نجد أن ما هو مشترك بين التصورات الاستراتيجية المعاصرة والرؤية المهدوية للمستقبل أن لكل منهما بُعداً فكرياً أيديولوجياً أو عقائدياً، فالفكر الاستراتيجي الغربي كما مرّ بنا هو مصطلح (أي الاستراتيجية) يُعنى بالأساس بوضع الخطط المستقبلية سواء كانت تلك الخطط عسكرية تعني الخطّة الحربية، أو هي خطّة أو رؤية لبناء فكر أو دولة أو سياسة ترسم أبعاداً مستقبلية. على مستوى الأهداف والغايات سواء كانت سياسية أم عقائدية أو اقتصادية وهي رؤية للمستقبل يتم وضعها انطلاقاً من ممكنات الحاضر؛ لكنّها تأخذ بنظر الاعتبار أيضاً ممكنات المستقبل.
وهذا الأمر أيضاً متضمن في الرؤية العقائدية المهدوية؛ فهي رؤية عقائدية واقعية تراعي ممكنات الواقع كما وجدناها في جانبها الفلسفي؛ كونها شمولية وواقعية أي تراعي الواقع وممكناته وهي مستقبلية عسكرية وسياسية.
ومثلما مرّ بنا أن الاستراتيجية تكون جزءاً من الماضي تأخذه بالحسبان على مستوى التأصيل والمرجعية إلّا أنَّها تنطلق من رسم رؤية شاملة وجدناها في فلسفة التاريخ من الطرق، والأساليب والمناهج المنظّمة التي يتم السير على وفقها، وفي ضوء الإمكانيات والجهود المالية والمادية المتوفرة.
وسوف نجد هذا الأمر يشار إليه كون الفكرة المهدوية وإن كانت ترتفع على الخطاب المادي وتعتمد على خطاب متعالي سماوي؛ إلّا أنَّها تأخذ بالإعداد خلال مرحلة الانتظار مثلما هي رؤية تهدف إلى إحداث تحولٍ شاملٍ مستقبلي كما ترسمه العديد من النصوص والروايات والتفسيرات والدراسات الإسلامية؛ فهي بالنتيجة رؤية عقائدية تقوم على أسس وترسم استراتيجيات التحول في المستقبل؛ كونه سقفاً لأهدافها الموضوعة على مقدّمات شرعية. تجاوز الجمود والتصلب في الفكر الأيديولوجي عند الحركات السياسية والمعتمدة على رؤية مادية.
وبالآتي تنشد البشرية تحقيق تحولات تعيدها إلى حالة من العدالة والإنصاف وتتجاوز ملامح الجاهلية التي ترافق هيمنة التقنية. لكن يبقى هناك حاجة إلى فكر يستجيب إلى الحاجات المادية والروحية، وهذا يتطلب فكراً مجتهداً منفتحاً على الرهانات التي يعيشها الإنسان المعاصر وما يعانيه من مشاكل سياسية وروحية تتطلب فكراً أكثر قدرة على التجديد.
فكثير من الدراسات الإسلامية أكدت على ضرورة وجود مقاربة استراتيجية قائمة على تفهم الواقع المعاش والتحولات العلمية وأثرها في المجتمع والسياسة. وإنّ الفكر الاستراتيجي المهم به أنّه يقارب مفهوماً مركزياً هو البعد الاستراتيجي الذي تعدُ فيه الهوية الحضارية رأسمالاً رمزياً مؤثراً في رسم التحول والتحريض عليه. وقد جاءت الرؤية المهدوية منفتحة على المستقبل وتشكل مراحل المجتمع العالمي العادل، كما تظهر في بعض الدراسات الإسلامية المعاصرة التي ترى: (أن الفكرة المهدوية عند كل قائل بها ومؤمن بصدقها، تقوم على أساس كون المهدي هو مصلحة العالم في المستقبل، وهو الذي يقلب الظلم إلى العدل، ويحوِّل الظلام إلى نور ويحقق الرفاه والسعادة لكل فرد على وجه الأرض، فمن الحق أن يطمع الفرد إلى التعرف على تصرفات هذا المصلح العظيم في يومه الموعود، وعلى أسلوبه وسياسته وطريقته في التدبير والقيادة)
ونجد أن توصيف هذا الأمر من الضرورة بمكان كونه يشكِّل متناً عقائدياً مشتركاً بين عموم المسلمين الذين يمتلكون تراثاً مهدوياً مشتركاً على الرغم من الاختلافات؛ إلّا أنّ الفكرة موجودةٌ في العمق وتمتلك مصداقية عند الطرفين فالمرويات متواترة عند الطرفين.
فقد جاءت عند الطرف السني، إذ قال العلامة أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي: (اعلم أنّ المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على مر الأعصار أنَّه لابدّ في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى (عليه السلام) ينزل من بعده فيقتل الدجال، أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتم بالمهدي في صلاته. وأيضاً هناك تكرار لهذا التوصيف للأحداث المستقبلية لدى القاضي الشوكاني في (فتح الرباني)، إذ قال: (الذي أمكن الوقوف عليه من الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر خمسون حديثاً وثمانية وعشرون أثراً)، ثم قال: (وجميع ما سقناه بالغ حد التواتر كما لا يخفى من له فضل اطِّلاع).
وقال الإمام أبو الحسن محمد بن الحسين الآبري في كتاب (مناقب الشافعي): (وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذكر المهدي وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلاً، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأُمّة ويصلي عيسى خلفه)
إلى جانب الروايات الشيعية التي تتحدث عن العصور فإنّها ترسم رؤية استراتيجية في تحديد النظام السياسي والاقتصادي والثقافي، في ظل هذه الصورة ذات الطابع العالمي كما جاء بتلك الدراسة (تاريخ الظهور)، فيها ثلاث عصور: (عصر الظهور، وعصر الأولياء الصالحين، وعصر المجتمع المعصوم).وهذه المراحل من توصيف هذا المجتمع تقوم على التأمل في المرويات التي تشكل سردية عقائدية ترسم رؤية عقائدية لما سوف يحدث بتوجيه متعالي سماوي تؤكد على تلك السِمات التي يتَّسم بها عصر الظهور.
فهذه الرؤية تقدم توصيفاً سردياً لما سوف يحدث في المستقبل من متن عقائدي كبير يحاول أن يرسم صورته النهائية في هذه الملامح التي يتحقق بها اليوم الموعود في الدنيا، وهو أيضاً ما هو حاضر في قلوب المؤمنين.
هنا نلمس أنّ هناك مشروعاً عقائدياً يقدم رؤية مستقبلية تستهدف إحداث تغيير على صعيد الفكر كونه مشروعاً حضارياً في مجتمع إيماني عالمي، يهدف إلى تحقيق فكرة التغيير وهي فكرة محركة للتاريخ وليست طموحات بحتة، فالتغيير كطموح من البديهيات الإنسانية وبخاصة في الرؤية المهدوية التي تقوم سرديتها في التراث الإسلامي على إحداث مغايرة جذرية في المجتمع والعقيدة بتوجيه غيبي ومشروعه بناء أُمَّة صالحة، فالتغيير كسبيل إلى النجاة من الانحراف والظلم والتحرر منه صوب العدالة والمساواة، يقوم بهذا الفعل الإمام والأُمَّة الصالحة التي تؤازر الإمام.
إذ لا يمكن لأي مشروع سياسي أو ثقافي الاستغناء عن الفكر العقائدي ذي طابع مهدوي. فكل تحول جدي ينبع من فكرة عقائدية مهدوية ورؤية مستقبلية، وهذا ما تدعمه الروايات:
«إنَّ أهل الحق لم يزالوا منذ كانوا في شدَّة، أما إنَّ ذلك إلى مدَّة قليلة وعافية طويلة»
وفي الحديث القدسي عن الأوصياء (عليهم السلام): «وعزتي وجلالي لأظهِرنّ بهم ديني، ولأعلينّ بهم كلمتي وأظهرنّ الأرض بآخرهم من أعدائي، ولأمكنه مشارقَ الأرضِ ومغاربها، ولأُسخِرنَّ له الرياح، ولأذلِلَنّ له السحاب الصعاب، ولأقينّهُ، في الأسباب، ولأنصُرنّه بجندي، ولأمدنّهُ بملائكتي حتّى يعلن دعوتي، ويجمع الخلق على توحيدي، ثم لأديمنّ ملكهُ، ولأداولنّ الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة»
فهذه الرؤية القائمة على فكر مستقبلي فيها توصيف من خلال الحديث عن (تاريخ ما بعد الظهور): (يعني التعرف على يوم الإصلاح العام على يد القائد المنتظر (عجّل الله فرجه)، وهو يعني – بكل صراحة – التعرض إلى النتائج النهائية التي تتبناها الفكرة المهدوية ككل، ووصف البشرية المثلى في مستقبله السعيد)
فهذا الفكر القائم على فكرة التغيير بوصفها عتبةً أساسية؛ إلّا أنّه أيضاً يأخذ بنظر الاعتبار الجانب التاريخي وممكنات الواقع وما يجترحه من رهانات وتحديّات تفترض قدرة على الاجتهاد والتجديد إذ يستجيب إلى روح العصر المستقبلي إذ ثمة ارتباط عضوي وثيق بين (يوم العدل الموعود، وبين الأساس العام الذي يقوم عليه الكون وأهدافه الكبرى التي خلق من أجلها. تلك الأهداف التي كانت تطبيقات من مفهوم العدل العام، والتي سار عليها التكوين والتشريع، واضطلع بالسير على طبقه موكب الأنبياء والشهداء والأولياء والمصلحين على مدى التاريخ، وسيظهر بجلاء، أن يوم الظهور ليس تاريخاً طارئاً أو قدراً مرتجلاً، وإنما هو في واقعه النتيجة الطبيعية الكبرى التي أرادها الخالق الحكيم في تخطيطه العام، والتي شارك في إعدادها الأنبياء وبذلت في سبيلها التضحيات على مدى التاريخ)
يبدو في هذا النص الذي يتأمل بعمق في ممكنات هذه العقيدة التي تجلّت في القرآن والسنّة، إذ هناك أهداف وغايات من خلق الكون كما كان يريدها الخالق العظيم، هذه الغايات تكتمل بوجود اليوم الموعود كعلاقة ضرورية من أجل تحقيق تلك الأهداف الربانية المتمثلة بالعدل والإنصاف وهي غاية جاء بها كل الأنبياء والمصلحين وهي غاية كل الخطاب العقائدي بطابعه الغيبي ورغبته المهدوية في اكتمال الغاية الكلية للمشروع الإلهي، وبالآتي فهذه العقيدة ترسم ملامح خطاب نقدي للواقع الموجود وتقدم محاولة جدية من أجل إيجاد الحلول الضرورية من خلال الأفكار المهدوية التي تهدف إلى إعادة ولادة الإنسان وتجعل منه سيداً لا عبداً، تسيطر عليه الشهوات وأئمة الجور والضلالة والاستبداد. وتظهر هذه الرؤية المهدوية في (طائفة مهمة من الأخبار، وهي الأخبار المثبتة لوجود المهدي (عجّل الله فرجه) أساساً، وأنه من ولد فاطمة مع التعرض إلى اسمه وأوصاف جسمه، وأنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً. وهي بمجموعها تزيد على التواتر بكثير، وتثبت وجود المهدي بالضرورة...). لكن التغيير على أساس الخطاب المهدوي يقوم على بعدين:
الأوّل: مواجهة خارجية مع الاستبداد والانحراف العقائدي والأخلاقي والجمود.
والثاني: مواجهة مع الذات من خلال تعميق الإيمان وإعادة فحص الإيمان للذات، وإعادة فحص حراسة الذات ضد كل من يريد اقتحامها بالقيم والمبادئ المنحرفة والأوهام والتهاويل.
فالتحرر في ظل الخطاب المهدوي سيولد تحولاً جوهرياً في حياة الناس أفراداً وجماعات، لهذا جاءت الروايات ومنها تلك التي تتحدث عن التحول السياسي: تؤكد الأحاديث على السمة البارزة للنظام السياسي والاجتماعي «لو لم يبقَ من الدهر، إلّا يوم واحد...» وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «فإذا خرج أشرقت الأرض بنور ربها، ووضع الميزان العدل بين الناس فلا يظلم أحد»
وعن الإمام علي (عليه السلام): «لو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها، ولأخرجت الأرض نباتها، ولذهبت الشحناء من قلوب العباد، واصطلحت السباع والبهائم حتّى تمشي المرأة من العراق إلى الشام لا تضع قدمها؛ إلّا على النبات وعلى رأسها زنبيلها لا يهيجها سبع ولا تخافه»(ظ¤ظ¦).
أمّا على الصعيد الاقتصادي: من (الأخبار المتطفلة لبيان المصالح وبعض النتائج الكبرى التي تترتب على ظهور المهدي (عجّل الله فرجه) بنفسه وعنوانه. وأوضح مثال على ذلك: ما ورد في هذه المصادر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). في مضمونه: تتنعم الأمّة في عهده نعمةً لم تتنعم مثلها قط، يرضى عنه ساكن الأرض وساكن السماء)
ومن بين هذه الروايات: يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يأتيه الرجل والمال كدوس، فيقول يا مهدي أعطني، فيقول: خذ) و«إنّ في أمتي المهدي يخرج يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً فيجيء إليه رجل فيقول: يا مهدي أعطني، قال: فيحشى له في ثوبه ما استطاع أن يحمله»)، وجاء أيضاً «لا تقوم الساعة حتّى يكثر المال ويفيض حتّى يخرج الرجل زكاته فلا يجد أحداً يقبلها منه، حتّى تعود أرض العرب مروجها وأنهاراً».
الخاتمة:
إنّ الخطاب المستقبلي كما يظهر في الرؤية المهدوية بوصفهِ خطاباً عقائدياً يحاول التغيير ويصارع ضد الفقر والموت والعلم بكل هيمنته المادية، عبر طرح تغيير بديل للواقع ويعمل على تجاوزه وإعادة التفكير في كل المباني السائدة.
مجلة الموعود
جزء من مقال -
المستقبل وعلاقته بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه)
أ.د. عامر عبد زيد الوائلي
تعليق