الاستدراج ... قراءة في تربية النهج
لقد حضي مصطلح الاستدراج بنصيب مهم في التعريف والبيان قرآنًا وروايةً؛ بوصفه منهجية رادعة مقوِّمة أولًا لخصوص أهل الغفلة والمعصية من النَّاس، لما يُحتمل فيه التدارك والتوبة وتصحيح المسار لتضمنه الإمهال في الوقت والفسحة في النعم، ومن ثُمَّ المُؤدى إلى حيث الأخذ الإلهي والعقوبة المُحتَّمة لخصوص من يُصر على سيرة الانحراف واقتراف الذنب ثانيًا، و(استدرج اللهُ العبدَ: أخذه قليلاً قليلاً ولم يباغته، أمهله ولم يعجّل عذابَه)([1])،استنفادًا لفرص صلاحه، واتمامًا للحجة في أخذه.
فقال تعالى مورِدًا الاستدراج مادةً أو معنى في أكثر من آية مباركة، محذِّرًا من مغبة الوقوع تحت طائلته: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ}(الأعراف:182)، وقوله تعالى:{ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ}(القلم:44)، وقوله تعالى:{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} (المؤمنون:55-56)، وأيضًا:{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}(النعام:44).
أمَّا في النهج العلوي المقدس فقد شُغِل هذا المعنى بحيز مهم، بيانًا واشارةً واستثمارًا، ليُقرأَ من الوجهة الأخرى لهذا الاهتمام مزيد لطف من جهته (صلوات الله وسلامه عليه) في ذود الناس عن دائرته غير الضيقة، التي بإمكان أي إنسان دخول نطاقها والانجرار بغفلته إلى حيث منزلقها،كما في توجيهه (صلوات الله وسلامه عليه): (أَيُّهَا النَّاسُ، لِيَرَاكُمُ اللهُ مِنَ النِّعْمَةِ وَجِلِينَ، كَمَا يَرَاكُمْ مِنَ النِّقْمَةِ فَرِقِينَ، إِنَّهُ مَنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ يَرَ ذلِكَ اسْتِدْرَاجاً فَقَدْ أَمِنَ مَخُوفاً، وَمَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ يَرَ ذلِكَ اخْتِبَاراً فَقَدْ ضَيَّعَ مَأْمُولاً)([2])، مُعطِيًا خصوصية المراقبة واستشعار معنى الاستدراج من جهة العبد مع كل نعمة يُعطاها أهمية وقائية، فيربي النفس الإنسانية على كيفية التعاطي مع سعة النعمة أو ضيقها، في حيز وظيفتها بين حدَّي الشكر والصبر، كما قد وجَّه (صلوات الله وسلامه عليه) في كلام آخر باتجاه التدارك لأهل البُعد بتفعيل الحذر عمليًّا إلى تصحيح المنهج قبل النقمة والأخذ بقوله: ( يَا ابْنَ آدَمَ إِذَا رَأَيْتَ رَبَّكَ سُبْحَانَه يُتَابِعُ عَلَيْكَ نِعَمَه وأَنْتَ تَعْصِيه فَاحْذَرْ)([3])، وقوله (صلوات الله وسلامه عليه): (الْحَذَرَ الْحَذَرَ فَوَاللَّه لَقَدْ سَتَرَ حَتَّى كَأَنَّه قَدْ غَفَرَ)([4])، ويزيد (صلوات الله وسلامه عليه) في البيان مُرَهِّبًا للمبالغة في ايقاظ النفوس من غفلتها، وتصحيح قراءتها لما يجري عليها من أمور-غير المتناسبة مع الفعل في الظاهر-على وفق المقاييس الحقيقية بعيدًا عن املاءات النفس وتزيينها، فلا الامهال مع المعصية إحسان، ولا الستر للذنب مع اقترافه مدعاة للزهو والغرور، ولا حسن القول مع عدم الاستحقاق مُؤدى إلى الافتتان؛ بل لابُدَّ من قراءة متوازنة لما وراء ذلك الإملاء الإلهي من ابتلاء يؤدي إلى حيث الردع والعقوبة مع الإصرار فقال (صلوات الله وسلامه عليه): (كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَج بِالاْحْسَان إلَيْهِ، وَمَغْرور بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ، وَمَفْتُون بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ! وَمَا ابْتَلَى اللهُ أَحَداً بِمِثْلِ الاْمْلاَءِ لَهُ)([5])، ثم بيَّن (صلوات الله وسلامه عليه) أهمية الشكر وضرورة اتخاذه منهجًا حياتيًّا يتضاعف مع كل نعمة مسبغة، إذ بإدامته يحترز العبد مبتعدًا عن دائرة الاستدراج المحتملة ليقترب أكثر باتجاه دائرة المن والتفضل الإلهي، فقال (صلوات الله وسلامه عليه): (وَرُبَّ مُنْعَم عَلَيْهِ مُسْتَدْرَجٌ بِالنُّعْمَى، وَرُبَّ مُبْتَلىً مَصْنُوعٌ لَهُ بِالْبَلْوَى! فَزِدْ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ فِي شُكْرِكَ، وَقَصِّرْ مِنْ عَجَلَتِكَ، وَقِفْ عِنْدَ مُنتَهَى رِزْقِكَ)([6])، وعلى نحو هذا البيان في مطلوبية ذكر الله والحث عليها ما رويَ عن (عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني سألت الله (عزَّ وجلَّ) أن يرزقني مالًا فرزقني، وإنِّي سألت الله أن يرزقني ولدًا فرزقني ولدًا، وسألته أن يرزقني دارًا فرزقني وقد خفت أن يكون ذلك استدراجًا، فقال: أما والله مع الحمد فلا)([7])، وفي طوله أيضًا (عن سعدان بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنِّي أرى من هو شديد الحال مضيقًا عليه العيش، وأرى نفسي في سعة من هذه الدنيا، لا أمد يدي إلى شيء إلَّا رأيت فيه ما أحب، وقد أرى من هو أفضل مني قد صرف ذلك عنه، فقد خشيت أن يكون لي استدراجًا من الله لي بخطيئتي، فقال (عليه السلام): أما مع الحمد فلا والله)([8])، فنخلص إلى القول بأن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) قد رسم ملامح برنامج تربويٍّ وقائيٍّ يحول أولًا دون الوقوع في ابتلاء الاستدراج من رأس؛ باستشعار المراقبة والحياطة لقدرة الله تعالى من لدن العبد، وترجمة ذلك بالابتعاد عن الذنب ما أمكنه من جهة، واتخاذ الشكر حالة ملازمة في تنامٍ من جهة أُخرى، مع اشتمال هذا البرنامج ثانيًا على فسحة للخروج من طائلة هذا الابتلاء لمن أصابه بمعصيته وغفلته، بالحذر دافعًا (صلوات الله وسلامه عليه) به نحو التدارك وتعديل الحال بالتوبة والإنابة قبل حلول العذاب الإلهي، فتشخص من البيان العلوي العالي ملامح رحمة إلهية مبطنة، وأذرع هداية مشرعة دأبها مسايرة عباد الله تعالى وعدم تركهم حتى مع حال معصيتهم، منتشلةً من أراد منهم الرجوع إلى حيث صلاحهم وأمنهم، ليؤخذ بعد البيان من يؤخذ عن حجة واستحقاق.
فالسلام على الناطق بمراد الله، والدليل على النجاة من نقمة الله، ورحمة الله وبركاته.
الهوامش:
[1])) معجم اللغة العربية المعاصرة، د أحمد مختار عبد الحميد عمر (ت: 1424هـ) بمساعدة فريق عمل: 1/734.
[2])) نهج البلاغة، تحقيق: فارس الحسون :863.
[3])) نهج البلاغة، تحقيق: فارس الحسون : 774.
[4])) نهج البلاغة، تحقيق: فارس الحسون : 775.
[5])) نهج البلاغة، تحقيق: فارس الحسون : 800.
[6])) نهج البلاغة، تحقيق: فارس الحسون : 845.
[7])) الكافي، الشيخ الكليني (ت:329): 2/97.
[8])) بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت:1111): 68/54.
تعليق