بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
إنّ صفة الصدق لا بدّ من أن تلازم الإنسان في أحواله كلّها، سواء في ما يبديه من رأي يرتبط بما يملكه من أشياء أو في ما يُبديه من رأي في أشياء غيره.
الأصل الأصيل عقلاً وشرعاً أنّ الصدق حسَنٌ وواجب، وأنّ الكذب قبيحٌ وحرام. وهذا الحكم لا يخفى على عاقل، سواء التزم بشرعٍ أو لا.
والشريعة الإسلاميّة لم تخرج عن هذا النهج العقلائيّ في حكم الصدق، بل أولَته اهتماماً خاصّاً، حثّاً وتشجيعاً، وجعلته من أوائل مبادىء الدعوة الإسلاميّة الأصيلة، حتّى إنّ النبيّ الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم كان قبل البعثة الشريفة معروفاً بـ"الصادق الأمين"(1). وبهذه الصفة علا شأنُه بين قومه، بل عند كل مَن عرفه وخالطه وتحدّث إليه، فكان صلى الله عليه وآله وسلم أميناً في حفظ ما أؤتمن عليه، وصادقاً في حديثه مع كلّ الناس.
* الصدق وأداء الأمانة
لقد قُرن الصدق مع أداء الأمانة في كثير من الروايات، كما في معتبرة الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ الله عزّ وجلّ لم يبعث نبيّاً إلّا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر"(2).
وفي الرواية عن أبي كهمس قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: عبد الله بن أبي يعفور يقرئك السلام، قال: "عليك وعليه السلام. إذا أتيت عبد الله فأقرئه السلام، وقل له: إنّ جعفر بن محمّد يقول لك: انظر ما بلغ به علي عليه السلام عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالزمه، فإنّ عليّاً عليه السلام إنّما بلغ ما بلغ به عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصدق الحديث وأداء الأمانة"(3).
* مَواطن الصدق
إنّ الصدق، مضافاً إلى كونه صفةً ممدوحةً وخُلُقاً حسناً، فإنّه حاجةٌ للإنسان والمجتمع، فلا يمكن أن يستقيم مجتمع بأفراده بعيداً عن الصدق، ولا يمكن أن يستقيم سلوك إنسان –أي إنسان- ولو بلحاظ نفسه ما لم يكن صادقاً، حيث إنّ الإنسان الصادق هو الإنسان الطَموح والبنّاء، والعامل نحو مستقبل أفضل وواعد. والإنسان الكاذب هو إنسان عَجول، ومتسرّع، وفاشل، يغطّي فشله بالكذب والخداع.
ومواطن الصدق هي:
1- الصدق مع النفس: يحتاج الإنسان إلى أن يكون صادقاً مع نفسه في ما يراه منها من أقوال وأفعال. فالصادق مع نفسه هو الذي إذا رأى من نفسه خللاً أو عيباً، عمل على إصلاحه بعد إقراره بهذا الخلل والعيب، ولو بينه وبين نفسه. أمّا الذي يرى نفسه فوق الخطأ والخلل والعيوب، فيتوهّم من نفسه أنّه مرآة الحقّ والصدق، فهذا قد وصل إلى درجةٍ من الغرور وعمى النفس؛ ما يصعب معه الإصلاح والتغيير نحو الصدق الحقيقيّ، ويكون: إمّا مصداقاً لقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ (الكهف: 103-104). فإنّ إنساناً كهذا لمّا وقع في عجب نفسه واغترّ، صار من الخاسرين، حيث إنّه لم يعد يميّز بين الصدق والكذب، ولو بينه وبين نفسه. وإمّا مصداقاً لقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ (النمل: 13-14)، إذا كان يعلم بحقيقة الحال، وأنّه قد جحد ظلماً وتكبّراً عن الخضوع للحقّ لمّا جاءته آيات الله تعالى.
2- الصدق مع الناس: وكذلك يحتاج الإنسان إلى الصدق في حياته الاجتماعيّة على اختلافها: في بيته الزوجيّ ، مع زوجته ، مع أولاده، مع أرحامه جميعاً، مع أصدقائه وإخوانه... قولاً وفعلاً.
3- الصدق في عمله ومهنته: يحتاج الإنسان إلى الصدق في مجالات عمله كافة، ولا فرق بين عمل وآخر، وإن كان بعض الأعمال يبرز فيها الصدق متجلّياً أكثر، كما في التجارة والتسويق والإعلان، بل والإعلام الذي أخطر ما يكون فيه مجانبة الصدق وركوب موجة الكذب على قاعدة أنّ "الغاية تبرّر الوسيلة".
4- الصدق في الرأي والقول: إنّ صفة الصدق لا بدّ من أن تلازم الإنسان في أحواله كلّها، سواء في ما يبديه من رأي يرتبط بما يملكه من أشياء أو في ما يُبديه من رأي في أشياء غيره. فلا يمدح مالَه وسلعته غلوّاً غير مبرَّر فيه، ويذمّ أو يبخس أشياء غيره زهداً غير مبرَّر فيه، وقد قال الله تعالى:﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاس أشْيَاءَهُمْ﴾ (الأعراف: 85).
* الإيمان قيد الصدق
ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الإيمان أنْ تُؤثر الصدق حيث يضرُّك على الكذب حيث ينفعك"(4). فلا يكون المؤمن مؤمناً حقّاً حتّى يكون صادقاً ولو في ضُرّ، ولا يكون المؤمن كاذباً ولو في نفع.
وورد عنه عليه السلام في بعض خُطبه: "جانِبوا الكذب، فإنّه مجانِبٌ للإيمان. الصادق على شرف منجاة وكرامة، والكاذب على شفا مهواة ومهانة"(5). فالصادق ناجٍ كريم، والكاذب هاوٍ مهان. فشأن المؤمن أن لا يكذب، بل شأنه الصدق دائماً وأبداً، وعليه يحمل ما رُوي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "المؤمن لا يكذب"(6).
ولذلك، قد يخرج بعض المؤمنين عن منهج الصدق، فينحو نحو الكذب في بعض تفاصيل حياته؛ غافلاً عن خطورة ما وقع فيه أو متعمّداً المعصية لجلب مصلحةٍ دنيويّة زيّن له الشيطان جمالها وساندته النفس الأمّارة بالسوء، فيقع في الكذب الحرام والقبيح.
* لا مبرّرات حقيقيّة للكذب
بعد الكلام عن وجوب الصدق وحُسنه، وحرمة الكذب وقُبحه، ليس هناك ما يبرّر للإنسان أن يكذب، وما يؤتى به من مبرّرات لا يكاد يصدقه صاحبه، فكيف بغيره؟
1- دعِ الكذب جدَّه وهزله: فقد يقال: إنّ الكذب مزاحاً وهزلاً جائز ومبرّر؛ لأنّنا نبغي مفاكهة الآخرين وإضحاكهم، والترويح عنهم بهذا المزاح، ولو كذباً. وهذا باطل بما دلّ على ذمّ الكذب والكاذبين الذي لا يفرّق فيه بين كون الكاذب مازحاً أو جادّاً، كما في قوله تعالى:﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ (النساء: 50)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ (الزمر: 3).
ومن الروايات: رواية الأصبغ بن نباتة قال: قال علي عليه السلام: "لا يجد عبدٌ حقيقة الإيمان حتّى يدع الكذب جدَّه وهزله"(7).
وفي الرواية عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "لا تمزح فيذهب نورك، ولا تكذب فيذهب بهاؤك"(8). فإذا كان المزاح يذهب بالنور، فكيف إذا كان المزاح كذباً، فيذهب به نوره وبهاؤه معاً؟
2- الكذب كلّه أسود: يتّضح أنّ الكذب ليس منه الحلال ومنه الحرام، بل هو حرامٌ وقبيحٌ على كلّ حال، سواء أسميناه مزاحاً أم كذبة بيضاء أم كذبة أوّل نيسان، ونحو ذلك من تفاهات التبريرات غير المجدية في سلب صفة الكذب عمّا هو تغيير للواقع حقيقةً.
3- جاملهم ولاطفهم صادقاً: قد يقال إن مجاملة الناس وملاطفتهم مبررٌ للكذب، وهذا باطل أيضاً. فإنّ ملاطفة الناس ومجاملتهم أمران مطلوبان ومحبوبان، ولا يحتاج الإنسان فيهما إلى الكذب. فالملاطفة هي أن تكون مع الآخرين بشوشاً وودوداً، وأن لا تستهزئ بهم، وأن لا تسخر منهم، وأن لا تبخسهم أشياءهم، ولو نقدت أفعالهم ورددت أقوالهم، فإنّما بروح علميّة موضوعيّة، بعيداً عن التجريح والإهانة. ولذلك، كانت مداراة الناس أمراً مطلوباً شرعاً. فعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مداراة الناس نصف الإيمان..."(9). فليست مداراة الناس كذباً ولا تتطلّب الكذب، بل هي عين الصدق مع النفس تُجاه الآخرين الذين نحبّ منهم أنْ يدارونا ويلاطفونا كما نفعل نحن معهم.
ختاماً: لا يخفى بعد الذي تقدّم ما للكذب من آثار سلبيّة على الفرد والمجتمع؛ فإنّ إيمان الفرد يتضرّر، ومصيره يكون في مهب أكاذيبه التي لا تلبث أن تنكشف، فتتلاشى الأحلام التي بُنيت على أوهام كاذبة، كرمل البحر الذي يذهب بأضعف موجة بحر تضربه؛ وهذا ما يؤثّر أيضاً على مصير المجتمع فيتهاوى؛ لأنّ قوام المجتمع هو مجموعة هذه الأفراد، فإذا سقطت سقط معها بنيان هذا المجتمع.
أعاذنا الله من الكذب، وجعلنا من الصادقين في القول والعمل، وقد قال تعالى شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (التوبة: 119).
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
إنّ صفة الصدق لا بدّ من أن تلازم الإنسان في أحواله كلّها، سواء في ما يبديه من رأي يرتبط بما يملكه من أشياء أو في ما يُبديه من رأي في أشياء غيره.
الأصل الأصيل عقلاً وشرعاً أنّ الصدق حسَنٌ وواجب، وأنّ الكذب قبيحٌ وحرام. وهذا الحكم لا يخفى على عاقل، سواء التزم بشرعٍ أو لا.
والشريعة الإسلاميّة لم تخرج عن هذا النهج العقلائيّ في حكم الصدق، بل أولَته اهتماماً خاصّاً، حثّاً وتشجيعاً، وجعلته من أوائل مبادىء الدعوة الإسلاميّة الأصيلة، حتّى إنّ النبيّ الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم كان قبل البعثة الشريفة معروفاً بـ"الصادق الأمين"(1). وبهذه الصفة علا شأنُه بين قومه، بل عند كل مَن عرفه وخالطه وتحدّث إليه، فكان صلى الله عليه وآله وسلم أميناً في حفظ ما أؤتمن عليه، وصادقاً في حديثه مع كلّ الناس.
* الصدق وأداء الأمانة
لقد قُرن الصدق مع أداء الأمانة في كثير من الروايات، كما في معتبرة الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ الله عزّ وجلّ لم يبعث نبيّاً إلّا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر"(2).
وفي الرواية عن أبي كهمس قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: عبد الله بن أبي يعفور يقرئك السلام، قال: "عليك وعليه السلام. إذا أتيت عبد الله فأقرئه السلام، وقل له: إنّ جعفر بن محمّد يقول لك: انظر ما بلغ به علي عليه السلام عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالزمه، فإنّ عليّاً عليه السلام إنّما بلغ ما بلغ به عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصدق الحديث وأداء الأمانة"(3).
* مَواطن الصدق
إنّ الصدق، مضافاً إلى كونه صفةً ممدوحةً وخُلُقاً حسناً، فإنّه حاجةٌ للإنسان والمجتمع، فلا يمكن أن يستقيم مجتمع بأفراده بعيداً عن الصدق، ولا يمكن أن يستقيم سلوك إنسان –أي إنسان- ولو بلحاظ نفسه ما لم يكن صادقاً، حيث إنّ الإنسان الصادق هو الإنسان الطَموح والبنّاء، والعامل نحو مستقبل أفضل وواعد. والإنسان الكاذب هو إنسان عَجول، ومتسرّع، وفاشل، يغطّي فشله بالكذب والخداع.
ومواطن الصدق هي:
1- الصدق مع النفس: يحتاج الإنسان إلى أن يكون صادقاً مع نفسه في ما يراه منها من أقوال وأفعال. فالصادق مع نفسه هو الذي إذا رأى من نفسه خللاً أو عيباً، عمل على إصلاحه بعد إقراره بهذا الخلل والعيب، ولو بينه وبين نفسه. أمّا الذي يرى نفسه فوق الخطأ والخلل والعيوب، فيتوهّم من نفسه أنّه مرآة الحقّ والصدق، فهذا قد وصل إلى درجةٍ من الغرور وعمى النفس؛ ما يصعب معه الإصلاح والتغيير نحو الصدق الحقيقيّ، ويكون: إمّا مصداقاً لقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ (الكهف: 103-104). فإنّ إنساناً كهذا لمّا وقع في عجب نفسه واغترّ، صار من الخاسرين، حيث إنّه لم يعد يميّز بين الصدق والكذب، ولو بينه وبين نفسه. وإمّا مصداقاً لقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ (النمل: 13-14)، إذا كان يعلم بحقيقة الحال، وأنّه قد جحد ظلماً وتكبّراً عن الخضوع للحقّ لمّا جاءته آيات الله تعالى.
2- الصدق مع الناس: وكذلك يحتاج الإنسان إلى الصدق في حياته الاجتماعيّة على اختلافها: في بيته الزوجيّ ، مع زوجته ، مع أولاده، مع أرحامه جميعاً، مع أصدقائه وإخوانه... قولاً وفعلاً.
3- الصدق في عمله ومهنته: يحتاج الإنسان إلى الصدق في مجالات عمله كافة، ولا فرق بين عمل وآخر، وإن كان بعض الأعمال يبرز فيها الصدق متجلّياً أكثر، كما في التجارة والتسويق والإعلان، بل والإعلام الذي أخطر ما يكون فيه مجانبة الصدق وركوب موجة الكذب على قاعدة أنّ "الغاية تبرّر الوسيلة".
4- الصدق في الرأي والقول: إنّ صفة الصدق لا بدّ من أن تلازم الإنسان في أحواله كلّها، سواء في ما يبديه من رأي يرتبط بما يملكه من أشياء أو في ما يُبديه من رأي في أشياء غيره. فلا يمدح مالَه وسلعته غلوّاً غير مبرَّر فيه، ويذمّ أو يبخس أشياء غيره زهداً غير مبرَّر فيه، وقد قال الله تعالى:﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاس أشْيَاءَهُمْ﴾ (الأعراف: 85).
* الإيمان قيد الصدق
ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الإيمان أنْ تُؤثر الصدق حيث يضرُّك على الكذب حيث ينفعك"(4). فلا يكون المؤمن مؤمناً حقّاً حتّى يكون صادقاً ولو في ضُرّ، ولا يكون المؤمن كاذباً ولو في نفع.
وورد عنه عليه السلام في بعض خُطبه: "جانِبوا الكذب، فإنّه مجانِبٌ للإيمان. الصادق على شرف منجاة وكرامة، والكاذب على شفا مهواة ومهانة"(5). فالصادق ناجٍ كريم، والكاذب هاوٍ مهان. فشأن المؤمن أن لا يكذب، بل شأنه الصدق دائماً وأبداً، وعليه يحمل ما رُوي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "المؤمن لا يكذب"(6).
ولذلك، قد يخرج بعض المؤمنين عن منهج الصدق، فينحو نحو الكذب في بعض تفاصيل حياته؛ غافلاً عن خطورة ما وقع فيه أو متعمّداً المعصية لجلب مصلحةٍ دنيويّة زيّن له الشيطان جمالها وساندته النفس الأمّارة بالسوء، فيقع في الكذب الحرام والقبيح.
* لا مبرّرات حقيقيّة للكذب
بعد الكلام عن وجوب الصدق وحُسنه، وحرمة الكذب وقُبحه، ليس هناك ما يبرّر للإنسان أن يكذب، وما يؤتى به من مبرّرات لا يكاد يصدقه صاحبه، فكيف بغيره؟
1- دعِ الكذب جدَّه وهزله: فقد يقال: إنّ الكذب مزاحاً وهزلاً جائز ومبرّر؛ لأنّنا نبغي مفاكهة الآخرين وإضحاكهم، والترويح عنهم بهذا المزاح، ولو كذباً. وهذا باطل بما دلّ على ذمّ الكذب والكاذبين الذي لا يفرّق فيه بين كون الكاذب مازحاً أو جادّاً، كما في قوله تعالى:﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ (النساء: 50)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ (الزمر: 3).
ومن الروايات: رواية الأصبغ بن نباتة قال: قال علي عليه السلام: "لا يجد عبدٌ حقيقة الإيمان حتّى يدع الكذب جدَّه وهزله"(7).
وفي الرواية عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "لا تمزح فيذهب نورك، ولا تكذب فيذهب بهاؤك"(8). فإذا كان المزاح يذهب بالنور، فكيف إذا كان المزاح كذباً، فيذهب به نوره وبهاؤه معاً؟
2- الكذب كلّه أسود: يتّضح أنّ الكذب ليس منه الحلال ومنه الحرام، بل هو حرامٌ وقبيحٌ على كلّ حال، سواء أسميناه مزاحاً أم كذبة بيضاء أم كذبة أوّل نيسان، ونحو ذلك من تفاهات التبريرات غير المجدية في سلب صفة الكذب عمّا هو تغيير للواقع حقيقةً.
3- جاملهم ولاطفهم صادقاً: قد يقال إن مجاملة الناس وملاطفتهم مبررٌ للكذب، وهذا باطل أيضاً. فإنّ ملاطفة الناس ومجاملتهم أمران مطلوبان ومحبوبان، ولا يحتاج الإنسان فيهما إلى الكذب. فالملاطفة هي أن تكون مع الآخرين بشوشاً وودوداً، وأن لا تستهزئ بهم، وأن لا تسخر منهم، وأن لا تبخسهم أشياءهم، ولو نقدت أفعالهم ورددت أقوالهم، فإنّما بروح علميّة موضوعيّة، بعيداً عن التجريح والإهانة. ولذلك، كانت مداراة الناس أمراً مطلوباً شرعاً. فعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مداراة الناس نصف الإيمان..."(9). فليست مداراة الناس كذباً ولا تتطلّب الكذب، بل هي عين الصدق مع النفس تُجاه الآخرين الذين نحبّ منهم أنْ يدارونا ويلاطفونا كما نفعل نحن معهم.
ختاماً: لا يخفى بعد الذي تقدّم ما للكذب من آثار سلبيّة على الفرد والمجتمع؛ فإنّ إيمان الفرد يتضرّر، ومصيره يكون في مهب أكاذيبه التي لا تلبث أن تنكشف، فتتلاشى الأحلام التي بُنيت على أوهام كاذبة، كرمل البحر الذي يذهب بأضعف موجة بحر تضربه؛ وهذا ما يؤثّر أيضاً على مصير المجتمع فيتهاوى؛ لأنّ قوام المجتمع هو مجموعة هذه الأفراد، فإذا سقطت سقط معها بنيان هذا المجتمع.
أعاذنا الله من الكذب، وجعلنا من الصادقين في القول والعمل، وقد قال تعالى شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (التوبة: 119).
-----------------------
الهوامش:
(*) أستاذ في جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العالميّة- فرع لبنان.
1- بحار الأنوار، المجلسيّ، ج16، ص41.
2- الكافي، الكلينيّ، ج2، ص104، ح1.
3- (م.ن)، ح5.
4- نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج4، ص105، ح458.
5- (م.ن)، ج1، ص151، ح86.
6- في ظلال نهج البلاغة، محمّد جواد مغنيّة، ج1، ص428.
7- المحاسن، البرقيّ، ج1، ص118، ح126.
8- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص636، ح3.
9- الكافي، (م.س)، ج2، ص117، ح5.
(*) أستاذ في جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العالميّة- فرع لبنان.
1- بحار الأنوار، المجلسيّ، ج16، ص41.
2- الكافي، الكلينيّ، ج2، ص104، ح1.
3- (م.ن)، ح5.
4- نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج4، ص105، ح458.
5- (م.ن)، ج1، ص151، ح86.
6- في ظلال نهج البلاغة، محمّد جواد مغنيّة، ج1، ص428.
7- المحاسن، البرقيّ، ج1، ص118، ح126.
8- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص636، ح3.
9- الكافي، (م.س)، ج2، ص117، ح5.
تعليق