لقد أعدت قريش عدتها لغزو المدينة، وكانت أخبارها تصل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عن طريق الوحي، وإخبار عيونه في مكة، بل إن بعض الروايات تذكر أن عمه العباس بن عبد المطلب أرسل إليه سرا، يعلمه بخروج قريش لحربه.
وعلق الدكتور حسن ابراهيم حسن على هذه الرواية، بقوله: "وليس ذلك بعيدا، فقد كان معروفا عن بني هاشم أن هواهم مع الرسول، وأنهم ما كانوا يخرجون لحربه إلا مستكرهين([1])".
إلا أن هذه الرواية تدل، في الحقيقة، على اعتقاد العباس بنبوة النبي (صلى الله عليه وآله)، وإيمانه به، ولم يعلن ذلك، لمصلحة وراء كتمانه، ولعل نفس إرساله إخبار قريش لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أحد المؤشرات إلى هذه المصلحة، وليست مجرد هوى وعصبية كما ربما يظهر من كلام الدكتور، لأن مصلحته تقتضي أن يكون في صف مشركي قريش، لو لم يكن قد آمن فعلا، لا أن يكون عينا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) عليهم.
ومهما يكن من أمر، فقد استشار النبي أصحابه في الأمر، فأشار عليه كبار الصحابة وعبد الله بن أبي أن يبقى في المدينة، لأنهم في بقائهم يكونون أكثر منعة وقوة، إذ يمكنهم الاستفادة من النساء والأطفال، لأنهم يستطيعون أن يحصبوا المشركين بالحجارة وهم في دورهم آمنين.
ومن ناحية ثانية أشار عليه الشباب ومن لم يشهد بدرا، وهم أكثر أهل المدينة، أن يخرجوا للقائهم خارج المدينة، ويقول المؤرخون أن الرأي الأول كان رأي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إلا أنه تركه وأخذ برأي الأكثرية. ولكننا نشك في ذلك كثيراً، إذ ليس من طبيعة النبي (صلى الله عليه وآله) أن يرجع إلى آراء الناس في مثل هذه الموارد، إذ ï´؟ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهمï´¾([2]).
هذا بالإضافة لما يتضمنه هذا القول من إهانة للنبي (صلى الله عليه وآله)، بل هو يستبطن تشكيكاً بأصل نبوته، عن غير قصد من هؤلاء، لأن رأيه المزعوم من أنه كان مع البقاء في المدينة كما أشار إليه بعضهم، إما أن يكون صحيحا في نفسه فمخالفته والنزول عند رغبة الشباب، تصرف شائن لا يصدر من رجل حكيم، فضلا عن المؤيد بالوحي.
وإما أن يكون صحيحاً في نفسه، ولازمه أن يكون مؤيدا بالوحي ï´؟إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَىï´¾ وهو بمثابة انكار نبوته (صلى الله عليه وآله) نعوذ بالله من ذلك.
ولعل الدافع إلى الاستنتاج المذكور هو الكلام الذي اطلقه ابن أبي من قوله "عصاني واتبع الولدان"، مع أنه لا يكشف عن موقف النبي (صلى الله عليه وآله)، وإنما يكشف عن أن ابن أبي قد أراد أن يؤثر في موقف النبي (صلى الله عليه وآله) لغاية في نفسه، فلما رأى أنه لم يوافقه رأيه أطلق مقولته هذه بغية التأثير على الرجال ليرجعهم إلى المدينة.
ومهما يكن من أمر، فلما خرجوا من المدينة رجع ابن أبي بثلث الجيش وقال: عصاني واتبع الولدان.
عسكر النبي (صلى الله عليه وآله) على سفح جبل أحد المواجه للمدينة، فاحتمى بالجبل، وجعل الرماة على جبل صغير أمام احد يعرف حتى الآن بجبل الرماة، وكانت فيه ثغرة أمرهم بسدها وهم بقيادة عبد الله بن جبير، وفيهم عمر ابن الخطاب، وأمرهم ألا يتركوا مكانهم، سواء انهزم المسلمون أو انتصروا، بل في بعض الروايات أنه (صلى الله عليه وآله) قال لهم: إن رأيتمونا تختطفنا الطير، فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
وأما المشركون فعسكروا في بطن الوادي، مقابل المكان الذي عسكر فيه الرسول (صلى الله عليه وآله)، وقد كان على المشركين أبو سفيان بن حرب، وعلى خيالتهم خالد ابن الوليد، وكانت عدتهم ثلاثة آلاف مقاتل، وعتادهم جميع أموال القافلة التي اعترضها المسلمون وهي في طريق الشام، والتي تقدم ذكرها.
ولما بدأت الحرب، اعتمد المسلمون خطة النبي (صلى الله عليه وآله) في بداية الأمر، فكان النصر حليفهم، وتقهقر المشركون وانهزموا شر هزيمة، تاركين وراءهم كل شيء لا يأمنون حتى على نسائهم، حتى قال بعض الصحابة ممن شهد احدا: "والله، إني لأنظر إلى هند وصواحبها منهزمات، وما دون أخذهن شيء لمن أراده، ولكن لا مرد لقضاء الله"([3]).
فلما رأى الرماة هزيمة قريش وفرارها، وكثرة ما غنمه المسلمون، تركوا الجبل الذي أمرهم النبي بالتحصن فيه، وذهبوا لجمع الغنائم، رغم محاولات عبد الله بن جبير الحثيثة في ثنيهم عن ذلك، وإلزامهم بأمر النبي (صلى الله عليه وآله) دون جدوى.
ورأى خالد بن الوليد ما فعله الرماة، وأن الثغرة التي سدها رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد فتحت فانقض عليهم بخيالته، وأعمل السيف في رقابهم، فتفرق المسلمون وانهزموا، ولم يثبت غير علي (عليه السلام) الذي أخذ يدافع ويحامي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى أصيب كل منهما، حتى كسرت رباعية النبي (صلى الله عليه وآله) وأصيبت وجنته، وظن المشركون أن النبي قد قتل، فزاد ارتباك المسلين، وانتهت الحرب على هزيمة مؤلمة للمسلمين. وقتل في هذه الحرب الحمزة ابن عبد المطلب عم النبي (صلى الله عليه وآله)، ومثلت به هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، إذ بقرت بطنه، وأخرجت بعض كبده، وحاولت أكلها، فلاكتها حتى إذا عجزت عن أكلها لفظتها.
سماحة الشيخ حاتم اسماعيل
([1]) تاريخ الإسلام ج1، ص111.
([2]) سورة الأحزاب، آية: 36.
([3]) الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج6، ص252.
تعليق