مجالس الشباب
تجتمعون ـ أنت وأصدقاؤك ـ وتتحدّثون .. في فرص ما بين الحصص والفصول الدراسية ..
وربما في بيت أحدكم ..
أو في ناد، أو ملتقى شبابيّ أو طلابيّ، أو إخوانيّ عام.
فكل فرصة للقاء مع الإخوان أو الأصدقاء أو الزملاء أو الأهل أو الأقرباء، ثمينة سواء للتداول في قضية أو شأن معيّن، أو حتى مجرد التزاور لتوطيد العلاقة، وطرح الهموم، ومطارحة الرأي، وادخال السرور على الآخر، ومسامرته، واشعاره بحبّك له .. وشعورك بقربك منه ..
كلّ هذه الفرص لعقد مجالس الودّ والمصافاة، أو لمدارسة أمر من أمور الدنيا والآخرة، أو لطلب العلم، أو لأي غرض انساني أو معرفي أو عملي .. هي من أوثق فرص التفاعل الاجتماعي، وتمتين عرى الإيمان والمؤاخاة.
تلك مجالسٌ .. يحبّها الله.
ويحبّها رسوله.
ويحبّها المؤمنون.
وتلك مجالس نتمنّى أن نراك تحجز مكانك فيها حيث تعدّ ولا تفتقد ..
قل لي أىّ مجلس جلست .. أقُل لك مَن أنت!
إنّ من أطيب فرص الحياة وأهناها لقاء الأخوة والأصدقاء.
ولأنّ لقاء الإخوان من الطيِّبات، جعل الله سبحانه وتعالى ذلك نعمة من نعمه السابغة في الجنّة: (إخواناً على سرر متقابلين ). فكلما تنعم بلقاء أخيك وصديقك وصفيّك في الدنيا، فتتناجيان وتتنادمان ويبث أحدكما للآخر همومه، ويتلقّى الآخر ذلك بآذان صاغية، فيسلّي صاحبه، ويخفّف عنه وطأة أحزانه وأشجانه، ويشاطره اللوعة إن كان ملتاعاً، ويشاركه الفرحة إن كان قرير العين مسروراً، فإن هذه الصورة من الأخوّة الخالصة سوف تنتقل بانتقالهما إلى الرفيق الأعلى، حيث يرتعان في بحبوحة النعيم الأبدي، سعيدين بصحبتهما وتعاشرهما لأنّ الله لم يفرّق بينهما في الدار الآخرة، كما كانا لا يفترقان في الدار الدنيا.
أنس الشاب بالشاب أو الشبّان مثله، حاجة اجتماعية ماسّة.
وأنس الفتاة بفتاة أو فتيات مثلها، حاجة لا تعوّض.
ومجالس الشبان وإن تغيّر حالها ـ في عصر الاتصالات ـ فلم تعد ـ إلاّ في النادر ـ مباشرة وحيّة وحميمة كما كانت قبل هذا العصر، إلاّ أن هذا العصر لم يقضِ أو يشطب عليها تماماً، فمجالس الشبان تدور عبر شبكات الانترنيت ومقاهيه، ولا تظنّ أنّ زماناً سيأتي لتزول تلك المجالس العامرة.
وقد يتزوج الشاب وتتزوج الفتاة، وتتغيّر في حياتهما أشياء كثيرة، لكنّهما لا يضحِّيان أو يفرطان بعلاقات إخوانية، ربطتهما عميقاً مع أصدقاء وصديقات أبقوا على رباط المودّة والصحبّة حتى الممات وثيقاً.
نعم، قد نلتقي بأصدقاء وزملاء جدد، لكننا يستحيل أن ننسى إخواناً جمعتنا وإياهم أيام الحب، ومجالس الخير، وساحات العطاء.
يقول علي (عليه السلام) : «من كرم المرء .. حفظه قديم إخوانه». وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاة زوجته الحبيبة (خديجة) (رض) إذا طبخ طعاماً أوصى بأن يقدّم منه لصديقات خديجة وفاءً لها وللصحبة الكريمة.
وتمتد جسور الصحبة الطيِّبة من الآباء إلى الأبناء. ففي الحديث: «لا تقطع أودّاء أبيك فيطفأ نورُك». وفي آخر: «ينبغي للرجل أن يحفظ أصحاب أبيه، فإنّ برّه بهم برّه بوالديه». وهكذا تبقى الصحبة (حيّة) حتى إذا (مات) الأصحاب .. فما أحلاها وأروعها من قيمة إنسانية.
وقد تكون للصداقة الجديدة نكهة معينة فـ (لكلّ جديد لذّة) إلاّ أنّ نكهة الصداقة القديمة خاصّة ومميزة، لأنّها تدلّ على عمق الرابطة بين الأخوين الصديقين، وإلاّ ما دامت طويلاً، ذلك لأنّ الأصدقاء أحد إثنين: (إخوان المكاشرة) الذين تضحك لهم ويضحكون لك، وتقضون وقتاً ممتعاً مع بعضكم البعض في اللهو والتسلية والمفاكهة ثم ينفرط المجلس، وقد لا يذكر هؤلاء بعضهم البعض إلاّ في أوقات السمر والمنادمة.
و (إخوان المعاشرة) وهم الثقاة الذين يحزنون لحزنك كما يفرحون لفرحك، ويمحضونك النصيحة والإخلاص حاضراً كنت أو غائباً، والذين يمدّون لك يد المساعدة متى ما احتجت إلى إعانتهم وتعاونهم.
فالمجالس الإخوانية ـ باختصار ـ (مغنم جسيم) كما جاء في الحديث الشريف: «لقاء الإخوان مغنمٌ جسيمٌ وإن قلّوا».
كيف ذلك؟
ـ لأنّه من جهة يحقِّق أو يلبِّي حاجة اجتماعية للألفة والمعاشرة والتواصل مع الآخرين والإحساس بالقوّة.
ـ ولأنّه يفيد في تطييب الخواطر وتهدئة النفوس المضطربة فيما لو أصابتها مصيبة، وتنادى الإخوان لتسلية وتصبير الأخ المنكوب.
ـ ولأنّه ينفع في تبادل الآراء ووجهات النظر.
ـ ولأنّه يغني الإخوة المجتمعين بالنصائح المتبادلة، والمقترحات التي تحلّ المشاكل، والتجارب التي يعيشونها.
ـ ولأنّه ـ إن كان مجلس عبادة، أو علم، أو عمل، أو تواصي بالحق، أو تواصي بالصبر، وإرساء معاني الأخوة والمحبة والتعاون ـ مجلس يحبه الله ورسوله والمؤمنون، وترفرف عليه الملائكة بأجنحتها، ولا تنفك عنه حتى ينفضّ الاجتماع.
وقد لا يجد أحدنا أباً ليفضي له بأسراره أو أمّاً يبثها شكواه، لكنّه يتخذ من صديقه وأخيه موضعاً لأسراره، وحقٌّ ما قاله أحد الشعراء:
وليس كثيراً ألف خلٍّ وصاحب***وإنّ عدوّاً واحداً لكثيرُ!
أنواع المجالس:
يمكن تقسيم المجالس الشبابية ـ من حيث طبيعتها ـ عدّة أقسام:
أوّلاً: المجالس العابثة.
ثانياً: مجالس الكفر والاستهزاء.
ثالثاً: مجالس الريبة.
رابعاً: مجلس الانتقاص من المؤمنين.
خامساً: المجالس الممقوتة.
سادساً: مجالس اللهو البريء.
سابعاً: المجالس الجادّة.
ويمكن التمييز بين هذه الأنواع من المجالس من خلال روايتين:
الأولى: قال الحواريون لعيسى (عليه السلام) : مَن نجالس؟
فقال: «مَن يذكِّركم الله رؤيته، ويرغِّبكم في الآخرة عمله، ويزيد في منطقكم عمله».
الثانية: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إذا رأيتم روضة من رياض الجنّة فارتعوا فيها». قيل: يا رسول الله! وما روضة الجنّة؟ فقال: «مجالس المؤمنين».
وعلى ضوء هاتين الروايتين، يكون بإمكاننا أن نفرز المجلس العابث المسيء من المجلس الهادف الكريم، ذلك أنّك إذا عرفت ما هو المجلس الصالح، أمكنك تلقائياً أن تعرف المجلس غير الصالح.
فالمجالس الصالحة التي تتوافر على الشروط التالية:
1 ـ المجالس التي تجمع طائفة من المؤمنين، وهذا هو قول عيسى (عليه السلام) : «مَن يذكِّركم الله رؤيته». وقول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الصريح: «مجالس المؤمنين».
2 ـ المجالس التي ترغِّب بالعمل الصالح وبالآخرة وبما يرضي الله سبحانه وتعالى.
3 ـ المجالس التي يطلب فيها العلم والثقافة، واكتساب موهبة أو حرفة أو مهارة.
4 ـ المجالس الإخوانية الطاهرة التي سبق أن بيّنّا فوائدها في توطيد أواصر الألفة والمحبّة والتعاون على البرّ والتقوى.
وسنأتي بشيء من التفصيل على كلّ نوع من أنواع هذه المجالس لتبيان فوائد وحسنات وفضائل الهادف الكريم النافع منها، ومضار ومساوئ المجالس البذيئة والمسيئة والعابثة.
أوّلاً ـ المجالس العابثة:
المجالس الشبابية التي لا تحمل فائدة تذكر إلاّ مجرد البحث عن اللذة أو المتعة العابرة، والتي تنتهي ويبقى وبالها وآثارها وتبعاتها السيِّئة، هي مجالس لهو وعبث وندامة.
ولو تتبعنا المجالس الشبابية العابثة لرأيناها تصنّف على النحو التالي:
1 ـ مجلس اللغو والثرثرة:
وهي المجالس التي تجتمع فيها طائفة من الشباب أو الفتيات فلا يجمعهم جامع إلاّ كلّ ما يرد على اللسان من كلام لا رابط بينه، ولا فائدة ترجى منه، وقد تذهب لذته وتبقى تبعته.
وقد يتحدّث أكثر من واحد في ذات الوقت .. فتسمع جعجعة ولا ترى طحناً.
ولو أراد أحد الشبان أن يجري تحقيقاً لمجلس من تلك المجالس لصعب عليه أن يخرج بحصيلة مجدية.
فالثرثرة أو اللغو هي الكلام الفارغ الذي لا نفعاً دنيوياً، ولا ذكراً لله تعالى فيه، ولا أيّة ثمرة علمية أو عملية مرجوّة منه، ولا تذاكر لأيّة مسؤولية خلاله.
إنّها مجالس (الفضفضة) و (طقّ الحنك) وتمضية الوقت بالضحك والاستهزاء والاغتياب، وما شاكل ذلك.
إنّها مجالس اللغو الفارغ، والثرثرة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
2 ـ مجالس الاغتياب والسخرية:
وهي مجالس عابثة أيضاً، لأنّها تلتئم وتجتمع لأكل لحوم الآخرين، وتناول سيرتهم بالسوء وبما يكرهون. والمغتابون ينتهكون حرمة الغائب بكشف عيوبه والتندّر بها.
ولا يمكن اعتبار تلك المجالس مجالس نقد وتقويم لأنّها لو كانت كذلك لما تعرّضت للغائب بالانتقاص منه، ولواجهه المنتقد (المغتاب) وجهاً لوجه .. وشتّان بين الإثنين:
النقد شجاعة .. والغيبة جبن.
النقد بناء .. والغيبة هدم.
إنّ الذين يتسامرون ويتفاكهون في النهش باعراض الناس وحرماتهم والنيل من كرامتهم، هم آكلة اللحوم الميتة النتنة حسب التعبير القرآني (ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ). والذين تزدري أعينهم غيرهم من الشبان، وغيرهنّ من الفتيات، يتصورون أنفسهم مبرّئين منزّهين من العيوب، وأن من حقهم الاستخفاف بنقائص وعيوب الآخرين، وينسون ما هم فيه من العيوب والنقائص، وأنّ مَن يسخرون منه قد يكونون أفضل منهم.
يقول تعالى: (لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهنّ ).
ويقول الشاعر:
لسانك لا تذكر به عورة امرئ***فكلك عورات وللناس ألسن
إنّها مجالس يجب الهروب منها، والابتعاد عنها، وعدم التورط أو الانخراط فيها، فهي مجالس (تشريح الجثث الحيّة) إذا صحّ التعبير، وتفوح منها رائحة العفن والنتن والجيفة .. ففي الحديث إنّ «الغيبة هي أدام كلاب أهل النار» والأدام هو الطعام.
ويتبع هذه المجالس، أو يتفرع عنها مجالس (النميمة) وهي التي يجري فيها نقل الكلمات التي تفرّق وتمزّق وتخرّب البيوت والعلاقات. أو الكلمات التي يتلاعب بها الناقل (النمّام) ليوقع بين الأصدقاء.
فالنمّام (خائن) لأنّه غير آمن في النقل .. وبالتالي فمجالس النميمة هي مجالس الخيانة، وهي عابثة لأنّها تضرّ ولا تنفع.
3 ـ مجالس الطرب:
وقد تبدو مجالس الغناء والطرب مجالس لهو وأنس ومتعة بما تتناغم موسيقاها وكلماتها الماجنة مع غرائز الشباب والفتيات، فلا يراها البعض منهم ضرباً من العبث.
وإذا كان الفقهاء قد حدّدوا الموسيقى الشرعية بتلك التي لا تتناسب مع الرقص والفسق والخلاعة، فإنّهم يحتاطون لأجواء العفة والطهارة والسلامة النفسية، فأجواء الرقص والطرب مشحونة بالإغراء الجنسيّ، وهي بطبيعتها تزيد في حمّى الرغبة لدى الجنسين مما يدعوهما إلى سلوك طرق غير سليمة للتنفيس عن السعار المحموم.
وهذا هو الذي يجعل الشريعة تقصرهما (الرقص والغناء) على أجواء العلاقة الزوجية لأنّها تؤمّن التقارب الطبيعي دون اللجوء إلى أساليب شاذة أو ملوثة.
إنّ مشاهدة حفلات الرقص والغناء والتمايل والاستغراق في حال الطرب، تحاكي في أثرها أو مظهرها مشاهد السكارى الذين يترنحون تحت تأثير الخمرة، وهي مجالس تفوح منها رائحة الشبق الجنسيّ والرغبة العارمة، وتزداد فيها حالات المعاكسة والكلمات غير المحتشمة التي نربأ بشبابنا وفتياتنا أن يكونوا جزءاً منها.
4 ـ مجالس القمار:
أيّة لعبة ـ سواءً كانت بأدوات القمار أو بغيرها ـ إذا كانت بعوض مالي، أي تجري مقابل مال يخسره طرف لصالح طرف آخر فهي لعبة قمارية، وهي غير جائزة شرعاً.
وارتياد أمكان القمار ـ حتى للتفرّج والتسلية ـ تغري بالمشاركة والتورط في تلك المجالس مستقبلاً حتى ولو كان ذلك على مستوى تجريب الحظّ كما يحلو للبعض أن يسمِّيه.
فعلاوة على خسائر المال وضياعه، وخراب البيوت، وحرمة اللعب، فإنّها تزرع الشحناء والبغضاء والتحاقد والتحاسد وقد يصل اللهو إلى الضرب والجرح وربما القتل، وهي مجالس تخلو من أي لون من ألوان المسامحة الإخوانية، والتصافي والتفاهم والحوار، لأنّها مجالس قائمة على الغلبة والاستحواذ والأنانية.
مجالس القمار حلبات صراع مالي ونفسي وبدني أحياناً. وهي سيِّئة بكلّ المعاني المادية والأخلاقية.
ومجالس القمار شيطانية لأنّها الخطوة فيها تجر إلى أختها، والثانية إلى الثالثة، وإذا أدمن اللاّعب القمار تعذّر عليه الخلاص ..
إنّها (المجالس المحرقة) .. تحرق أموال صاحبها، ونفسه، وأخلاقه، وعلاقاته.
5 ـ مجالس المقاهي وتدخين الأرجيلة:
سواء كان التدخين حراماً أو لم يكن، فإنّ مضارّه الصحِّية التي يكشف عنها الطب مخيفة، إنْ على صعيد صحّة المدخن نفسه، أو صحة الذين يتنشقون دخانه بشكل إجباري .. والسيجارة أو الأرجيلة كلاهما مضرّ.
لكنّ الذي يهمّنا هنا هو المجالس التي تعمر في بعض المقاهي بالصخب واللغو والدخان .. فالصورة التي نراها لتلك المجالس .. هي ثلة من الشبان أو الفتيات أو من الجنسين يعبّون الدخان عبّاً ليفسدوا
رئتين سليمتين ويلوثونها بالسخام لتتحول رئتا الشاب أو الفتاة ـ بعد حين من التدخين ـ إلى أشبه شيء بالمدخنة المبطّنة بالسخام الذي يسدّ عليها منافذ الهواء الصحِّي.
وللأسف، فإن بعض الشبان ـ رغم ثقافة الانترنيت والفضائيات وتطوّر الثقافة الصحية ـ لا يزالون يعتبرون التدخين (رجولة) أي إنّه تعبير عن إنّهم أصبحوا رجالاً شأنهم شأن الرجال الآخرين (المدخنين طبعاً)، ناظرين بذلك إلى شيء سلبي لا يعدّ صفةً من صفات الرجال والرجولة، على إنّه علامة من علاماته.
بل هناك مَن يعتبر التدخين سمة من سمات الحياة الراقية المرفّهة فتراه يتخيّر أثمن أنواع التبغ وأغلى المنكّهات ليتباهى بذلك على أقرانه، وليس هناك ما يدعو إلى التباهي بالخراب.
والأنكى من ذلك، إن ترى الفتيات في بعض بلداننا يقلّدن الشبان في الرضا بأن يكنّ جزءاً من المحرقة، ليعتبرن ذلك نوعاً من (المساواة) بين النساء والرجال .. وما أقبحها وأوسخها من مساواة.
إنّ المقاهي التي تعدّ في بعض المناطق بمثابة النوادي الأدبية والفكرية والسياسية التي تجري فيها المطارحات والمناظرات الثقافية، تنتهي في مناطق أخرى إلى أن تتحول إلى فضاء ملوّث وموبوء بالدخان والرطوبة والسعال، ويستحيل روادها من الشبان والفتيات إلى أشبه بجماعة تعاقر المخدّرات، ولا تكاد تتبين من الوجوه الصفراء القائمة نضرة الشباب التي يفترض إنّها تضج في بشرات نقيّة ومشرّبة بسيماء العافية.
فالمشكلة ليست في المكان (المقهى) وإنّما هي في رواده الذين هجروا الهواء الصحِّي النقيّ لينشّطوا به دمائهم، إلى الأماكن المغمورة بالدخان ليعيشوا الخمول والتثائب والخدر بمحض ارادتهم.
وإذا كان الدخان وقرقعة الأراجيل سيدة الموقف، فأيّ شيء غير العبث ؟!
6 ـ مجالس الاستثارة الجنسيّة:
ولا نعني بها المجالس المحرّمة التي يتم فيها ارتكاب الفاحشة، فهي مرفوضة جملة وتفصيلاً سواء كانت بين الفتيان أو الفتيات أو ما بينهما.
لكننا نريد بمجالس الاستثارة تلك التي لا يجري الحديث فيها إلاّ عن (الجنس) فهو محورها الوحيد أو الكبير الطاغي، إمّا بإثارة الخيال الجنسي، أو بالاجتماع لمشاهدة فيلم خليع، أو الدخول على المواقع الإباحية في الشبكة العنكبوتية (الانترنيت)، أو باستعراض قصص ومواقف المعاكسة وأوصاف الفتيات والفتيان، أو تبادل المجلات الماجنة المحظورة، أو أي نوع من أنواع تحريك الغريزة وإشعال فتيلها.
فهذه المجالس هي من أخطر مجالس الشبان ومجالس الفتيات لأنّها (مجالس شيطانية) استدارجية، فإذا استمرأها الشاب واستعذبتها الفتاة اعتادوا عليها، وإذا كان يكتفي كل منهما في مراحلها الأولى بالكلام والمشاهدة، فقد يمضيان أبعد من ذلك في المراحل الأخرى .. فتلك مجالس كثثراً ما كانت مقدمات سيِّئة لمنزلقات خطيرة.
قد يكون حبّ الفضول والاطلاع الدافع الأوليّ إليها، لكنها مجلبة لمتاعب لها أوّل وليس لها آخر، فالركون إلى مثل هذه المجالس المريبة التي لا يعلو فيها صوت على صوت الغريزة، كثيراً ما عطّل الرغبة في الدراسة وممارسة العبادة، وأدّى إلى القلق وتدنيّ الحالة الصحِّية، وإلى معاشرة أصدقاء السوء الذين يورّطون صاحبهم حتى إذا احتاجهم في الخلاص من ورطة يقع فيه تركوه يدفع ضريبتها لوحده.
والقول واحد في مجالس الفتيات التي تتحرك فيها نوازع الشهوة، وغالباً ما تنطلق البداية من فتاة منحرفة، أو في طريقها إلى الانحراف، ثمّ تتسع الدائرة، وقديماً قيل: «مَن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه».
إنّ القرآن الكريم يحدِّثنا في قصة يوسف (عليه السلام) عن امرأة العزيز وصاحباتها اللواتي كنّ يجتمعن لديها أو تجتمع إليهنّ فيما يسمى بـ (قبولات امرأة العزيز) أي مجالس الريبة والشهوة واستثارة الغرائز، فلقد سقطت هي في هاوية الانحراف، ثمّ تبعنها جميعاً في المجلس الذي اجتمعن فيه لغواية يوسف بالخطيئة.
وأخطر ما في تلك المجالس، وأكثر دواعيها للفحش إذا كانت إحدى الفتيات متزوجة ولا تراعي أجواء العفة أو ترعى حدود الأدب والحشمة، فتنقل لهنّ أسرارها الخاصّة التي لا يجوز البوح بها.
والمسألة ليست مقتصرة على المجتمعات المغلقة، كما يحاول أعداء العفة إثارة ذلك، فحتى المجتمعات النسوية المفتوحة تفعل ذلك وأقبح منه.
المهم أن لا تقترب الفتاة من تلك المجالس، وإذا حصل وشعرت إنّها على وشك التورط، فلتهجر المجلس في وقت مبكر وتقاطع سائر الفتيات المجتمعات فيه، فذلك هو الحل ولا حلّ غيره.
7 ـ مجالس البطّالين:
وهي مجالس الشبان العاطلين عن العمل، أو المشغولين عن تحصيلهم الدراسيّ، والذين يحلو لهم أن يجتمعوا في منعطفات الشوارع، وعلى نواصي الطرق ليعاكسوا الفتيات ويضايقوا النساء بنظراتهم الجائعة التي تلاحق كل فتاة أو امرأة تمرّ في الشارع الذين يجتمعون فيه.
كما أنّهم يغتابون المارّة بنقد حركاتهم وأشكالهم فلا يسلم من ألسنتهم أحد.
إن من علامات هذه المجالس إنّها تحفل بالسخرية والتنابز بالألقاب، أي دعوة الأخ بلقب يكرهه، واللمز أي ذكر معايب الشخص بحضوره، والله تعالى يقول: (ويلٌ لكل همزة لمزة ). وتجر مجالس البطّالين كذلك إلى الإيذاء والتحقير والسباب والانتقاص وتتبع العثرات والعيوب .. وكم انتهت إلى العراك بالأيدي وبالسكاكين.
إنّ التناغم مع هذه المجالس والمساهمة فيها مدعاة إلى التفريط بالأخلاق والعبادة والعمل النافع. ففي الدعاء على لسان حال أحد البطّالين الذي وجد نفسه في جفاف روحيّ: «لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني». فالاعتياد على هذه المجالس يؤدِّي إلى هذه العاقبة الوخيمة.
ولا بدّ من الاشارة إلى أن حرِّيّة الاجتماع أمر سائغ في الشريعة الاسلامية بشرط أن لا يكون الاجتماع أو المجلس مخلاًّ بالآداب ولا منافياً للأخلاق، أو يكون مبعثاً وداعياً إلى الشهوات والمحرّمات.
وقد نهى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مجالس الطرقات، فقال: «إيّاكم والجلوس على الطرقات.
قالوا: ما لنا بدّ منها إنّما هي مجالسنا نتحدّث فيها.
قال: فإذا أبيتم إلاّ ذلك فاعطوا الطريق حقّه.
قالوا: وما حقّ الطريق؟
قال: غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، وعون الضعيف، وارشاد الضّال، واعطاء السائل».
فإذا عرفت حقّ الطريق .. وما أصعبه، فهل ستألف مجالس البطّالين بعد اليوم ؟!
ثانياً ـ المجالس الممقوتة:
وهي المجالس التي ينفر الناس منها، ويبغضون المشاركين فيها، والتي لا يصدر عنها إلاّ كلّ سوء وإساءة وإيذاء وبذاءة. كما يتحمّل المنضوون تحت لوائها إثماً كبيراً. ومنها:
1 ـ مجالس الكفر والاستهزاء بالدين ورموزه.
2 ـ مجالس السُباب.
3 ـ مجالس الكذب على الله ورسوله.
4 ـ مجالس البدعة والشرك والضلالة.
5 ـ مجالس تمجيد أعداء الله.
6 ـ مجالس المرائين والمغرورين.
7 ـ مجالس الثقلاء والحمقى.
8 ـ المجالس المختلطة.
وفيما يلي تعريف بهذه المجالس مجلساً مجلساً بغية أن لا نكون من مرتاديها، والمساهمين في إنشائها، أو المشاركين في إحيائها وتفعيلها.
1 ـ مجالس الكفر والاستهزاء بالدين:
هذه مجالس دعا الله سبحانه وتعالى لمقاطعتها، ورفضها رفضاً قاطعاً، لأن محور الحديث فيها هو المسّ بآيات الله، ومفاهيم الدين، وأحكام الشريعة، أو التعرّض بالإساءة والتجديف إلى الشخصيات الإسلامية الكبيرة كالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام (عليه السلام) .
فالمطلوب في هذه المجالس أحد موقفين:
أ ـ إمّا أن تواجه أعضاء المجلس بالردع والنهي عن المنكر وإيقافهم عند حدّهم.
ب ـ وإمّا أن تنسحب من المجلس، رافضاً ما يجري فيه، وكلّ من يدلي دلوه فيه.
وقد أطلق القرآن تسمية دقيقة على هذه المجالس فاعتبرها كلجّة ماء آسن أو كماء موحل، والمشاركين فيها بأنّهم يخوضون في ذلك الماء، أي لا يسبحون فيه وإنّما يمشون مشياً ثقيلاً بسبب الوحل.
يقول تعالى واصفاً هذه المجالس: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم في حديث غيره ).
فالمقاطعة لهذه المجالس ليست نهائية، فقد تحتاج للّقاء بأعضاء المجلس لأسباب وأغراض أخرى، فإذا تغيرّت دفّة الموضوع .. وراحوا يناقشون في مسائل أخرى ليس فيها تعريض بالدين وبرموزه وبالخالق الجليل، فلا بأس من الجلوس إليهم.
(وإمّا ينسينّك الشيطان ) كأن تغفل عن رفض حديثهم ومقاطعتهم (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ). أي لا تعد إلى مثلها ثانية، فشريك الظالم، والموافق له على ظلمه شريك معه في الظلم .. وأصحاب هذا المجلس كما يعرّفهم الله (ظالمون).
(وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء، ولكن ذكرى لعلّهم يتقون ). فليس على الرافض والمحتجّ والمندّد بموقف هؤلاء الظالمين من ذنب يحاسب عليه، كما إنّه بموقفه الرافض قد يلفت انتباه المشاركين (الخائضين) في أحاديث الكفر إلى سوء عملهم فيرتدعون ويثوبون إلى رشدهم.
أمّا إذا بقيت في هكذا مجلس تجاريه وتسكت عمّا يقال فيه فإنّك ـ والحال هذه ـ (منافق) وأنت مع (الكافر) في كفره، ومع الظالم في ظلمه، ومع المنافق في نفاقه.
يقول تعالى: (وقد نزّل عليكم في الكتاب إن إذا سمعتم آيات الله يُكفّر بها ويستهزئ بها، فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ).
هذا هو الموقف القرآني من مجالسة أمثال هؤلاء، فإذا لم يبدّلوا الحديث بحديث غيره، وبقيت تجالسهم فأنت شريكهم (إنّكم إذاً مثلهم ) فالساكت عن الحق شيطان أخرس (إنّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً ).
فالراضي بالكفر والاستهزاء بالله وبدينه وبرسله وكتبه وعقائده وأحكامه هو منافق حتى وإن لم يهاجم الاسلام علناً.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : «لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يعصى الله فيه ولا يقدر على تغييره». وقد نهى شخصاً كان يجلس في مجلس خاله الذي يصف الله بأوصاف البشر والله ـ كما نعلم ـ ليس كمثله شيء، فقال له:
ـ «فإمّا جلست معه وتركتنا، وإمّا جلست معنا وتركته».
فقال: «هو يقول ما يشاء، أي شيء عليَّ منه إذا لم أقل ما يقول؟».
فقال الصادق (عليه السلام) : « أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعاً. أما علمت بالذي كان من أصحاب موسى (عليه السلام) وكان أبوه من أصحاب فرعون فلمّا لحقت خيل فرعون موسى تخلّف عنه ليعظ أباه فليحقه بموسى، فمضى أبوه وهو يراغمه حتى بلغا طرفاً من البحر فغرقا جميعاً، فأتى موسى (عليه السلام) الخبر فقال: هو في رحمة الله، لكنّ النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمّن قارب المذنب دافع».
فالموقف من مجالس الكفر واضح صريح .. لأنّها مجالس معصية، والنقمة إذا نزلت على المجتمعين في المجلس شملتهم جميعاً، فإمّا أن (تغيّر) بقول أو بفعل، وإمّا أن (تنسحب). وفي كلا الموقفين نجاة، وما عداهما عذاب وهلاك.
يتبع
تجتمعون ـ أنت وأصدقاؤك ـ وتتحدّثون .. في فرص ما بين الحصص والفصول الدراسية ..
وربما في بيت أحدكم ..
أو في ناد، أو ملتقى شبابيّ أو طلابيّ، أو إخوانيّ عام.
فكل فرصة للقاء مع الإخوان أو الأصدقاء أو الزملاء أو الأهل أو الأقرباء، ثمينة سواء للتداول في قضية أو شأن معيّن، أو حتى مجرد التزاور لتوطيد العلاقة، وطرح الهموم، ومطارحة الرأي، وادخال السرور على الآخر، ومسامرته، واشعاره بحبّك له .. وشعورك بقربك منه ..
كلّ هذه الفرص لعقد مجالس الودّ والمصافاة، أو لمدارسة أمر من أمور الدنيا والآخرة، أو لطلب العلم، أو لأي غرض انساني أو معرفي أو عملي .. هي من أوثق فرص التفاعل الاجتماعي، وتمتين عرى الإيمان والمؤاخاة.
تلك مجالسٌ .. يحبّها الله.
ويحبّها رسوله.
ويحبّها المؤمنون.
وتلك مجالس نتمنّى أن نراك تحجز مكانك فيها حيث تعدّ ولا تفتقد ..
قل لي أىّ مجلس جلست .. أقُل لك مَن أنت!
إنّ من أطيب فرص الحياة وأهناها لقاء الأخوة والأصدقاء.
ولأنّ لقاء الإخوان من الطيِّبات، جعل الله سبحانه وتعالى ذلك نعمة من نعمه السابغة في الجنّة: (إخواناً على سرر متقابلين ). فكلما تنعم بلقاء أخيك وصديقك وصفيّك في الدنيا، فتتناجيان وتتنادمان ويبث أحدكما للآخر همومه، ويتلقّى الآخر ذلك بآذان صاغية، فيسلّي صاحبه، ويخفّف عنه وطأة أحزانه وأشجانه، ويشاطره اللوعة إن كان ملتاعاً، ويشاركه الفرحة إن كان قرير العين مسروراً، فإن هذه الصورة من الأخوّة الخالصة سوف تنتقل بانتقالهما إلى الرفيق الأعلى، حيث يرتعان في بحبوحة النعيم الأبدي، سعيدين بصحبتهما وتعاشرهما لأنّ الله لم يفرّق بينهما في الدار الآخرة، كما كانا لا يفترقان في الدار الدنيا.
أنس الشاب بالشاب أو الشبّان مثله، حاجة اجتماعية ماسّة.
وأنس الفتاة بفتاة أو فتيات مثلها، حاجة لا تعوّض.
ومجالس الشبان وإن تغيّر حالها ـ في عصر الاتصالات ـ فلم تعد ـ إلاّ في النادر ـ مباشرة وحيّة وحميمة كما كانت قبل هذا العصر، إلاّ أن هذا العصر لم يقضِ أو يشطب عليها تماماً، فمجالس الشبان تدور عبر شبكات الانترنيت ومقاهيه، ولا تظنّ أنّ زماناً سيأتي لتزول تلك المجالس العامرة.
وقد يتزوج الشاب وتتزوج الفتاة، وتتغيّر في حياتهما أشياء كثيرة، لكنّهما لا يضحِّيان أو يفرطان بعلاقات إخوانية، ربطتهما عميقاً مع أصدقاء وصديقات أبقوا على رباط المودّة والصحبّة حتى الممات وثيقاً.
نعم، قد نلتقي بأصدقاء وزملاء جدد، لكننا يستحيل أن ننسى إخواناً جمعتنا وإياهم أيام الحب، ومجالس الخير، وساحات العطاء.
يقول علي (عليه السلام) : «من كرم المرء .. حفظه قديم إخوانه». وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاة زوجته الحبيبة (خديجة) (رض) إذا طبخ طعاماً أوصى بأن يقدّم منه لصديقات خديجة وفاءً لها وللصحبة الكريمة.
وتمتد جسور الصحبة الطيِّبة من الآباء إلى الأبناء. ففي الحديث: «لا تقطع أودّاء أبيك فيطفأ نورُك». وفي آخر: «ينبغي للرجل أن يحفظ أصحاب أبيه، فإنّ برّه بهم برّه بوالديه». وهكذا تبقى الصحبة (حيّة) حتى إذا (مات) الأصحاب .. فما أحلاها وأروعها من قيمة إنسانية.
وقد تكون للصداقة الجديدة نكهة معينة فـ (لكلّ جديد لذّة) إلاّ أنّ نكهة الصداقة القديمة خاصّة ومميزة، لأنّها تدلّ على عمق الرابطة بين الأخوين الصديقين، وإلاّ ما دامت طويلاً، ذلك لأنّ الأصدقاء أحد إثنين: (إخوان المكاشرة) الذين تضحك لهم ويضحكون لك، وتقضون وقتاً ممتعاً مع بعضكم البعض في اللهو والتسلية والمفاكهة ثم ينفرط المجلس، وقد لا يذكر هؤلاء بعضهم البعض إلاّ في أوقات السمر والمنادمة.
و (إخوان المعاشرة) وهم الثقاة الذين يحزنون لحزنك كما يفرحون لفرحك، ويمحضونك النصيحة والإخلاص حاضراً كنت أو غائباً، والذين يمدّون لك يد المساعدة متى ما احتجت إلى إعانتهم وتعاونهم.
فالمجالس الإخوانية ـ باختصار ـ (مغنم جسيم) كما جاء في الحديث الشريف: «لقاء الإخوان مغنمٌ جسيمٌ وإن قلّوا».
كيف ذلك؟
ـ لأنّه من جهة يحقِّق أو يلبِّي حاجة اجتماعية للألفة والمعاشرة والتواصل مع الآخرين والإحساس بالقوّة.
ـ ولأنّه يفيد في تطييب الخواطر وتهدئة النفوس المضطربة فيما لو أصابتها مصيبة، وتنادى الإخوان لتسلية وتصبير الأخ المنكوب.
ـ ولأنّه ينفع في تبادل الآراء ووجهات النظر.
ـ ولأنّه يغني الإخوة المجتمعين بالنصائح المتبادلة، والمقترحات التي تحلّ المشاكل، والتجارب التي يعيشونها.
ـ ولأنّه ـ إن كان مجلس عبادة، أو علم، أو عمل، أو تواصي بالحق، أو تواصي بالصبر، وإرساء معاني الأخوة والمحبة والتعاون ـ مجلس يحبه الله ورسوله والمؤمنون، وترفرف عليه الملائكة بأجنحتها، ولا تنفك عنه حتى ينفضّ الاجتماع.
وقد لا يجد أحدنا أباً ليفضي له بأسراره أو أمّاً يبثها شكواه، لكنّه يتخذ من صديقه وأخيه موضعاً لأسراره، وحقٌّ ما قاله أحد الشعراء:
وليس كثيراً ألف خلٍّ وصاحب***وإنّ عدوّاً واحداً لكثيرُ!
أنواع المجالس:
يمكن تقسيم المجالس الشبابية ـ من حيث طبيعتها ـ عدّة أقسام:
أوّلاً: المجالس العابثة.
ثانياً: مجالس الكفر والاستهزاء.
ثالثاً: مجالس الريبة.
رابعاً: مجلس الانتقاص من المؤمنين.
خامساً: المجالس الممقوتة.
سادساً: مجالس اللهو البريء.
سابعاً: المجالس الجادّة.
ويمكن التمييز بين هذه الأنواع من المجالس من خلال روايتين:
الأولى: قال الحواريون لعيسى (عليه السلام) : مَن نجالس؟
فقال: «مَن يذكِّركم الله رؤيته، ويرغِّبكم في الآخرة عمله، ويزيد في منطقكم عمله».
الثانية: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إذا رأيتم روضة من رياض الجنّة فارتعوا فيها». قيل: يا رسول الله! وما روضة الجنّة؟ فقال: «مجالس المؤمنين».
وعلى ضوء هاتين الروايتين، يكون بإمكاننا أن نفرز المجلس العابث المسيء من المجلس الهادف الكريم، ذلك أنّك إذا عرفت ما هو المجلس الصالح، أمكنك تلقائياً أن تعرف المجلس غير الصالح.
فالمجالس الصالحة التي تتوافر على الشروط التالية:
1 ـ المجالس التي تجمع طائفة من المؤمنين، وهذا هو قول عيسى (عليه السلام) : «مَن يذكِّركم الله رؤيته». وقول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الصريح: «مجالس المؤمنين».
2 ـ المجالس التي ترغِّب بالعمل الصالح وبالآخرة وبما يرضي الله سبحانه وتعالى.
3 ـ المجالس التي يطلب فيها العلم والثقافة، واكتساب موهبة أو حرفة أو مهارة.
4 ـ المجالس الإخوانية الطاهرة التي سبق أن بيّنّا فوائدها في توطيد أواصر الألفة والمحبّة والتعاون على البرّ والتقوى.
وسنأتي بشيء من التفصيل على كلّ نوع من أنواع هذه المجالس لتبيان فوائد وحسنات وفضائل الهادف الكريم النافع منها، ومضار ومساوئ المجالس البذيئة والمسيئة والعابثة.
أوّلاً ـ المجالس العابثة:
المجالس الشبابية التي لا تحمل فائدة تذكر إلاّ مجرد البحث عن اللذة أو المتعة العابرة، والتي تنتهي ويبقى وبالها وآثارها وتبعاتها السيِّئة، هي مجالس لهو وعبث وندامة.
ولو تتبعنا المجالس الشبابية العابثة لرأيناها تصنّف على النحو التالي:
1 ـ مجلس اللغو والثرثرة:
وهي المجالس التي تجتمع فيها طائفة من الشباب أو الفتيات فلا يجمعهم جامع إلاّ كلّ ما يرد على اللسان من كلام لا رابط بينه، ولا فائدة ترجى منه، وقد تذهب لذته وتبقى تبعته.
وقد يتحدّث أكثر من واحد في ذات الوقت .. فتسمع جعجعة ولا ترى طحناً.
ولو أراد أحد الشبان أن يجري تحقيقاً لمجلس من تلك المجالس لصعب عليه أن يخرج بحصيلة مجدية.
فالثرثرة أو اللغو هي الكلام الفارغ الذي لا نفعاً دنيوياً، ولا ذكراً لله تعالى فيه، ولا أيّة ثمرة علمية أو عملية مرجوّة منه، ولا تذاكر لأيّة مسؤولية خلاله.
إنّها مجالس (الفضفضة) و (طقّ الحنك) وتمضية الوقت بالضحك والاستهزاء والاغتياب، وما شاكل ذلك.
إنّها مجالس اللغو الفارغ، والثرثرة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
2 ـ مجالس الاغتياب والسخرية:
وهي مجالس عابثة أيضاً، لأنّها تلتئم وتجتمع لأكل لحوم الآخرين، وتناول سيرتهم بالسوء وبما يكرهون. والمغتابون ينتهكون حرمة الغائب بكشف عيوبه والتندّر بها.
ولا يمكن اعتبار تلك المجالس مجالس نقد وتقويم لأنّها لو كانت كذلك لما تعرّضت للغائب بالانتقاص منه، ولواجهه المنتقد (المغتاب) وجهاً لوجه .. وشتّان بين الإثنين:
النقد شجاعة .. والغيبة جبن.
النقد بناء .. والغيبة هدم.
إنّ الذين يتسامرون ويتفاكهون في النهش باعراض الناس وحرماتهم والنيل من كرامتهم، هم آكلة اللحوم الميتة النتنة حسب التعبير القرآني (ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ). والذين تزدري أعينهم غيرهم من الشبان، وغيرهنّ من الفتيات، يتصورون أنفسهم مبرّئين منزّهين من العيوب، وأن من حقهم الاستخفاف بنقائص وعيوب الآخرين، وينسون ما هم فيه من العيوب والنقائص، وأنّ مَن يسخرون منه قد يكونون أفضل منهم.
يقول تعالى: (لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهنّ ).
ويقول الشاعر:
لسانك لا تذكر به عورة امرئ***فكلك عورات وللناس ألسن
إنّها مجالس يجب الهروب منها، والابتعاد عنها، وعدم التورط أو الانخراط فيها، فهي مجالس (تشريح الجثث الحيّة) إذا صحّ التعبير، وتفوح منها رائحة العفن والنتن والجيفة .. ففي الحديث إنّ «الغيبة هي أدام كلاب أهل النار» والأدام هو الطعام.
ويتبع هذه المجالس، أو يتفرع عنها مجالس (النميمة) وهي التي يجري فيها نقل الكلمات التي تفرّق وتمزّق وتخرّب البيوت والعلاقات. أو الكلمات التي يتلاعب بها الناقل (النمّام) ليوقع بين الأصدقاء.
فالنمّام (خائن) لأنّه غير آمن في النقل .. وبالتالي فمجالس النميمة هي مجالس الخيانة، وهي عابثة لأنّها تضرّ ولا تنفع.
3 ـ مجالس الطرب:
وقد تبدو مجالس الغناء والطرب مجالس لهو وأنس ومتعة بما تتناغم موسيقاها وكلماتها الماجنة مع غرائز الشباب والفتيات، فلا يراها البعض منهم ضرباً من العبث.
وإذا كان الفقهاء قد حدّدوا الموسيقى الشرعية بتلك التي لا تتناسب مع الرقص والفسق والخلاعة، فإنّهم يحتاطون لأجواء العفة والطهارة والسلامة النفسية، فأجواء الرقص والطرب مشحونة بالإغراء الجنسيّ، وهي بطبيعتها تزيد في حمّى الرغبة لدى الجنسين مما يدعوهما إلى سلوك طرق غير سليمة للتنفيس عن السعار المحموم.
وهذا هو الذي يجعل الشريعة تقصرهما (الرقص والغناء) على أجواء العلاقة الزوجية لأنّها تؤمّن التقارب الطبيعي دون اللجوء إلى أساليب شاذة أو ملوثة.
إنّ مشاهدة حفلات الرقص والغناء والتمايل والاستغراق في حال الطرب، تحاكي في أثرها أو مظهرها مشاهد السكارى الذين يترنحون تحت تأثير الخمرة، وهي مجالس تفوح منها رائحة الشبق الجنسيّ والرغبة العارمة، وتزداد فيها حالات المعاكسة والكلمات غير المحتشمة التي نربأ بشبابنا وفتياتنا أن يكونوا جزءاً منها.
4 ـ مجالس القمار:
أيّة لعبة ـ سواءً كانت بأدوات القمار أو بغيرها ـ إذا كانت بعوض مالي، أي تجري مقابل مال يخسره طرف لصالح طرف آخر فهي لعبة قمارية، وهي غير جائزة شرعاً.
وارتياد أمكان القمار ـ حتى للتفرّج والتسلية ـ تغري بالمشاركة والتورط في تلك المجالس مستقبلاً حتى ولو كان ذلك على مستوى تجريب الحظّ كما يحلو للبعض أن يسمِّيه.
فعلاوة على خسائر المال وضياعه، وخراب البيوت، وحرمة اللعب، فإنّها تزرع الشحناء والبغضاء والتحاقد والتحاسد وقد يصل اللهو إلى الضرب والجرح وربما القتل، وهي مجالس تخلو من أي لون من ألوان المسامحة الإخوانية، والتصافي والتفاهم والحوار، لأنّها مجالس قائمة على الغلبة والاستحواذ والأنانية.
مجالس القمار حلبات صراع مالي ونفسي وبدني أحياناً. وهي سيِّئة بكلّ المعاني المادية والأخلاقية.
ومجالس القمار شيطانية لأنّها الخطوة فيها تجر إلى أختها، والثانية إلى الثالثة، وإذا أدمن اللاّعب القمار تعذّر عليه الخلاص ..
إنّها (المجالس المحرقة) .. تحرق أموال صاحبها، ونفسه، وأخلاقه، وعلاقاته.
5 ـ مجالس المقاهي وتدخين الأرجيلة:
سواء كان التدخين حراماً أو لم يكن، فإنّ مضارّه الصحِّية التي يكشف عنها الطب مخيفة، إنْ على صعيد صحّة المدخن نفسه، أو صحة الذين يتنشقون دخانه بشكل إجباري .. والسيجارة أو الأرجيلة كلاهما مضرّ.
لكنّ الذي يهمّنا هنا هو المجالس التي تعمر في بعض المقاهي بالصخب واللغو والدخان .. فالصورة التي نراها لتلك المجالس .. هي ثلة من الشبان أو الفتيات أو من الجنسين يعبّون الدخان عبّاً ليفسدوا
رئتين سليمتين ويلوثونها بالسخام لتتحول رئتا الشاب أو الفتاة ـ بعد حين من التدخين ـ إلى أشبه شيء بالمدخنة المبطّنة بالسخام الذي يسدّ عليها منافذ الهواء الصحِّي.
وللأسف، فإن بعض الشبان ـ رغم ثقافة الانترنيت والفضائيات وتطوّر الثقافة الصحية ـ لا يزالون يعتبرون التدخين (رجولة) أي إنّه تعبير عن إنّهم أصبحوا رجالاً شأنهم شأن الرجال الآخرين (المدخنين طبعاً)، ناظرين بذلك إلى شيء سلبي لا يعدّ صفةً من صفات الرجال والرجولة، على إنّه علامة من علاماته.
بل هناك مَن يعتبر التدخين سمة من سمات الحياة الراقية المرفّهة فتراه يتخيّر أثمن أنواع التبغ وأغلى المنكّهات ليتباهى بذلك على أقرانه، وليس هناك ما يدعو إلى التباهي بالخراب.
والأنكى من ذلك، إن ترى الفتيات في بعض بلداننا يقلّدن الشبان في الرضا بأن يكنّ جزءاً من المحرقة، ليعتبرن ذلك نوعاً من (المساواة) بين النساء والرجال .. وما أقبحها وأوسخها من مساواة.
إنّ المقاهي التي تعدّ في بعض المناطق بمثابة النوادي الأدبية والفكرية والسياسية التي تجري فيها المطارحات والمناظرات الثقافية، تنتهي في مناطق أخرى إلى أن تتحول إلى فضاء ملوّث وموبوء بالدخان والرطوبة والسعال، ويستحيل روادها من الشبان والفتيات إلى أشبه بجماعة تعاقر المخدّرات، ولا تكاد تتبين من الوجوه الصفراء القائمة نضرة الشباب التي يفترض إنّها تضج في بشرات نقيّة ومشرّبة بسيماء العافية.
فالمشكلة ليست في المكان (المقهى) وإنّما هي في رواده الذين هجروا الهواء الصحِّي النقيّ لينشّطوا به دمائهم، إلى الأماكن المغمورة بالدخان ليعيشوا الخمول والتثائب والخدر بمحض ارادتهم.
وإذا كان الدخان وقرقعة الأراجيل سيدة الموقف، فأيّ شيء غير العبث ؟!
6 ـ مجالس الاستثارة الجنسيّة:
ولا نعني بها المجالس المحرّمة التي يتم فيها ارتكاب الفاحشة، فهي مرفوضة جملة وتفصيلاً سواء كانت بين الفتيان أو الفتيات أو ما بينهما.
لكننا نريد بمجالس الاستثارة تلك التي لا يجري الحديث فيها إلاّ عن (الجنس) فهو محورها الوحيد أو الكبير الطاغي، إمّا بإثارة الخيال الجنسي، أو بالاجتماع لمشاهدة فيلم خليع، أو الدخول على المواقع الإباحية في الشبكة العنكبوتية (الانترنيت)، أو باستعراض قصص ومواقف المعاكسة وأوصاف الفتيات والفتيان، أو تبادل المجلات الماجنة المحظورة، أو أي نوع من أنواع تحريك الغريزة وإشعال فتيلها.
فهذه المجالس هي من أخطر مجالس الشبان ومجالس الفتيات لأنّها (مجالس شيطانية) استدارجية، فإذا استمرأها الشاب واستعذبتها الفتاة اعتادوا عليها، وإذا كان يكتفي كل منهما في مراحلها الأولى بالكلام والمشاهدة، فقد يمضيان أبعد من ذلك في المراحل الأخرى .. فتلك مجالس كثثراً ما كانت مقدمات سيِّئة لمنزلقات خطيرة.
قد يكون حبّ الفضول والاطلاع الدافع الأوليّ إليها، لكنها مجلبة لمتاعب لها أوّل وليس لها آخر، فالركون إلى مثل هذه المجالس المريبة التي لا يعلو فيها صوت على صوت الغريزة، كثيراً ما عطّل الرغبة في الدراسة وممارسة العبادة، وأدّى إلى القلق وتدنيّ الحالة الصحِّية، وإلى معاشرة أصدقاء السوء الذين يورّطون صاحبهم حتى إذا احتاجهم في الخلاص من ورطة يقع فيه تركوه يدفع ضريبتها لوحده.
والقول واحد في مجالس الفتيات التي تتحرك فيها نوازع الشهوة، وغالباً ما تنطلق البداية من فتاة منحرفة، أو في طريقها إلى الانحراف، ثمّ تتسع الدائرة، وقديماً قيل: «مَن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه».
إنّ القرآن الكريم يحدِّثنا في قصة يوسف (عليه السلام) عن امرأة العزيز وصاحباتها اللواتي كنّ يجتمعن لديها أو تجتمع إليهنّ فيما يسمى بـ (قبولات امرأة العزيز) أي مجالس الريبة والشهوة واستثارة الغرائز، فلقد سقطت هي في هاوية الانحراف، ثمّ تبعنها جميعاً في المجلس الذي اجتمعن فيه لغواية يوسف بالخطيئة.
وأخطر ما في تلك المجالس، وأكثر دواعيها للفحش إذا كانت إحدى الفتيات متزوجة ولا تراعي أجواء العفة أو ترعى حدود الأدب والحشمة، فتنقل لهنّ أسرارها الخاصّة التي لا يجوز البوح بها.
والمسألة ليست مقتصرة على المجتمعات المغلقة، كما يحاول أعداء العفة إثارة ذلك، فحتى المجتمعات النسوية المفتوحة تفعل ذلك وأقبح منه.
المهم أن لا تقترب الفتاة من تلك المجالس، وإذا حصل وشعرت إنّها على وشك التورط، فلتهجر المجلس في وقت مبكر وتقاطع سائر الفتيات المجتمعات فيه، فذلك هو الحل ولا حلّ غيره.
7 ـ مجالس البطّالين:
وهي مجالس الشبان العاطلين عن العمل، أو المشغولين عن تحصيلهم الدراسيّ، والذين يحلو لهم أن يجتمعوا في منعطفات الشوارع، وعلى نواصي الطرق ليعاكسوا الفتيات ويضايقوا النساء بنظراتهم الجائعة التي تلاحق كل فتاة أو امرأة تمرّ في الشارع الذين يجتمعون فيه.
كما أنّهم يغتابون المارّة بنقد حركاتهم وأشكالهم فلا يسلم من ألسنتهم أحد.
إن من علامات هذه المجالس إنّها تحفل بالسخرية والتنابز بالألقاب، أي دعوة الأخ بلقب يكرهه، واللمز أي ذكر معايب الشخص بحضوره، والله تعالى يقول: (ويلٌ لكل همزة لمزة ). وتجر مجالس البطّالين كذلك إلى الإيذاء والتحقير والسباب والانتقاص وتتبع العثرات والعيوب .. وكم انتهت إلى العراك بالأيدي وبالسكاكين.
إنّ التناغم مع هذه المجالس والمساهمة فيها مدعاة إلى التفريط بالأخلاق والعبادة والعمل النافع. ففي الدعاء على لسان حال أحد البطّالين الذي وجد نفسه في جفاف روحيّ: «لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني». فالاعتياد على هذه المجالس يؤدِّي إلى هذه العاقبة الوخيمة.
ولا بدّ من الاشارة إلى أن حرِّيّة الاجتماع أمر سائغ في الشريعة الاسلامية بشرط أن لا يكون الاجتماع أو المجلس مخلاًّ بالآداب ولا منافياً للأخلاق، أو يكون مبعثاً وداعياً إلى الشهوات والمحرّمات.
وقد نهى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مجالس الطرقات، فقال: «إيّاكم والجلوس على الطرقات.
قالوا: ما لنا بدّ منها إنّما هي مجالسنا نتحدّث فيها.
قال: فإذا أبيتم إلاّ ذلك فاعطوا الطريق حقّه.
قالوا: وما حقّ الطريق؟
قال: غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، وعون الضعيف، وارشاد الضّال، واعطاء السائل».
فإذا عرفت حقّ الطريق .. وما أصعبه، فهل ستألف مجالس البطّالين بعد اليوم ؟!
ثانياً ـ المجالس الممقوتة:
وهي المجالس التي ينفر الناس منها، ويبغضون المشاركين فيها، والتي لا يصدر عنها إلاّ كلّ سوء وإساءة وإيذاء وبذاءة. كما يتحمّل المنضوون تحت لوائها إثماً كبيراً. ومنها:
1 ـ مجالس الكفر والاستهزاء بالدين ورموزه.
2 ـ مجالس السُباب.
3 ـ مجالس الكذب على الله ورسوله.
4 ـ مجالس البدعة والشرك والضلالة.
5 ـ مجالس تمجيد أعداء الله.
6 ـ مجالس المرائين والمغرورين.
7 ـ مجالس الثقلاء والحمقى.
8 ـ المجالس المختلطة.
وفيما يلي تعريف بهذه المجالس مجلساً مجلساً بغية أن لا نكون من مرتاديها، والمساهمين في إنشائها، أو المشاركين في إحيائها وتفعيلها.
1 ـ مجالس الكفر والاستهزاء بالدين:
هذه مجالس دعا الله سبحانه وتعالى لمقاطعتها، ورفضها رفضاً قاطعاً، لأن محور الحديث فيها هو المسّ بآيات الله، ومفاهيم الدين، وأحكام الشريعة، أو التعرّض بالإساءة والتجديف إلى الشخصيات الإسلامية الكبيرة كالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام (عليه السلام) .
فالمطلوب في هذه المجالس أحد موقفين:
أ ـ إمّا أن تواجه أعضاء المجلس بالردع والنهي عن المنكر وإيقافهم عند حدّهم.
ب ـ وإمّا أن تنسحب من المجلس، رافضاً ما يجري فيه، وكلّ من يدلي دلوه فيه.
وقد أطلق القرآن تسمية دقيقة على هذه المجالس فاعتبرها كلجّة ماء آسن أو كماء موحل، والمشاركين فيها بأنّهم يخوضون في ذلك الماء، أي لا يسبحون فيه وإنّما يمشون مشياً ثقيلاً بسبب الوحل.
يقول تعالى واصفاً هذه المجالس: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم في حديث غيره ).
فالمقاطعة لهذه المجالس ليست نهائية، فقد تحتاج للّقاء بأعضاء المجلس لأسباب وأغراض أخرى، فإذا تغيرّت دفّة الموضوع .. وراحوا يناقشون في مسائل أخرى ليس فيها تعريض بالدين وبرموزه وبالخالق الجليل، فلا بأس من الجلوس إليهم.
(وإمّا ينسينّك الشيطان ) كأن تغفل عن رفض حديثهم ومقاطعتهم (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ). أي لا تعد إلى مثلها ثانية، فشريك الظالم، والموافق له على ظلمه شريك معه في الظلم .. وأصحاب هذا المجلس كما يعرّفهم الله (ظالمون).
(وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء، ولكن ذكرى لعلّهم يتقون ). فليس على الرافض والمحتجّ والمندّد بموقف هؤلاء الظالمين من ذنب يحاسب عليه، كما إنّه بموقفه الرافض قد يلفت انتباه المشاركين (الخائضين) في أحاديث الكفر إلى سوء عملهم فيرتدعون ويثوبون إلى رشدهم.
أمّا إذا بقيت في هكذا مجلس تجاريه وتسكت عمّا يقال فيه فإنّك ـ والحال هذه ـ (منافق) وأنت مع (الكافر) في كفره، ومع الظالم في ظلمه، ومع المنافق في نفاقه.
يقول تعالى: (وقد نزّل عليكم في الكتاب إن إذا سمعتم آيات الله يُكفّر بها ويستهزئ بها، فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ).
هذا هو الموقف القرآني من مجالسة أمثال هؤلاء، فإذا لم يبدّلوا الحديث بحديث غيره، وبقيت تجالسهم فأنت شريكهم (إنّكم إذاً مثلهم ) فالساكت عن الحق شيطان أخرس (إنّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً ).
فالراضي بالكفر والاستهزاء بالله وبدينه وبرسله وكتبه وعقائده وأحكامه هو منافق حتى وإن لم يهاجم الاسلام علناً.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : «لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يعصى الله فيه ولا يقدر على تغييره». وقد نهى شخصاً كان يجلس في مجلس خاله الذي يصف الله بأوصاف البشر والله ـ كما نعلم ـ ليس كمثله شيء، فقال له:
ـ «فإمّا جلست معه وتركتنا، وإمّا جلست معنا وتركته».
فقال: «هو يقول ما يشاء، أي شيء عليَّ منه إذا لم أقل ما يقول؟».
فقال الصادق (عليه السلام) : « أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعاً. أما علمت بالذي كان من أصحاب موسى (عليه السلام) وكان أبوه من أصحاب فرعون فلمّا لحقت خيل فرعون موسى تخلّف عنه ليعظ أباه فليحقه بموسى، فمضى أبوه وهو يراغمه حتى بلغا طرفاً من البحر فغرقا جميعاً، فأتى موسى (عليه السلام) الخبر فقال: هو في رحمة الله، لكنّ النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمّن قارب المذنب دافع».
فالموقف من مجالس الكفر واضح صريح .. لأنّها مجالس معصية، والنقمة إذا نزلت على المجتمعين في المجلس شملتهم جميعاً، فإمّا أن (تغيّر) بقول أو بفعل، وإمّا أن (تنسحب). وفي كلا الموقفين نجاة، وما عداهما عذاب وهلاك.
يتبع
تعليق