~~~ وجاءَت سَكْرَة الموت ~~~
(الّذي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَملاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ ) . ( المُلك / 2 )
(واضرِبْ لَهُم مَثَلَ الحَياة الدُّنيا كَماء أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فاختلطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فأصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وكانَ اللهُ على كلِّ شيء مُقْتَدِراً * المالُ والبَنونَ زِينةُ الحَياةِ الدُّنيا والباقياتُ الصّالحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثواباً وخَيْرٌ أمَلاً ) . ( الكهف / 45 ـ 46 )
(وَما الحياةُ الدُّنيا إلاّ مَتاعُ الغُرُورِ ) . ( آل عمران / 185 )
(أَلهاكُمُ التّكاثُرُ * حَتّى زُرْتُمُ المَقابِرَ ) . ( التكاثر / 1 ـ 2 )
(كلُّ نَفْس ذائقةُ المَوتِ وإنَّما تُوَفَّوْنَ أُجورَكُم يَوْمَ القِيامَةِ ) .
( آل عمران / 185 )
(وجاءَت سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحقِّ ذلكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحيدُ ) . ( ق / 19 )
(حتّى إذا حَضرَ أَحَدَهُم الموتُ قال إنِّي تُبْتُ الآنَ ) . ( النساء / 18 )
(إنّ الّذين قالوا رَبُّنا اللهُ ثمّ اسْتَقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيهمُ الملائكةُ ألاّ تَخافوا وَلا تَحزَنُوا وأبشِروا بالجَنَّةِ الّتي كُنْتُم تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَولِياؤكُم في الحَياةِ الدُّنيا وفي الآخِرَةِ ولَكُم فِيها ما تَشْتَهي أَنفُسُكُم وَلَكُم فِيها ما تَدَّعُونَ ) . ( فصّلت / 30 ـ 31 )
(فَكيفَ إذا تَوفّتهُمُ الملائكةُ يَضرِبونَ وجوهَهُم وأدبارَهُم ) .
( محمّد / 27 )
(ولَو تَرى إذ الظالِمُونَ في غَمَراتِ المَوْتِ والمَلائكةُ باسِطو أَيدِيهم أخرجُوا أنفُسَكُم اليومَ تُجزَون عَذَابَ الهُونِ بِما كُنْتُم تَقُولونَ على اللهِ غَيرَ الحقِّ وكُنتُم عَن آياتهِ تَسْتَكْبِرونَ ) . ( الأنعام / 93 )
(كَلاّ إذا بلغتِ التّراقِيَ * وقِيلَ مَن راق * وظنَّ أ نّه الفِراقُ * والْتفَّتِ السّاقُ بالسّاقِ * إلى ربِّكَ يَومئذ المَساقُ ) . (القيامة/26 ـ 30 )
(فَلَوْلا إذا بَلَغتِ الحُلْقُومَ * وأنْتُم حِينَئِذ تَنْظُرونَ * ونَحْنُ أقْرَبُ إليهِ مِنكُم وَلكِن لا تُبْصِرُون ) . ( الواقعة / 83 ـ 85 )
الموت والحياة حقيقتان متكاملتان في عالم المخلوقات، فما من مخلوق في هذا الوجود إلاّ وقد كتب عليه الفناء .
(كلُّ مَنْ عَليْها فان * ويَبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ والإكْرامِ ) .
( الرّحمن / 26 ـ 27 )
فالفناء منتهى المسيرة، ومحط القافلة، والموت غاية الحياة وكمال نظامها ، لذا فلا شيء في عالم الأحياء أوضح من ظاهرة الموت، ولا حقيقة أصدق منها عند الإنسان، وأكثر رعباً وخوفاً في قلبه ونفسه، بل غريزة الخوف في الأحياء جميعها هدفها حفظ الحياة، والفرار من الموت .
فإنّ التحليل النفسي الدقيق لأسباب الخوف والقلق في الحياة يوصلنا إلى أنّ السبب فيهما هو الشعور بخطر الموت ـ أي الفناء ـ والخوف منه .
ولقد كانت مشكلة فهم الحياة والموت من أعقد مشاكل الفكر الإنساني، ومن أبرز مرتكزات التفكير وتحديد نمط الحضارات ونظام الحياة .
حتى تلخّصت الأفكار والفلسفات الحيوية كلها في تفسير الموت والحياة باتجاهين متعاكسين :
أحدهما : يرى الموت نهاية الحياة، وهو الفناء الأبدي والعودة بالموجود إلى عدمه الأوّل، فلا شيء بعد الموت إلاّ العدم والفناء .
واتجاه : يرى الموت بداية لعالم جديد ، هو عالم الآخرة، وهو امتداد للحياة. وقد مثّل الاتجاه الأوّل الأفكار والعقائد المادية الجاهلية التي صوّرها القرآن بقوله :
(إنْ هِيَ إلاّ حَياتُنا الدُّنْيا نَمُوتُ ونَحْيا ) . ( المؤمنون / 37 )
تلك الاتجاهات التي عجزت بتفكيرها المادي أن تُشخِّص ما بعد الموت، فعجزت عن فهم معنى الموت فتصوّرته فناءً وإعداماً أبدياً لوجود الإنسان.
في حين مثّل الاتجاه الثاني الرسالات الإلهية التي كشفت للإنسان حقيقة الموت الغامض عنده، وأوضح الخالق العليم حقيقة الموت بأنه انتقال من عالم إلى عالم آخر، وإنهاء لمرحلة حيوية للانتقال إلى مرحلة حيوية اخرى ، لها نظامها وقوانينها الخاصة .
إنّ ساعات الاحتضار هي ساعات التهيؤ للانفصال عن عالم الدنيا ، إنّها ساعات المخاض والولادة في عالم الآخرة .
لنقرأ ما ورد في القرآن الكريم من بيان رباني عن تلك الساعات الحرجة في حياة الإنسان، ساعات الوداع التي تتجمع فيها أمامه مسيرة الحياة، وما ترك فيها من جمع وجهود وعمر وكدح . إنّها ساعات الحسرة والفراق والندم .
إنّه الآن على قمة يشاهد من فوقها عالمي الدنيا والآخرة، كما يشاهد الواقف على قمة الجبل جانبيه، والمساحات الواقعة تحتهما .
لقد صوّر القرآن تلك الحالة المرعبة المروّعة التي يرى فيها مصيره وما ينتظره في عالم الآخرة، وهو لما يتم خروجه من عالم الدنيا بعد .
لنقرأ العبرة والموعظة والبيان القرآني من خلال الوقوف على مشهد انتزاع أرواح المجرمين وحالة احتضارهم، قال تعالى :
(وجاءَت سَكْرةُ المَوْتِ بالحقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) . ( ق / 19 )
(فَكَيْفَ إذا تَوَفّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبونَ وُجُوهَهُم وأدْبارَهُم ) .
( محمّد / 27 )
(وَلَو تَرى إذ الظّالِمُونَ في غَمَراتِ المَوْتِ والمَلائِكَةُ باسِطُو أيْدِيهِم أَخْرِجُوا أَنفُسَكُم اليَوْمَ تُجْزَونَ عَذَابَ الهُوْنِ ... ) . ( الأنعام / 93 )
(حتى إذا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ ... ) . ( النساء / 18 )
(كَلاّ إذا بَلَغَتِ التّراقيَ ) . ( القيامة / 26 )
(وقِيلَ مَنْ راق ) . ( القيامة / 27 )
(وظَنَّ أَ نّهُ الفِراقُ ) . ( القيامة / 28 )
(والتفَّتِ السَّاقُ بالسَّاقِ ) . ( القيامة / 29 )
(إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذ المَساقُ ) . ( القيامة / 30 )
(فَلَوْلا إذا بَلَغَتِ الحُلْقُوم ) . ( الواقعة / 83 )
(وأَنْتُم حِينَئِذ تَنْظُرُون ) . ( الواقعة / 84 )
(وَنَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُم ولكِنْ لاَ تُبْصِرُون ) . ( الواقعة / 85 )
وهكذا يتحدّث القرآن عن فترة الاحتضار، وحركة الروح للخروج من البدن إلى العالم الآخر، الذي نسميه الموت .
فإنّها تبدأ بالانسحاب من أطراف الجسد حتى تبلغ التراقي ، وهي لحظات سمّاها القرآن بغمرات الموت التي تغشى الظالمين ، وهم يشاهدون في تلك اللحظات ملائكة العذاب ينتظرون خروج الروح ويوجهون الخطاب إلى المجرم المحتضر : أخرج روحك إلينا .
وحين يتمّ خروج الروح الآثمة من البدن وتلج ولوجاً كاملاً في العالم الآخر يتلقاها ملائكة العذاب لتُساق إلى عالم البرزخ، وتوصل إلى مستقرها الذي استحقته بعملها في عالم الدنيا .
وكما تحدث القرآن عن كيفية انتقال أرواح المجرمين والعصاة من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، تحدث كذلك عن خروج أرواح المؤمنين، وخطاب ملائكة الرحمة والنعيم لهم ينادونهم بالبشرى والطمأنينة .
(تَتَنزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ ألاّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وابْشِرُوا بالجنّةِ الّتي كُنْتُم تُوعَدُونَ * نَحْنُ أوْلياؤُكُم في الحَياةِ الدُّنيا وفي الآخِرَةِ ... ) .
( فصّلت / 30 ـ 31)
والموت كما وُضّح لنا من خلال البيان القرآني هو عملية انفصال الروح عن البدن، وانتقالها إلى عالم الآخرة ، وذلك صريح قوله تعالى :
(اللهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ... ) . ( الزمر / 42 )
(يا أيّتُها النّفْسُ المُطْمَئِنّةُ * ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) .
( الفجر / 27 ـ 28 )
(إنّا لِلّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُون ) . ( البقرة / 156 )
فتوفِّي الأنفس ورجوعها إلى الله سبحانه هو انتقالها من دار الدنيا إلى دار الآخرة عبر هذه العملية التي تسمّى الموت .
لذلك وصف النبيّ (صلى الله عليه وآله) الموت بقوله :
«الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنّاتهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم» .
وتحدّث الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) عن الموت فقال :
«ما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم من البؤس والضّراء إلى الجنان الواسعة، والنعيم الدائم، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر، وهو لأعدائكم كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب» .
وقيل لمحمّد بن علي الباقر (عليه السلام) : ما الموت ؟ قال :
«هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة إلاّ أ نّه طويل مدّته، لاينتبه منه إلى يوم القيامة...» .
وجاء في الحديث النبوي الشريف :
«خُلقتم للأبد ، وإنّما تُنقلون من دار إلى دار» .
وهكذا يفهم الإنسان المسلم عملية الموت بأنها عملية انتقال من دار إلى دار، فلا تثير في نفسه القلق والشعور بعدمية معنى الحياة، وتطهّر نفسه هذه العقيدة من الجريمة والظلم والجشع والحسد والعدوان والصراع على الحطام الزائل، وتحقق في نفسه الرضا والطمأنينة لإيمانه بانتهاء هذا العالم والانتقال إلى عالم آخر يصنعه الإنسان بفعله وعقيدته ونواياه .
تعليق