تكاد تتفق كل نصوص الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) في نهج البلاغة على أن هذا القرآن الموجود بين أيدينا هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على رسوله الأمين خاتم النبيين محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهو الكتاب الذي تكفل الله بحفظه وتخليده باعتباره الدليل على خلود الرسالة ، وقد صرحت كلماته الشريفة على أن هذا الكتاب الخالد هو القرآن الموجود بين أيدينا والذي أنزل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : (( اعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل والمحدث الذي لا يكذب ، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان ، زيادة في هدى أو نقصان في عمى )) .
إن الشبهة التي تقول أن للإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) مصحفاً غير هذا المصحف المتداول بين المسلمين كافة من جهة النص هي شبهة لا دليل عليها ولا أساس لها من الصحة ، وإن كان ( عليه السلام ) قد اعتزل الناس بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لجمع القرآن وكان موقفه هذا بأمر من النبي ، فكان له مصحف كباقي المصاحف التي جمعت فيها كمصحف زيد بن ثابت ومصحف عبد الله بن مسعود ومصحف أبي بن كعب ، وقد انتهى دور هذه المصاحف والقراءة فيها على عهد عثمان بن عفان عندما أحرقها وجمع الناس على قراءة واحدة .
إن الفرق بين مصحف الإمام علي ( عليه السلام ) والمصاحف الأخرى هو أن الإمام رتبه على ما نزل ودوّن فيه التأويل والتفسير كما سمعـه من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأسباب نزول الآيات وبيان المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وذكر أسماء أهل الحق وأهل الباطل والمنافقين في المناسبات التي نزلت الآيـات فيها ، إذ قال : (( ما نزلت آية على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلا أقرأنيها وأملاها علي فأكتبها بخطي ، وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحمكمها ومتشابهها ، ودعا الله لي أن يعلمني فهمها وحفظها ، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علماً أملاه علي فكتبته منذ دعا لي ما دعا )) .
إن مصحف الأمام علي ( عليه السلام ) لا يخالف المصحف الموجود لدينا في سوره وآياتـه ، وإنما يختلف في ترتيب السور ، وهذا يثبت أن ترتيب السور كان باجتهاد الصحابة والجامعين بخلاف وضع الآيات وترتيبها فإنه كان بإشارة من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكان القرآن كله مكتوباً في عصر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، إلا أنه لم يكن مرتباً على الترتيب الذي رتبه الإمام على سبعة أجزاء ، وكل جزء يشتمل على سور ، فالجزء الأول يبدأ بسورة البقرة ، والجزء الثاني يبدأ بسورة آل عمران ، والجزء الثالث يبدأ بسورة النساء ، والجزء الرابع يبدأ بسورة المائدة ، والجزء الخامس يبدأ بسورة الأنعام ، والجزء السادس يبدأ بسورة الأعراف ، والجزء السابع يبدأ بسورة الأنفال .
وبعد أن جمع الإمام علي ( عليه السلام ) القرآن جاء به إلى الناس وقال : (( إني لم أزل منذ قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مشغولاً بغسله وتجهيزه ثم بالقرآن حتى جمعته كله ولم ينزل الله على نبيه آية من القرآن إلا وقد جمعتها )) ، فعرض الإمام مصحفه على الناس وأوضح مميزاته فقام إليه رجل من كبار القوم فنظر فيه فقال : يا علي أردده فلا حاجة لنا فيه . قال الإمـام ( عليه السلام ) : (( أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبداً ، إنما كان علي أن أخبركم حين جمعته لتقرأوه )) .
وعندئذ احتفظ الإمام ( عليه السلام ) بهذه النسخة من القرآن لنفسه وأهل بيته ( عليهم السلام ) ولم يظهره لأحد حفاظاً على وحدة الأمة ، مع العلم بأن مصحفه لا يختلف من جهة النص إلا في ترتيب السور ، وعندما اختلفت المصاحف في زمن عثمان وأثيرت الضجة بين المسلمين فسأل طلحة الإمـام علياً ( عليه السلام ) لو يخرج للناس مصحفه الذي جمعه بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : وما يمنعك ـ يرحمك الله ـ أن تخرج كتاب الله إلى الناس ؟ فكف ( عليه السلام ) عن الجواب أولاً ، فكرر طلحة السؤال ، فقال : لا أراك أجبتني عما سألتك من أمر القرآن ، ألا تظهره للناس ؟
وأوضح الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) سبب كفه عن الجواب لطلحة مخافة أن تتمزق وحدة الأمة ، حيث قال : (( يا طلحة عمداً كففت عن جوابك فأخبرني عما كتبه القوم ؟ أقرآن كله أم فيه ما ليس بقرآن ؟ )) قال طلحة : بل قرآن كلـه . قال : (( إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار ودخلتم الجنة )) .
تعليق