أجل إنّ ثمة نوعا آخر من "السلطان" تحلى به النبي (ص) وكذا الأئمة من أهل بيته (ع)، ومنهم الإمام الرضا (ع)، ألا وهو ...
يتردد على بعض الألسنة توصيف الإمام علي بن موسى الرضا(ع) بـ "السلطان"، وربما يطلق عليه البعض وصف "سلطان السلاطين"، ولا يزال القائمون على الحضرة الرضوية يقدمون عزفا موسيقيا صبيحة كل يوم من على بعض منائر الروضة الرضوية، كنوع من الاحترام والتقدير لـ "سلطان السلاطين " علي بن موسى الرضا(ع).
إلاّ أن قضية أوصاف الأئمة(ع) وألقابهم - حتى لو أننا استبعدنا القول بتوقيفيتها - لا بد أن تخضع لشيء من الدقة والاختيار المدروس حتى لا يتم استخدام أوصاف أو ألقاب لا تليق بهم أو تختزن معنى سلبيا أو مأخوذا من قواميس السلطة الجائرة والمستبدة.
ولفظ "السلطان" مضافا إلى أننا لم نجد وروده في شيء من المصادر نقلا عن أحد الأئمة (ع)، فإنه قد يختزن معنى سلبيا، على اعتبار أنه يوحي بأن الأئمة (ع) هم سلاطين، وأنّ الإمامة هي نوع سلطنة، وهذا فيه تشويه لحقيقة الإمامة ودورها في الحياة، وربما كان السبب في توصيف الإمام الرضا(ع) بهذا الوصف هو توليّه(ع) ولاية العهد من قبل المأمون، ولكننا نعلم أن الإمام(ع) لم يتولاها اختيارا ورغبة منه بالسلطة، ولا أنّ الظروف كانت تسمح له بإدارة الحكم بالطريقة التي ترضي الله ورسوله (ص)، غاية ما هناك أنّه (ع) لم يستطع رفض ما طلبه منه المأمون منه، حيث أصرّ على ضرورة تولي الرضا(ع) لمنصب ولاية العهد، لأغراص خاصة وأهداف معينة، هي أبعد ما تكون عن حصول "صحوة ضمير" عند المأمون العباسي، وإدراكه أنّ الرضا(ع) هو أولى الناس بهذا الموقع، وإن اشتراط الإمام(ع) في نصّ ولاية العهد على أن لا يُصدر أمرا ولا نهيا، وأن لا يحل أو لا يعقد شيئا هو خير دليل على أنه(ع) لم يقبل بهذا الموقع وهو في كامل حريته واختياره .
أجل إنّ ثمة نوعا آخر من "السلطان" تحلى به النبي (ص) وكذا الأئمة من أهل بيته (ع)، ومنهم الإمام الرضا (ع)، ألا وهو السلطان المعنوي، الذي جعلهم يتربعون على عرش العقول والقلوب، وهذا "السلطان" هو سر إمامتهم ومرجعيتهم سعلى الصعيدين الفكري والروحي.
ففي الحقل المعرفي والفكري نجد من خلال ما ينقله لنا التاريخ أنّ قولهم (ع) هو الفصل وحكمهم العدل، ومنطقهم الصواب ورأيهم الحق والسداد، وأن لكلامهم حلاوة خاصة وجاذبية استثنائية تشد إليها المسامع وتأخذ بمسامع القلوب، فهم إذا حاججوا أقنعوا، وإذا حاوروا أبدعوا، وإذا تكلموا أجادوا وأفادوا ... وهذه إحدى أهم خصائصهم ومزاياهم، وما نقوله في المجال ليس مجرد مزاعم أو ادعاءات فارغة فهذه الخصوصية يقرّ لهم بها الخصم قبل الصديق، والبعيد قبل القريب، والصور والشواهد على هذا السلطان المعرفي كثيرة جدا تمتلىء بها كتب التاريخ، ونأمل أن نُوفّق للحديث عنها في مناسبة أخرى بعون الله تعالى ..
أما في المجال الروحي والمعنوي، فقد تحلى النبي (ص) والأئمة من أهل البيت (ع) بهيبة خاصة وسلطان معنوي استثنائي، وهي هيبة لا تخِطئها العين، ولا تدانيها هيبة، وقد كانت هذه الهيبة بادية على محيا النبي(ص) وكل واحد من أئمة أهل البيت (ع) كما يتبدى ذلك بمراجعة كتب التاريخ والأحاديث، و لقد حدثنا التاريخ عن هذه الهيبة الحقيقية التي كانت لائحة في كريم وجوه أئمتنا(ع) و منهم الإمام الرضا عليه السلام.
يروي الصدوق في عيون أخبار الرضا(ع) بسنده إلى ياسر الخادم قصة تولي الإمام ولاية العهد إلى أن يقول: فلما حضر العبد بعث المأمون إلى الرضا عليه السلام يسأله أن يركب ويحضر العيد ويخطب ليطمئن قلوب ويعرفوا الناس ويعرفوا فضله وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة فبعث إليه الرضا عليه السلام وقال: قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخولي في هذا الأمر فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة والجند والشاكرية (الأجير والمستخدم) هذا الأمر فتطمئن قلوبهم ويقروا بما فضلك الله به، فلم يزل يرده الكلام في ذلك، فلما ألح عليه قال: يا أمير المؤمنين أن أعفيتني من ذلك فهو أحب إليّ، وأن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله (ص) وكم خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال المأمون: أخرج كما تحب وأمر المأمون القواد والناس أن يبكروا إلى باب أبي الحسن الرضا عليه السلام فقعد الناس لأبي الحسن الرضا عليه السلام في الطرقات والسطوح من الرجال والنساء والصبيان واجتمع القواد على باب الرضا عليه السلام فلما طلعت الشمس قام الرضا عليه السلام، فاغتسل وتعمم بعمامة بيضاء من قطن وألقى طرفاً منها على صدره وطرفا بين كتفه وتشمر، ثم قال لجميع مواليه: افعلوا مثل ما فعلت، ثم أخذ بيده عكازة وخرج ونحن بين يديه وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق وعليه ثياب مشمرة، فلما قام ومشينا بين يديه رفع رأسه إلى السماء وكبر أربع تكبيرات فخيل إلينا أن الهواء والحيطان تجاوبه والقواد والناس على الباب قد تزينوا ولبسوا السلاح وتهيئوا بأحسن هيئة فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة حفاة قد تشمرنا
وطلع الرضا عليه السلام وقف وقفة على الباب قال: الله أكبر الله أكبر الله أكبر على ما هدانا الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام والحمد لله على ما أبلانا ورفع بذلك صوته ورفعنا أصواتنا فتزعزعت مرو من البكاء والصياح فقالها ثلاث مرات ، فسقط القواد عن دوابهم ورموا بخفافهم لما نظروا إلى أبي الحسن عليه السلام وصارت مرو ضجة واحدة ولم يتمالك الناس من البكاء والضجيج وكان أبو الحسن عليه السلام يمشي ويقف في كل عشر خطوات وقفة، فكبر أربع مرات فتخيل إلينا أن السماء والأرض والحيطان تجاوبه وبلغ المأمون ذلك فقال له الفضل بن سهل ذو الرياستين: يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس ، فالرأي أن تسأله أن يرجع، فبعث إليه المأمون فسأله الرجوع، فدعا أبو الحسن عليه السلام بخفه، فلبسه ورجع" ( عيون أخبار الرضا (ع)
سر هذه المهابة:
والسؤال الذي يواجهنا بعد استعراض هذا النموذج الدال على هيبة من نوع خاص كانت متوفرة عند الإمام الرضا عليه السلام وأهل البيت (ع) : ما سرّ هذه الهيبة وكيف نفهمها؟
وفي الجواب نقول : لا يخفى أنّ هيبة بعض الناس تأتيهم دون جهد أو اختيار بل نتيجة بسطة في الجسم يمنّ الله بها عليهم أو جمال يهبهم إياه، فهذا قد يمنح الإنسان شيئاً من المهابة، وهكذا فإن البعض من أصحاب الجاه قد تحصل لهم هيبة مصطنعة تضفيها عليهم المظاهر المادية من الزخارف والتيجان والمناصب .. إلاّ أنّ هذه المهابة هي مهابة عابرة وطارئة ومستعارة وسرعان ما تزول.
إلاّ أن هناك نوعا آخر من المهابة هو أكثر عمقاً وتأثيراً واستمرارية لا يرتبط بالمظاهر المادية ولا يحتاج إلى تيجان ولا زخارف ولا سلطة ولا جاه، ألا وهي هيبة التقوى المستقاة من نورالإيمان، إذ كلما ازداد الإنسان إيماناً ومعرفة بالله وخشية منه وتوكلاً عليه.. كلما أعطاه الله مهابة وجلالاً واحتراماً في قلوب العباد، وإذا اجتمعت التقوى مع العلم زانت الإنسان وزادته مهابة واحتراما، ففي الحديث عن الامام الصادق(ع):"من أراد عزاً بلا عشيرة وغنى بلا مال وهيبة بلا سلطان فلينتقل من ذل معصية الله إلله إلى ذل طاعته."( الخصال للشيخ الصدوق ص169 )
وإنّ هيبة النبي (ص) وأهل بيته (ع) هي من نوع الهيبة الثابتة وغير المستعارة، بل هي في المستوى الأعلى من هذه المهابة، لأنهم أهل الله تعالى وعباده المخلصون وأهل التقوى والورع، وتقاهم وورعهم هذا هو الذي أورثهم مهابة خاصة واستثنائية، هذا بالإضافة إلى كونهم حجج الله على العباد وقد أعدهم الله للقيام بدوراستثنائي في هداية العباد، ما يعني أنّ ثمة سبباً خاصاً وإضافيا يجعلهم محاطين بهذا اللطف الإلهي الذي يزيدهم مهابة وجلالا.
ولك أن تقول: إنّ هذه الهيبة ناشئة عن نور الإمامة والنبوة اللائح في محياهم، وهذا ما يعني أنّ مهابة الإمام(ع) أو سلطانه المعنوي هو أحد دلائل إمامته، وهذا ما أشارت إليه بعض الروايات الواردة عنهم، ففي رواية الحلبي عن الصادق (ع) قال: "دخل الناس على أبي قالوا: ما حد الإمام؟ قال: حده عظيم، إذا دخلتم عليه فوقروه وعظموه وآمنوا بما جاء به من شيء، وعليه أن يهديكم، وفيه خصلة، إذا دخلتم عليه لم يقدر أحد أن يملأ عينيه منه إجلالاً وهيبة، لأنّ رسول الله(ص) كذلك كان، وكذلك يكون الإمام". (بحار الأنوار ج46 ص 244).
إنّ هيبة الإمام تبلغ حداً تجعل له سلطاناً معنوياً على النفوس وعلى القلوب والعقول وهذا هو سر عظمة أهل البيت (ع) الذين جاهدوا أنفسهم في الله فزادهم الله هدى وأعطاهم نورا يمشون به بين الناس . نسأل الله أن يمدنا بقبس من هذا النور في دنيانا وأخرانا إنه على كل شيء قدير.
الشيخ حسين الخشن-الكوثر
تعليق