سيف من أسياف آل محمد, وقطب من أقطاب بيت النبوة, جسّد أروع آيات الشجاعة والبطولة والصلابة والثبات على الحق, وسجل سفراً عظيماً في التضحية والفداء والإيثار, فكان سفير الحسين ومعتمده وثقته إلى الكوفة, إنه حفيد سيد مكة ومن لباب آل أبي طالب أرباب المناقب وأقطاب بني هاشم وسادة قريش والعرب.
أقامَ عمـــــادَ العُلا سامكاً *** بأربعــــــــةٍ كالسنا الثاقبِ
بمثلِ (عليٍّ) إلى (جعفرٍ) *** ومثلِ (عقيلٍ) إلى (طالبِ)
أولئك لا إمعـــــات الرجـــــــــــــالِ على راجلٍ ثم أو راكبِ
فهم: (أطول الناس باعاً وأمجد الناس أصلاً وأحلم الناس حلماً وأكثر الناس عطاء) وهم كما قال حسان بن ثابت في وصفهم:
وما زالَ فِي الإسلامِ منْ آلِ هاشـمٍ *** دعائـمُ عـزٍّ لا تـرامُ ومـــــــــــفخـرُ
همُ جبلُ الإســـلامِ، والنَّـاسُ حولـهُ *** رضامٌ إِلَى طـودٍ يــــــروقُ ويـقهـرُ
بِهمْ تكشــفُ اللأواءُ فِي كلّ مـأزقٍ *** عماسٍ، إذا ما ضاقَ بالقوم مصـدرُ
هـمُ أوليـــــــــــاءُ اللهِ أنـزلَ حكمـهُ *** عليهم، وفيهمْ ذا الكتـــــابُ المطهـرُ
بهاليلُ منـهـمْ جـــــعفـرٌ وابـنُ أمـهِ *** علـيٌّ، ومنـــــــــهـمْ أحـمدُ المتخيـرُ
وحـمزةُ، والعبـــاسُ منهمْ، ومنهـمُ *** عقيلٌ، وماءُ العودِ من حيثُ يعصـرُ
والحديث عن مناقب هذا البيت الطاهر الذي كفل النبي وذبّ عنه وكان منه حفظة الدين وخزّان علم الله هو حديث الإسلام ولسنا هنا بصدده بقدر تعلّق الموضوع به والذي يسلط الضوء على بطل من أبطاله وفذ من أفذاذه ورائد أول تحرك للثورة الحسينية الخالدة مسلم بن عقيل عليه السلام.
ولادته وأمه (ع)
رغم أن المصادر التاريخية لم تحدد سنة ولادته إلا أن هناك ما يثبت أن مسلماً ولد في حياة النبي (ص) وهو قريب من عمر سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) فلا يمكن الاعتماد على أغلب الروايات التي جاءت في ولادته لمخالفتها الحقيقة التاريخية, فكثير من المصادر ذكرت أن أمه جارية أهداها معاوية أيام ملكه لعقيل وهي ليست عربية فولدت مسلماً!
وهي رواية مكذوبة كما يلاحظ ذلك بوضوح فكيف تكون ولادة مسلم في زمن معاوية وهو قد اشترك في حرب صفين على مستوى القادة كما سيأتي, وقد فنّد هذه الرواية العلامة المحقق الشيخ عبد الواحد المظفر, (1) كما فنّدها بما لا يقبل الشك في عدم صحتها الشيخ محمد علي عابدين (2) ولا نرى داعياً لنقل قولهما في ذلك لوضوح كذبها.
أما القول المعتمد في ذلك فهو ما ذكره ابن قتيبة من أن (أم مسلم بن عقيل نبطية من آل فرزندا) (3).
(والنبط من قدامى سكان العراق وقد أقاموا به دولة امتدت إلى الجزيرة العربية واستمرت طويلا يتعاقب ملوكها ذوي الأسماء العربية التي ضربوا بها نقودهم كما سنوا لهم القوانين والنظم) (4) ومما يؤكد ذلك أن الشيخ عبد الواحد المظفر قال إن اسمها علية (5) وهو اسم عربي كما هو واضح
في صفين
شارك مسلم عمه أمير المؤمنين في حربه صفين في صفوف القادة الأمراء الهاشميين كما ذكر ابن شهرآشوب في صفة جيش صفين فقال ما نصه: (ثم عبر عسكره (ع) فجعل على ميمنته الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر ومسلم بن عقيل وعلى ميسرته محمد بن الحنفية ....) (6) ولم يكن تنصيبه هذا محاباة له بل كان على استحقاق وجدارة فحاشا الإمام أن يجعل شخصاً في محل لا يستحقه, لقد كان مسلم في الذروة من الشجاعة والبطولة والإقدام.
يقول يوسف بن محمد البياسي: (كان مسلم بن عقيل مثل الأسد وقد كان من قوته أنه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت) (7)
ويقول البلاذري: (وكان مسلم بن عقيل من أرجل ولد عقيل وأشجعهم) (8)
ويقول ابن قتيبة الدينوري: (وكان من أشجع الناس) (9)
وقال الزركلي: (كان من ذوي الرأي والعلم والشجاعة) (10)
وهنا أقوال أخرى كثيرة في مبلغ شجاعة مسلم تركناها لاتفاقها, وليس أدل على شجاعته من قول رسول (ص): (رحم الله عمي أبا طالب فلو أولد الناس كلهم لولدوا شجعانا) ومسلم من ذروة آل أبي طالب.
أخوته وأخواته وأولاده وزوجته
تزوج مسلم من ابنة عمه رقية بنت أمير المؤمنين وقد ولدت له ثلاثة أولاد وبنت واحدة, أما الأولاد فهم عبد الله وهو أكبر أولاده, وقد استشهد مع الإمام الحسين (ع) في كربلاء, وكان لعبد الله من العمر سبعة عشر سنة, وأحمد, وإبراهيم, وهما الطفلان اللذان ذبحا على شاطئ الفرات بعد معركة الطف, أما البنت فهي حميدة الطفلة التي مسح الإمام الحسين على رأسها حين جاءه خبر مقتل أبيها وقد قدّر عمرها الشيخ عبد الواحد المظفر في ذلك الوقت بأربع سنين.
وقد انقرض نسل مسلم فقد قتل أولاده كلهم أما حميدة فقد تزوجت من ابن عمها عبد الله بن محمد بن عقيل فولدت له محمداً (11) ولمسلم ولد آخر استشهد مع الإمام الحسين (ع) من غير رقية وهو محمد بن مسلم بن عقيل وقد استشهد أيضاً مع أخيه عبد الله في كربلاء.
أما أخوة مسلم فقد ذكر الشيخ المظفر ستة عشر أخاً له وهم: علي الأكبر, وعبد الرحمن الأكبر, وجعفر الأكبر, وأبو سعيد بن عقيل, وعبد الله الأكبر, ومحمد, وعون, وهؤلاء استشهدوا مع الإمام الحسين (ع) وهو كما جاء في قول الشاعر
يا عينُ جودي بعبرةٍ وعويلِ *** واندبي إن ندبتِ آلَ الرسولِ
تسعةٌ كلـــــــهم لصلبِ عليٍّ *** قد أصيبـــــــوا وسبعة لعقيلِ
أما الآخرون فهم: علي الأصغر, وعيسى, وعثمان, وعبد الرحمن الأصغر, وجعفر الأصغر, وسعيد, وموسى, ويزيد وبه كان يكنى عقيل, وحمزة
أما أخواته فهن زينب ورملة وفاطمة وأسماء التي رثت الحسين (ع) وندبته مع الشهداء في المدينة بأبياتها المشهورة:
ماذا تقولـــــونَ إن قالَ الـنبيُّ لكم *** ماذا فعلـــــــــــــتم وأنتمْ آخرُ الأممِ
بعترتي وبأهلي بعـــــــــد مفتقدي *** منهم أســــارى ومـنهم ضُرِّجوا بدمِ
ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكم *** أن تخلفوني بسـوءٍ في ذوي رحمي
ضيَّـــــــــــــعتمُ حقّنا والله أو جبه *** وقد رعى الفيـلُ حقَّ البيتِ والحرمِ
إني لأخشى عليــــكمْ أن يحلَّ بكمْ *** مثلُ العــذابِ الذي يأتي على الأممِ
رسائل الوفاء, ورسائل والغدر
بعد أن ذاق الكوفيون الأهوال والويلات لأكثر من عشرين سنة في حكم معاوية وعاشوا أياماً عصيبة تحت سياسة التسلط الأموي وبطش ولاة السوء من بطانة الأمويين كزياد بن أبيه والمغيرة بن شعبة تنفسوا الصعداء بموت معاوية..
لكنهم ما كادوا أن يستيقنون هذا الخبر حتى فوجئوا بفرض يزيد خليفة على المسلمين من قبل أبيه فرفض الحسين (ع) بيعة هذا الفاسق ووردت أخبار هذا الرفض إلى الشيعة في الكوفة فاجتمع الصفوة منهم في دار سليمان بن صرد الخزاعي وهو من كبار الشيعة ووجوههم وتمخض هذا الاجتماع الذي كان بداية الانطلاقة الأولى للتحرك المسلح عن إعلان الثورة ودعوة الإمام الحسين (ع) وقد حسم الأمر سليمان بقوله: (إن معاوية قد هلك وإن حسينا قد تقبّض ــ أي امتنع ــ على القوم ببيعته, وقد خرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه ونقتل أنفسنا دونه فاكتبوا إليه وأعلموه وإن خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل في نفسه فقالوا: لا بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه. قال: فاكتبوا إليه) (12)
لقد اطلع سليمان الشيعة على الأمر الواقع وأشار إلى الصواب وطلب منهم رأيهم فاتفق زعماء الشيعة على إرسال كتاب إلى الإمام الحسين (ع) يدعونه فيه إلى القدوم فجاء فيه ما نصه:
(بسم الله الرحيم للحسين بن علي (ع) من سليمان بن صرد والمسيب بن نجية ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة سلام عليك فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو
أما بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوك وعدو أبيك من قَبل, الجبار العنيد الغشوم الظلوم الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيأها وتآمر عليها بغير رضا منها ثم قتل خيارها واستبقى شرارها وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها فبعدا له كما بعدت ثمود. إنه ليس علينا إمام فاقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد ولو قد بلغنا إنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته يا ابن رسول الله وعلى أبيك من قبلك...) (13)
كانت هذه الرسالة الأولى من الشيعة المخلصين وقد أرسلوها بيد عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن وائل, ثم عزز قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي وعمارة بن عبد الله السلولي هذا الموقف برسالة ثانية مشابهة لها ومعها أكثر من مائة وخمسين صحيفة من الرجل والأثنين والثلاثة والأربعة ثم جاءت رسالة ثالثة من هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي مفادها: (إن الناس ينتظرونك ولا رأي لهم في غيرك فالعجل العجل والسلام عليك) (14)
وجاء في رسالة أخرى: (إنا قد حبسنا أنفسنا عليك ولسنا نحضر الصلاة مع الولاة فاقدم علينا فنحن في مائة ألف فقد فشا فينا الجور وعُمل فينا بغير كتاب الله وسنة نبيه ونرجو أن يجمعنا الله بك على الحق وينفي عنا بك الظلم فأنت أحق بهذا الأمر من يزيد وأبيه الذي غصب الأمة وشرب الخمر ولعب بالقرود والطنابير وتلاعب بالدين) (15)
كانت هذه الرسائل قد كتبت بمداد العقيدة والولاء الخالص الذي لا تشوبه شائبة وكان لها تفاعل كبير من قبل الناس حتى أصبحت مسألة التغيير حقيقة مستقبلية فتستّر وراء هذه الغاية النفعيون والوصوليون والمنافقون أمثال شبث بن ربعي اليربوعي وحجار بن أبجر العجلي ويزيد بن الحارث وعزرة بن قيس وغيرهم من الذين جبلوا على التزلف والتملق وكانوا يطمحون الاستفادة من أي تغيير قادم فكتبوا إلى الإمام الحسين: (أما بعد فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار وطمت الآجام ــ أي الآبار ــ فإذا شئت فاقدم على جند لك مجندة ..) (16)
وبلغ من سفالة وانحطاط هؤلاء وأمثالهم أنهم لم يتنصلوا عما وعدوا به من نصرة الحسين (ع) فقط بل أنهم كانوا في الصف الأول لمعسكر أعدائه فأضمروا كلمة (عليك) بدلاً من (لك), وأمثال هؤلاء المنافقين لا تخلو الأمة منهم في كل مراحلها وهم أشد عليها وأخطر من عدوها الخارجي لأنهم هم من يصنع الطغاة ولولاهم لما كان ليزيد ولا لغيره التحكم والاستبداد في مصير الأمة يقول العقاد في كتاب أبو الشهداء وهو يصف يزيد ومن بايعه وناصره من أمثال هؤلاء الحثالة:
(لا يرجى له صلاح ولا يرجى منه إصلاح وكان اختياره لولاية العهد مساومة مكشوفة قبض كل مساهم فيها ثمن رضاه ومعونته جهرة وعلانية من المال أو الولاية أو المصانعة ولو قبضوا مثل هذا الثمن ليبايعوا وليا شرا من يزيد لما همهم وإن تعطلت حدود الدين وتقوضت معالم الأخلاق) (17)
وتوالت الرسائل إليه (ع) والتي يحثه أصحابها على القدوم إلى الكوفة وبلغت هذه الموجة ذروتها حتى وصل إليه في يوم واحد ستمائة رسالة (18) واختلطت في هذه الرسائل النيات والميول والمضامير واشترك فيها المؤمنون والمنافقون حتى وصل الأمر أن وصلت إليه رسالة تقول: إن لم تصل إلينا فأنت آثم ! (19)
وكانت آخر رسالة هي : عجل القدوم يا ابن رسول الله فإن لك في الكوفة مائة ألف سيف فلا تتأخر (20)
موقف الإمام
كان الإمام (ع) أعلم الناس بالواقع الذي وصلت إليه الأمة وقد صرّح بما هي مقبلة عليه من الانهيار إذا بقي يزيد في الحكم ما لم تكن هناك وقفة ورفض ومجابهة وهو الذي قال للوليد بن عتبة والي المدينة من قبل يزيد لما طلب منه مبايعة يزيد:
إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا يختم ويزيد شارب الخمور وقاتل النفس المحرمة معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله ..
وهو الذي كتب إلى معاوية يصف له يزيد فقال: تريد أن توهم الناس في يزيد كأنك تصف محجوباً أو تنعت غائباً أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ..
كان (ع) أعلم الناس بهذا الواقع المزري الذي ترزح تحته الأمة من التسلط والقهر والظلم الأموي فكان ينظر بعين البصير الأمين إلى إنقاذ شريعة جده وإنقاذ الأمة مما ابتليت به فكان يتلقى الرسائل وهو يتأمّل ملياً فيها .. وهو مع ذلك (يتأبى ولا يجيبهم) (21) و(يتأنى ولا يجيبهم) (22) فرأى (ع) اتخاذ خطوة تمهيدية حكيمة بإرسال مبعوث عنه إلى الكوفة.
مسلم بن عقيل
اختاره الإمام الحسين (ع) مبعوثه وكان مؤهلاً تماماً لمثل هذه المهمة فقد توفّرت فيه القيادة الحكيمة والشجاعة النادرة وهو خير من يمثله (ع) فأرسله مع كتاب منه (ع) إلى أهل الكوفة جاء فيه: (أني بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم فإن كتب إلي أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت علي به رسلكم وقرأت في كتبكم أقدم وشيكا إن شاء الله)
ولا يخفى ما لهذه الكلمات من معنى كبير وهي تفصح عن المزايا العظيمة التي امتاز بها مسلم, وقد أوصاه (ع) بقوله: (إني موجّهك إلى أهل الكوفة وسيقضي الله من أمرك ما يحب ويرضى وأرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء فامض ببركة الله وعونه فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها).
ولا يخفى المعنى العميق في قوله (ع) (وأرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء) وهو يدل على أنه (ع) كان ينظر إلى الواقع نظرة المتفحص الدقيق.
إلى الكوفة
خرج مسلم مع ثلاثة من وجوه الشيعة وأبطالهم إلى الكوفة وهم: قيس بن مسهر الصيداوي, وعمارة بن عبد الله السلولي, وعبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي, وكانوا قد جاءوا بالرسائل إلى الإمام الحسين فعادوا مع مسلم ولما وصل مسلم إلى الكوفة نزل في دار البطل المختار بن أبي عبيد الثقفي حسب وصية الإمام حيث كان من كبار الشيعة ومن أوثق الشخصيات في الكوفة فتوافد عليه الناس فقرأ عليهم كتاب الإمام الحسين فكان أول المبايعين هو البطل المجاهد عابس بن شبيب الشاكري الذي تقدم الناس ووقف بين يدي مسلم وقال:
(إني لا أخبرك عن الناس ولا أعلم ما في نفوسهم وما أغرك منهم ووالله إني أحدثك عما أنا موطن نفسي عليه والله لأجيبنكم إذا دعوتم ولأقاتلن معكم عدوكم ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله لا أريد بذلك إلا ما عند الله)
كان عابس من رجال الشيعة الكبار وقد اجتمعت فيه خصال نادرة وصفات عظيمة قلما تجتمع عند رجل. كان رئيساً شجاعاً ناسكاً متهجداً وكان من رجال البيعة للإمام الحسين ومن رجال ثورته العظيمة وكانت فراسته ووعيه ينبئانه بتلك النفوس الخائنة التي انقلبت على مسلم بن عقيل بمجرد دخول ابن زياد واستعماله معها أساليب الترهيب والترغيب فقال لمسلم هذا القول معرباً عن نيته وولائه الخالص لأهل البيت (عليهم السلام) ولمّح بهذا القول الموجز عن نوايا القوم الدنيئة بالغدر، كما فسّر موقفه الصريح من نصرته للحسين.
وكان عابس موضع ثقة مسلم فبعثه برسالة إلى الإمام الحسين يخبره فيها عن أحوال الكوفة فبقي عابس مع الحسين حتى خرج معه واستشهد.
وقد عزز البطل حبيب بن مظاهر من موقف عابس بقوله وكان المبايع الثاني: وأنا والله على مثل ما هو عليه. وجاءت المبايعة الثالثة من البطل سعيد بن عبد الله الحنفي الذي أيد موقف صاحبيه البطلين فكان هؤلاء الثلاثة مصداقاً لقوله تعالى: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه..
وتوافد الناس للبيعة (المؤمنون والمنافقون) وبلغ عدد المبايعين خلال شهر إلى أكثر من ثمانية عشر ألفا (23)
موقف السلطة
كان النعمان بن بشير والياً على الكوفة وقد ولّاه معاوية عليها في أواخر أيامه وكان من مجرمي الغارات على المدن الآمنة الذين يرسلهم معاوية, أما تفسير موقفه وسلوكه المتجاهل تجاه حركة مسلم بن عقيل فهو يحتاج إلى موضوع مفصّل.
وقد كتب جواسيس الأمويين ليزيد بموقفه هذا ومنهم عمر بن سعد مما حدى به إلى عزله وتولية عبيد الله بن زياد الذي شدد من قبضته على الكوفة أول دخوله لها فاضطر مسلم لمغادرة دار المختار واللجوء إلى دار هانئ بن عروة المذحجي صاحب أمير المؤمنين كإجراء احترازي فقد كثف ابن زياد من جواسيسه لاقتفاء أثر مسلم ومعرفة مكانه حتى دله أحد الجواسيس على مكانه.
المؤمن لا يغدر
كان في بيت هانئ أحد زعماء الشيعة وهو شريك بن الحارث, وكان مريضاً فأراد ابن زياد زيارته لأنه يعلم مدى ما يتمتع به هذا الرجل من شعبية وتأثير في الكوفة فأراد أن يتفقد أحواله ومعرفة ما إذا كان على علاقة بمسلم بن عقيل أو معرفة مكانه كما أنه في دار هانئ الذي لا يقل عن شخصية شريك تأثيراً وهو زعيم مذحج وبطلها ومن أشراف الكوفة وشجعانها ومن وجوه الشيعة وكبارها.
وكان هانئ قد أوى مسلماً في داره فلما أرسل ابن زياد رسولاً إلى شريك يخبره بأنه قادم لزيارته في المساء اقترح شريك على مسلم قتل ابن زياد عند جلوسه لكن مسلماً لم يجبه ولما جاء ابن زياد وجلس كان شريك يرمز في قوله إلى خروج مسلم وقال في ذلك شعراً لكن مسلم لم يخرج ولما خرج ابن زياد عاتب شريك مسلماً على عدم خروجه وقتل ابن زياد فروى له مسلم حديث رسول الله (ص): الإيمان قيد الفتك ولا يفتك مؤمن
هانئ بن عروة
لما علم ابن زياد بمكان مسلم أرسل ثلاثة أشخاص لاستدعائه بحجة استبطائه عنه وأن الجفاء لا يحتمله ابن زياد خاصة وأن هانئاً من زعماء الكوفة وهؤلاء الأشخاص هم: حسان بن أسماء بن خارجة, ومحمد بن الأشعث, وصهر هانئ عمرو بن الحجاج الزبيدي, فلمّا ألحّوا على هانئ بالحضور جاء معهم فكشف ابن زياد عن أمر الجاسوس وعرض على هانئ تسليم مسلم لكن البطل المذحجي قال له: والله لو لم أكن وحدي ليس لي ناصر لما سلمته إليه أبدا حتى أموت دونه.
فغضب ابن زياد من هذا القول فأمر جلاوزته بتكتيفه و(استعرض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وسيل الدماء على ثيابه ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتى كسر القضيب) (24) ثم زجه في السجن
لم يتوقع هانئ أن يجرؤ ابن زياد على هذه الفعلة وهو زعيم أكبر قبيلة في الكوفة فكان يتوقع أن يهجم قومه على القصر ويستنقذوه من ابن زياد لكن ابن زياد كان قد أحكم خيوط مؤامرة دنيئة مع عمرو بن الحجاج الزبيدي.
المؤامرة الدنيئة
كان هانئ متزوجاً من أخت عمرو بن الحجاج وقد أرسل ابن زياد عمرو لاستدعاء هانئ ليضمن قدومه أولا وليقوم بمهمة أخرى, وهي أنه لما دخل هانئ على ابن زياد خرج عمرو ليكمل الجزء الثاني من مؤامرته حيث جمع قبيلة مذحج ووقف أمام القصر متظاهرا بأنه يريد تخليص هانئ من عبيد الله بن زياد فوقف وقال: أنا عمرو بن الحجاج وهذه فرسان مذحج وقد بلغهم أن صاحبهم قُتل فأعظموا ذلك !
يا لخسة هذا الوغد لقد تزعم هذه القبيلة مستغلاً غياب قائدها وقرابته منه فتحدّث باسمها فخان صهره وخانها.
وهنا يأتي دور الرجل الثالث في المؤامرة بعد ابن زياد وعمرو وهو شريح القاضي الذي أوعز إليه ابن زياد قائلاً:
(أدخل على صاحبهم فانظر إليه ثم اخرج فاعلمهم أنه حي لم يقتل وأنك قد رأيته)
فلما دخل شريح على هانئ وهو بتلك الحالة قال له هانئ:
(يا شريح إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين, إن دخل علي عشرة نفر أنقذوني, يا شريح إتق الله إنهم قاتلي).
لكن شريحاً تجاهل قول هانئ وقال له بعدم اكتراث: أراك حيّاً !
فحمّله هانئ أمانة وهي قوله: أخبر قومي إن انصرفوا قتلني .. ولكن أنى لمن باع دينه وضميره لبني أمية من إداء الأمانة فلما خرج شريح قال لابن زياد: قد رأيته حياً ورأيت أثراً سيئاً. فأسكته ابن زياد بقوله: وتنكر أن يعاقب الوالي رعيته أخرج إلى هؤلاء وأخبرهم كما أمرتك !
قام هذا القاضي الضال المضل بدوره وأطل من على القصر مخاطباً أكبر قبيلة في الكوفة: ما هذه الرعة السيئة .. الرجل حي وهكذا بكل بساطة سكتت هذه (الرعة) وعجّل الزبيدي بأمر انسحابها قائلا أما إذا لم يقتل فالحمد لله. لكي لا يبادر أحد بني مذحج بطلب الهجوم على القصر.
تحرك مسلم
بعد الانسحاب المخزي لمذحج وصلت أخبار هانئ إلى مسلم فأمر مناديه برفع شعار الثورة ووزع الألوية على أصحابه وتوجه نحو القصر فدخل ابن زياد القصر وأغلق أبوابه, وقد أشار عليه أحد أصحابه وهو كثير بن شهاب بقتال مسلم لكنه رفض جبناً وخوفاً من مواجهة مسلم ولجأ إلى حرب الإشاعات الجبانة بأن جيش الشام قادم !
وكلمة (جيش الشام) لها مدلول في أذهان أهل الكوفة فهي لا تعني القتل فحسب بل هتك الحرمات وقتل الأطفال كما أمر ابن زياد برفع راية أمان لكل من يترك مسلماً وينضم إليها فقال لهم: أشرفوا على الناس فمنوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة وخوفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة وأعلموهم وصول جند الشام إليهم
فكان منادي ابن زياد ينادي من على القصر:
أيها الناس إلحقوا بأهليكم ولا تعجلوا الشر ولا تعرضوا أنفسكم للقتل فإن هذه جنود يزيد قد أقبلت وقد أعطى الله الأمير عهداً لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء ويفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع وأن يأخذ البريء بالسقيم والشاهد بالغائب حتى لا يبقى له فيكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جرت أيديها.
وقد كان لهذه التهديدات أثرها في النفوس ووجدت صدىً وتجاوباً من قبل النفوس الخانعة والمريضة, وكان للمرأة دور في هذا التقاعس والتخاذل فكانت تتعلق بثياب زوجها أو أخيها أو ابنها فلا تتركه حتى يرجع إلى بيته ! وقد خدمت هذه الوسائل ابن زياد فكانت كل امرأة تقول لمن يخصها: (الناس يكفونك) وهكذا تفرّق الناس عن مسلم حتى صلى المغرب من ذلك اليوم وليس معه إلا ثلاثون رجلاً
وهذا العدد كان هو صفوة أهل الكوفة من الشيعة المخلصين المؤمنين, يقول الشيخ محمد علي عابدين: (نحن نعتقد أن في هذا العدد صفوة مؤمني الكوفة ونخبة رجال الحركة لتعذر تأخر غيرهم إلى هذا الوقت) (25)
ويقول عبد الواحد المظفر: هل أسلمه الخاصة وأهل الإخلاص عمداً وخذلاناً كابن عوسجة وابن مظاهر والشاكري والصائدي وأمثالهم ؟ هذا قدح فيهم ولا يجوز أن يتفوّه به مُتفوّه, فما السرّ في تركهم له ومفارقتهم إياه حتى أنه لم يصحبه أحد ليدله على الطريق أو يأويه في منزله ؟
ويجيب المظفر عن هذه الأسئلة بالقول: إن ثقاته المشار إليهم كانوا معه وغير مفارقين له ولا منصرفين عنه مع من انصرف من أهل الوهن وضعفاء اليقين ولكنه سلام الله عليه صرفهم عنه لأمرين.. ويتوسع المظفر في الحديث عن هذين الأمرين الذين مفادهما أنه خاف عليهم مصيراً مثل مصير هانئ بن عروة وهذا من شيمة العظماء وأخلاقهم العظيمة (26)
دار طوعة
بعد أن تأكد ابن زياد من انسحاب الناس إلى بيوتهم أمر بشن حملة للقبض على مسلم وشدد على ذلك وعرض جائزة مغرية لمن يلقي القبض عليه أو يدل على مكانه في الوقت الذي كان مسلم يسير في أزقة الكوفة, فتوقف عند دار وقفت ببابها امرأة تدعى طوعة فطلب منها ماء ثم أخبرها بمن يكون فآوته, لكن ابنها الشرير كان شرطياً عند ابن زياد وعند عودته في المساء عرف بأمر مسلم فأخبر ابن زياد الذي وجه قوة عسكرية إلى دار طوعة للقبض على مسلم.
جيش في فرد ...
هكذا كان مسلم عندما رأى الرجال يقتحمون الدار فقد جاءوا إلى الموت بأرجلهم فما إن اقتحموا الدار حتى شعروا كأن صاعقة نزلت على رؤوسهم من السماء أما المرأة فقد وقفت وهي مذهولة تنظر إلى هذا الإنسان الذي يواجه هذه الجماعات من الرجال بهذه البطولة والشجاعة المتفردة ولنترك للتاريخ أن يصور لنا تلك البسالة التي أذهلت التاريخ نفسه.
يقول الطبري: (واقتحموا عليه الدار فشد عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشد عليهم كذلك). (27)
ويقول المسعودي: (فاقتحموا على مسلم الدار فثار عليهم بسيفه، وشد عليهم فأخرجهم من الدار، ثم حملوا عليه ثانية، فشد عليهم وأخرجهم أيضاً، فلما رأوا ذلك منه ــ أي عجزهم عن الوقوف أمامه ــ علوا ظهور البيوت فرموه بالحجارة وجعلوا يلهبون النار بأطراف القصب ثم يلقونها عليه من فوق البيوت فلما رأى ذلك، قال: أكل ما أرى من الأجلاب لقتل مسلم بن عقيل ؟ يا نفس اخرجي إلى الموت الذي ليس له محيص فخرج إليهم مصلتاً سيفه في السكة فقاتلهم). (28)
ويقول ابن أعثم الكوفي: (وخرج مسلم في وجوه القوم كأنه أسد مغضب فجعل يضاربهم بسيفه حتى قتل منهم جماعة).(29)
كان يهجم عليهم وهو يقول:
هو الموتُ فاصنعْ ويكَ ما أنتَ صانعُ *** فأنتَ لكأسِ الموتِ لا شكَّ جارعُ
فصبراً لأمـــــــــــــــرِ اللهِ جلَّ جلاله *** فحــــكمُ قضاءِ اللهِ في الخلقِ ذائعُ
لم يخطر في بال ابن الأشعث أن الرجال السبعين الأشداء الذين اختارهم لهذه المهمة سيفشلون وسينتهي أمرهم إلى موت بعضهم وفرار البعض أمام رجل واحد !!
رجل واحد حمل صفات الرجل الكامل من شجاعة وبأس ونجدة ومروءة ويقين.. رجل أعاد في أذهان أهل الكوفة شجاعة علي.
رأى ابن الأشعث أصحابه وهم ما بين قتيل وجريح ومهزوم فترك رجاله وذهب إلى القصر يطلب الامدادات وما إن وصل خبر الإمدادات إلى أسماع ابن زياد حتى اضطرب وفزع وشعر بنزوله عليه كأن القصر قد هوى على رأسه فنهض واقفاً وهو يرتعد غضباً وخوفاً وصاح في وجه ابن الأشعث:
ــ بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة ؟ (30)
ولكن ابن الأشعث لم يترك استهانة ابن زياد بقوله (رجل واحد) دون رد ليذكره بأنه لم يرسله إلى رجل عادي من الناس الأبرياء الذين يقبض عليهم ابن الأشعث على التهمة والظنة ويودعهم غياهب السجن فبين له من هو هذا الرجل الواحد فقال له:
ــ أتظن أنك بعثتني إلى بقال من بقالي الكوفة أو جرمقاني من جرامقة الحيرة ؟ أما تعلم أنك بعثتني إلى أسد ضرغام وسيف حسام في كف بطل همام !!
زاد رد ابن الأشعث من خوف ابن زياد وأدرك صعوبة المهمة أمام هذا البطل الطالبي فأرسل بالإمدادات على وجه السرعة وهو يزبد ويرعد لكنه لم ينس ما جبل عليه من الغدر فاقترح على ابن الأشعث قائلا:
ــ أعطه الأمان فإنك لن تقدر عليه إلا بالأمان ..
كان ابن الأشعث يعرف ما هو معنى الأمان عند ابن زياد إنه يعني الغدر فنظر إلى ابن زياد نظرة شيطانية وخرج مسرعاً مع عدة من الرجال..
رجع ابن الأشعث إلى حيث مسلم بن عقيل فرأى ذلك البطل وهو يجهز على كل من يتصدى له فخاف أن يكون مصير هؤلاء الرجال كسابقيهم ما دام هذا الرجل حاملاً سيفه وهو ينقض على من يواجهه كالأسد عندما ينقض على فريسته فلجأ إلى مكيدة شيطانه ابن زياد فعرض على مسلم الأمان فرد ابن عقيل على طلب الأمان بقوله:
أقســــــــمتُ لا أُقتل إلا حُرَّا *** وإن رأيتُ الموتَ شيئاً نكرا
كل امرئٍ يـــوماً ملاقٍ شرَّا *** ويخـــــــلطُ الباردَ سحناً مرَّا
رُدَّ شعـــاعُ الشمسِ فاستقرَّا *** أخافُ أن أخــــــدعَ أو أغَرَّا
وهجم عليهم فبدد شملهم وأوقع منهم قتلى.. كان يعرف أن هؤلاء ليس لديهم أي قيم إنسانية.. وكان يعرف معنى الأمان عندهم وازداد خوف ابن الأشعث وهو يسمع هذه الأبيات التي استمات صاحبها وهو مصمم على القتال حتى آخر رمق ولكن لا أحد يستطيع الوقوف بوجهه فقال ابن الأشعث:
ـــ إنك لا تُكذب ولا تُخدع ولا تُغر، إن القوم بنو عمك وليسوا بقاتليك ولا ضاريك
ولكن لم يكن مسلم لتنطلي عليه هذه الخديعة فقال له:
ـــ لا حاجة لي إلى أمان الغدرة
وبقي يقاتل بتلك البسالة رغم كثرة الجراح والحروق التي أصيب بها جسده وهال ابن الأشعث هذا البطل الذي لم ير مثله في حياته .. أنه لا يتأثر بالجراح التي تصيبه وكأنها تعطيه دافعاً وحافزاً لمواصلة القتال ورغم كل الجراح فهو يدمي وجه كل من يبارزه ويسقطه قتيلاً أو جريحاً !
وخاف أبن الأشعث أن يستنفد الرجال فدنا من مسلم قليلاً وجعل بينهما مسافة كافية للهرب إذا هجم عليه مسلم وقال:
ــ يا ابن عقيل لا تقتل نفسك، أنت آمن ودمك في عنقي !!
ما أقبح هؤلاء الذين يحاولون أن يصلوا إلى أهدافهم الدنيئة بالكذب والخداع، إن سياسة معاوية القذرة قد تفشّت في المجتمع والناس على دين ملوكهم.. أجابه مسلم وهو ينزف دماً وقد أعيته الجراح مؤثراً الموت على الركون إلى هؤلاء الغدرة:
ــ أتظن يا ابن الأشعث أني أعطي بيدي الأمان وأنا أقدر على القتال ؟ لا والله لا كان ذلك أبدا.. وهجم مسلم على ابن الأشعث لكن المسافة التي لم يجرؤ ابن الأشعث على أن يتجاوزها خوفاً قد مكنته من الهروب والنجاة فلم يجد مسلم من يواجهه وجهاً لوجه.. رجلاً لرجل خوفاً منه فقد صعد أغلبهم إلى السطوح وقاموا برمي الحجارة عليه وهو يزأر فيهم كالأسد:
ـــ ويلكم! ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى الكفار ؟! وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار ! ويلكم أما ترعون حق رسول الله صلى الله عليه وآله في ذريته ؟
وبقي يلاحق فلولهم في الأزقة فصاح ابن الأشعث فيهم وكأنه لم يلحقه عار الهزيمة:
ـــ ويلكم إن هذا هو العار والفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع .. احملوا عليه حملة واحدة.. ولكن مسلم تصدى لهذه الحملة الواحدة وازدادت جراحه وكثر نزيفه وطعن من الخلف طعنة غادرة اخترقت ظهره وضرب على شفتيه بالسيف فضرب صاحبها فقتله واجتمعوا عليه يضربونه بالسيف حتى سقط من كثرة النزف وأخذوه أسيراً
ولا ينتهي الأمر بمسلم إلى قتله وقطع رأسه ورمي جثته من على سطح قصر الإمارة مع مناصره هانئ بن عروة, بل وتسحب جثتيهما بالحبال في شوارع الكوفة !🍂✍
أقامَ عمـــــادَ العُلا سامكاً *** بأربعــــــــةٍ كالسنا الثاقبِ
بمثلِ (عليٍّ) إلى (جعفرٍ) *** ومثلِ (عقيلٍ) إلى (طالبِ)
أولئك لا إمعـــــات الرجـــــــــــــالِ على راجلٍ ثم أو راكبِ
فهم: (أطول الناس باعاً وأمجد الناس أصلاً وأحلم الناس حلماً وأكثر الناس عطاء) وهم كما قال حسان بن ثابت في وصفهم:
وما زالَ فِي الإسلامِ منْ آلِ هاشـمٍ *** دعائـمُ عـزٍّ لا تـرامُ ومـــــــــــفخـرُ
همُ جبلُ الإســـلامِ، والنَّـاسُ حولـهُ *** رضامٌ إِلَى طـودٍ يــــــروقُ ويـقهـرُ
بِهمْ تكشــفُ اللأواءُ فِي كلّ مـأزقٍ *** عماسٍ، إذا ما ضاقَ بالقوم مصـدرُ
هـمُ أوليـــــــــــاءُ اللهِ أنـزلَ حكمـهُ *** عليهم، وفيهمْ ذا الكتـــــابُ المطهـرُ
بهاليلُ منـهـمْ جـــــعفـرٌ وابـنُ أمـهِ *** علـيٌّ، ومنـــــــــهـمْ أحـمدُ المتخيـرُ
وحـمزةُ، والعبـــاسُ منهمْ، ومنهـمُ *** عقيلٌ، وماءُ العودِ من حيثُ يعصـرُ
والحديث عن مناقب هذا البيت الطاهر الذي كفل النبي وذبّ عنه وكان منه حفظة الدين وخزّان علم الله هو حديث الإسلام ولسنا هنا بصدده بقدر تعلّق الموضوع به والذي يسلط الضوء على بطل من أبطاله وفذ من أفذاذه ورائد أول تحرك للثورة الحسينية الخالدة مسلم بن عقيل عليه السلام.
ولادته وأمه (ع)
رغم أن المصادر التاريخية لم تحدد سنة ولادته إلا أن هناك ما يثبت أن مسلماً ولد في حياة النبي (ص) وهو قريب من عمر سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) فلا يمكن الاعتماد على أغلب الروايات التي جاءت في ولادته لمخالفتها الحقيقة التاريخية, فكثير من المصادر ذكرت أن أمه جارية أهداها معاوية أيام ملكه لعقيل وهي ليست عربية فولدت مسلماً!
وهي رواية مكذوبة كما يلاحظ ذلك بوضوح فكيف تكون ولادة مسلم في زمن معاوية وهو قد اشترك في حرب صفين على مستوى القادة كما سيأتي, وقد فنّد هذه الرواية العلامة المحقق الشيخ عبد الواحد المظفر, (1) كما فنّدها بما لا يقبل الشك في عدم صحتها الشيخ محمد علي عابدين (2) ولا نرى داعياً لنقل قولهما في ذلك لوضوح كذبها.
أما القول المعتمد في ذلك فهو ما ذكره ابن قتيبة من أن (أم مسلم بن عقيل نبطية من آل فرزندا) (3).
(والنبط من قدامى سكان العراق وقد أقاموا به دولة امتدت إلى الجزيرة العربية واستمرت طويلا يتعاقب ملوكها ذوي الأسماء العربية التي ضربوا بها نقودهم كما سنوا لهم القوانين والنظم) (4) ومما يؤكد ذلك أن الشيخ عبد الواحد المظفر قال إن اسمها علية (5) وهو اسم عربي كما هو واضح
في صفين
شارك مسلم عمه أمير المؤمنين في حربه صفين في صفوف القادة الأمراء الهاشميين كما ذكر ابن شهرآشوب في صفة جيش صفين فقال ما نصه: (ثم عبر عسكره (ع) فجعل على ميمنته الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر ومسلم بن عقيل وعلى ميسرته محمد بن الحنفية ....) (6) ولم يكن تنصيبه هذا محاباة له بل كان على استحقاق وجدارة فحاشا الإمام أن يجعل شخصاً في محل لا يستحقه, لقد كان مسلم في الذروة من الشجاعة والبطولة والإقدام.
يقول يوسف بن محمد البياسي: (كان مسلم بن عقيل مثل الأسد وقد كان من قوته أنه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت) (7)
ويقول البلاذري: (وكان مسلم بن عقيل من أرجل ولد عقيل وأشجعهم) (8)
ويقول ابن قتيبة الدينوري: (وكان من أشجع الناس) (9)
وقال الزركلي: (كان من ذوي الرأي والعلم والشجاعة) (10)
وهنا أقوال أخرى كثيرة في مبلغ شجاعة مسلم تركناها لاتفاقها, وليس أدل على شجاعته من قول رسول (ص): (رحم الله عمي أبا طالب فلو أولد الناس كلهم لولدوا شجعانا) ومسلم من ذروة آل أبي طالب.
أخوته وأخواته وأولاده وزوجته
تزوج مسلم من ابنة عمه رقية بنت أمير المؤمنين وقد ولدت له ثلاثة أولاد وبنت واحدة, أما الأولاد فهم عبد الله وهو أكبر أولاده, وقد استشهد مع الإمام الحسين (ع) في كربلاء, وكان لعبد الله من العمر سبعة عشر سنة, وأحمد, وإبراهيم, وهما الطفلان اللذان ذبحا على شاطئ الفرات بعد معركة الطف, أما البنت فهي حميدة الطفلة التي مسح الإمام الحسين على رأسها حين جاءه خبر مقتل أبيها وقد قدّر عمرها الشيخ عبد الواحد المظفر في ذلك الوقت بأربع سنين.
وقد انقرض نسل مسلم فقد قتل أولاده كلهم أما حميدة فقد تزوجت من ابن عمها عبد الله بن محمد بن عقيل فولدت له محمداً (11) ولمسلم ولد آخر استشهد مع الإمام الحسين (ع) من غير رقية وهو محمد بن مسلم بن عقيل وقد استشهد أيضاً مع أخيه عبد الله في كربلاء.
أما أخوة مسلم فقد ذكر الشيخ المظفر ستة عشر أخاً له وهم: علي الأكبر, وعبد الرحمن الأكبر, وجعفر الأكبر, وأبو سعيد بن عقيل, وعبد الله الأكبر, ومحمد, وعون, وهؤلاء استشهدوا مع الإمام الحسين (ع) وهو كما جاء في قول الشاعر
يا عينُ جودي بعبرةٍ وعويلِ *** واندبي إن ندبتِ آلَ الرسولِ
تسعةٌ كلـــــــهم لصلبِ عليٍّ *** قد أصيبـــــــوا وسبعة لعقيلِ
أما الآخرون فهم: علي الأصغر, وعيسى, وعثمان, وعبد الرحمن الأصغر, وجعفر الأصغر, وسعيد, وموسى, ويزيد وبه كان يكنى عقيل, وحمزة
أما أخواته فهن زينب ورملة وفاطمة وأسماء التي رثت الحسين (ع) وندبته مع الشهداء في المدينة بأبياتها المشهورة:
ماذا تقولـــــونَ إن قالَ الـنبيُّ لكم *** ماذا فعلـــــــــــــتم وأنتمْ آخرُ الأممِ
بعترتي وبأهلي بعـــــــــد مفتقدي *** منهم أســــارى ومـنهم ضُرِّجوا بدمِ
ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكم *** أن تخلفوني بسـوءٍ في ذوي رحمي
ضيَّـــــــــــــعتمُ حقّنا والله أو جبه *** وقد رعى الفيـلُ حقَّ البيتِ والحرمِ
إني لأخشى عليــــكمْ أن يحلَّ بكمْ *** مثلُ العــذابِ الذي يأتي على الأممِ
رسائل الوفاء, ورسائل والغدر
بعد أن ذاق الكوفيون الأهوال والويلات لأكثر من عشرين سنة في حكم معاوية وعاشوا أياماً عصيبة تحت سياسة التسلط الأموي وبطش ولاة السوء من بطانة الأمويين كزياد بن أبيه والمغيرة بن شعبة تنفسوا الصعداء بموت معاوية..
لكنهم ما كادوا أن يستيقنون هذا الخبر حتى فوجئوا بفرض يزيد خليفة على المسلمين من قبل أبيه فرفض الحسين (ع) بيعة هذا الفاسق ووردت أخبار هذا الرفض إلى الشيعة في الكوفة فاجتمع الصفوة منهم في دار سليمان بن صرد الخزاعي وهو من كبار الشيعة ووجوههم وتمخض هذا الاجتماع الذي كان بداية الانطلاقة الأولى للتحرك المسلح عن إعلان الثورة ودعوة الإمام الحسين (ع) وقد حسم الأمر سليمان بقوله: (إن معاوية قد هلك وإن حسينا قد تقبّض ــ أي امتنع ــ على القوم ببيعته, وقد خرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه ونقتل أنفسنا دونه فاكتبوا إليه وأعلموه وإن خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل في نفسه فقالوا: لا بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه. قال: فاكتبوا إليه) (12)
لقد اطلع سليمان الشيعة على الأمر الواقع وأشار إلى الصواب وطلب منهم رأيهم فاتفق زعماء الشيعة على إرسال كتاب إلى الإمام الحسين (ع) يدعونه فيه إلى القدوم فجاء فيه ما نصه:
(بسم الله الرحيم للحسين بن علي (ع) من سليمان بن صرد والمسيب بن نجية ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة سلام عليك فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو
أما بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوك وعدو أبيك من قَبل, الجبار العنيد الغشوم الظلوم الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيأها وتآمر عليها بغير رضا منها ثم قتل خيارها واستبقى شرارها وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها فبعدا له كما بعدت ثمود. إنه ليس علينا إمام فاقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد ولو قد بلغنا إنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته يا ابن رسول الله وعلى أبيك من قبلك...) (13)
كانت هذه الرسالة الأولى من الشيعة المخلصين وقد أرسلوها بيد عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن وائل, ثم عزز قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي وعمارة بن عبد الله السلولي هذا الموقف برسالة ثانية مشابهة لها ومعها أكثر من مائة وخمسين صحيفة من الرجل والأثنين والثلاثة والأربعة ثم جاءت رسالة ثالثة من هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي مفادها: (إن الناس ينتظرونك ولا رأي لهم في غيرك فالعجل العجل والسلام عليك) (14)
وجاء في رسالة أخرى: (إنا قد حبسنا أنفسنا عليك ولسنا نحضر الصلاة مع الولاة فاقدم علينا فنحن في مائة ألف فقد فشا فينا الجور وعُمل فينا بغير كتاب الله وسنة نبيه ونرجو أن يجمعنا الله بك على الحق وينفي عنا بك الظلم فأنت أحق بهذا الأمر من يزيد وأبيه الذي غصب الأمة وشرب الخمر ولعب بالقرود والطنابير وتلاعب بالدين) (15)
كانت هذه الرسائل قد كتبت بمداد العقيدة والولاء الخالص الذي لا تشوبه شائبة وكان لها تفاعل كبير من قبل الناس حتى أصبحت مسألة التغيير حقيقة مستقبلية فتستّر وراء هذه الغاية النفعيون والوصوليون والمنافقون أمثال شبث بن ربعي اليربوعي وحجار بن أبجر العجلي ويزيد بن الحارث وعزرة بن قيس وغيرهم من الذين جبلوا على التزلف والتملق وكانوا يطمحون الاستفادة من أي تغيير قادم فكتبوا إلى الإمام الحسين: (أما بعد فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار وطمت الآجام ــ أي الآبار ــ فإذا شئت فاقدم على جند لك مجندة ..) (16)
وبلغ من سفالة وانحطاط هؤلاء وأمثالهم أنهم لم يتنصلوا عما وعدوا به من نصرة الحسين (ع) فقط بل أنهم كانوا في الصف الأول لمعسكر أعدائه فأضمروا كلمة (عليك) بدلاً من (لك), وأمثال هؤلاء المنافقين لا تخلو الأمة منهم في كل مراحلها وهم أشد عليها وأخطر من عدوها الخارجي لأنهم هم من يصنع الطغاة ولولاهم لما كان ليزيد ولا لغيره التحكم والاستبداد في مصير الأمة يقول العقاد في كتاب أبو الشهداء وهو يصف يزيد ومن بايعه وناصره من أمثال هؤلاء الحثالة:
(لا يرجى له صلاح ولا يرجى منه إصلاح وكان اختياره لولاية العهد مساومة مكشوفة قبض كل مساهم فيها ثمن رضاه ومعونته جهرة وعلانية من المال أو الولاية أو المصانعة ولو قبضوا مثل هذا الثمن ليبايعوا وليا شرا من يزيد لما همهم وإن تعطلت حدود الدين وتقوضت معالم الأخلاق) (17)
وتوالت الرسائل إليه (ع) والتي يحثه أصحابها على القدوم إلى الكوفة وبلغت هذه الموجة ذروتها حتى وصل إليه في يوم واحد ستمائة رسالة (18) واختلطت في هذه الرسائل النيات والميول والمضامير واشترك فيها المؤمنون والمنافقون حتى وصل الأمر أن وصلت إليه رسالة تقول: إن لم تصل إلينا فأنت آثم ! (19)
وكانت آخر رسالة هي : عجل القدوم يا ابن رسول الله فإن لك في الكوفة مائة ألف سيف فلا تتأخر (20)
موقف الإمام
كان الإمام (ع) أعلم الناس بالواقع الذي وصلت إليه الأمة وقد صرّح بما هي مقبلة عليه من الانهيار إذا بقي يزيد في الحكم ما لم تكن هناك وقفة ورفض ومجابهة وهو الذي قال للوليد بن عتبة والي المدينة من قبل يزيد لما طلب منه مبايعة يزيد:
إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا يختم ويزيد شارب الخمور وقاتل النفس المحرمة معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله ..
وهو الذي كتب إلى معاوية يصف له يزيد فقال: تريد أن توهم الناس في يزيد كأنك تصف محجوباً أو تنعت غائباً أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ..
كان (ع) أعلم الناس بهذا الواقع المزري الذي ترزح تحته الأمة من التسلط والقهر والظلم الأموي فكان ينظر بعين البصير الأمين إلى إنقاذ شريعة جده وإنقاذ الأمة مما ابتليت به فكان يتلقى الرسائل وهو يتأمّل ملياً فيها .. وهو مع ذلك (يتأبى ولا يجيبهم) (21) و(يتأنى ولا يجيبهم) (22) فرأى (ع) اتخاذ خطوة تمهيدية حكيمة بإرسال مبعوث عنه إلى الكوفة.
مسلم بن عقيل
اختاره الإمام الحسين (ع) مبعوثه وكان مؤهلاً تماماً لمثل هذه المهمة فقد توفّرت فيه القيادة الحكيمة والشجاعة النادرة وهو خير من يمثله (ع) فأرسله مع كتاب منه (ع) إلى أهل الكوفة جاء فيه: (أني بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم فإن كتب إلي أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت علي به رسلكم وقرأت في كتبكم أقدم وشيكا إن شاء الله)
ولا يخفى ما لهذه الكلمات من معنى كبير وهي تفصح عن المزايا العظيمة التي امتاز بها مسلم, وقد أوصاه (ع) بقوله: (إني موجّهك إلى أهل الكوفة وسيقضي الله من أمرك ما يحب ويرضى وأرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء فامض ببركة الله وعونه فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها).
ولا يخفى المعنى العميق في قوله (ع) (وأرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء) وهو يدل على أنه (ع) كان ينظر إلى الواقع نظرة المتفحص الدقيق.
إلى الكوفة
خرج مسلم مع ثلاثة من وجوه الشيعة وأبطالهم إلى الكوفة وهم: قيس بن مسهر الصيداوي, وعمارة بن عبد الله السلولي, وعبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي, وكانوا قد جاءوا بالرسائل إلى الإمام الحسين فعادوا مع مسلم ولما وصل مسلم إلى الكوفة نزل في دار البطل المختار بن أبي عبيد الثقفي حسب وصية الإمام حيث كان من كبار الشيعة ومن أوثق الشخصيات في الكوفة فتوافد عليه الناس فقرأ عليهم كتاب الإمام الحسين فكان أول المبايعين هو البطل المجاهد عابس بن شبيب الشاكري الذي تقدم الناس ووقف بين يدي مسلم وقال:
(إني لا أخبرك عن الناس ولا أعلم ما في نفوسهم وما أغرك منهم ووالله إني أحدثك عما أنا موطن نفسي عليه والله لأجيبنكم إذا دعوتم ولأقاتلن معكم عدوكم ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله لا أريد بذلك إلا ما عند الله)
كان عابس من رجال الشيعة الكبار وقد اجتمعت فيه خصال نادرة وصفات عظيمة قلما تجتمع عند رجل. كان رئيساً شجاعاً ناسكاً متهجداً وكان من رجال البيعة للإمام الحسين ومن رجال ثورته العظيمة وكانت فراسته ووعيه ينبئانه بتلك النفوس الخائنة التي انقلبت على مسلم بن عقيل بمجرد دخول ابن زياد واستعماله معها أساليب الترهيب والترغيب فقال لمسلم هذا القول معرباً عن نيته وولائه الخالص لأهل البيت (عليهم السلام) ولمّح بهذا القول الموجز عن نوايا القوم الدنيئة بالغدر، كما فسّر موقفه الصريح من نصرته للحسين.
وكان عابس موضع ثقة مسلم فبعثه برسالة إلى الإمام الحسين يخبره فيها عن أحوال الكوفة فبقي عابس مع الحسين حتى خرج معه واستشهد.
وقد عزز البطل حبيب بن مظاهر من موقف عابس بقوله وكان المبايع الثاني: وأنا والله على مثل ما هو عليه. وجاءت المبايعة الثالثة من البطل سعيد بن عبد الله الحنفي الذي أيد موقف صاحبيه البطلين فكان هؤلاء الثلاثة مصداقاً لقوله تعالى: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه..
وتوافد الناس للبيعة (المؤمنون والمنافقون) وبلغ عدد المبايعين خلال شهر إلى أكثر من ثمانية عشر ألفا (23)
موقف السلطة
كان النعمان بن بشير والياً على الكوفة وقد ولّاه معاوية عليها في أواخر أيامه وكان من مجرمي الغارات على المدن الآمنة الذين يرسلهم معاوية, أما تفسير موقفه وسلوكه المتجاهل تجاه حركة مسلم بن عقيل فهو يحتاج إلى موضوع مفصّل.
وقد كتب جواسيس الأمويين ليزيد بموقفه هذا ومنهم عمر بن سعد مما حدى به إلى عزله وتولية عبيد الله بن زياد الذي شدد من قبضته على الكوفة أول دخوله لها فاضطر مسلم لمغادرة دار المختار واللجوء إلى دار هانئ بن عروة المذحجي صاحب أمير المؤمنين كإجراء احترازي فقد كثف ابن زياد من جواسيسه لاقتفاء أثر مسلم ومعرفة مكانه حتى دله أحد الجواسيس على مكانه.
المؤمن لا يغدر
كان في بيت هانئ أحد زعماء الشيعة وهو شريك بن الحارث, وكان مريضاً فأراد ابن زياد زيارته لأنه يعلم مدى ما يتمتع به هذا الرجل من شعبية وتأثير في الكوفة فأراد أن يتفقد أحواله ومعرفة ما إذا كان على علاقة بمسلم بن عقيل أو معرفة مكانه كما أنه في دار هانئ الذي لا يقل عن شخصية شريك تأثيراً وهو زعيم مذحج وبطلها ومن أشراف الكوفة وشجعانها ومن وجوه الشيعة وكبارها.
وكان هانئ قد أوى مسلماً في داره فلما أرسل ابن زياد رسولاً إلى شريك يخبره بأنه قادم لزيارته في المساء اقترح شريك على مسلم قتل ابن زياد عند جلوسه لكن مسلماً لم يجبه ولما جاء ابن زياد وجلس كان شريك يرمز في قوله إلى خروج مسلم وقال في ذلك شعراً لكن مسلم لم يخرج ولما خرج ابن زياد عاتب شريك مسلماً على عدم خروجه وقتل ابن زياد فروى له مسلم حديث رسول الله (ص): الإيمان قيد الفتك ولا يفتك مؤمن
هانئ بن عروة
لما علم ابن زياد بمكان مسلم أرسل ثلاثة أشخاص لاستدعائه بحجة استبطائه عنه وأن الجفاء لا يحتمله ابن زياد خاصة وأن هانئاً من زعماء الكوفة وهؤلاء الأشخاص هم: حسان بن أسماء بن خارجة, ومحمد بن الأشعث, وصهر هانئ عمرو بن الحجاج الزبيدي, فلمّا ألحّوا على هانئ بالحضور جاء معهم فكشف ابن زياد عن أمر الجاسوس وعرض على هانئ تسليم مسلم لكن البطل المذحجي قال له: والله لو لم أكن وحدي ليس لي ناصر لما سلمته إليه أبدا حتى أموت دونه.
فغضب ابن زياد من هذا القول فأمر جلاوزته بتكتيفه و(استعرض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وسيل الدماء على ثيابه ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتى كسر القضيب) (24) ثم زجه في السجن
لم يتوقع هانئ أن يجرؤ ابن زياد على هذه الفعلة وهو زعيم أكبر قبيلة في الكوفة فكان يتوقع أن يهجم قومه على القصر ويستنقذوه من ابن زياد لكن ابن زياد كان قد أحكم خيوط مؤامرة دنيئة مع عمرو بن الحجاج الزبيدي.
المؤامرة الدنيئة
كان هانئ متزوجاً من أخت عمرو بن الحجاج وقد أرسل ابن زياد عمرو لاستدعاء هانئ ليضمن قدومه أولا وليقوم بمهمة أخرى, وهي أنه لما دخل هانئ على ابن زياد خرج عمرو ليكمل الجزء الثاني من مؤامرته حيث جمع قبيلة مذحج ووقف أمام القصر متظاهرا بأنه يريد تخليص هانئ من عبيد الله بن زياد فوقف وقال: أنا عمرو بن الحجاج وهذه فرسان مذحج وقد بلغهم أن صاحبهم قُتل فأعظموا ذلك !
يا لخسة هذا الوغد لقد تزعم هذه القبيلة مستغلاً غياب قائدها وقرابته منه فتحدّث باسمها فخان صهره وخانها.
وهنا يأتي دور الرجل الثالث في المؤامرة بعد ابن زياد وعمرو وهو شريح القاضي الذي أوعز إليه ابن زياد قائلاً:
(أدخل على صاحبهم فانظر إليه ثم اخرج فاعلمهم أنه حي لم يقتل وأنك قد رأيته)
فلما دخل شريح على هانئ وهو بتلك الحالة قال له هانئ:
(يا شريح إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين, إن دخل علي عشرة نفر أنقذوني, يا شريح إتق الله إنهم قاتلي).
لكن شريحاً تجاهل قول هانئ وقال له بعدم اكتراث: أراك حيّاً !
فحمّله هانئ أمانة وهي قوله: أخبر قومي إن انصرفوا قتلني .. ولكن أنى لمن باع دينه وضميره لبني أمية من إداء الأمانة فلما خرج شريح قال لابن زياد: قد رأيته حياً ورأيت أثراً سيئاً. فأسكته ابن زياد بقوله: وتنكر أن يعاقب الوالي رعيته أخرج إلى هؤلاء وأخبرهم كما أمرتك !
قام هذا القاضي الضال المضل بدوره وأطل من على القصر مخاطباً أكبر قبيلة في الكوفة: ما هذه الرعة السيئة .. الرجل حي وهكذا بكل بساطة سكتت هذه (الرعة) وعجّل الزبيدي بأمر انسحابها قائلا أما إذا لم يقتل فالحمد لله. لكي لا يبادر أحد بني مذحج بطلب الهجوم على القصر.
تحرك مسلم
بعد الانسحاب المخزي لمذحج وصلت أخبار هانئ إلى مسلم فأمر مناديه برفع شعار الثورة ووزع الألوية على أصحابه وتوجه نحو القصر فدخل ابن زياد القصر وأغلق أبوابه, وقد أشار عليه أحد أصحابه وهو كثير بن شهاب بقتال مسلم لكنه رفض جبناً وخوفاً من مواجهة مسلم ولجأ إلى حرب الإشاعات الجبانة بأن جيش الشام قادم !
وكلمة (جيش الشام) لها مدلول في أذهان أهل الكوفة فهي لا تعني القتل فحسب بل هتك الحرمات وقتل الأطفال كما أمر ابن زياد برفع راية أمان لكل من يترك مسلماً وينضم إليها فقال لهم: أشرفوا على الناس فمنوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة وخوفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة وأعلموهم وصول جند الشام إليهم
فكان منادي ابن زياد ينادي من على القصر:
أيها الناس إلحقوا بأهليكم ولا تعجلوا الشر ولا تعرضوا أنفسكم للقتل فإن هذه جنود يزيد قد أقبلت وقد أعطى الله الأمير عهداً لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء ويفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع وأن يأخذ البريء بالسقيم والشاهد بالغائب حتى لا يبقى له فيكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جرت أيديها.
وقد كان لهذه التهديدات أثرها في النفوس ووجدت صدىً وتجاوباً من قبل النفوس الخانعة والمريضة, وكان للمرأة دور في هذا التقاعس والتخاذل فكانت تتعلق بثياب زوجها أو أخيها أو ابنها فلا تتركه حتى يرجع إلى بيته ! وقد خدمت هذه الوسائل ابن زياد فكانت كل امرأة تقول لمن يخصها: (الناس يكفونك) وهكذا تفرّق الناس عن مسلم حتى صلى المغرب من ذلك اليوم وليس معه إلا ثلاثون رجلاً
وهذا العدد كان هو صفوة أهل الكوفة من الشيعة المخلصين المؤمنين, يقول الشيخ محمد علي عابدين: (نحن نعتقد أن في هذا العدد صفوة مؤمني الكوفة ونخبة رجال الحركة لتعذر تأخر غيرهم إلى هذا الوقت) (25)
ويقول عبد الواحد المظفر: هل أسلمه الخاصة وأهل الإخلاص عمداً وخذلاناً كابن عوسجة وابن مظاهر والشاكري والصائدي وأمثالهم ؟ هذا قدح فيهم ولا يجوز أن يتفوّه به مُتفوّه, فما السرّ في تركهم له ومفارقتهم إياه حتى أنه لم يصحبه أحد ليدله على الطريق أو يأويه في منزله ؟
ويجيب المظفر عن هذه الأسئلة بالقول: إن ثقاته المشار إليهم كانوا معه وغير مفارقين له ولا منصرفين عنه مع من انصرف من أهل الوهن وضعفاء اليقين ولكنه سلام الله عليه صرفهم عنه لأمرين.. ويتوسع المظفر في الحديث عن هذين الأمرين الذين مفادهما أنه خاف عليهم مصيراً مثل مصير هانئ بن عروة وهذا من شيمة العظماء وأخلاقهم العظيمة (26)
دار طوعة
بعد أن تأكد ابن زياد من انسحاب الناس إلى بيوتهم أمر بشن حملة للقبض على مسلم وشدد على ذلك وعرض جائزة مغرية لمن يلقي القبض عليه أو يدل على مكانه في الوقت الذي كان مسلم يسير في أزقة الكوفة, فتوقف عند دار وقفت ببابها امرأة تدعى طوعة فطلب منها ماء ثم أخبرها بمن يكون فآوته, لكن ابنها الشرير كان شرطياً عند ابن زياد وعند عودته في المساء عرف بأمر مسلم فأخبر ابن زياد الذي وجه قوة عسكرية إلى دار طوعة للقبض على مسلم.
جيش في فرد ...
هكذا كان مسلم عندما رأى الرجال يقتحمون الدار فقد جاءوا إلى الموت بأرجلهم فما إن اقتحموا الدار حتى شعروا كأن صاعقة نزلت على رؤوسهم من السماء أما المرأة فقد وقفت وهي مذهولة تنظر إلى هذا الإنسان الذي يواجه هذه الجماعات من الرجال بهذه البطولة والشجاعة المتفردة ولنترك للتاريخ أن يصور لنا تلك البسالة التي أذهلت التاريخ نفسه.
يقول الطبري: (واقتحموا عليه الدار فشد عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشد عليهم كذلك). (27)
ويقول المسعودي: (فاقتحموا على مسلم الدار فثار عليهم بسيفه، وشد عليهم فأخرجهم من الدار، ثم حملوا عليه ثانية، فشد عليهم وأخرجهم أيضاً، فلما رأوا ذلك منه ــ أي عجزهم عن الوقوف أمامه ــ علوا ظهور البيوت فرموه بالحجارة وجعلوا يلهبون النار بأطراف القصب ثم يلقونها عليه من فوق البيوت فلما رأى ذلك، قال: أكل ما أرى من الأجلاب لقتل مسلم بن عقيل ؟ يا نفس اخرجي إلى الموت الذي ليس له محيص فخرج إليهم مصلتاً سيفه في السكة فقاتلهم). (28)
ويقول ابن أعثم الكوفي: (وخرج مسلم في وجوه القوم كأنه أسد مغضب فجعل يضاربهم بسيفه حتى قتل منهم جماعة).(29)
كان يهجم عليهم وهو يقول:
هو الموتُ فاصنعْ ويكَ ما أنتَ صانعُ *** فأنتَ لكأسِ الموتِ لا شكَّ جارعُ
فصبراً لأمـــــــــــــــرِ اللهِ جلَّ جلاله *** فحــــكمُ قضاءِ اللهِ في الخلقِ ذائعُ
لم يخطر في بال ابن الأشعث أن الرجال السبعين الأشداء الذين اختارهم لهذه المهمة سيفشلون وسينتهي أمرهم إلى موت بعضهم وفرار البعض أمام رجل واحد !!
رجل واحد حمل صفات الرجل الكامل من شجاعة وبأس ونجدة ومروءة ويقين.. رجل أعاد في أذهان أهل الكوفة شجاعة علي.
رأى ابن الأشعث أصحابه وهم ما بين قتيل وجريح ومهزوم فترك رجاله وذهب إلى القصر يطلب الامدادات وما إن وصل خبر الإمدادات إلى أسماع ابن زياد حتى اضطرب وفزع وشعر بنزوله عليه كأن القصر قد هوى على رأسه فنهض واقفاً وهو يرتعد غضباً وخوفاً وصاح في وجه ابن الأشعث:
ــ بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة ؟ (30)
ولكن ابن الأشعث لم يترك استهانة ابن زياد بقوله (رجل واحد) دون رد ليذكره بأنه لم يرسله إلى رجل عادي من الناس الأبرياء الذين يقبض عليهم ابن الأشعث على التهمة والظنة ويودعهم غياهب السجن فبين له من هو هذا الرجل الواحد فقال له:
ــ أتظن أنك بعثتني إلى بقال من بقالي الكوفة أو جرمقاني من جرامقة الحيرة ؟ أما تعلم أنك بعثتني إلى أسد ضرغام وسيف حسام في كف بطل همام !!
زاد رد ابن الأشعث من خوف ابن زياد وأدرك صعوبة المهمة أمام هذا البطل الطالبي فأرسل بالإمدادات على وجه السرعة وهو يزبد ويرعد لكنه لم ينس ما جبل عليه من الغدر فاقترح على ابن الأشعث قائلا:
ــ أعطه الأمان فإنك لن تقدر عليه إلا بالأمان ..
كان ابن الأشعث يعرف ما هو معنى الأمان عند ابن زياد إنه يعني الغدر فنظر إلى ابن زياد نظرة شيطانية وخرج مسرعاً مع عدة من الرجال..
رجع ابن الأشعث إلى حيث مسلم بن عقيل فرأى ذلك البطل وهو يجهز على كل من يتصدى له فخاف أن يكون مصير هؤلاء الرجال كسابقيهم ما دام هذا الرجل حاملاً سيفه وهو ينقض على من يواجهه كالأسد عندما ينقض على فريسته فلجأ إلى مكيدة شيطانه ابن زياد فعرض على مسلم الأمان فرد ابن عقيل على طلب الأمان بقوله:
أقســــــــمتُ لا أُقتل إلا حُرَّا *** وإن رأيتُ الموتَ شيئاً نكرا
كل امرئٍ يـــوماً ملاقٍ شرَّا *** ويخـــــــلطُ الباردَ سحناً مرَّا
رُدَّ شعـــاعُ الشمسِ فاستقرَّا *** أخافُ أن أخــــــدعَ أو أغَرَّا
وهجم عليهم فبدد شملهم وأوقع منهم قتلى.. كان يعرف أن هؤلاء ليس لديهم أي قيم إنسانية.. وكان يعرف معنى الأمان عندهم وازداد خوف ابن الأشعث وهو يسمع هذه الأبيات التي استمات صاحبها وهو مصمم على القتال حتى آخر رمق ولكن لا أحد يستطيع الوقوف بوجهه فقال ابن الأشعث:
ـــ إنك لا تُكذب ولا تُخدع ولا تُغر، إن القوم بنو عمك وليسوا بقاتليك ولا ضاريك
ولكن لم يكن مسلم لتنطلي عليه هذه الخديعة فقال له:
ـــ لا حاجة لي إلى أمان الغدرة
وبقي يقاتل بتلك البسالة رغم كثرة الجراح والحروق التي أصيب بها جسده وهال ابن الأشعث هذا البطل الذي لم ير مثله في حياته .. أنه لا يتأثر بالجراح التي تصيبه وكأنها تعطيه دافعاً وحافزاً لمواصلة القتال ورغم كل الجراح فهو يدمي وجه كل من يبارزه ويسقطه قتيلاً أو جريحاً !
وخاف أبن الأشعث أن يستنفد الرجال فدنا من مسلم قليلاً وجعل بينهما مسافة كافية للهرب إذا هجم عليه مسلم وقال:
ــ يا ابن عقيل لا تقتل نفسك، أنت آمن ودمك في عنقي !!
ما أقبح هؤلاء الذين يحاولون أن يصلوا إلى أهدافهم الدنيئة بالكذب والخداع، إن سياسة معاوية القذرة قد تفشّت في المجتمع والناس على دين ملوكهم.. أجابه مسلم وهو ينزف دماً وقد أعيته الجراح مؤثراً الموت على الركون إلى هؤلاء الغدرة:
ــ أتظن يا ابن الأشعث أني أعطي بيدي الأمان وأنا أقدر على القتال ؟ لا والله لا كان ذلك أبدا.. وهجم مسلم على ابن الأشعث لكن المسافة التي لم يجرؤ ابن الأشعث على أن يتجاوزها خوفاً قد مكنته من الهروب والنجاة فلم يجد مسلم من يواجهه وجهاً لوجه.. رجلاً لرجل خوفاً منه فقد صعد أغلبهم إلى السطوح وقاموا برمي الحجارة عليه وهو يزأر فيهم كالأسد:
ـــ ويلكم! ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى الكفار ؟! وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار ! ويلكم أما ترعون حق رسول الله صلى الله عليه وآله في ذريته ؟
وبقي يلاحق فلولهم في الأزقة فصاح ابن الأشعث فيهم وكأنه لم يلحقه عار الهزيمة:
ـــ ويلكم إن هذا هو العار والفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع .. احملوا عليه حملة واحدة.. ولكن مسلم تصدى لهذه الحملة الواحدة وازدادت جراحه وكثر نزيفه وطعن من الخلف طعنة غادرة اخترقت ظهره وضرب على شفتيه بالسيف فضرب صاحبها فقتله واجتمعوا عليه يضربونه بالسيف حتى سقط من كثرة النزف وأخذوه أسيراً
ولا ينتهي الأمر بمسلم إلى قتله وقطع رأسه ورمي جثته من على سطح قصر الإمارة مع مناصره هانئ بن عروة, بل وتسحب جثتيهما بالحبال في شوارع الكوفة !🍂✍
تعليق