في الكثير من حقول الحياة هناك قضايا تحمل في روحها مستويين: أساسي أو جوهري والاخر عَرَضي أو صوري، وفي خضم العولمة التي نعيشها اختلط هذين المفهومين ولم يعد يميّز بعض الأشخاص بين المبادئ والقيم وحتى الأحداث التاريخية وطريقة تصنيفها ووضعها في أي مستوى تحديداً.
هذا الخلط أو بتعبير أدق قلب الأدوار يؤثر تأثيراً خطيرا في حياة المجتمعات، وهناك من يذر الرماد على العيون في سبيل تحوير هذه الأوراق المهمة في الفكر الذاتي والعقل الجمعي.
في باب العلم مثلا، هناك الكثير من النظريات التي تنقضها الحجج والبراهين ليس بسبب ضعفها أو فقر مادتها العلمية وإنما بسبب كونها نظرية تفتقد لعناصر أساسية يُعتد بها وتغيّر من بعض الظواهر الطبيعية، وعليه اعتبرها العلماء مسائل وحسابات ومحاولات كانت بمثابة مقدمات وطريق ليس إلاّ لنظرية نهائية تحمل بين طياتها نتائج دقيقة لتصبح هذه النظرية مرجعا على طول الزمن لكل المهتمين في هذا السلك.
في باب الدين، هناك أيضا الكثير من القضايا التي تحتمل وجود هذين المطلبين، فالنطق بالشهادة مثلا بالتوحيد ونبوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله، هي شرط أساسي للدخول في الدين الاسلامي، ولكن هل هي مطلب جوهري أو عرضي؟!
أليس هناك الكثير ممن ينطقون بهذه الشهادة وقلبهم يتقيح نفاقا وشركا بنوعيه الظاهر والخفي؟
إذن، هناك بعض الواجبات، هي واجب نعم، لكنها طريق لحقيقة جوهرية وأساسية أخرى تتأتى بعد عدة مقدمات، وكذلك بقية أصول الدين وفروعه كالصلاة مثلا، فلها مقدمات كالوضوء والمبطلات والشرائط، لكن روحية المصلي وتوجهه والتفاته الخالص للخالق من جهة ومنع الصلاة من قيامه الفحشاء والمنكر بعدها من جهة أخرى هو المحور الذي يصل به إلى الهدف الأساسي للصلاة وهي المعراج للمؤمن والعمود للدين.
لنقلب العدسة إلى قضية مهمة من قضايا المسلمين وللشيعة بدائرة أخص وهي قضية عاشوراء، كيف نصنفها وأين نضعها؟
حسناً وباتفاق الأغلب الأعم الحادثة هي قضية جوهرية في الدين والتاريخ والمبادئ والانسانية، لكن إعادة إحياء هذه القضية ومنها الطرق والشعائر لاستذكارها وتخليدها، هنا اختلف الكثير حولها، وهذا الاختلاف تحول في بعض الأحايين إلى خلاف مع بالغ الأسف، اختلفوا في هل إن إحياء هذه الحادثة أو المأساة مطلب مهم وضروري أو ثانوي وعرضي وووو...، مع اختلاف المسميات؟
إذا أخذنا في الاعتبار ما طرحناه سابقاً، نسنتنج أو نترجم الكلام أعلاه على هذه القضية، فمن المفترض ومن المنطق إذن أن تكون كل صور إحياء ملحمة الحسين عليه السلام من مجالس عزاء وبكاء ومواكب من جهة ومايتم كتابته وانتاجه ثقافيا واعلاميا لنشر ماحصل في كربلاء من جهة أخرى، ماهو إلا شيء عرضي في طريق أساسي ألا وهو تطبيق مفاهيم هذه الثورة من مبادئ وأخلاق واصلاح... وإلاّ فكل تلك المظاهر والشعائر ليست سوى إعلام وشعارات قد توصل وقد لا توصل البعض إلى جوهر ثورة الحسين الشهيد.
أليس كذلك؟!
لا ليس كذلك أخي القارئ، وهنا نورد نقطتين توضح سبب هذا النفي:
1_ في بعض الحالات تكون كل من الطريقة والحقيقة مهمتين، وأحيانا كل منها يؤدي إلى الاخر، بالطبع نحن لا نقول هنا أن نهتم بجانب دون الاخر _الذي يتم في الغالب إهماله_، كما يشيع البعض، وبالتأكيد جوهر القضية الحسينية هو القيم أولا وأخيرا، وبرأي الكثير من الأعلام هي أهم وأعلى مرتبة من غيرها، وكذلك يخاطب الامام الصادق عليه السلام شيعته قائلا: "إن الحسن من كل شيء حسن ومنك احسن لمكانك منا، وإن القبيح من كل شيء قبيح ومنك اقبح لمكانك منا".
ويوجد هنا نقطة مهمة أيضا وهي الاخلاص والهدفية من إحياء ملامح عاشوراء، إذن، مادام احياء ذكرى الطف الأليمة الهدف منه هو احياء القيم فهي ليست بعرضية، وأساسية وليست بصورية.
وهنا يأتي سائل، ويقول، إذن فبعض المقدمات لبعض الشرائع الأخرى نستطيع أن لا نعتبرها عرضية أيضا بل أساسية، والجواب نعم، قد تكون في بعض الحالات كذلك.
هذه واحدة وأخرى، قد يكون فلان من الناس يقيم مجلس للعزاء مثلا كل سنة، فإن لم يقم العزاء مثلا في سنة ما لسبب من الأسباب فهو لايزال يحب الحسين وإن لم يقم له المجلس، وذلك مثل وجود بعض الطباع النبيلة في بعض الناس، كالايثار مثلا، فإن لم تتواجد هذه الصفة سيبقى صالحاً، فهذا شيء عرضي وليس أساسي.
ولكن هنا تختلف الدرجات بين هؤلاء المحبين، يقول تعالى: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون".
2_ عندما كان الحسين استثنائيا في كل شيء، أصبحت قضيته كذلك، ذلك لأنه صلوات الله عليه أعطى الله كل مايملك، فأعطاه الله من ملكه الواسع، فكل شي يقدم للحسين ليس بعرضي بل جوهري، بل لايقدر بثمن. قد يكافؤك الله جراء ما قدمت للحسين ويجزيك، وذلك على حجم المُهدى إليه وليس على حجم مكانتك أو عملك دائما.
يبقى بأن نقول أن الامام بلغ مدارج الكمال، لأنه ارتقى وصعد على كل درجات سلّم الوصول إلى الله، من المعرفة إلى العبادة إلى الشهادة والتضحية، وكذلك يحب الله أن يكون محبيه وأتباعه، يجمعون كل الجواهر في قضيته ولا يكتفون بواحدة دون أخرى، فالامام عِبرة وعَبرة وقدوة وفكر وثورة، وكل واحدة من تلك المفاهيم هي قيمة بحد ذاتها، فالحسين شمس وكل قبس منه ضياء.
كتبه
رقية تاج
تعليق