بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال : (كان الله ولا شيء معه، فأول ما خلق نور حبيبه محمد (صلى الله عليه واله) قبل خلق الماء والعرش والكرسي والسماوات والأرض واللوح والقلم والجنة والنار والملائكة وادم وحواء بأربعة وعشرين وأربعمائة الف عام، فلما خلق الله تعالى نور نبينا محمد (صلى الله عليه واله) بقي ألف عام بين يدي الله (عز وجل) واقفا يسبحه ويحمده، والحق تبارك وتعالى ينظر اليه ويقول : ياعبدي، انت المراد والمريد، وانت خيرتي من خلقي، وزعتي وجلالي، لولاك ما خلقت الافلاك، من أحبك احبتته، ومن ابغضك ابغضته، فتلألا نوره، وارتفع شعاعه، فخلق الله منه اثني عشر حجابا، أولها حجاب القدرة، ثم حجاب العظمة، ثم حجاب العزة، ثم حجاب الهيبة، ثم حجاب الجبروت، ثم حجاب الرحمة، ثم حجاب النبوة، ثم حجاب الكبرياء، ثم حجاب المنزلة، ثم حجاب الرفعة، ثم حجاب السعادة، ثم حجاب الشفاعة.
ثم ان الله تعالى امر نور رسول الله (صلى الله عليه واله) أن يدخل في حجاب القدرة، فدخل وهو يقول : سبحان العلي الاعلى، وبقي على ذلك اثني عشر الف عام، ثم أمره ان يدخل في حجاب العظمة، فدخل وهو يقول : سبحانه عالم السر، وأخفى احد عشر الف سنة، ثم دخل في حجاب العزة وهو يقول : سبحان الملك المنان، عشر الاف عام، ثم دخل في جاب الهيبة وهو يقول : سبحانه من هو غني لا يفتقر، تسعة الف عام، ثم دخل في حجاب الجبروت وهو يقول : سبحان الكريم الاكرم، ثمانية الاف عام، ثم دخل في حجاب الرحمة وهو يقول : سبحان رب العرش العظيم، سبعة الاف عام، ثم دخل في حجاب النبوة وهو يقول : سبحان ربك رب العزة عما يصفون، ستة الاف عام، ثم دخل في حجاب الكرامة وهو يقول : سبحان العظيم الاعظم، خمسة الاف عام، ثم دخل في حجاب المنزلة وهو يقول : سبحان العظيم الكريم، اربعة الاف عام، ثم دخل حجاب الرفعة وهو يقول : سبحان ذي الملك والملكوت، ثلاث الاف عام، ثم دخل في حجاب السعادة، وهو يقول : سبحان من يزيل الاشياء ولا يزول، ألفي عام، ثم دخل في حجاب الشفاعة وهو يقول : سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ألف عام.
قال الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) : ثم ان الله تعالى خلق من نور محمد (صلى الله عليه واله) عشرين بحرا من نور، في كل بحر علوم لا يعلمها الا الله تعالى، ثم قال لنور محمد (صلى الله عليه واله) : انزل في بحر العز، فنزل، ثم في بحر الصبر، ثم في بحر الخشوع، ثم في بحر التواضع، ثم في بحر الرضا، ثم في بحر الوفاء، ثم في بحر الحلم، ثم في بحر التقى، ثم في بحر الخشية، ثم في بحر الانابة، ثم في بحر العمل، ثم في بحر المزيد، ثم في بحر الهدى، ثم في بحر الصيانة، ثم في بحر الحياء حتى تقلب في عشرين بحرا، فلما خرج من آخر الابحر، قال الله تعالى : يا حبيبي، ويا سيد رسلي، ويا أول مخلوقاتي، ويا آخر رسلي، أنت الشفيع يوم المحشر، فخر النور ساجدا، ثم قام فقطرت منه قطرات كان عددها مائة الف وأربعة وعشرين ألف قطرة، فخلق الله تعالى من كل قطرة من نوره نبيا من الانبياء، فلما تكاملت الانوار صارت تطوف حول نور محمد (صلى الله عليه واله) كما تطوف الحجاج حول بيت الله الحرام، وهم يسبحون الله ويحمدونه ويقولون : سبحان من هو عالم لا يجهل، سبحان من هو حليم لا يجعل، سبحان من هو غني لا يفتقر، فناداهم الله تعالى : تعرفون من أنا؟ فسبق نور محمد (صلى الله عليه واله) قبل الانوار ونادى : انت الله الذي لا اله الا انت وحدك لا شريك لك، رب الارباب، وملك الملوك، فاذا بالنداء قبل الحق : انت صفيي، وأنت حبيبي وخير خلقي، أمتك خير امة اخرجت للناس.
ثم خلق من نور محمد (صلى الله عليه واله) جوهرة وقسمها قسمين، فنظر الى القسم الاول بعين الهيبة فصار ماء عذبا، ونظرا الى القسم الثاني بعين الشفقة فخلق منه العرش فاستوى على وجه الماء، فخلق الكرسي من نور العرش، وخلق من نور الكرسي نور اللوح، وخلق من اللوح القلم، وقال له : اكتب توحيدي، فبقي القلم الف عام سكران من كلام الله تعالى، فلما افاق قال : اكتب، قال : يا رب، وما أكتب؟ قال : اكتب : لا اله الا الله، محمد رسول الله، فلما سمع القلم اسم محمد (صلى الله عليه واله) خر ساجدا وقال : سبحان الواحد القهار، سبحان العظيم الاعظم، ثم رفع رأسه من السجود وكتب :لا اله الا الله، محمد رسول الله، ثم قال : يا رب، ومن محمد الذي قرنت اسمه باسمك وذكره بذكرك؟ قال الله تعالى : يا قلم فلولاه ما خلقتك ولا خلقت خلقي الا لأجله فهو بشير ونذير وسراج منير وشفيع وحبيب فعند ذلك انشق القلم من حلاوة ذكر محمد (صلى الله عليه واله)، ثم قال القلم : السلام عليك يا رسول الله، فقال الله تعالى : وعليك السلام مني ورحمة الله وبركاته، فلأجل هذا صار السلام سنة والرد فريضة، ثم قال الله تعالى : اكتب قضائي وقدري وما أنا خالقه الى يوم القيامة ثم خلق الله ملائكة يصلون على محمد وال محمد ويستغفرون لامته الى يوم القيامة.
ثم خلق الله تعالى من نور محمد (صلى الله عليه واله) الجنة وزينها بأربعة اشياء : التعظيم، والجلالة، والسخاء، والامانة، وجعلها لأوليائه وأهل طاعته، ثم نظر الى باقي الجوهرة بعين الهيبة فذابت، فخلق من دخانها السماوات، ومن زبدها الأرضين، فلما خلق الله تبارك وتعالى الارض صارت تموج بأهلها كالسفينة، فخلق الله الجبال فأرسلها بها، ثم خلق ملكا من أعظم ما يكون في القوة فدخل تحت الارض ثم لم يكن لقدمي الملك قرار، فخلق الله صخرة عظيمة وجعلها تحت قدمي الملك، ثم لم يكن للصخرة قرار، فخلق لها ثورا عظيما لم يقدر احد ان ينظر اليه لعظم خلقه وبريق عيونه حتى لو وضعت البحار كلها في احد منخريه ما كانت الا كخردلة ملقاة في ارض فلاة، فدخل الثور تحت الصخرة وحملها على ظهره وقرونه، واسم ذلك الثور : لهونا، ثم لم يكن لذلك الثور قرار، فخلق الله له حوتا عظيما، واسم ذلك الحوت : بهموت، فدخل الحوت تحت قدمي الثور، فاستقر الثور على ظهر الحوت، فالأرض كلها على كاهل الملك، والملك على الصخر، والصخرة على الثور، والثور على الحوت، والحوت على الماء، والماء على الهواء، والهواء على الظلمة.
ثم انقطع علم الخلائق بما تحت الظلمة، ثم خلق الله العرش من ضيائين : أحدهما الفضل، والثاني العدل، ثم أمر الضياءين فتنفسا بنفسين، فخلق منهما أربعة أشياء : العقل، والحلم، والعلم، والسخاء، ثم خلق من العقل الخوف، وخلق من العلم الرضا، ومن الحلم المودة، ومن السخاء المحبة، ثم عجن هذه الاشياء في طينة محمد (صلى الله عليه واله)، ثم خلق من بعدهم ارواح المؤمنين من امة محمد (صلى الله عليه واله) فلما تكاملت الانوار، سكن نور محمد تحت العرش ثلاثة وسبعين الف عام، ثم انتقل نوره الى الجنة وبقي سبعين الف عام، ثم انتقل الى سدرة المنتهى فبقي سبعين الف عام، ثم انتقل نوره الى السماء السابعة، ثم الى السماء السادسة، ثم الى السماء الخامسة، ثم الى السماء الرابعة، ثم الى السماء الثالثة، ثم الى السماء الثانية، ثم الى السماء الدنيا، فبقي نوره في السماء الدنيا الى ان أراد الله تعالى أن يخلق ادم (عليه السلام) أمر جبرئيل ان ينزل الى الارض، ويقبض منها قبضة، فنزل جبرئيل فسبقه اللعين ابليس فقال للأرض : ان الله تعالى يريد ان يخلق منك خلقا ويعذبه بالنار، فاذا اتتك ملائكته فقولي : اعوذ بالله منكم ان تأخذوا مني شيئا يكون للنار فيه نصيب، فجاءها جبرئيل (عليه السلام) فقالت : اني اعوذ بالذي أرسلك ان تأخذ مني شيئا، فرجع جبرئيل ولم يأخذ منها شيئا، يا رب، قد استعاذت بك مني فرحمتها.
فبعث ميكائيل، فعاد كذلك، ثم امر اسرافيل، فرجع كذلك، فبعث عزرائيل فقال : وانا أعوذ بعزة الله ان أعصي له امرا، فقبض قبضة من اعلاها وأدونها، وابيضها واسودها وأحمرها، واخشنها وانعمها، فلذلك اختلفت اخلاقهم وألوانهم، فمنهم الأبيض والاسود والاصفر.
فقال له الله تعالى : ألم تتعوذ منك الارض بي؟.
فقال : نعم، لكن لم ألتفت له فيها، وطاعتك يا مولاي اولى من رحمتي لها، فقال له الله تعالى : لم لا رحمتها كما رحمها اصحابك؟.
قال : طاعتك الاولى، فقال : اعلم اني اريد ان اخلق منه خلقا انبياء وصالحين وغير ذلك وأجعلك القابض لأرواحهم فبكى عزرائيل، فقال له الحق تعالى : ما يبكيك؟.
قال : اذا كنت كذلك كرهوني هؤلاء الخلائق، فقال : لا تخف اني اخلق لهم عللا فينسبون الموت الى تلك العلل.
ثم بعد ذلك أمر الله تعالى جبرئيل ان يأتيه بالقبضة البيضاء التي كانت اصلا، فأقبل جبرئيل ومعه الملائكة الكروبيون والصافون والمسبحون فقبضوها من موضع ضريحه وهي البقعة المضيئة المختارة من بقاع الارض، فأخذها جبرئيل من ذلك المكان فعجنها بماء التنسيم، وماء التعظيم، وماء التكريم، وماء التكوين، وماء الرحمة، وماء الرضا، وماء العفو، فخلق من الهداية راسه، ومن الشفقة صدره، ومن السخاء كفيه، ومن الصبر فؤاده، ومن العفة فرجه، ومن الشرف قدميه، ومن اليقين قلبه، ومن الطيب انفاسه، ثم خلطها بطينة آدم (عليه السلام)، فلما خلق الله تعالى آدم، أوحى الى الملائكة : {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71، 72] ، فحملت الملائكة جسد ادم (عليه السلام) ووضعوه على باب الجنة، وهو جسد لا روح فيه، والملائكة ينتظرن متى يؤمرون بالسجود، وكان ذلك يوم الجمعة بعد الظهر.
ثم ان الله امر الملائكة بالسجود لادم فسجدوا الا ابليس (لعنه الله)، ثم خلق الله بعد ذلك الروح، فقال لها : ادخلي في هذا الجسم، فرات الروح مدخلا ضيقا فوقفت، فقال لها : ادخلي كرها واخرجي كرها، قال : فدخلت الروح من اليافوخ الى العينين، فجعل ينظر الى نفسه، فسمع تسبيح الملائكة.
فلما وصلت الى الخياشيم عطس آدم (عليه السلام)، فانطقه الله تعالى بالحمد، فقال : الحمد لله، وهي اول كلمة قالها ادم، فقال الحق تعالى : رحمك الله يا ادم، لهذا خلقتك، وهذا لك ولولدك ان قالوا مثل ما قلت، فلذلك صار تسميت العاطس سنة، ولم يكن على ابليس اشد من تسميت العاطس.
ثم ان ادم (عليه السلام) فتح عينيه فرأى مكتوبا على العرش لا اله الا الله، محمد رسول الله، فلما وصلت الروح الى ساقه قبل ان تصل الى قدميه، أراد ان يقوم، فلم يطق، فلذلك قال تعالى : {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2] .
وقال الصادق (عليه السلام) : (كانت الروح في راس ادم (عليه السلام) مائة عام، وفي صدره مائة عام، وفي ظهره مائة عام، وفي فخذيه مائة عام، وفي ساقيه وقدميه مائة عام، فلما استوى آدم قائما امر الله الملائكة بالسجود، وكان ذلك بعد الظهر يوم الجمعة، فلم تزل في سجودها الى العصر، فسمع ادم (عليه السلام) من ظهره نشيشا كنشيش الطيور، وتسبيحا وتقدسيا، فقال ادم (عليه السلام) يا رب وما هذا؟ قال : يا ادم، هذا تسبيح محمد العربي سيد الاولين والاخرين.
ثم ان الله تبارك وتعالى خلق من ضلعه الاعوج حواء وقد انامه الله تعالى، فلما انتبه راها عند راسه، فقال : من انت؟ قالت : انا حواء خلقني الله لك، قال : ما أحسن خلقتك، فاوحى الله اليه هذه امتي حواء، وانت عبدي ادم، خلقتكما لدار اسمها جنتي، فسبحاني واحمداني، يا ادم اخطب حواء مني وادفع مهرها الي؟ فقال ادم : وما مهرها يا رب؟ قال : تصلي على حبيبي محمد واله عشر مرات، فقال ادم (عليه السلام) : جزاؤك يا رب على ذلك الحمد والشكر ما بقيت، فتزوجها على ذلك، وكان القاضي الحق، والعاقد جبرئيل، والزوجة حواء، والشهود الملائكة، فواصلها، وكانت الملائكة يقفون من وراء ادم، قال ادم : لأي شيء يا رب تقف الملائكة من ورائي؟ فقال : لينظروا الى نور ولدك محمد (صلى الله عليه واله)، قال : يا رب، اجعله امامي حتى تستقبلني الملائكة، فجعله في جبهته، فكانت الملائكة تقف قدامه صفوفا، ثم سال ادم (عليه السلام) ربه ان يجعله في مكان يراه ادم، فعجله في الاصبع السبابة، فكان نور محمد (صلى الله عليه واله) فيها، ونور علي في الاصبع الوسطى، وفاطمة (عليها السلام) في التي تليها، والحسن (عليه السلام) في الخنصر، والحسين (عليه السلام) في الابهام، وكانت انوارهم كغرة الشمس في قبة الفلك او كالقمر في ليلة البدر.
وكان ادم (عليه السلام) اذا اراد ان يغشى حواء يأمرها ان تتطيب وتتطهر، ويقول لها : يا حواء، الله يرزقك هذا النور، ويخصك به، فهو وديعة الله وميثاقه، فلم يزل نور رسول الله (صلى الله عليه واله) في غرة ادم حتى حملت حواء بشيت، وكانت الملائكة يأتون حواء يهنونها.
فلما وضعته نظرت بين عينيه الى نور رسول الله (صلى الله عليه واله) يشتعل اشتعالا، ففرحت بذلك، وضرب جبرئيل بينها وبينه حجابا من نور غلظه مقدار خمسمائة عام، فلم يزل محجوبا محسوبا حتى بلغ شيت مبالغ الرجال والنور يشرق في غرته.
فلما علم ادم (عليه السلام) ان ولده شيت بلغ مبالغ الرجال قال له : يا بني، اني مفارقك عن قريب فادن مني حتى اخذ عليك العهد والميثاق كما اخذه الله علي من قبلك، ثم رفع ادم راسه نحو السماء، وقد علم الله ما اراد، فامر الله الملائكة ان يمسكوا عن التسبيح ولفت اجنحتها واشرفت سكان الجنان من غرفاتها، وسكن صرير أبوابها، وجريان انهارها، وتصفيق أوراق اشجارها، وتطاولت لسماع ما يقول ادم (عليه السلام) ، ونودي : يا ادم، قل ما انت قائل.
فقال ادم : اللهم رب القدم قبل النفس، ومنير القمر والشمس، خلقتني كيف شئت، وقد اودعتني هذا النور الذي ارى منه هذا الشرف والكرامة، وقد صار لولدي شيت، واني اريد ان اخذ عليه العهد والميثاق كما اخذته علي، اللهم وانت الشاهد عليه، واذا بالنداء من قبل الله تعالى : يا ادم، خذ على ولدك شيت العهد، واشهد عليه جبرئيل وميكائيل والملائكة اجمعين.
قال : فأمر الله تعالى جبرئيل ان يهبط الى الارض في سبعين الفا من الملائكة بايديهم الوية الحمد وبيده حريرة بيضاء وقلم مكون من مشية الله رب العالمين، فأقبل جبرئيل على ادم (عليه السلام) وقال له : يا ادم، ربك قرئك السلام ويقول لك : اكتب على ولدك شيت كتابا واشهد عليه جبرئيل وميكائيل اجمعين، فكتب الكتاب وأشهد عليه، وختمه جبرئيل بخاتمه ودفعه الى شيت، وكسي (عليه السلام) قبل انصرافه حلتين حمراوين اضوا من نور الشمس وأروق من السماء لم يقطعا ولم يفضلا، بل قال لهما الجليل : كونا، فكانتا ثم تفرقا، وقبل شيت العهد وألزمه نفسه، ولم يزل ذلك النور بين عينيه، حتى تزوج المحاولة البيضاء، وكانت بطول حواء، واقترن اليها بخطبة جبرئيل (عليه السلام)، فلما وطئها حملت بأنوش.
فلما حملت به سمعت مناديا ينادي، هنيئا لك يا بيضاء، لقد استودعك الله نور سيد المرسلين، سيد الاولين والاخرين، فلما ولدته اخذ عليه شيت العهد كما اخذ عليه، وانتقل الى ولده، قينان، ومنه الى مهلائيل، ومنه الى ادد، ومنه الى خنوخ، وهو ادريس (عليه السلام) ، ثم اودعه ادريس ولده متوشلخ، واخذ عليه العهد، ثم انتقل الى مالك، ثم الى نوح (عليه السلام) ، ومن نوح الى سام، ومن سام الى ولده أرفخشذ، ثم الى ولده عابر، ثم الى قالع، ثم الى ارغو، ومنه الى شارغ، ومنه الى ناخور، ثم انتقل الى تارخ، ومنه الى ابراهيم (عليه السلام) ، ثم الى اسماعيل، ثم الى قيدار، ومنه الى الهميسع، ثم انتقل الى نبت، ثم الى يشجب، ومنه الى ادد، ومنه الى عدنان، ومنه الى معد، ومنه الى نزار، ومنه الى مضر، ومن مضر الى إلياس، ومن الياس الى مدركه، ومنه الى خزيمة، ومنه الى كنانة، ومن كنانة الى قصي، ومن قصي الى لؤي، ومن لؤي الى غالب، ومنه الى فهر، ومن فهر الى عبد مناف ومن عبد مناف الى هاشم، وانما سمي هاشما لانه هشم الثريد لقوم، وكان اسمه عمرو العلا.
كان نور رسول الله (صلى الله عليه واله) في وجهه، اذا اقبل تضيء منه الكعبة، وتكتسي من نوره نورا شعشعانيا، ويرتفع من وجهه نور الى السماء، وخرج من بطن امه عاتكة بنت مرة بن فالج بن ذكوان، وله ظفيرتان كظفيرتي اسماعيل، يتوقد نورهما الى السماء، فعجب اهل مكة من ذلك، وسارت اليه قبائل العرب من كل جانب، ومجات منه الكهان، ونطقت الاصنام بفضل النبي المختار، وكان هاشم لا يمر بحجر ولا مدر الا ويناديه : أبشر يا هاشم، فانه سيظهر من ذريتك اكرم الخلق على الله تعالى، وأشرف العالمين، محمد خاتم النبيين.
فلما حضرت عبد مناف الوفاة اخذ العهد على هاشم ان يودع نور رسول الله (صلى الله عليه واله) في الارحام الزكية من النساء، فقبل هاشم العهد، وألزمه نفسه، وجعلت الملوك تتطاول الى هاشم ليتزوج منهم، ويبذلون له الأموال الجزيلة، وهو يأبى عليهم، وكان كل يوم يأتي الكعبة ويطوف بها سبعا ويتعلق باستارها، وكان هاشم اذا قصده قاصد اكره، وكان يكسو العريان، ويطعم الجائع، ويفرج عن المعسر، ويوفي عن المديون، ومن اصيب بدم رفع عنه، وكان بابه لا يغلق عن صادر ولا وارد، واذا اولم وليمة او اصطنع طعاما لاحد وفضل منه شيء يأمر به ان يلقى الى الوحوش والطيور، حتى تحدثوا به وبجوده في الافاق، وسوده اهل مكة باجمعهم وشرفوه وعظموه وسلموا اليه مفاتيح الكعبة والسقاية والحجابة والرفادة ومصادر امور الناس ومواردها، وسلموا اليه لواء نزار وقوس اسماعيل (عليه السلام) وقميص ابراهيم (عليه السلام) ونعل شيت وخاتم نوح.
فلما احتوى على ذلك كله ظهر فخره ومجده، وكان يقوم بالحاج ويرعاهم، ويتولى امورهم، ويكرمهم، ولا ينصرفون الا شاكرين، وكان هاشم اذا اهل هلال ذي الحجة يأمر الناس بالاجتماع الى الكعبة، فاذا اجتمعوا قام خطيبا ويقول : معاشر الناس، انتم جيران الله وجيران بيته، وانه سيأتيكم في هذا الموسم زوار بيت الله، وهم اضياف الله، والاضياف هم اولى بالكرامة، وقد خصكم الله تعالى بهم واكرمكم، وانه سيأتونكم شعثا من كل فج عميق، ويقصدونكم من كل مكان سحيق، فأقروهم واحموهم واكرموهم يكرمكم الله تعالى بهم، وكانت قريش تخرج المال الكثير من أموالهم، وكان هاشم ينصب احواض الاديم، ويجعل فيها ماء من ماء زمزم، وعلى باقي الحياض من سائر الابار بحيث يشرب الحاج، وكان من عادته انه يطعمهم قبل التروية بيوم، وكان يحمل لهم الطعام الى منى وعرفة، وكان يثرد لهم اللحم والسمن والتمر ويسقيهم اللبن الى حيث يصدر الناس من منى، ثم يقطع عنهم الضيافة.
وبلغنا انه كان بأهل مكة ضيق وجدب وغلاء، ولم يكن عندهم ما يزودون به الحاج، فبعث هاشم الى نحو الشام أباعر فباعها واشترى بأثمانها كعكا وزيتا، ولم يترك عنده من ذلك قوت يوم واحد، بل بذل ذلك لكه للحاج، فكفاهم جميعهم، وصدر الناس يشكرونه في الافاق، فبلغ خبره الى النجاشي ملك الحبشة، والى قيصر ملك الروم فكاتبوه وراسلوه ان يهدوا له بناتهم رغبة في النور الذي في وجهه، وهو نور محمد (صلى الله عليه واله)؛ لان رهبانهم وكهانهم اعلموهم بان ذلك النور نور رسول الله (صلى الله عليه واله)، فيأبى هاشم عن ذلك، فتزوج من نساء قومه ورزق منهن اولادنا، وكان اولاده الذكور : اسد ومضر وعمرو وصيفي. واما البنات : فصفية ورقية وخلادة والشعثاء، فهذه جملة الذكور والاناث، ونور رسول الله (صلى الله عليه واله) في غرته لم يزل، فعظم ذلك عليه وكبر لديه، فلما كان في بعض الليالي، وقد طاف بالبيت سال الله تعالى ان يرزقه ولدا يكون فيه نور رسول الله (صلى الله عليه واله)، فأخذه النعاس، فمال عن البيت ثم اضطجع، فاتاه آت في منامه يقول : عليك بسلمى بنت عمرو، فانها طاهرة مطهرة الاذيال، فخذها وادفع لها المهر الجزيل، فلن تجد لها مشبها من النساء، فانك ترزق منها ولدا يكون منه النبي (صلى الله عليه واله)، فصاحبها ترشد واسع الى اخذا الكريمة عاجلا.
قال : فانتبه هاشم فزعا مرعوبا، واحضر بني عمه واخاه الطلب، وأخبرهم بما رآه في منامه، وبما قاله الهاتف، فقال له اخوه المطلب : يا بن ام، ان المراة لمعروفة في قومها، كبيرة في نفسها، قد كملت عفة واعتدالا، وهي سلمى بنت عمرو بن لبيد بن حداث بن زيد بن عامر بن غنم بن مازن بن النجار، وهم اقل الاضياف والعفاف، وانت اشرف منهم حسبا، وأكرم منهم نسبا، قد تطاولت اليك الملوك والجبابرة، وان شئت فنحن لك خطاب، فقال لهم : الحاجة لا تقضى الا بصاحبها، وقد جمعت فضلات وتجارة، واريد ان اخرج الى الشام للتجارة ولوصال هذه المراة، فقال له اصحابه : نحن نفرح لفرحك، ونسر لسرورك، وننظر ما يكون من أمرك.
ثم ان هاشما خرج للسفر وخرج معه اصحابه بأسلحتهم، وخرج معه العبيد يقودون الخيل والجمال، وعليها احمال الاديم، وعند خروجه نادى في اهل مكة، فخرجت معه السادات والاكابر، وخرج معه العبيد والنساء لتوديعه، فأمرهم بالرجوع، وسار هو وبنو عمه واخوه المطلب الى يثرب كالأسود، طالبين بني النجار، فلما وصلوا المدية أشرق بنور رسول الله (صلى الله عليه واله) ذلك الوادي من غرة هاشم حتى دخل جملة البيوت، فلما رآهم اهل يثرب بادروا اليهم مسرعين، وقالوا : من أنتهم ايها الناس، فما رأينا احسن منكم جمالا، ولا سيما صاحب هذا النور الساطع والضياء اللامع؟.
قال لهم المطلب : نحن أهل بيت الله، وسكان حرم الله، نحن بني لؤي بن غالب، وهذا اخونا هاشم بن عبد مناف، وقد جئناكم خاطبين، وفيكم راغبين، وقد علمتم ان اخانا هذا خطبته الملوك والاكابر فما رغب الا فيكم، ونحب ان ترشدونا الى سلمى، وكان ابوها يسمع الخطاب، فقال لهم : مرحبا بكم، انتم ارباب الشرف والمفاخر، والعز والمآثر، والسادات الكرام، والمطعمون الطعام، ونهاية الجود والاكرام، ولكم عندنا ما تطلبون، غير ان المراة التي خرجتم لاجلها، وجئتم لها طالبين هي ابنتي وقرة عيني، وهي مالكة نفسها، ومع ذلك انها خرجت بالأمس الى سوق من اسواقنا مع نساء من قومها يقال له سوق بني قينقاع، فان اقمتم عندنا فانتم في العناية والكلاءة، وان اردت ان تسيروا اليها ففي الرعاية، ومن الخاطب لها والراغب فيها؟.
قالوا : صاحب هذا النور الساطع والضياء اللامع، سراج بيت الله الحرام، ومصباح الظلام، الموصوف بالجود والاكرام، هاشم بن عبد مناف، صاحب رحلة الايلاف، وذروة الاحقاف، فقال ابوها : بخ بخ، لقد علونا وفخرنا بخطبتكم، اعلموا يا من حضر اني قد رغبت في هذا الرجل اكثر من رغبته فينا، غير اني اخبركم اني امري دون امرها، وها انا اسير معكم اليها، فانزلوا يا خير زوار، ويا فخر بني نزار.
قال : فنزل هاشم واخوه وأصحابه وحطوا رحالهم ومتاعهم، وسبق ابوها عمرو الى قومه، ونحر لهم النحائر، وعقر لهم العقائر، واصلح لهم الطعام، وخرجت لهم العبيد بالجفان، فأكل القوم منه حسب الحاجة، ولم يبق من أهل يثرب أحد الا خرج ينظر الى هاشم ونور وجهه، وخرج الاوس والخزرج والناس متعجبين من ذلك النور، وخرج اليهود، فلما نظروا اليه عرفوه بالصفة التي وجدوها في التوراة والعلامات، فعظم ذلك عليهم، وبكوا بكاء شديدا.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال : (كان الله ولا شيء معه، فأول ما خلق نور حبيبه محمد (صلى الله عليه واله) قبل خلق الماء والعرش والكرسي والسماوات والأرض واللوح والقلم والجنة والنار والملائكة وادم وحواء بأربعة وعشرين وأربعمائة الف عام، فلما خلق الله تعالى نور نبينا محمد (صلى الله عليه واله) بقي ألف عام بين يدي الله (عز وجل) واقفا يسبحه ويحمده، والحق تبارك وتعالى ينظر اليه ويقول : ياعبدي، انت المراد والمريد، وانت خيرتي من خلقي، وزعتي وجلالي، لولاك ما خلقت الافلاك، من أحبك احبتته، ومن ابغضك ابغضته، فتلألا نوره، وارتفع شعاعه، فخلق الله منه اثني عشر حجابا، أولها حجاب القدرة، ثم حجاب العظمة، ثم حجاب العزة، ثم حجاب الهيبة، ثم حجاب الجبروت، ثم حجاب الرحمة، ثم حجاب النبوة، ثم حجاب الكبرياء، ثم حجاب المنزلة، ثم حجاب الرفعة، ثم حجاب السعادة، ثم حجاب الشفاعة.
ثم ان الله تعالى امر نور رسول الله (صلى الله عليه واله) أن يدخل في حجاب القدرة، فدخل وهو يقول : سبحان العلي الاعلى، وبقي على ذلك اثني عشر الف عام، ثم أمره ان يدخل في حجاب العظمة، فدخل وهو يقول : سبحانه عالم السر، وأخفى احد عشر الف سنة، ثم دخل في حجاب العزة وهو يقول : سبحان الملك المنان، عشر الاف عام، ثم دخل في جاب الهيبة وهو يقول : سبحانه من هو غني لا يفتقر، تسعة الف عام، ثم دخل في حجاب الجبروت وهو يقول : سبحان الكريم الاكرم، ثمانية الاف عام، ثم دخل في حجاب الرحمة وهو يقول : سبحان رب العرش العظيم، سبعة الاف عام، ثم دخل في حجاب النبوة وهو يقول : سبحان ربك رب العزة عما يصفون، ستة الاف عام، ثم دخل في حجاب الكرامة وهو يقول : سبحان العظيم الاعظم، خمسة الاف عام، ثم دخل في حجاب المنزلة وهو يقول : سبحان العظيم الكريم، اربعة الاف عام، ثم دخل حجاب الرفعة وهو يقول : سبحان ذي الملك والملكوت، ثلاث الاف عام، ثم دخل في حجاب السعادة، وهو يقول : سبحان من يزيل الاشياء ولا يزول، ألفي عام، ثم دخل في حجاب الشفاعة وهو يقول : سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ألف عام.
قال الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) : ثم ان الله تعالى خلق من نور محمد (صلى الله عليه واله) عشرين بحرا من نور، في كل بحر علوم لا يعلمها الا الله تعالى، ثم قال لنور محمد (صلى الله عليه واله) : انزل في بحر العز، فنزل، ثم في بحر الصبر، ثم في بحر الخشوع، ثم في بحر التواضع، ثم في بحر الرضا، ثم في بحر الوفاء، ثم في بحر الحلم، ثم في بحر التقى، ثم في بحر الخشية، ثم في بحر الانابة، ثم في بحر العمل، ثم في بحر المزيد، ثم في بحر الهدى، ثم في بحر الصيانة، ثم في بحر الحياء حتى تقلب في عشرين بحرا، فلما خرج من آخر الابحر، قال الله تعالى : يا حبيبي، ويا سيد رسلي، ويا أول مخلوقاتي، ويا آخر رسلي، أنت الشفيع يوم المحشر، فخر النور ساجدا، ثم قام فقطرت منه قطرات كان عددها مائة الف وأربعة وعشرين ألف قطرة، فخلق الله تعالى من كل قطرة من نوره نبيا من الانبياء، فلما تكاملت الانوار صارت تطوف حول نور محمد (صلى الله عليه واله) كما تطوف الحجاج حول بيت الله الحرام، وهم يسبحون الله ويحمدونه ويقولون : سبحان من هو عالم لا يجهل، سبحان من هو حليم لا يجعل، سبحان من هو غني لا يفتقر، فناداهم الله تعالى : تعرفون من أنا؟ فسبق نور محمد (صلى الله عليه واله) قبل الانوار ونادى : انت الله الذي لا اله الا انت وحدك لا شريك لك، رب الارباب، وملك الملوك، فاذا بالنداء قبل الحق : انت صفيي، وأنت حبيبي وخير خلقي، أمتك خير امة اخرجت للناس.
ثم خلق من نور محمد (صلى الله عليه واله) جوهرة وقسمها قسمين، فنظر الى القسم الاول بعين الهيبة فصار ماء عذبا، ونظرا الى القسم الثاني بعين الشفقة فخلق منه العرش فاستوى على وجه الماء، فخلق الكرسي من نور العرش، وخلق من نور الكرسي نور اللوح، وخلق من اللوح القلم، وقال له : اكتب توحيدي، فبقي القلم الف عام سكران من كلام الله تعالى، فلما افاق قال : اكتب، قال : يا رب، وما أكتب؟ قال : اكتب : لا اله الا الله، محمد رسول الله، فلما سمع القلم اسم محمد (صلى الله عليه واله) خر ساجدا وقال : سبحان الواحد القهار، سبحان العظيم الاعظم، ثم رفع رأسه من السجود وكتب :لا اله الا الله، محمد رسول الله، ثم قال : يا رب، ومن محمد الذي قرنت اسمه باسمك وذكره بذكرك؟ قال الله تعالى : يا قلم فلولاه ما خلقتك ولا خلقت خلقي الا لأجله فهو بشير ونذير وسراج منير وشفيع وحبيب فعند ذلك انشق القلم من حلاوة ذكر محمد (صلى الله عليه واله)، ثم قال القلم : السلام عليك يا رسول الله، فقال الله تعالى : وعليك السلام مني ورحمة الله وبركاته، فلأجل هذا صار السلام سنة والرد فريضة، ثم قال الله تعالى : اكتب قضائي وقدري وما أنا خالقه الى يوم القيامة ثم خلق الله ملائكة يصلون على محمد وال محمد ويستغفرون لامته الى يوم القيامة.
ثم خلق الله تعالى من نور محمد (صلى الله عليه واله) الجنة وزينها بأربعة اشياء : التعظيم، والجلالة، والسخاء، والامانة، وجعلها لأوليائه وأهل طاعته، ثم نظر الى باقي الجوهرة بعين الهيبة فذابت، فخلق من دخانها السماوات، ومن زبدها الأرضين، فلما خلق الله تبارك وتعالى الارض صارت تموج بأهلها كالسفينة، فخلق الله الجبال فأرسلها بها، ثم خلق ملكا من أعظم ما يكون في القوة فدخل تحت الارض ثم لم يكن لقدمي الملك قرار، فخلق الله صخرة عظيمة وجعلها تحت قدمي الملك، ثم لم يكن للصخرة قرار، فخلق لها ثورا عظيما لم يقدر احد ان ينظر اليه لعظم خلقه وبريق عيونه حتى لو وضعت البحار كلها في احد منخريه ما كانت الا كخردلة ملقاة في ارض فلاة، فدخل الثور تحت الصخرة وحملها على ظهره وقرونه، واسم ذلك الثور : لهونا، ثم لم يكن لذلك الثور قرار، فخلق الله له حوتا عظيما، واسم ذلك الحوت : بهموت، فدخل الحوت تحت قدمي الثور، فاستقر الثور على ظهر الحوت، فالأرض كلها على كاهل الملك، والملك على الصخر، والصخرة على الثور، والثور على الحوت، والحوت على الماء، والماء على الهواء، والهواء على الظلمة.
ثم انقطع علم الخلائق بما تحت الظلمة، ثم خلق الله العرش من ضيائين : أحدهما الفضل، والثاني العدل، ثم أمر الضياءين فتنفسا بنفسين، فخلق منهما أربعة أشياء : العقل، والحلم، والعلم، والسخاء، ثم خلق من العقل الخوف، وخلق من العلم الرضا، ومن الحلم المودة، ومن السخاء المحبة، ثم عجن هذه الاشياء في طينة محمد (صلى الله عليه واله)، ثم خلق من بعدهم ارواح المؤمنين من امة محمد (صلى الله عليه واله) فلما تكاملت الانوار، سكن نور محمد تحت العرش ثلاثة وسبعين الف عام، ثم انتقل نوره الى الجنة وبقي سبعين الف عام، ثم انتقل الى سدرة المنتهى فبقي سبعين الف عام، ثم انتقل نوره الى السماء السابعة، ثم الى السماء السادسة، ثم الى السماء الخامسة، ثم الى السماء الرابعة، ثم الى السماء الثالثة، ثم الى السماء الثانية، ثم الى السماء الدنيا، فبقي نوره في السماء الدنيا الى ان أراد الله تعالى أن يخلق ادم (عليه السلام) أمر جبرئيل ان ينزل الى الارض، ويقبض منها قبضة، فنزل جبرئيل فسبقه اللعين ابليس فقال للأرض : ان الله تعالى يريد ان يخلق منك خلقا ويعذبه بالنار، فاذا اتتك ملائكته فقولي : اعوذ بالله منكم ان تأخذوا مني شيئا يكون للنار فيه نصيب، فجاءها جبرئيل (عليه السلام) فقالت : اني اعوذ بالذي أرسلك ان تأخذ مني شيئا، فرجع جبرئيل ولم يأخذ منها شيئا، يا رب، قد استعاذت بك مني فرحمتها.
فبعث ميكائيل، فعاد كذلك، ثم امر اسرافيل، فرجع كذلك، فبعث عزرائيل فقال : وانا أعوذ بعزة الله ان أعصي له امرا، فقبض قبضة من اعلاها وأدونها، وابيضها واسودها وأحمرها، واخشنها وانعمها، فلذلك اختلفت اخلاقهم وألوانهم، فمنهم الأبيض والاسود والاصفر.
فقال له الله تعالى : ألم تتعوذ منك الارض بي؟.
فقال : نعم، لكن لم ألتفت له فيها، وطاعتك يا مولاي اولى من رحمتي لها، فقال له الله تعالى : لم لا رحمتها كما رحمها اصحابك؟.
قال : طاعتك الاولى، فقال : اعلم اني اريد ان اخلق منه خلقا انبياء وصالحين وغير ذلك وأجعلك القابض لأرواحهم فبكى عزرائيل، فقال له الحق تعالى : ما يبكيك؟.
قال : اذا كنت كذلك كرهوني هؤلاء الخلائق، فقال : لا تخف اني اخلق لهم عللا فينسبون الموت الى تلك العلل.
ثم بعد ذلك أمر الله تعالى جبرئيل ان يأتيه بالقبضة البيضاء التي كانت اصلا، فأقبل جبرئيل ومعه الملائكة الكروبيون والصافون والمسبحون فقبضوها من موضع ضريحه وهي البقعة المضيئة المختارة من بقاع الارض، فأخذها جبرئيل من ذلك المكان فعجنها بماء التنسيم، وماء التعظيم، وماء التكريم، وماء التكوين، وماء الرحمة، وماء الرضا، وماء العفو، فخلق من الهداية راسه، ومن الشفقة صدره، ومن السخاء كفيه، ومن الصبر فؤاده، ومن العفة فرجه، ومن الشرف قدميه، ومن اليقين قلبه، ومن الطيب انفاسه، ثم خلطها بطينة آدم (عليه السلام)، فلما خلق الله تعالى آدم، أوحى الى الملائكة : {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71، 72] ، فحملت الملائكة جسد ادم (عليه السلام) ووضعوه على باب الجنة، وهو جسد لا روح فيه، والملائكة ينتظرن متى يؤمرون بالسجود، وكان ذلك يوم الجمعة بعد الظهر.
ثم ان الله امر الملائكة بالسجود لادم فسجدوا الا ابليس (لعنه الله)، ثم خلق الله بعد ذلك الروح، فقال لها : ادخلي في هذا الجسم، فرات الروح مدخلا ضيقا فوقفت، فقال لها : ادخلي كرها واخرجي كرها، قال : فدخلت الروح من اليافوخ الى العينين، فجعل ينظر الى نفسه، فسمع تسبيح الملائكة.
فلما وصلت الى الخياشيم عطس آدم (عليه السلام)، فانطقه الله تعالى بالحمد، فقال : الحمد لله، وهي اول كلمة قالها ادم، فقال الحق تعالى : رحمك الله يا ادم، لهذا خلقتك، وهذا لك ولولدك ان قالوا مثل ما قلت، فلذلك صار تسميت العاطس سنة، ولم يكن على ابليس اشد من تسميت العاطس.
ثم ان ادم (عليه السلام) فتح عينيه فرأى مكتوبا على العرش لا اله الا الله، محمد رسول الله، فلما وصلت الروح الى ساقه قبل ان تصل الى قدميه، أراد ان يقوم، فلم يطق، فلذلك قال تعالى : {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2] .
وقال الصادق (عليه السلام) : (كانت الروح في راس ادم (عليه السلام) مائة عام، وفي صدره مائة عام، وفي ظهره مائة عام، وفي فخذيه مائة عام، وفي ساقيه وقدميه مائة عام، فلما استوى آدم قائما امر الله الملائكة بالسجود، وكان ذلك بعد الظهر يوم الجمعة، فلم تزل في سجودها الى العصر، فسمع ادم (عليه السلام) من ظهره نشيشا كنشيش الطيور، وتسبيحا وتقدسيا، فقال ادم (عليه السلام) يا رب وما هذا؟ قال : يا ادم، هذا تسبيح محمد العربي سيد الاولين والاخرين.
ثم ان الله تبارك وتعالى خلق من ضلعه الاعوج حواء وقد انامه الله تعالى، فلما انتبه راها عند راسه، فقال : من انت؟ قالت : انا حواء خلقني الله لك، قال : ما أحسن خلقتك، فاوحى الله اليه هذه امتي حواء، وانت عبدي ادم، خلقتكما لدار اسمها جنتي، فسبحاني واحمداني، يا ادم اخطب حواء مني وادفع مهرها الي؟ فقال ادم : وما مهرها يا رب؟ قال : تصلي على حبيبي محمد واله عشر مرات، فقال ادم (عليه السلام) : جزاؤك يا رب على ذلك الحمد والشكر ما بقيت، فتزوجها على ذلك، وكان القاضي الحق، والعاقد جبرئيل، والزوجة حواء، والشهود الملائكة، فواصلها، وكانت الملائكة يقفون من وراء ادم، قال ادم : لأي شيء يا رب تقف الملائكة من ورائي؟ فقال : لينظروا الى نور ولدك محمد (صلى الله عليه واله)، قال : يا رب، اجعله امامي حتى تستقبلني الملائكة، فجعله في جبهته، فكانت الملائكة تقف قدامه صفوفا، ثم سال ادم (عليه السلام) ربه ان يجعله في مكان يراه ادم، فعجله في الاصبع السبابة، فكان نور محمد (صلى الله عليه واله) فيها، ونور علي في الاصبع الوسطى، وفاطمة (عليها السلام) في التي تليها، والحسن (عليه السلام) في الخنصر، والحسين (عليه السلام) في الابهام، وكانت انوارهم كغرة الشمس في قبة الفلك او كالقمر في ليلة البدر.
وكان ادم (عليه السلام) اذا اراد ان يغشى حواء يأمرها ان تتطيب وتتطهر، ويقول لها : يا حواء، الله يرزقك هذا النور، ويخصك به، فهو وديعة الله وميثاقه، فلم يزل نور رسول الله (صلى الله عليه واله) في غرة ادم حتى حملت حواء بشيت، وكانت الملائكة يأتون حواء يهنونها.
فلما وضعته نظرت بين عينيه الى نور رسول الله (صلى الله عليه واله) يشتعل اشتعالا، ففرحت بذلك، وضرب جبرئيل بينها وبينه حجابا من نور غلظه مقدار خمسمائة عام، فلم يزل محجوبا محسوبا حتى بلغ شيت مبالغ الرجال والنور يشرق في غرته.
فلما علم ادم (عليه السلام) ان ولده شيت بلغ مبالغ الرجال قال له : يا بني، اني مفارقك عن قريب فادن مني حتى اخذ عليك العهد والميثاق كما اخذه الله علي من قبلك، ثم رفع ادم راسه نحو السماء، وقد علم الله ما اراد، فامر الله الملائكة ان يمسكوا عن التسبيح ولفت اجنحتها واشرفت سكان الجنان من غرفاتها، وسكن صرير أبوابها، وجريان انهارها، وتصفيق أوراق اشجارها، وتطاولت لسماع ما يقول ادم (عليه السلام) ، ونودي : يا ادم، قل ما انت قائل.
فقال ادم : اللهم رب القدم قبل النفس، ومنير القمر والشمس، خلقتني كيف شئت، وقد اودعتني هذا النور الذي ارى منه هذا الشرف والكرامة، وقد صار لولدي شيت، واني اريد ان اخذ عليه العهد والميثاق كما اخذته علي، اللهم وانت الشاهد عليه، واذا بالنداء من قبل الله تعالى : يا ادم، خذ على ولدك شيت العهد، واشهد عليه جبرئيل وميكائيل والملائكة اجمعين.
قال : فأمر الله تعالى جبرئيل ان يهبط الى الارض في سبعين الفا من الملائكة بايديهم الوية الحمد وبيده حريرة بيضاء وقلم مكون من مشية الله رب العالمين، فأقبل جبرئيل على ادم (عليه السلام) وقال له : يا ادم، ربك قرئك السلام ويقول لك : اكتب على ولدك شيت كتابا واشهد عليه جبرئيل وميكائيل اجمعين، فكتب الكتاب وأشهد عليه، وختمه جبرئيل بخاتمه ودفعه الى شيت، وكسي (عليه السلام) قبل انصرافه حلتين حمراوين اضوا من نور الشمس وأروق من السماء لم يقطعا ولم يفضلا، بل قال لهما الجليل : كونا، فكانتا ثم تفرقا، وقبل شيت العهد وألزمه نفسه، ولم يزل ذلك النور بين عينيه، حتى تزوج المحاولة البيضاء، وكانت بطول حواء، واقترن اليها بخطبة جبرئيل (عليه السلام)، فلما وطئها حملت بأنوش.
فلما حملت به سمعت مناديا ينادي، هنيئا لك يا بيضاء، لقد استودعك الله نور سيد المرسلين، سيد الاولين والاخرين، فلما ولدته اخذ عليه شيت العهد كما اخذ عليه، وانتقل الى ولده، قينان، ومنه الى مهلائيل، ومنه الى ادد، ومنه الى خنوخ، وهو ادريس (عليه السلام) ، ثم اودعه ادريس ولده متوشلخ، واخذ عليه العهد، ثم انتقل الى مالك، ثم الى نوح (عليه السلام) ، ومن نوح الى سام، ومن سام الى ولده أرفخشذ، ثم الى ولده عابر، ثم الى قالع، ثم الى ارغو، ومنه الى شارغ، ومنه الى ناخور، ثم انتقل الى تارخ، ومنه الى ابراهيم (عليه السلام) ، ثم الى اسماعيل، ثم الى قيدار، ومنه الى الهميسع، ثم انتقل الى نبت، ثم الى يشجب، ومنه الى ادد، ومنه الى عدنان، ومنه الى معد، ومنه الى نزار، ومنه الى مضر، ومن مضر الى إلياس، ومن الياس الى مدركه، ومنه الى خزيمة، ومنه الى كنانة، ومن كنانة الى قصي، ومن قصي الى لؤي، ومن لؤي الى غالب، ومنه الى فهر، ومن فهر الى عبد مناف ومن عبد مناف الى هاشم، وانما سمي هاشما لانه هشم الثريد لقوم، وكان اسمه عمرو العلا.
كان نور رسول الله (صلى الله عليه واله) في وجهه، اذا اقبل تضيء منه الكعبة، وتكتسي من نوره نورا شعشعانيا، ويرتفع من وجهه نور الى السماء، وخرج من بطن امه عاتكة بنت مرة بن فالج بن ذكوان، وله ظفيرتان كظفيرتي اسماعيل، يتوقد نورهما الى السماء، فعجب اهل مكة من ذلك، وسارت اليه قبائل العرب من كل جانب، ومجات منه الكهان، ونطقت الاصنام بفضل النبي المختار، وكان هاشم لا يمر بحجر ولا مدر الا ويناديه : أبشر يا هاشم، فانه سيظهر من ذريتك اكرم الخلق على الله تعالى، وأشرف العالمين، محمد خاتم النبيين.
فلما حضرت عبد مناف الوفاة اخذ العهد على هاشم ان يودع نور رسول الله (صلى الله عليه واله) في الارحام الزكية من النساء، فقبل هاشم العهد، وألزمه نفسه، وجعلت الملوك تتطاول الى هاشم ليتزوج منهم، ويبذلون له الأموال الجزيلة، وهو يأبى عليهم، وكان كل يوم يأتي الكعبة ويطوف بها سبعا ويتعلق باستارها، وكان هاشم اذا قصده قاصد اكره، وكان يكسو العريان، ويطعم الجائع، ويفرج عن المعسر، ويوفي عن المديون، ومن اصيب بدم رفع عنه، وكان بابه لا يغلق عن صادر ولا وارد، واذا اولم وليمة او اصطنع طعاما لاحد وفضل منه شيء يأمر به ان يلقى الى الوحوش والطيور، حتى تحدثوا به وبجوده في الافاق، وسوده اهل مكة باجمعهم وشرفوه وعظموه وسلموا اليه مفاتيح الكعبة والسقاية والحجابة والرفادة ومصادر امور الناس ومواردها، وسلموا اليه لواء نزار وقوس اسماعيل (عليه السلام) وقميص ابراهيم (عليه السلام) ونعل شيت وخاتم نوح.
فلما احتوى على ذلك كله ظهر فخره ومجده، وكان يقوم بالحاج ويرعاهم، ويتولى امورهم، ويكرمهم، ولا ينصرفون الا شاكرين، وكان هاشم اذا اهل هلال ذي الحجة يأمر الناس بالاجتماع الى الكعبة، فاذا اجتمعوا قام خطيبا ويقول : معاشر الناس، انتم جيران الله وجيران بيته، وانه سيأتيكم في هذا الموسم زوار بيت الله، وهم اضياف الله، والاضياف هم اولى بالكرامة، وقد خصكم الله تعالى بهم واكرمكم، وانه سيأتونكم شعثا من كل فج عميق، ويقصدونكم من كل مكان سحيق، فأقروهم واحموهم واكرموهم يكرمكم الله تعالى بهم، وكانت قريش تخرج المال الكثير من أموالهم، وكان هاشم ينصب احواض الاديم، ويجعل فيها ماء من ماء زمزم، وعلى باقي الحياض من سائر الابار بحيث يشرب الحاج، وكان من عادته انه يطعمهم قبل التروية بيوم، وكان يحمل لهم الطعام الى منى وعرفة، وكان يثرد لهم اللحم والسمن والتمر ويسقيهم اللبن الى حيث يصدر الناس من منى، ثم يقطع عنهم الضيافة.
وبلغنا انه كان بأهل مكة ضيق وجدب وغلاء، ولم يكن عندهم ما يزودون به الحاج، فبعث هاشم الى نحو الشام أباعر فباعها واشترى بأثمانها كعكا وزيتا، ولم يترك عنده من ذلك قوت يوم واحد، بل بذل ذلك لكه للحاج، فكفاهم جميعهم، وصدر الناس يشكرونه في الافاق، فبلغ خبره الى النجاشي ملك الحبشة، والى قيصر ملك الروم فكاتبوه وراسلوه ان يهدوا له بناتهم رغبة في النور الذي في وجهه، وهو نور محمد (صلى الله عليه واله)؛ لان رهبانهم وكهانهم اعلموهم بان ذلك النور نور رسول الله (صلى الله عليه واله)، فيأبى هاشم عن ذلك، فتزوج من نساء قومه ورزق منهن اولادنا، وكان اولاده الذكور : اسد ومضر وعمرو وصيفي. واما البنات : فصفية ورقية وخلادة والشعثاء، فهذه جملة الذكور والاناث، ونور رسول الله (صلى الله عليه واله) في غرته لم يزل، فعظم ذلك عليه وكبر لديه، فلما كان في بعض الليالي، وقد طاف بالبيت سال الله تعالى ان يرزقه ولدا يكون فيه نور رسول الله (صلى الله عليه واله)، فأخذه النعاس، فمال عن البيت ثم اضطجع، فاتاه آت في منامه يقول : عليك بسلمى بنت عمرو، فانها طاهرة مطهرة الاذيال، فخذها وادفع لها المهر الجزيل، فلن تجد لها مشبها من النساء، فانك ترزق منها ولدا يكون منه النبي (صلى الله عليه واله)، فصاحبها ترشد واسع الى اخذا الكريمة عاجلا.
قال : فانتبه هاشم فزعا مرعوبا، واحضر بني عمه واخاه الطلب، وأخبرهم بما رآه في منامه، وبما قاله الهاتف، فقال له اخوه المطلب : يا بن ام، ان المراة لمعروفة في قومها، كبيرة في نفسها، قد كملت عفة واعتدالا، وهي سلمى بنت عمرو بن لبيد بن حداث بن زيد بن عامر بن غنم بن مازن بن النجار، وهم اقل الاضياف والعفاف، وانت اشرف منهم حسبا، وأكرم منهم نسبا، قد تطاولت اليك الملوك والجبابرة، وان شئت فنحن لك خطاب، فقال لهم : الحاجة لا تقضى الا بصاحبها، وقد جمعت فضلات وتجارة، واريد ان اخرج الى الشام للتجارة ولوصال هذه المراة، فقال له اصحابه : نحن نفرح لفرحك، ونسر لسرورك، وننظر ما يكون من أمرك.
ثم ان هاشما خرج للسفر وخرج معه اصحابه بأسلحتهم، وخرج معه العبيد يقودون الخيل والجمال، وعليها احمال الاديم، وعند خروجه نادى في اهل مكة، فخرجت معه السادات والاكابر، وخرج معه العبيد والنساء لتوديعه، فأمرهم بالرجوع، وسار هو وبنو عمه واخوه المطلب الى يثرب كالأسود، طالبين بني النجار، فلما وصلوا المدية أشرق بنور رسول الله (صلى الله عليه واله) ذلك الوادي من غرة هاشم حتى دخل جملة البيوت، فلما رآهم اهل يثرب بادروا اليهم مسرعين، وقالوا : من أنتهم ايها الناس، فما رأينا احسن منكم جمالا، ولا سيما صاحب هذا النور الساطع والضياء اللامع؟.
قال لهم المطلب : نحن أهل بيت الله، وسكان حرم الله، نحن بني لؤي بن غالب، وهذا اخونا هاشم بن عبد مناف، وقد جئناكم خاطبين، وفيكم راغبين، وقد علمتم ان اخانا هذا خطبته الملوك والاكابر فما رغب الا فيكم، ونحب ان ترشدونا الى سلمى، وكان ابوها يسمع الخطاب، فقال لهم : مرحبا بكم، انتم ارباب الشرف والمفاخر، والعز والمآثر، والسادات الكرام، والمطعمون الطعام، ونهاية الجود والاكرام، ولكم عندنا ما تطلبون، غير ان المراة التي خرجتم لاجلها، وجئتم لها طالبين هي ابنتي وقرة عيني، وهي مالكة نفسها، ومع ذلك انها خرجت بالأمس الى سوق من اسواقنا مع نساء من قومها يقال له سوق بني قينقاع، فان اقمتم عندنا فانتم في العناية والكلاءة، وان اردت ان تسيروا اليها ففي الرعاية، ومن الخاطب لها والراغب فيها؟.
قالوا : صاحب هذا النور الساطع والضياء اللامع، سراج بيت الله الحرام، ومصباح الظلام، الموصوف بالجود والاكرام، هاشم بن عبد مناف، صاحب رحلة الايلاف، وذروة الاحقاف، فقال ابوها : بخ بخ، لقد علونا وفخرنا بخطبتكم، اعلموا يا من حضر اني قد رغبت في هذا الرجل اكثر من رغبته فينا، غير اني اخبركم اني امري دون امرها، وها انا اسير معكم اليها، فانزلوا يا خير زوار، ويا فخر بني نزار.
قال : فنزل هاشم واخوه وأصحابه وحطوا رحالهم ومتاعهم، وسبق ابوها عمرو الى قومه، ونحر لهم النحائر، وعقر لهم العقائر، واصلح لهم الطعام، وخرجت لهم العبيد بالجفان، فأكل القوم منه حسب الحاجة، ولم يبق من أهل يثرب أحد الا خرج ينظر الى هاشم ونور وجهه، وخرج الاوس والخزرج والناس متعجبين من ذلك النور، وخرج اليهود، فلما نظروا اليه عرفوه بالصفة التي وجدوها في التوراة والعلامات، فعظم ذلك عليهم، وبكوا بكاء شديدا.
تعليق