هناك مَن ينفي صدور الخطبة الخالية من النقاط للإمام علي (ع) ويدَّعي انَّها منحولة، بدليل انَّ تنقيط الحروف المنقَّطة وقع بعد عصر الإمام (ع) كما أن ألفاظ الخطبة وسياقَها لا يتناسب و سياق خُطبِ الإمام علي (ع) المعروفة .
نقول : إنَّ دعوى تأخُّرِ التنقيط للحروفِ ذاتِ النُقط -المعبَّر عنها بالحروف المُعجمة- إلى ما بعد عصر الإمام عليٍّ (ع) قضيةٌ ليست محسومةً علميَّاً وتأريخيَّاً، ولهذا لا يصحُّ نفيُ صدورِ الخطبةِ المذكورة عن الإمام علي (ع) استناداً الى قضيةٍ هي أساساً ليست ثابتة، ولم يقم عليها دليلٌ يصلحُ للإثبات العلميِّ والتاريخيِّ ، بل إنَّ الشواهد قاضيةٌ بفساد هذه الدعوى أو هي قاضيةٌ على أقلِّ تقدير بوجاهةِ الشكِّ في فسادِها.
فممَّا يُمكن إيرادُه على دعوى تأخُّرِ تنقيط الحروف المُعجمة عن زمن وضعِها ، هو انَّ ذلك منافٍ للمعقول، فإنَّ كلَّ حرفٍ من حروفِ الهجاء المرسومة يَرمزُ إلى صوتٍ منطوقٍ يُباينُ في مخرجِه وأدائِه لبقية أصوات الحروف الهجائية، فالصوتُ المنطوقُ لحرفِ الباء مثلاً مباينٌ في مخرجِه وأدائِه لحرف التاء، وكذلك فإنَّ الصوتَ المنطوق لحرف الصاد مباينٌ في مخرجِه وأدائه لحرف الضاد وهكذا بقية حروف الهجاء، فإذا كان الأمرُ كذلك كيف يُتعقَّلُ من واضع الرموز أنْ يضعَ لصوتين متباينين رمزاً واحداً لهما، فالصادُ والضادُ مثلاً - بناءً على عدم التنقيط- لا يختلفان في الرسم والصورة، فهما رمزٌ واحد ولكنَّهما بحسب دعوى عدم التنقيط يرمزان ويدلان على صوتين متباينين، وهذا أمرٌ لا يُمكن تعقُّله، لأنَّ الغرضَ من وضع الحروف المرسومة هو التمييزُ بين الأصوات المنطوقة للحروف، وهذا لا يتمُّ مع اتَّحاد الرمز الحرفي وتعدُّد النطقِ المرموز إليه، والأغربُ من ذلك أنْ تكونَ حروفٌ أربعة متباينة في النطق والأداء ورغم ذلك يتمُّ الرمز لها برسمٍ وصورةٍ واحدة، فالباءُ والتاءُ والثاءُ والنونُ حروفٌ متباينة في النطق ولكنَّها متَّحدةٌ في الرسم لولا التنقيط، فلو بنينا على عدم وجود التنقيط لكان مقتضى ذلك انَّ أصواتاً أربعةً متباينةً يُرمز لها برسمٍ واحد، وهذا غيرُ معقول، لأنَّه منافٍ للغرضِ من وضع الرموز الحرفيَّة وهو التمييزُ بين الأصوات المنطوقة. ولو انَّ التشابه التامَّ وقع بين حرفين من مجموع حروف الهجاء لأمكن احتمال انَّ ذلك نشأ عن غفلةٍ من الواضع أمَّا أن يتكرَّر ذلك فيكونُ رمزُ الدَّال متَّحداً مع رمز الذال ورمز الصاد متَّحداً مع رمز الضاد، ورمزُ الطاء متَّحداً مع رمز الظاء ورمزُ الراء متَّحداً مع رمز الزاي، ورمزُ السين متَّحداً مع رمز الشين، ورمزُ العين متَّحداً مع رمز الغين، ورمزُ الفاء متَّحداً مع رمز القاف، ورمزُ الحاء متَّحداً مع رمزين هما الجيمُ والخاء، ورمزُ الباء متَّحداً مع ثلاثة رموز هي التاءُ والثاءُ والنون، فمثلُ ذلك لا يُمكن تعقلُ صدوره من الواضع الذي أراد من وضع الرموز الحرفيَّة التمييز بين الحروف المنطوقة.
فدعوى وضع رمزٍ ورسمٍ واحدٍ للدلالة على صوتين أو أصواتٍ ثلاثة أو أربعة متباينةٍ أمرٌ لا يصدرُ من عاقل، ولو صدر فإنَّ أحداً لن يتلقَّاه بالقبول، لاستلزامِه انتقاضِ الغرض من وضع الحروف المرسومة وهو التمييز بين الحروف المنطوقة في الكتابة. على انَّه كيف يمكنُ تعليم المُبتدِئ والجاهل بالكتابة الفرق بين الحروف إذا لم تكن متميِّزة في الرسم؟! فكيف يُمكن تعليم المبتدِأ الفرقَ بين الدال والذال المتَّحدين في الرسم لولم يتم التمييز بينهما بالنقطة على أحدهما، وهكذا هو الشأن في مثل الراء والزاي والطاء والظاء.
إنَّ المتأمِّل فيما ذكرناه يُشرفُ على القطعِ بتعيُّنِ التمييز بالتنقيط بين الحروفِ المتشابهة في الرسم منذُ أنْ وضع الواضع الحروفَ المرسومة للتمييز بين الحروف المنطوقة. أو بعد وقتٍ قصير من وضع الكتابة العربيَّة وبعد تبيُّن عدم استيعاب الحروف المرسومة للحروف المنطوقة فنحنُ أمام ثمانية وعشرين حرفاً منطوقاً في مقابل سبعة عشر شكلاً للحروف المرسومة، فحتى تستوعبَ الحروفُ المرسومة تمام الحروف المنطوقة يتعيَّن إما استحداث أشكالٍ ورموز تدلُّ على بقية الحروف المنطوقة أو التحفُّظ على الأشكال السبعة عشر مع اضافة ما يُميِّز الحروف المتشابهة في الرسم بواسطة التنقيط وحيث انَّ الأشكال التي وصلتنا لم تتعدَّ السبعة عشر شكلاً فهذا يقتضي تعيُّن اعتماد تمييز المتشابه منها بواسطة التنقيط. فبالتنقيط صارت الرموز والأشكال الحرفية مساويةً في العدد للحروف المنطوقة.
ثم إنَّه يمكن تأييد ما ذكرناه من انَّ التنقيط لم يكن مُستحدَثاً بل كان معاصراً أو قريباً لعصر وضع الكتابة العربيَّة . يُمكن تأييد ذلك بالعديد من النصوص التأريخيَّة نذكرُ منها ما نقله ابنُ النديم في الفهرست قال: " وقال ابن عباس: أولُ من كتب بالعربيَّة، ثلاثةُ رجالٍ من بولان. وهي قبيلة سكنوا الأنبار، وانَّهم اجتمعوا فوضعوا حروفاً مقطعة وموصولة. وهم مرامر بن مروة. وأسلم بن سدرة. وعامر بن جذره. ويقال مره وجذله. فأما مرامر، فوضع الصور. وأما أسلم، ففصَّل ووصل، وأما عامر، فوضع الإعجام" يعني التنقيط(الفهرست : ابن النديم / ص7).
هذا مضافاً إلى ما وجدوه من المخطوطات المشتملة على التنقيط والتي يعود تاريخُها كما قيل إلى ما قبل الإسلام ويعود تاريخُ بعضِها إلى صدر الإسلام، فإنَّ ذلك وانْ كان يصعبُ التثبُّت منه إلا انَّه يصلح للتأييد.
وأما المخطوطات المجرَّدة من التنقيط فلو ثبت انَّ تأريخها يعود إلى صدر الإسلام كما قيل، فإنَّها لا تصلحُ لنفي وجود التنقيط قبل صدر الإسلام، وذلك لأنَّ أكثر هذه المخطوطات -إنْ لم يكن جميعها- كانت قرآناً أو صفحاتٍ منه، وعدمُ التنقيط لحروف القرآن -لو ثبت- نشأ عن عدم الحاجة الملحَّة إلى تنقيط حروفِه المعجمة نظراً لكون القرآن محفوظاً في الصدور عند الكثير، وكان المبتدئون -في صدر الإسلام وإلى منتصف القرن الهجري الأول بل وبعده - يتعرَّفون على كيفيَّة قراءته وتلاوته بواسطة المعلِّمين، وذلك هو ما يمنع في مقام التعليم من وقوع الخطأ والخلط بين حروفه المتشابهة في الرسم، نعم أصبحت الحاجة ملحَّة إلى تنقيط المصحف بعد اتَّساع رقعة الإسلام ودخول غير العرب في الإسلام وبعد أنْ شاعت العُجمة وشاع اللحنُ في الأوساط العربيَّة، ولهذا تمَّ تنقيطُ المصحف بعد منتصف القرن الأول الهجري.
وعليه فالعثورُ على مخطوطات للمصحف الشريفِ غيرِ منقوطة لا يُثبت -لو صحَّت نسبتُها إلى بدايات القرن الأول الهجري- انَّ كلَّ المصاحف كانت غير منقوطة، ولو ثبت فإنَّ ذلك لا ينفي وجود التنقيط قبل الإسلام فإنَّ عدم تنقيط المصحف نشأ عن الخصوصية التي ذكرناها.
على انَّ الكاتب للنصِّ العربيِّ قد يُهمل التنقيط للنص اعتماداً على امكانيَّة تمييز الحروف المتشابهة في الرسم بواسطة السياق، فالعثورُ على نصٍّ خالٍ من التنقيط لا يكشفُ عن انَّ التنقيط كان مُستحدثاً، وإنَّما قلنا بضرورةِ وجود التنقيط للحروف المتشابهة في الرسم نظراً لعدم امكانيَّة التمييز في مقام التعليم للكتابة العربية، فإذا تعلَّم الرجل الكتابة العربيَّة بحروفها المُهملة والمعجمة وكان عربيَّاً عارفاً بأصول اللغة ومفرداتِها وسياقاتها فإنَّه يتمكَّن في حالاتٍ كثيرة من تمييز مراد الكاتب من الحروف المتشابهة في النص المكتوب حتى لو كانت خالية من التنقيط، هذا أولاً.
وثانياً: لو سلَّمنا جدلاً انَّ التنقيط لم يكن معروفاً في عهد الإمام عليٍّ (ع) فإنَّ ذلك لا ينفي صدورَ الخطبة المذكورة عنه، إذ من المعقول جداً انَّ الخطبة قد صدرت عنه بعنوان انَّها من الخطب التي كان يُلقيها في الناس فتلقَّاها الرواة عنه ودوَّنونا كما دوَّنوا الكثير من خطبِه دون أن يلتفتوا إلى انَّها خالية من الحروف المنقَّطة، وبعد عصر التنقيط وجدوا انَّ كلماتِ الخطبة خاليةٌ من الحروف المنقَّطة.
فحروفُ الهجاء الثمانية والعشرون كانت مستعملة قبل الإسلام ومنذ نشوء اللغة العربية غايتُه انَّ الدعوى هي انَّ الحروف المنقَّطة لم تكن تُرسم بالتنقيط ولكنَّها -دون ريب-كانت مستعملة، فأيُّ محذورٍ في أنَّ الرواة قد كتبوا كلماتِ الخطبة بالنحو الذي كان معهوداً عندهم أي دون تنقيط، وهو ما اقتضى عدم التفاتهم إلى انَّها خاليةٌ من الحروف المنقَّطة وبعد عصر التنقيط التفت قرُّاءُ الخطبة إلى انَّ كلماتها خاليةٌ من الحروف المنقَّطة.
ويمكن التنظيرُ لذلك بعلم العَرُوض المتصدِّي لتصنيف أوزان الشعر العربي ، فإنَّ تأسيس هذا العلم وقع متأخراً على يدِ الخليل بن أحمد الفراهيدي، وقد وضعَ لكلِّ وزنٍ اسماً، وسمَّى مجموع الأوزان "بحور الشعر العربي " فكانوا ستة عشر بحراً كالبحر الطويل والبحر البسيط وبحر الرمل وبحر الرجز، فهذه التسميات لم تكن موجودة في العصر الجاهليِّ ولا في صدر الإسلام .لكنَّ الشعر العربي بجميع أوزانه منذُ العهد الجاهلي كان منظوماً وفق هذه الأوزان. فلم يكن للفراهيدي سوى دور الكشفِ والتصنيفِ والتسميةِ لهذه الأوزان.
وعليه لو قلنا مثلاً إنَّ امرئ القيس نظَم قصيدته على البحر الطويل أو البسيط ، فإنَّه لا يصحُّ الإشكال بأنَّ البحر الطويل أو البسيط أو غيرهما لم تكن معروفة في عهد امرئ القيس ، فإنَّ هذه البحور كان معروفةً ومستعملةً ، غايتُه انَّها لم تكن تُسمَّى بهذه الأسماء، كذلك الحال في الحروف المنقَّطة المُعبَّر عنها بالمعجمة ، فإنَّها كانت متداولَةً ومستعملة غايتُه انَّها لم تكن مرسومة بالتنقيط - بحسب الفرض-، ولهذا لا محذور من البناء على انَّ الإمام (ع) خطب الناس بخطبةٍ تبيَّن بعد عصر التنقيط انَّ كلماتِها خاليةٌ من الحروف المُعجمة ذات التنقيط ، كما نظم امرئُ القيس قصيدته فنقلها عنه رواة الشعر، وبعد تأسيس علم العَروض وتطبيق ضوابطه على قصيدته وجدوا انَّها نُظمت على البحر الطويل مثلاً.
ثالثاً: لو سلَّمنا كذلك جدلاً انَّ الحروف المُعجمة لم تكن منقَّطة في عصر الإمام علي (ع) لكنَّها كانت مستعملة في الكلام العربي بل لا تكاد تخلو منها كلمةٌ أو جملةٌ على أقلِّ تقدير، وذلك لأنَّ الحروف المعجمة هي أكثرُ حروف الهجاء، فهي خمسة عشر حرفاً في مقابل ثلاثة عشر حرفاً مهملاً، لذلك فإنَّ خلو خطبةٍ من خمسة عشر حرفاً بقطع النظر عن كيفية رسمها ، يكون مثاراً للالتفات عند المتلقِّي؛ فهو يسمعُ كلاماً خالياً من الباءِ والتاءِ والثاءِ والجيمِ والخاءِ والضادِ والظاءِ والغينِ والشينِ والزاي والذال، والفاءِ والقافِ والنونِ والياءِ، إنَّ خلوَّ خطبةٍ من كلِّ هذه الحروف تكونُ مثاراً للنظر لمجرَّد سماعها بقطع النظر عن كيفيَّةِ كتابتها.
فأيُّ محذورٍ في أن يَنقل الرواةُ الخطبةَ بعنوان انَّها خالية من أكثر الحروف لا بعنوان خلوها من الحروف المعجمة، وبعد تنقيط الحروف وجد قرَّاء الخطبة انَّها خالية من الحروف المعجمة فتناقلوها تحت هذا العنوان.
وبما ذكرناه يتَّضح ان الإشكال المذكور لا يصلحُ لنفي صدور الخطبة الشريفة عن أمير المؤمنين (ع).
وأما تناسب ألفاظ الخطبة وسياقاتها مع الخطب المأثورة عن أمير المؤمنين (ع) فجوابُه انَّ استقراءً سريعاً أو متأنياً فيما ورد عن أمير المؤمنين (ع) يُنتجُ الوثوق بتناسب جزالةِ ألفاظ الخطبة والاتقانِ في سبكها وعلوِّ مضامينها للخطب المأثورة عنه والتي بلغت الغايةَ في فصاحة ألفاظها وبلاغة معانيها.
الشيخ محمد صنقور
تعليق