حِكَم سراج ال محمد الامام زين العابدين عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أدلى الإمام زين العابدين(عليه السلام) بكثير من الحكم القيمة، والتعاليم الرفيعة التي انبعثت عن خبرته الكاملة لواقع الحياة، وتعمقه في شؤونها الاجتماعية، وخبرته بأحوال الناس، وأمورهم، وفيما يلي بعض ما أثر عنه:
ذم التكبر:
ذم الإمام (عليه السلام) التكبر، ونعى على المتكبر هذه الظاهرة السيئة لأنها باب لكل شر ومصدر لكل رذيلة، فالمتكبر لا يرى غيره يستحق الحياة، ومن ثم يقوم بالظلم والاعتداء على الناس، يقول (عليه السلام): (عجبت للمتكبر الفجور، الذي كان بالأمس نطفة ثم غداً هو جيفة). إن المتكبر على الناس الفخور بنفسه، لو تأمل ذاته قليلاً ونظر إلى بداية تكوينه، ونهاية مصيره لما تكبر على الناس، وفخر بما يتمتع به من مال أو بنين.
من مأمنه يؤتى الحذر:
ومن كلماته الحكمية الخالدة هذه الكلمات الذهبية الرائعة، قال (عليه السلام): (من مأمنه يؤتى الحذر، يكتفي اللبيب بوحي الحديث، وينبو البيان عن قلب الجاهل، ولا ينتفع بالقول، وإن كان بليغاً مع سوء الاستماع..) أما معطيات هذه الكلمات البليغة فهي:
1- إن الحذر يؤتى من مأمنه: ومعنى ذلك أن من يقيم حرساً مكثفاً للحفاظ على حياته كما يفعل الملوك، والرؤساء، فإن ما يحذرونه يأتي - على الأكثر - من أولئك الحراس، فإنهم هم الذين يفتكون بهم كما وقع ذلك كثيراً مع بعض الملوك.
2- إن اللبيب المتفتح ذهنه هو الذي يفهم الأمور من وحي الحديث، وقرائن الأحوال ولا يحتاج إلى التعمق والبسط في القول.
3- إن البيان يبتعد عن قلب الجاهل، ولا يصل إليه لأنه قد ران علينا الجهل فصده عن فهم الأمور.
4- إن بلاغة القول وحكمته لا ينتفع بهما مع سوء الاستماع، وإنما ينتفع بهما مع الإصغاء.
التحذير من المراء:
حذر الإمام (عليه السلام) من المراء، وهو المجادلة التي لا يقصد منها الوصول إلى الحق، وإنما المقصود المغالبة والاستعلاء قال (عليه السلام): (المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون به المغالبة، والمغالبة من أمتن أسباب القطيعة) إن المراء مفتاح للشر، ويلقي بين الناس العداوة والبغضاء، ويسبب لهم كثيراً من المصاعب والمشاكل.
الابتهاج بالذنب:
إن الابتهاج بالذنب، والافتخار به ينم عن تمادي الشخص في الجريمة قال (عليه السلام): (إياك والابتهاج بالذنب، فإن الابتهاج بالذنب أعظم من ركوبه).
أنواع الذنوب:
أما أنواع الذنوب التي توجب سخط الله وعذابه فقد تحدث الإمام عنها، وحذر منها ليكون الإنسان في سلامة من دينه ودنياه، قال (عليه السلام): (الذنوب التي تغير النعم البغي على الناس، والزوال عن العادة في الخير، واصطناع المعروف، وكفران النعم، وترك الشكر، قال الله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
والذنوب التي تورث الندم قتل النفس التي حرم الله، قال الله تعالى في قصة قتل قابيل حين قتل أخاه فعجز عن دفنه: (فأصبح من النادمين) وترك صلة القرابة حتى يستغنوا، وترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وترك الوصية ورد المظالم، ومنع الزكاة حتى يحضر الموت، وينغلق اللسان.
والذنوب التي تنزل النقم عصيان العارف، والتطاول على الناس، والاستهزاء بهم، والسخر بهم. والذنوب التي تدفع النعم إظهار الافتقار، والنوم عن العتمة، وعن صلاة الغداة، واستحقار النعم، وشكوى المعبود، والذنوب التي تهتك العصم شرب الخمر، واللعب بالقمار، وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو والمزاح وذكر عيوب الناس، ومجالسة أهل الريب. والذنوب التي تنزل البلاء ترك إغاثة الملهوف، وترك معونة المظلوم، وتضييع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والذنوب التي تديل الأعداء المجاهرة بالظلم، وإعلان الفجور، وإباحة المحظور، وعصيان الأخيار، واتباع الأشرار. والذنوب التي تعجل الفناء قطيعة الرحم، واليمين الفاجرة، والأقوال الكاذبة والزنا، وسد طرق المسلمين، وادعاء الإمامة بغير حق، والذنوب التي تقطع الرجاء اليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والثقة بغير الله والتكذيب بوعد الله، والذنوب التي تظلم الهواء السحر والكهانة، والإيمان بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وعقوق الوالدين، والذنوب التي تكشف الغطاء الاستدانة بغير نية الأداء، والإسراف في النفقة على الباطل، والبخل على الأهل والولد وذوي الأرحام، وسوء الخلق، وقلة الصبر، واستعمال الضجر، والاستهانة بأهل الدين والذنوب التي ترد الدعاء سوء النية وخبث السريرة، والنفاق مع الإخوان، وترك التصديق بالإجابة وتأخير الصلوات المفروضات حتى تذهب أوقاتها، وترك التقرب إلى الله عز وجل بالبر والصدقة، واستعمال البذاء والفحش في القول، الزور، وكتمان الشهادة، ومنع الزكاة والفرض والماعون وقساوة القلوب على أهل الفقر والفاقة، وظلم اليتيم والأرملة، وانتهار السائل ورده بالليل..).
لقد حذر الإمام (عليه السلام) من اقتراف هذه الذنوب والجرائم التي توجب انحراف الإنسان في سلوكه، وتبعده عن خالقه، وقد ذكر الإمام آثارها الوضعية، وما يترتب عليها من المضاعفات السيئة في الدنيا قبل الدار الآخرة، ومن الحق أن هذا الحديث وأمثاله من أحاديث الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) - في هذا الموضوع - من المناجم الخصبة في تربية النفس، وتهذيبها، وتنظيم توازنها وسلوكها.
حقيقة الموت:
ووصف الإمام (عليه السلام) حقيقة الموت بالنسبة للمؤمنين والكافرين، بقوله: (الموت للمؤمن كنزع ثياب وسخة، وفك أغلال ثقيلة، والاستبدال بأفخر الثياب، وأوطأ المراكب، وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل من منازل أنيسة، والاستبدال بأوسخ الثياب، وأخشنها، وأوحش المنازل وأعظمها..).
لقد تواترت الأخبار عن أئمة الهدى(عليهم السلام) أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فإذا حل الموت بالمؤمن فإنه لا يجد فيه أية صعوبة، وإنما يجد الراحة الكبرى لأنه ينتقل إلى نعيم الآخرة تبوأ الفردوس حيثما يشاء، وأما الكافر فإذا نزل الموت بساحته فإنه يوم شقائه وبلائه، ويواجه الموت بحسرات وآلام لأنه ينتقل من جنة إلى سجن وعذاب دائم.
أهم أنواع الزهد:
سأل شخص الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن الزهد، فقال (عليه السلام): الزهد عشرة أشياء، فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا، ألا وإن الزهد في آية من كتاب الله قوله: (لكيلا تأسوا على فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) وألم هذا الحديث الشريف ببعض الحقائق العرفانية، منها:
(أ) إن أسمى درجة من الزهد لا تعادل أدنى درجة من الورع عن محارم الله الناشئ عن ضبط النفس، والسيطرة عليها.
(ب) إن ارقى درجة من الورع هي أدنى درجة من اليقين بالله تعالى الذي هو من أسمى مراحل الإيمان.
(ج) إن أعلى مرتبة من اليقين هي أدنى درجة من الرضا بما قسم الله، فإنه جوهر الإيمان.
(د) أن حقيقة الزهد قد ألمت به الآية الكريمة التي حذرت من الأسى والحزن على ما يفوت الإنسان من المنافع في دار الدنيا، كما حذرت من الفرح والابتهاج بما يكسبه الإنسان ويظفر من ملاذ هذه الحياة وخيراتها المادية، لأنها تؤول إلى التراب.
أفضل الأعمال عند الله:
سئل الإمام (عليه السلام) عن أفضل الأعمال عند الله، فقال: (ما من عمل أفضل عند الله تعالى بعد معرفة الله، ومعرفة رسوله أفضل من بغض الدنيا، وإن لذلك شعباً كثيرة، وإن للمعاصي شعباً، فأول ما عصي الله به الكبر، وهو معصية إبليس حين أبى، واستكبر، وكان من الكافلارين، والحسد وهو معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله، فتشعب من ذلك حب النساء، وحب الدنيا، وحب الرئاسة، وحب الراحة، وحب الكلام، وحب العلو، وحب الثروة، فصرن سبع خصال، فاجتمعن كلهن في حب الدنيا، فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك.. حب الدنيا رأس كل خطيئة، والدنيا دار بلاء..).
إن حب الدنيا أساس البلاء، ومصدر الفتن، والأخطاء التي يمنى بها الإنسان، فإن تهالكه على الدنيا يجر له كثيراً من المعاصي والآثام، ويلقيه في شر عظيم، وقد ذكر الإمام (عليه السلام) بعض الآفات من حب الدنيا، والتي منها:
1- التكبر.
2- الحسد.
3- حب النساء وحب الرياسة.
4- حب الراحة.
5- حب الكلام.
6- حب العلو على الغير.
7- حب الثروة.
وهذه الآفات قد جعلت الإنسان يسلك في المنعطفات، وأغرقته في الآثام، وأبعدته عن طريق الحق.
معرفة العدالة:
ومن غرر حكميات الإمام (عليه السلام) هذا الحديث الشريف الذي حدد فيه عدالة الإنسان، ووثاقته، قال (عليه السلام):
(وإذا رأيتم الرجل قد حسُن سمته، وهديه، وتمادى في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويداً لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا، وركوب الحرام منها، لضعف بنيته، ومهانته، وجبن قلبه، فنصب الدين فخاً له، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرام اقتحمه، وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويداً لا يغرنكم، فإن شهوات لاخلق مختلفة، فما أكثر من يتأبى عن الحرام وإن كثر، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة، فيأتي منها محرما، فإذا رأيتموه كذلك فرويداً لا يغرنكم حتى تنظروا عقدة عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله.. فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغرنكم حتى تنظروا أيكون هواه على عقله، أم يكن عقله على هواه؟ وكيف محبته للرياسة الباطلة وزهده فيها؟ فإن في الناس من يترك الدنيا للدنيا، ويرى أن لذة الرياسة الباطلة أفضل من رياسة الأموال والنعم المباحة المحللة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرياسة، حتى إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم وبئس المهاد، فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطله إلى أبعد غايات الخسارة، ويمد به بُعد طلبه لما لا يقدر في طغيانه، فهو يحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له الرياسة التي د شقي من أجلها فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذاباً أليما.
ولكن الرجل كل الرجل الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله، وقواه مبذولة في قضاء الله، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد مع العز في الباطل، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤدي إلى دوام النعيم في دار لا تبيد، ولا تنفد، وأن كثيراً ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤدي به إلى عذاب لا انقطاع له، ولا زوال، فذلك الرجل تمسكوا به، واقتدوا بسنته، وإلى ربكم توسلوا به، فإنه لا ترد له دعوة، ولا يخيب من طلبه..).
واستهدف حديث الإمام (عليه السلام) معرفة العدالة التي هي من أجل الملكات النفسية لأن بها يسمو الإنسان، ويتحرر من أوضار المادة، ومغريات النفس وشهواتها بحيث لم يعد أي سلطان عليه من النزعات الشريرة، والفاسدة، وقد استند بعض الفقهاء إلى هذا الحديث إلى اعتبار أرقى مراتب العدالة لمن يتصدى إلى المرجعية العامة من الفقهاء.
لقد دل الحديث - بوضوح - على أن معرفة الرجل العادل الكامل في ورعه وتقواه ينبغي أن تستند إلى الفحص الدقيق، والخبرة الكاملة، لا إلى النظرة الخاطفة، والتي منها ما يلي:
(أ) حسن السمت: فإنه ليس دليلاً على العدالة والتقوى.
(ب) إظهار الإصلاح: فإنه أيضاً ليس دليلاً على العدالة، لأنه قد يكن خداعاً منافقاً، اتخذ الدين وسيلة لنيل مآربه وأطماعه وشهواته بعد أن عجز عن الظفر بها في سائر الوسائل الأخرى.
(ج) الامتناع عن المال الحرام: وهذا أيضاً ليس دليلاً على التقوى لأنه قد يحمل نفسه على ذلك، ويرغمها في سبيل تحقيق مآربه، وأغراضه التي لا صلة لها بالدين أصلاً.
أما الوسائل التي ستكشف بها كمال الورع والوثاقة، والدين فهي:
(أ) أن يغلب عقل الإنسان على هواه وشهوته.
(ب) عدم حب للرياسة الباطلة، وزهده فيها، فإن ذلك من أوثق الإمارات على العدالة.
(ج) اتباع أوامر الله، والانقياد الكامل لطاعته تعالى، بحيث يوجه جميع طاقاته للحصول على مرضاة الله والتقرب إليه، فهذا هو العادل الواقعي الذي تنبعث عدالته عن فكر وتأمل وإيمان.
صفات المنافق والمؤمن:
وأدلى الإمام (عليه السلام) بالحديث التالي مبيناً بعض صفات المنافقين، والمؤمنين، قال: (المنافق ينهى ولا ينتهي، ويأمر و يأتي، إذا قام للصلاة اعترض، وإذا ركع ربض، وإذا سجد نقر، يمسي وهمه العشاء ولم يصم، ويصبح وهمه النوم ولم يسهر.
والمؤمن خلط علمه بحلمه، يجلس ليعلم، وينصت ليسلم، لا يحدث بالأمانة للأصدقاء، ولا يكتم الشهادة للبعداء، ولا يعمل شيئاً من الحق رياءً، ولا يتركه حياءً إن زكّي خاف مما يقولون: ويستغفر الله لما لا يعلمون، ولا يضره جهل من جهله..) لقد ألم حديث الإمام (عليه السلام) بأبرز صفات المنافقين والمؤمنين، أما صفات المنافقين فهي:
(أ) إن المنافق ينهى عن المنكر، ولا ينتهي عنه، ويأمر بالمعروف، ولا يأتي به لأنه لم يكن يؤمن بذلك في أعماق نفسه، أما السبب في أمره ونهيه فهو للخداع والتضليل بأنه من خيار الناس.
(ب) إنه إذا قام للصلاة اعترض على تشريعها، كما أنه إذا ركع في صلاته ربض أي هوى إلى الأرض كالغنم عند ربوضها، وأما سجوده فهو غير مستقر فيه، فمثله كمثل الطائر عند نقره الطعام.
(ج) إنه كالبهيمة في أن همها علفها، فكذلك هو يصبح ويمسي ولا همّ له إلا الطعام.
أما الصفات التي امتاز بها المؤمن فهي:
(أ) إن شخصيته مركبة من عنصرين، وهما: العلم والحلم، فهو عالم وحليم ومن اجتمعت فيه هاتان الصفتان بلغ أعلى مراتب الكمال.
(ب) إنه لا يجلس عند أحد إلا ليتعلم منه العلم والحكمة، ولا يجلس في مجالس اللهو والبطالة التي لا يستفيد منها شيئا.
(ج) إنه إذا أنصت لأحد فإنما ليسلم منه، ويأمن شره والاعتداء عليه.
(د) إذا استؤمن على شيء يكمته، ولا يفشيه لأحد حتى لأصدقائه.
(هـ) إذا تحمل الشهادة يدلي بها، ولا يكتمها.
(و) إذا عمل شيئاً من الحق، لا يعمله رياءً ولا سمعة، وإنما خالصا لوجه الله تعالى.
(ز) إذا زكّي، ونعت ببعض الأوصاف الشريفة، فإن يخاف أن لا يكون قد اتصف بذلك، ويستغفر الله لمن أطلق عليه تلك الأوصاف.
(ج) إنه لا يهتم بمن جهله، ولا يقيم له وزناً.. إن هذه الصفات الماثلة في المؤمن تدب على سموّ ذاته، وكمال شخصيته.
نصائح رفيعة:
وقدم الإمام (عليه السلام) لبعض أصحابه هذه النصيحة الرفيعة قائلاً له:
(ليس لك أن تقعد مع من شئت فإن الله تبارك وتعالى يقول: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) وليس لك أن تتكلم بما شئت فإن الله تعالى يقول: (ولا تقف ما ليس لك به علم) ولأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (رحم الله عبداً قال خيرا فغنم أو صمت فسلم) وليس لك أن تسمع ما شئت، فإن الله تعالى يقول: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً).
إن الإنسان المسلم لو طبق على واقع حياته هذه النصائح الرفيعة لظفر بخير عميم وكان بمنجاة من الشقاء والشرور.
المواساة والإحسان:
كان الإمام (عليه السلام) يحث شيعته وأصحابه على المواساة والإحسان فيما بينهم لأنه خير ضمان لوحدتهم، واجتماع لكلمتهم، وقد أثر عنه كثير من الأخبار في ذلك وهذه بعضها:
1- قال (عليه السلام): (إن أرفعكم درجات، وأحسنكم قصوراً وأبنية - يعني في الجنة - أحسنكم إيجاباً المؤمنين، وأكثركم مواساة لفقرائهم، إن الله ليقرب الواحد منكم إلى الجنة بكلمة طيبة يكلم بها أخاه المؤمن الفقير، بأكثر من مسيرة ألف عام يقدمه، وإن كان من المعذبين بالنار، فلا تحتقروا الإحسان إلى إخوانكم، فسوف ينفعكم حيث لا يقوم مقام غيره..) لقد حث الإمام (عليه السلام) على مواساة الفقراء والإحسان إليهم، وذكر ما يترتب عليه من الأجر الجزيل عند الله، وعد من المواساة الكلمة الطيبة التي يقدمها الإنسان المسلم لأخيه، لأنها مما توجب شيوع المودة والألفة بين المسلمين.
2- قال الإمام (عليه السلام): (من بات شبعاناً وبحضرته مؤمن جائع طاو فإن الله تعالى يقول لملائكته: اشهدوا على هذا العبد أمرته فعصاني، وأطاع غيري، فوكلته إلى عمله، وعزتي وجلالي لا غفرت له أبداً..).
ويعتبر هذا الحديث وأمثاله مما أثر عن أئمة أهل اليبت (عليهم السلام) من العناصر الرئيسية في بناء التكافل الاجتماعي الذي أسسه الإسلام، والذي يقضي - بصورة جازمة - على الفقر والحرمان.
3- قال (عليه السلام): (من كان عنده فضل ثوب فعلم أن بحضرته مؤمناً يحتاج إليه، فلم يدفعه إليه أكبه الله على منخريه في النار).
إن الإسلام بكل اعتزاز وفخر يعتبر الفقر كارثة اجتماعية مدمرة، يجب القضاء عليه بكل السبل والوسائل، وقد حشد جميع أجهزته لإبادته، وإنقاذ المجتمع منه.
4- قال (عليه السلام): (إني لأستحيي من ريب أن أرى أخاً من إخواني، فاسأل الله له الجنة وأبخل عليه بالدينار والدرهم، فإذا كان يوم القيامة قيل لي: لو كانت الجنة لك لكنت با أبخل، وأبخل، وأبخل..).
ويحكى هذا الحديث عن مدى تعاطف الإمام (عليه السلام) أمام قضايا البر والإحسان، وحثه عليهما.
5- قال (عليه السلام): (من أطعم مؤمناً حتى يشبع، لم يدر أحد من خلق الله ما له من الأجر في الآخرة لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا الله رب العالمين.. وأضاف الإمام قائلاً: من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان، ثم تلا قوله تعالى: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيماً ذا مقربة * أو مسكيناً ذا متربة).
وفي هذا الحديث دعوة إلى إطعام الجائع، ودفع السغب عنه، وقد حث الإسلام على ذلك واعبره ضرورة إسلامية ملحة يسأل عنها الإنسان المسلم، ويحاسب عليها خصوصاً إذا كان الفقير في حاجة ماسة إلى الطعام.
6- قال (عليه السلام): (من قضى لأخيه حاجة قضى الله له مائة حاجة، ومن نفّس عن أخيه كربة نفّس الله عنه كربه يوم القيامة، بالغاً ما بلغت، ومن أعانه على ظالم له، أعانه الله على إجازة الصراط عند دحض الأقدام، ومن سعى له في حاجة حتى قضاها له فسر بقضائها، كان كإدخال السرور على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن سقاه من ظمأ، سقاه الله من الرحيق المختوم، ومن أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن كساه من عري، كساه الله من إستبرق وحرير، ومن كساه من غير عري لم يزل في ضمان الله ما دام على المكسي من الثوب سلك، ومن كفاه ما أهمه أخدمه الله من الولدان، ومن حمله على راحلة بعثه الله يوم القيامة على ناقة من نوق الجنة يباهي به الملائكة، ومن كفنه عند موته كساه الله يوم ولدته أمه إلى يوم يموت، ومن زوجه زوجة يأنس بها، ويسكن إليها آنسه الله في قبره بصورة أحب أهله إليه، ومن عاده في مرضه حفته الملائكة تدعو له حتى ينصرف، وتقول: طبت، وطابت لك الجنة.. والله لقضاء حاجته أحب إلى الله من صيام شهرين متتابعين باعتكافهما في الشهر الحرام..).
إن هذه التعاليم الرفيعة التي أعلنها الإمام (عليه السلام) مما توجب تضامن المسلمين وشيوع المودة والرحمة والتعاطف بينهم.
7- قال (عليه السلام): (يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما يكون، وأجوع ما يكون، وأعطش ما يكون، فمن كسى مؤمناً في دار الدنيا كساه الله من حلل الجنة، ومن أطعم مؤمناً في دار الدنيا أطعمه الله من ثمار الجنة ومن سقى مؤمناً في دار الدنيا شربة، سقاه الله من الرحيق المختوم..).
إن الإسلام يحرص كل الحرص على إبادة الفقر والبؤس، ونفي الحاجة من المجتمع الإسلامي وقد ضمن الجزاء الأوفى في دار البقاء لمن يقوم بإسعاف أخيه وبره.
8- قال (عليه السلام): (من أطعم مؤمناً من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمناً عن ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن كسى مؤمناً من عرى، لم يزل في ستر الله وحفظه ما بقيت منه خرقة..).
إن هذه المبادئ التي رفع شعارها الإمام (عليه السلام) تمثل جوهر الإسلام وواقعه ولو طبقها المسلمون على واقع حياتهم لكانوا سادة الأم والشعوب.
صلة الأرحام:
وحث الإمام (عليه السلام) على صلة الأرحام، وحذر من قطيعتها، وذلك لما يترتب عليها من المضاعفات السيئة، قال (عليه السلام): (من سره أن يمد الله في عمره، وأن يبسط له في رزقه فليصل رحمه، فإن الرحم لها لسان يوم القيامة، ذلق تقول: يا رب صل من وصلني، واقطع من قطعني، فالرجل ليرى بسبيل خير إذا أتته الرحم التي قطعها فتهوى به إلى أسفل قعر في النار..).
لقد تواترت الأخبار عن أئمة الهدى (عليهم السلام) في الحث على صلة الأرحام، وإنها توجب العمر المديد للإنسان، والمزيد من الرزق، والأجر الجزيل في الدار الآخرة فإنها توجب تماسك المجتمع، وشيوع المودة والصفاء بين المسلمين، وذلك من أهم ما يدعو إليه الإسلام.
الحب في الله:
دعا الإمام (عليه السلام) المسلمين إلى التحاب، والمودة فيما بينهم في الله تعالى خالصة لا يشوبها شيء من شؤون المادة التي لا تلبث أن تتلاشى، قال (عليه السلام): (إذا جمع الله الأولين والآخرين نادى مناد يسمعه الناس يقول: أين المتحابون في الله؟ فيقوم عنق من الناس، فيقال لهم: اذهبوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقاهم الملائكة ويسألونهم عن العمل الذي جاوز به إلى الجنة، فيقولون: نحن المتحابون في الله، فيقولون: وأي شيء كان أعمالكم؟ فيقولون: كنا نحب في الله، ونبغض في الله فيقولون لهم: نعم أجر العاملين.
إن الحب في الله يوحد، ولا يفرق، ويجمع ولا يشتت، إنه ناشئ عن الإيمان العميق بالله.
الدعاء للمؤمن:
ودعا الإمام (عليه السلام) المؤمنين إلى الدعاء لإخوانهم بظهر الغيب، والثناء عليهم قال (عليه السلام):
(إن الملائكة إذا سمعوا المؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب أو يذكره بخير، قالوا: نعم الخ أنت لأخيك، تدعو له بالخير، وهو غايب عنك، وتذكره بخير، قد أعطاك الله مثلي ما سألت له، وأثنى عليك مثلي ما أثنيت عليه، ولك الفضل عليه، وإذا سمعوه يذكر أخاه بسوء ويدعو عليه، قالوا له: بئس الأخ أنت لأخيك، كف أيها المستر على ذنوبه وعورته، وأربع على نفسك، واحمد الله الذي ستر عليك، واعلم أن الله أعلم بعبده منك..) .
إن هذه السنن والآداب الكريمة مما تعزز وحدة المسلمين وتضامنهم وتوجب شيوع المودة والإخاء فيما بينهم.
جزاء أهل الفضل:
وحث الإمام (عليه السلام) أصحابه ودعاهم إلى إسداء الفضل والمعروف إلى الناس، كما دعاهم إلى التحلي بالصبر والتآزر فيما بينهم قال (عليه السلام): (إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الفضل. فيقوم ناس قبل الحساب، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة ويسألونهم إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة، فإذا سألوهم عما استحقوا ذلك، يقولون: كنا اذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسيء إلينا غفرنا. فيقال لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين، ثم ينادي مناد: ليقم أهل الصبر. فيقوم ناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة ويسألونهم مثل الأول. فيقولون: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معصية الله عز وجل، فيقولون لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين، ثم ينادي مناد: ليقم جيران الله عز وجل، فيقوم ناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة فتسألهم الملائكة عما استحقوا ذلك، وما مجاورتهم لله عز وجل؟ فيقوون: كنا نتزاور في الله، ونتجالس في الله، ونتبادل في الله، فيقولون: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين..).
وفي هذا الحديث الشريف دعوة إلى التحلي بمكارم الأخلاق، ومحاسن الصفات التي توجب رفع مستوى الإنسان، وبلوغه ذروة الشرف والكمال.
الدعوة إلى الدين:
وتقدم رجل إلى الإمام (عليه السلام) فسأله عن الدعوة إلى الدين؟ فقال (عليه السلام) له: (أدعوك إلى الله تعالى، وإلى دينه، وجماعه أمران: الأول: معرفة الله، والآخر العمل برضوانه، وإن معرفة الله أن تعرفه بالوحدانية، والرأفة، والرحمة، والعلم والقدرة، والعلو على كل شيء، وأنه النافع، الضار، القاهر لكل شيء، الذي لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن ما جاء به هو الحق من عند الله تعالى، وأن ما سواهما هو الباطل، فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين..).
إن الدعوة إلى الدين، والدخول في حظيرته يتركزان أن على معرفة الله تعالى، والإيمان بوحدانيته والاعتراف بنبوة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ومن اعترف بكلا الأمرين جرت عليه أحكام الإسلام من حقن دمه وصيانة أمواله ومعاملته كبقية المسلمين.
التحذير من بعض المحرمات:
وحذر الإمام (عليه السلام) من اقتراف بعض الحرمات لأنها مما توجب بُعد الإنسان عن ربه، وتلقيه في شر عظيم قال (عليه السلام): (اتقوا المحرمات كلها، واعلموا أن غيبتكم لأخيكم المؤمن من شيعة آل محمد(صلى الله عليه وآله) أعظم في التحريم من الميتة، قال الله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه) وغن الدم أخف في التحريم عليكم أكله من أن يشي أحدكم بأخيه المؤمن من شيعة آل محمد (صلى الله عليه وآله) إلى سلطان جائر، فإنه يهلك نفسه وأخاه المؤمن، والسلطان الذي وُشي به إليه، وإن لحم الخنزير أخف تحريماً من تعظيمكم من صغر الله، وتسميتهم بأسمائنا أهل البيت، وتلقيبهم بألقابنا، وقد سماهم الله بأسماء الفاسقين، ولقبهم بألقاب الفاجرين، وأن ما أهل به لغير الله، أخف تحريماً عليكم من أن تعقدوا نكاحاً، أو صلاة جماعة، مع أعدائنا الغاصبين لحقوقنا، إذا لم يكن منكم تقية، قال الله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) ومن اضطره اللهو إلى تناول شيء من هذه المحرمات وهو معتقد لطاعة الله فلا إثم عليه.. لقد حذر الإمام (عليه السلام) من اقتراف جميع المحرمات، وأكد بصورة خاصة على اجتناب المحرمات التالية:
(أ) الغيبة: لأنها توجب تصدع الوحدة الإسلامية، وشيوع الكراهية والبغضاء بين المسلمين، ومن المقطوع به أن من كان قلبه عامراً بالإيمان بالله فإنه يبتعد عنها، وكان الإمام (عليه السلام) يحذر منها في كثير من نصائحه، فقد قال له رجل: إن فلاناً ينسبك إلى الضلال والبدعة، فأنكر الإمام عليه ذلك وقال له: (ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت كلامه إلينا، ولا رعيت حقي حيث أبلغتني عن أخي ما لست أعلمه، إن الموت يعمنا، والبعث محشرنا ويوم القيامة موعدنا، والله يحكم فينا، إياك والغيبة فإنها إدام كلاب أهل النار، واعلم أن من أكثر عيوب الناس شهد عليه الإكثار أنه إنما يطلبها بقدر ما فيه..).
(ب) الوشاية بالمؤمن إلى السلطان الجائر: فإنها من أعظم الموبقات لأنها تؤدي إلى التدمير الشامل.
(ج) إضفاء الألقاب الكريمة التي تلقب بها أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على الظالمين الذين أشاعوا الجور والفساد في ذلك العصر.
(د) الاتصال بالظالمين والعمل معهم فإن ذلك يؤدي إلى تقوية مركزهم وإعلاء شأنهم.. هذه بعض محتويات كلام الإمام (عليه السلام).
التحذير من الطمع:
دعا الإمام (عليه السلام) إلى التحرر من ذل الطمع، قال (عليه السلام): (رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع عما في أيدي الناس، ومن لم يرج الناس في شيء، ورد أمره إلى الله تعالى في جميع أموره، استجاب الله له كل شيء..).
إن للطمع آفات خطيرة على الإنسان فهي تورده المهالك، وتلقيه في شر عظيم، والدعوة إلى التحرر منه إنما هي دعوة إلى الكمال، والسمو، والارتقاء.
يتبع
تعليق