الحياة تطارد الإنسان نحو مصادره الأصيلة، ليقتبس منها وسيلة جديدة لفتح طريق لم يع?ره صِدام أو خصام. فالتدافع الاجتماعي يمتص الإنسان و يستهلك وقوده، فإذا اصبح هشا ينفيه عن الصميم إلى المخابئ والمجاهل مع النفايات: كما تكتسح الأمواج إلى الساحل ما لا يستطيع الغوص في اللجج، وكما يدفع البدن زوائده من شبكة الجلد... فلابد من موانئ يرفأ إليها الإنسان كلما أضناه الرهق، ليستمد منها الطاقة على استعادة التجربة.
وموانئ الإنسانية عديدة، ولكن - لعل - (نهج البلاغة) ثاني أعظم ميناء للطاقة الإنسانية، يتساقط إليها المتعبون، فإذا نفخ فيهم نشطوا نحو الأجواء العالية لمزاحمة السحاب.
فالقرآن الكريم - ولا شك - أغنى رصيد للانسانية، وقد نظر إلى الكون والحياة والإنسان باستيعاب مركز وعمق معجز. ولكنه ألقى عليها نظرة تطل من ارتفاع شاهق، فتستجلي كل شيء، متجاوزاً عقبات الطبيعة وحواجز البشر. فأعطى درساً دستورياً مكثفاً، بعيد الآفاق والاعماق. فكان كخلاصة الفيتامينات: لا يمكن تناولها في جرعة، ولا يمكن الاكتفاء بها لإقامة جسم.
والرسول الأعظم(ص) - ولا شك - أبلغ من جرب الضاد، ولكن دورة التأسيس لم تكن تسمح إلا بطرح القضايا المبدئية، وخلع نفسه على سطح المجتمع لاقامة قواعد الإيمان وشعائره؛ كلما تراخى الصراع الدائر حول مبدأ التوحيد واصل الرسالة. فلم يكن في وسع الرسول – ولو في يوم واحد – أن يحدث الناس بكنه عقله، وإنما كان يحدثهم بمقدار عقولهم (1) .
فكان في مقدور الإمام أن يقف تحت مظلة القرآن والرسول، ويعمق المفاهيم الجديدة ويركز المقاييس الجديدة التي أتى بها القرآن والرسول.
ووقف الإمام يعمق ويركز - في وفرة هائلة - الأحكام: ابتداء من أول الدين، وتوحيد الله، وصفاته تعالى. ومروراً بفلسفة الرسالات، وتقييم الإسلام ومفاهيمه وأحكامه، وشرح مواقف الرسول، وأبعاد القيادة، والحقوق المتكافئة بين الأطراف الكونية والبشرية. وانتهاء بوصف السماء، والأرض، والطاووس، والنملة، واشياء كثيرة، وبحوث متنوعة...؛ لولاها لكان في الإسلام فراغ كبير وغموض شديد.
1 - إشارة إلى الحديث الشريف: (إنا أمرنا ـ معاشر الأنبياء ـ أن نكلم الناس بقدر عقولهم): موسوعة بحار الأنوار، ج2، ب13، ح23.
تعليق