخطار . ومن الممكن أن يكون السقوط والضياع والانحراف في أية واحدة من هذه العثرات والمهاوي .
فالمرء معرّض بين لحظة وأخرى الى الأخطار الجسيمة ، وهذه الأخطار لا تتمثل في الموت أو المرض ، فهذان الأمران ليسا سوى حالتين مكتوبتين ومقدرتين على الناس كما كتبتا وقدّرتا على الأنبياء وسائر المخلوقات الحيّة الأخرى . إن الخطر الأعظم هو خطر الانحراف عن جادة التوحيد وعبادة أرباب آخرين من دون الله جل جلاله . الخطر الحقيقي يكمن في أن يصل الحال بالإنسان الى أن ينادي من قبل الرب بأن يعمل ما بدا له فهو لن يُغفر له . . .
الخطر الأول والأخير أن تكون حالة الإنسان كحالة ذاك الذي قصّ الإمام الصادق عليه السلام قصته حيث قال : "اُقعد رجل من الأخيار في قبره فقيل له : إنا جالدوك مائة جلدة من عذاب الله . فقال : لا اُطيقها . فلم يزالوا به حتى انتهوا إلى جلدة واحدة ، فقالوا ليس منها بدّ . فقال : فبما تجلدونيها ؟ قالوا : نجلدك لأنّك صلّيت يوماً بغير وضوء ، ومررت على ضعيف فلم تنصره . قال : فجلدوه جلدة من عذاب الله عزّ وجلّ ، فامتلأ قبره ناراً" 5 .
أقول : إن ليلة القدر فيها من العظمة مالا يعدّ أو يوصف ، حيث حيى فيها الرب عبده الإنسان ، فكان من الواجب عليه أن يطلب العبد الى سيده الهداية الى سبل السلام وإلى الورع والتقوى ، فمن دونها يصبح هذا العبد عرضة لعواصف السقوط والانحراف والضياع الأبدي ، ويكون كما الجسد الفاقد المناعة ، فما أن يدخله الداء حتى ينتشر في أوصاله ويقضي عليه . كذلك الإنسان لابد له من الطلب إلى بأن يزوده بالتقوى واليقين وأن يتـزوّد بهما ، فهما خير زاد وخير لبوس ودرع وحصن .
إن الإنسان ينبغي عليه أن يعرف بأن الله سبحانه وتعالى إذ يأمره وينهاه ، إنما لحبّه له وحنوه عليه . وهذا الحب لابد وأن يقابل بحبّ متقابل ، ولو كلّف ذلك تضحيةً وصبراً وصعبة . فمهما يبذل الإنسان في هذه الدنيا من تضحية فهو لا يعدو كونه قد ضحّى برخيص في مقابل الوعد الذي قطعه الله سبحانه على نفسه بأن ينصر من ينصره وأن الجنة قد أُعدّت للمتقين . .
أقول ؛ إن الناس مدعوون في هذه الليلة بشكل مباشر إلى التعمق والتدبر والتبصر في حكمة وجود الإنسان وسر خلقته أساساً .
ويؤكد القرآن العظيم عن لسان الله سبحانه: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ 6 ويفسر الإمام الحسين بن علي عليهما السلام هذا المنطوق: بـ : "إنَّ الله جلَّ ذكره ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه . فقال له رجل : يابن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله ؟ قال : معرفة أهل كلِّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته 7 .
إن العلاقة بين مناسبة حلول ليلة القدر وحلول ذكرى استشهاد الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي هو أبو الأئمة في تشابك بليغ . فالملائكة حين تتنـزّل في هذه الليلة إنما تتـنـزّل على حجّة الله ووليه عليه السلام ، ولهذا فإن من الأهمية بمكان أن يسعى الإنسان المسلم إلى تحديد قراره المصيري بشأن عقائده وسلوكياته في هذه الدنيـا بدقة متناهية ، فإن كان يطلب النجاة الى الجنّة فعليه أن يعرف سادة الجنة ، وهم رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل البيت المعصومين عليهم السلام .
وليحاول الواحد منا في هذه المناسبة الجليلة أن يكون إيمانه بالمفاهيم الدينية إيماناً مستقراً عميقاً ، لا إيماناً مستودعاً سطحياً . وهذا الإيمان لا يستقرّ في قلب المرء ما لم يتبصر موقعه في الدنيا ومن الدنيا ، ومالم يتعرف أو يحاول التعرّف الى الدار الآخرة ، فهي خلقت من أجل الإنسان وبإرادته . . إذ لو لم ينتخب الناس أو بعضهم طريق السعادة لما خلقت الجنة ، ولو لم ينتخب الباقون الذنوب لما خلق الله النار .
وهذه النعم القائمة بين أيدينا إنما هي دلائل النعم الأبدية التي سينالها المؤمنون في جنّات الله ، أما الآلام البدنية والنفسية فهي الأخرى أمارات غضب الله الأخروي وما أعده للمذنبين المسرفين .
في الحياة الأولى ؛ حينما يصل الألم الى درجة معينة يغمى على المريض فيفقد الاحساس بالألم ، وإذا بلغ مرتبة أشد سيموت ؛ وهذا من رحمة الله بعباده أن جعل حدّاً محدوداً لألمهم . لكنّ آلام يوم القيامة ليست على هذه الصورة وهذه البساطة ، فالله عز وجل يقول: ﴿ ... كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا ... ﴾ 8 فالألم في جهنم لا تحدّه الضوابط ولا تتعرض له الرحمـة ﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾ 9 .
فلا تجديد في القضاء والحكم ، ولا نهاية للألم ، بل هناك نار سجّرها جبّارها لغضبه . أتعلم أيها الإنسان الغافل ماذا يفعل العطش بأهل النار ؟ إنه يشتد عليهم الى درجة يؤتى اليهم بالماء وهو يغلي بمعدن مذاب أو بصديد لا توصف رائحته ، وعندما يشربونه يتساقط لحم وجوههم فيه ، ولكن مع ذلك فهم يشربون لشدة العطش . وهذه صورة مبسطة من صور جهنم ـ أعاذنا الله وإياكم من دخولها ـ .
أما الجنة ؛ ففيها من النعيم الأبدي ما لا عين رأت ولا اُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . النعيم الخالد الذي يتوجب على الناس أن يهرعوا إليه ويطلبوه من الله سبحانه بكل حماس وإصرار . فمن أكثر طرق الباب أوشك أن يسمع الجواب ، ومن لجّ ولج . وهذا الإلحاح المتواصل والمطلوب هو لإسقاط الحجب المتراكمة على قلب الإنسان ؛ حجاباً بعد حجاب ، فيومئذ لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم ليصل الى معدن النور .
ومن صفات الجنّة ما جاء عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال في خطبة طويلة :
"من تولّى أذان مسجد من مساجد الله فأذّن فيه وهو يريد وجه الله أعطاه الله عزّ وجل ثواب أربعين ألف ألف نبي ، وأربعين ألف ألف صدّيق ، وأربعين ألف ألف شهيد ، وأدخل في شفاعته أربعين ألف ألف اُمّة ، في كل اُمّة أربعين ألف ألف رجل . وكان له فـي كـل جنة من الجنان أربعين ألف ألف مدينة ، في كل مدينة أربعون ألف ألف قصر ، في كل قصر أربعون ألف ألف دار ، في كل دار أربعون ألف ألف بيت ، في كل بيت أربعون ألف ألف سرير ، في كل سرير زوجة من الحور العين ؛ سعة كل بيت منها مثل الدنيا أربعون ألف ألف مرة ، بين يدي كل زوجة أربعون ألف ألف وصيف وأربعون ألف ألف جارية وأربعون ألف ألف وصيفة ، في كل بيت أربعون ألف ألف مائدة على كل مائدة أربعون ألف ألف قصعة في كل قصعة أربعون ألف ألف لون من الطعان ، لو نزل به الثقلان لأدخلهم أدنى بيت من بيوتها ، لهم فيها ما شاؤوا من الطعام والشراب والطيب والثمار وألوان التحف والطرائف من الحلـيّ والحلل ، كل بيت منها يكتفي بما فيه من هذه الأشياء عمّا في البيت الآخر . فإذا أذّن المؤذّن فقال أشهد أن لا إله إلاّ الله اكتنفه أربعون ألف ألف ملك كلهم يصلّون عليه ويستغفرون له وكان في ظل الله عزّ وجل حتى يفرغ وكتب له ثوابه أربعون ألف ألف ملك ثم صعدوا به الى الله عز وجل" 10 .
هل اشتقت إلى الجنـة أم لا ؟ إنك ستدخل الجنة ـ وما تقدم وصف واحد من أوصافها فقط ـ بشرط وحيد و هو ﴿ ... فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ 11 .
ولقد جاء في الحديث أن في صحف موسى بن عمران : "يا عبادي إني لم أخلق الخلق لأستكثر بهم من قلة ، ولا لآنس بهم من وحشة ، ولا لأستعين بهم على شيء عجزت عنه ، ولا لجرّ منفعة ولا لدفع مضرة . ولو أن جميع خلقي من أهل السماوات والأرض اجتمعوا على طاعتي وعبادتيّ لا يفترون عن ذلك ليلاً ولا نهاراً ما زاد ذلك في ملكي شيئاً سبحاني وتعاليت عن ذلك" 12 .
وقد سئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام : لِمَ خلق الله الخلق ؟ فقال : إن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً ولم يتركه سدىً ، بل خلقهم لإظهار قدرته وليكلّفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه ، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ، ولا ليدفع بهم مضرة ، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد" 13 .
إن الله سبحانه وتعالى غني عن العباد على الإطلاق ، إلا أنه أحب أن يدخلنا جنّاته وأن يصيبنا رضوانه ؛ فلماذا نبخل على أنفسنا بالجنة ، ونغفل عن هذا الكرم والحب والرأفة بنا ؟ ولماذا نضيّع من بين أيدينا عميم الفائدة التي تكتنـزها ليلة القدر المباركة ؟
و لا يغيب عنا إن عهد المؤمنين الصادقين بالله في الدنيا هو عهدهم به في الآخرة ، إنهم على يقين من أمر ربهم وأمرهم ، وإنهم ليرون بعين القلب الحكمة من وراء خلقهم ووجودهم في الدنيا ، ويطلعون اطلاع الخبير على ما أعدّ الله تبارك وتعالى لهم في الآخرة . لذلك فإنه لم يكن من الغريب على شخصية فذّة كشخصية أمير المؤمنين عليه السلام أن يؤكد لنفسه وللمسلمين أنه قد فاز مقسماً برب الكعبة ، إذ قال عندما ضربه ابن ملجم على أم رأسه بسيفه القاتل : "فزت ورب الكعبة" .
نسأل الله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة المعصومين من أولاد الحسين وبحق كل نبي وصدّيق وشهيد ومؤمن أن يجعلنا من عباده المرحومين ولا يجعلنا من المحرومين ، وأن يحيينا بالإيمان ويميتنا عليه ، وأن يحسن عاقبتنا بفضله ، وأن يجعلنا من المهتدين ويلحقنا بالصالحين بحق محمد وآله الهداة الميامين 14 .
"أيها الناس ؛ إن الله تبارك وتعالى لمّا خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة ، فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلاّ بأن يعرّفهم ما لهم وما عليهم ، والتعريف لا يكون إلاّ بالأمر والنهي ، والأمر والنهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد ، والوعد لا يكون إلاّ بالترغيب ، والوعيد لا يكون إلاّ بالترهيب ، والترغيب لا يكون إلاّ بما تشتهيه أنفسهم وتلذّه أعينهم ، والترهيب لا يكون إلاّ بضد ذلك . ثم خلقهم في داره وأراهم طرفاً من اللذات ليستدلّوا به على ما ورائهم من اللذات الخالصة التي لا يشوبها ألم ، ألا وهي الجنة . وأراهم طرفاً من الآلام ليستدلّوا به على ما ورائهم من الآلام الخالصة التي لا يشوبها لذة ، ألا وهي النار . فمن أجل ذلك ترون نعيم الدنيا مخلوطاً بمحنها ، وسرورها ممزوجاً بكدرها وغمومها 1 .
إن هذا القول الشريف تجسيد خالص لنظرية الإسلام في سبب الخلقة ، النظرية التي احتوتها عشرات الآيات القرآنية ومئات الروايات التي وصلتنا عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام ، وتناولها العلماء الاعلام قدس الله أرواحهم بالشرح والتفصيل . وعن هذا الحديث يقول الجاحظ ـ وهو من أشد المعاندين لحق أئمة أهل البيت ـ ما نصه : "هو جُماع الكلام الذي دوّنه الناس في كتبهم ، وتحاوروه بينهم" . أما أبو علي الجبائي ـ وهو من كبار علماء الكلام ـ فقد قال حينما سمع كلام الجاحظ ووصفه : "لقد صدق الجاحظ ، هذا ما لا يحتمله الزيادة والنقصان" .
وكما هو واضح ، فإن المفاهيم التي انطوى عليها حديث أمير المؤمنين عليه السلام مناسبة تماماً بالنسبة الى سياق أحاديثنا في هذه الأيام الرمضانية الجليلة ، لا سيما وأن هذه الأيام قد اجتمعت فيها مناسبتان عظيمتان ؛ إحداهما استشهاد سيدنا وإمامنا علي بن أبي طالب عليه السلام ، والذي نحزن لحزنه ونفرح لفرحه ونقتدي بهديه ، ويشعّ على قلوبنا ـ إن شاء الله تعالى ـ نور ولايته . والمناسبة الثانية هي ليلة القدر التي تبيّن للناس أكثر من غيرها عظمة الهيمنة الإلهية عليهم والعناية الربانية بهم ؛ الليلة التي هي مهبط الملائكة الداعين بالمغفرة لبني البشر . وهذا الهبوط قد يكون رمزاً يستطيع الناس الاستلهام منه ، كلٌ حسب مستوى إدراكه ووعيه . .
إن الله جل جلاله وصف نفسه بـ ﴿ ... الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ... ﴾2 والرحمن في اللغة يعني واسع الرحمة ، والرحيم يعني عميم الرحمة ودائمها . فهو ـ عظمت قدرته ـ تشتد عنايته بالناس في ليلة القدر ، إذ جعل الله سبحانه هذا الاشتداد قريناً بما يقرّر الإنسان لنفسه من مصير ، لا سيما وأنه قال في القرآن الكريم في وصف ليلة القدر بأنها: ﴿ ... خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ 3 أي ما يساوي معدل عمر الإنسان تقريباً . ثم قال عنها أيضاً :﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ 4 وقد ترتل الآيات وتتوقف بعد كلمة ﴿ سَلَامٌ ... ﴾ 4 أو قبلها في اختيار المعاني التي تعطيها القراءة . ففي كل أمر يقضى من ربّ العباد سلام ، وفيها سلام وتحية للإنسان من خالقه ، فينبغي له أن يرد التحية ويقول : يا رب ؛ وعليك السلام ومنك السلام وإليك السلام وأنت السلام ، حتى يُدخله الله سبحانه وتعالى دار السلام ويهديه سبل السلام . إذ في طريق الإنسان الذي يوصله الى رضوان الله تعالى مئات أو آلاف العثرات والسقطات والمهاوي والأخطار . ومن الممكن أن يكون السقوط والضياع والانحراف في أية واحدة من هذه العثرات والمهاوي .
فالمرء معرّض بين لحظة وأخرى الى الأخطار الجسيمة ، وهذه الأخطار لا تتمثل في الموت أو المرض ، فهذان الأمران ليسا سوى حالتين مكتوبتين ومقدرتين على الناس كما كتبتا وقدّرتا على الأنبياء وسائر المخلوقات الحيّة الأخرى . إن الخطر الأعظم هو خطر الانحراف عن جادة التوحيد وعبادة أرباب آخرين من دون الله جل جلاله . الخطر الحقيقي يكمن في أن يصل الحال بالإنسان الى أن ينادي من قبل الرب بأن يعمل ما بدا له فهو لن يُغفر له . . .
الخطر الأول والأخير أن تكون حالة الإنسان كحالة ذاك الذي قصّ الإمام الصادق عليه السلام قصته حيث قال : "اُقعد رجل من الأخيار في قبره فقيل له : إنا جالدوك مائة جلدة من عذاب الله . فقال : لا اُطيقها . فلم يزالوا به حتى انتهوا إلى جلدة واحدة ، فقالوا ليس منها بدّ . فقال : فبما تجلدونيها ؟ قالوا : نجلدك لأنّك صلّيت يوماً بغير وضوء ، ومررت على ضعيف فلم تنصره . قال : فجلدوه جلدة من عذاب الله عزّ وجلّ ، فامتلأ قبره ناراً" 5 .
أقول : إن ليلة القدر فيها من العظمة مالا يعدّ أو يوصف ، حيث حيى فيها الرب عبده الإنسان ، فكان من الواجب عليه أن يطلب العبد الى سيده الهداية الى سبل السلام وإلى الورع والتقوى ، فمن دونها يصبح هذا العبد عرضة لعواصف السقوط والانحراف والضياع الأبدي ، ويكون كما الجسد الفاقد المناعة ، فما أن يدخله الداء حتى ينتشر في أوصاله ويقضي عليه . كذلك الإنسان لابد له من الطلب إلى بأن يزوده بالتقوى واليقين وأن يتـزوّد بهما ، فهما خير زاد وخير لبوس ودرع وحصن .
إن الإنسان ينبغي عليه أن يعرف بأن الله سبحانه وتعالى إذ يأمره وينهاه ، إنما لحبّه له وحنوه عليه . وهذا الحب لابد وأن يقابل بحبّ متقابل ، ولو كلّف ذلك تضحيةً وصبراً وصعبة . فمهما يبذل الإنسان في هذه الدنيا من تضحية فهو لا يعدو كونه قد ضحّى برخيص في مقابل الوعد الذي قطعه الله سبحانه على نفسه بأن ينصر من ينصره وأن الجنة قد أُعدّت للمتقين . .
أقول ؛ إن الناس مدعوون في هذه الليلة بشكل مباشر إلى التعمق والتدبر والتبصر في حكمة وجود الإنسان وسر خلقته أساساً .
ويؤكد القرآن العظيم عن لسان الله سبحانه: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ 6 ويفسر الإمام الحسين بن علي عليهما السلام هذا المنطوق: بـ : "إنَّ الله جلَّ ذكره ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه . فقال له رجل : يابن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله ؟ قال : معرفة أهل كلِّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته 7 .
إن العلاقة بين مناسبة حلول ليلة القدر وحلول ذكرى استشهاد الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي هو أبو الأئمة في تشابك بليغ . فالملائكة حين تتنـزّل في هذه الليلة إنما تتـنـزّل على حجّة الله ووليه عليه السلام ، ولهذا فإن من الأهمية بمكان أن يسعى الإنسان المسلم إلى تحديد قراره المصيري بشأن عقائده وسلوكياته في هذه الدنيـا بدقة متناهية ، فإن كان يطلب النجاة الى الجنّة فعليه أن يعرف سادة الجنة ، وهم رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل البيت المعصومين عليهم السلام .
وليحاول الواحد منا في هذه المناسبة الجليلة أن يكون إيمانه بالمفاهيم الدينية إيماناً مستقراً عميقاً ، لا إيماناً مستودعاً سطحياً . وهذا الإيمان لا يستقرّ في قلب المرء ما لم يتبصر موقعه في الدنيا ومن الدنيا ، ومالم يتعرف أو يحاول التعرّف الى الدار الآخرة ، فهي خلقت من أجل الإنسان وبإرادته . . إذ لو لم ينتخب الناس أو بعضهم طريق السعادة لما خلقت الجنة ، ولو لم ينتخب الباقون الذنوب لما خلق الله النار .
وهذه النعم القائمة بين أيدينا إنما هي دلائل النعم الأبدية التي سينالها المؤمنون في جنّات الله ، أما الآلام البدنية والنفسية فهي الأخرى أمارات غضب الله الأخروي وما أعده للمذنبين المسرفين .
في الحياة الأولى ؛ حينما يصل الألم الى درجة معينة يغمى على المريض فيفقد الاحساس بالألم ، وإذا بلغ مرتبة أشد سيموت ؛ وهذا من رحمة الله بعباده أن جعل حدّاً محدوداً لألمهم . لكنّ آلام يوم القيامة ليست على هذه الصورة وهذه البساطة ، فالله عز وجل يقول: ﴿ ... كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا ... ﴾ 8 فالألم في جهنم لا تحدّه الضوابط ولا تتعرض له الرحمـة ﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾ 9 .
فلا تجديد في القضاء والحكم ، ولا نهاية للألم ، بل هناك نار سجّرها جبّارها لغضبه . أتعلم أيها الإنسان الغافل ماذا يفعل العطش بأهل النار ؟ إنه يشتد عليهم الى درجة يؤتى اليهم بالماء وهو يغلي بمعدن مذاب أو بصديد لا توصف رائحته ، وعندما يشربونه يتساقط لحم وجوههم فيه ، ولكن مع ذلك فهم يشربون لشدة العطش . وهذه صورة مبسطة من صور جهنم ـ أعاذنا الله وإياكم من دخولها ـ .
أما الجنة ؛ ففيها من النعيم الأبدي ما لا عين رأت ولا اُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . النعيم الخالد الذي يتوجب على الناس أن يهرعوا إليه ويطلبوه من الله سبحانه بكل حماس وإصرار . فمن أكثر طرق الباب أوشك أن يسمع الجواب ، ومن لجّ ولج . وهذا الإلحاح المتواصل والمطلوب هو لإسقاط الحجب المتراكمة على قلب الإنسان ؛ حجاباً بعد حجاب ، فيومئذ لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم ليصل الى معدن النور .
ومن صفات الجنّة ما جاء عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال في خطبة طويلة :
"من تولّى أذان مسجد من مساجد الله فأذّن فيه وهو يريد وجه الله أعطاه الله عزّ وجل ثواب أربعين ألف ألف نبي ، وأربعين ألف ألف صدّيق ، وأربعين ألف ألف شهيد ، وأدخل في شفاعته أربعين ألف ألف اُمّة ، في كل اُمّة أربعين ألف ألف رجل . وكان له فـي كـل جنة من الجنان أربعين ألف ألف مدينة ، في كل مدينة أربعون ألف ألف قصر ، في كل قصر أربعون ألف ألف دار ، في كل دار أربعون ألف ألف بيت ، في كل بيت أربعون ألف ألف سرير ، في كل سرير زوجة من الحور العين ؛ سعة كل بيت منها مثل الدنيا أربعون ألف ألف مرة ، بين يدي كل زوجة أربعون ألف ألف وصيف وأربعون ألف ألف جارية وأربعون ألف ألف وصيفة ، في كل بيت أربعون ألف ألف مائدة على كل مائدة أربعون ألف ألف قصعة في كل قصعة أربعون ألف ألف لون من الطعان ، لو نزل به الثقلان لأدخلهم أدنى بيت من بيوتها ، لهم فيها ما شاؤوا من الطعام والشراب والطيب والثمار وألوان التحف والطرائف من الحلـيّ والحلل ، كل بيت منها يكتفي بما فيه من هذه الأشياء عمّا في البيت الآخر . فإذا أذّن المؤذّن فقال أشهد أن لا إله إلاّ الله اكتنفه أربعون ألف ألف ملك كلهم يصلّون عليه ويستغفرون له وكان في ظل الله عزّ وجل حتى يفرغ وكتب له ثوابه أربعون ألف ألف ملك ثم صعدوا به الى الله عز وجل" 10 .
هل اشتقت إلى الجنـة أم لا ؟ إنك ستدخل الجنة ـ وما تقدم وصف واحد من أوصافها فقط ـ بشرط وحيد و هو ﴿ ... فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ 11 .
ولقد جاء في الحديث أن في صحف موسى بن عمران : "يا عبادي إني لم أخلق الخلق لأستكثر بهم من قلة ، ولا لآنس بهم من وحشة ، ولا لأستعين بهم على شيء عجزت عنه ، ولا لجرّ منفعة ولا لدفع مضرة . ولو أن جميع خلقي من أهل السماوات والأرض اجتمعوا على طاعتي وعبادتيّ لا يفترون عن ذلك ليلاً ولا نهاراً ما زاد ذلك في ملكي شيئاً سبحاني وتعاليت عن ذلك" 12 .
وقد سئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام : لِمَ خلق الله الخلق ؟ فقال : إن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً ولم يتركه سدىً ، بل خلقهم لإظهار قدرته وليكلّفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه ، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ، ولا ليدفع بهم مضرة ، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد" 13 .
إن الله سبحانه وتعالى غني عن العباد على الإطلاق ، إلا أنه أحب أن يدخلنا جنّاته وأن يصيبنا رضوانه ؛ فلماذا نبخل على أنفسنا بالجنة ، ونغفل عن هذا الكرم والحب والرأفة بنا ؟ ولماذا نضيّع من بين أيدينا عميم الفائدة التي تكتنـزها ليلة القدر المباركة ؟
و لا يغيب عنا إن عهد المؤمنين الصادقين بالله في الدنيا هو عهدهم به في الآخرة ، إنهم على يقين من أمر ربهم وأمرهم ، وإنهم ليرون بعين القلب الحكمة من وراء خلقهم ووجودهم في الدنيا ، ويطلعون اطلاع الخبير على ما أعدّ الله تبارك وتعالى لهم في الآخرة . لذلك فإنه لم يكن من الغريب على شخصية فذّة كشخصية أمير المؤمنين عليه السلام أن يؤكد لنفسه وللمسلمين أنه قد فاز مقسماً برب الكعبة ، إذ قال عندما ضربه ابن ملجم على أم رأسه بسيفه القاتل : "فزت ورب الكعبة" .
نسأل الله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة المعصومين من أولاد الحسين وبحق كل نبي وصدّيق وشهيد ومؤمن أن يجعلنا من عباده المرحومين ولا يجعلنا من المحرومين ، وأن يحيينا بالإيمان ويميتنا عليه ، وأن يحسن عاقبتنا بفضله ، وأن يجعلنا من المهتدين ويلحقنا بالصالحين بحق محمد وآله الهداة الميامين 14 .
- [*=center]1. بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 316 .
[*=center]2.القران الكريم: سورة القدر (97)، من بداية السورة إلى الآية 1، الصفحة: 598.
[*=center]3.القران الكريم: سورة القدر (97)، الآية: 3، الصفحة: 598.
[*=center]4.a.b.القران الكريم: سورة القدر (97)، الآية: 5، الصفحة:598.
[*=center]5. بحار الأنوار ، ج 77 ، ص 233 .
[*=center]6.القران الكريم: سورة الذاريات (51)، الآية: 56، الصفحة:523.
[*=center]7. بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 312 .
[*=center]8.القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 56، الصفحة: 87.
[*=center]9.القران الكريم: سورة الزخرف (43)، الآية: 77، الصفحة:495.
[*=center]10. بحار الأنوار ، ج 81 ، ص 123 .
[*=center]11.القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 132، الصفحة: 20.
[*=center]12. الجواهر السنية للحر العاملي ، ص 63 .
[*=center]13. بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 313 .
[*=center]14. من كتاب : ليلة القدر معراج الصالحين ، آية الله السيد محمد تقي المدرسي .
تعليق