العراق عاصمة دولة صاحب العصر (عجل الله فرجه الشريف)
ليس ببلد الشقاق والنفاق كما يدعي أعداءه
دلت مجموعة النصوص المروية عن أهل البيت (عليه السلام) على أن العراق العاصمة السياسية للدولة العالمية الكبرى لصاحب العصر (عجل الله فرجه الشريف). ولدينا حول هذا الموضوع مجموعة بحوث:
الأول: استعراض للمهم من تلك النصوص.
الثاني: دلالة تلك النصوص على الهوية الدينية والسياسية للشعب العراقي.
الثالث: رؤية أهل البيت (عليه السلام) للشعب العراقي.
البحث الأول:
رغم أن الثابت بدون شك أن انطلاقة إمام العصر (عجل الله فرجه الشريف) ستكون من أرض الحجاز (مكة المكرمة ثم المدينة المنورة) حيث يلتحق به في مكة المكرمة أصحابه وجنوده من مختلف بقاع العالم، لكن النصوص جميعها تؤكد أنه سيزحف إلى العراق، وبعد تحرير العراق من قبضة السفياني سيتخذ العراق عاصمة دولته الكبرى، ومنه تنطلق قواته لتحرير العالم كله:
أنظر في ذلك النصوص الآتية:
1ـ رواية المفضل بن عمر عن الإمام الصادق (عليه السلام): قال المفضل: قلت: يا سيدي فأين تكون دار المهدي أو مجتمع المؤمنين؟
قال (عليه السلام): دار ملكه الكوفة، ومجلس حكمه جامعها، وبيت ماله ومقسم غنائم المسلمين مسجد السهلة، وموضع خلواته الذكوات البيض من الغريين.
2ـ رواية أبي بكر الحضرمي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال:
(كأني بالقائم (عجل الله فرجه الشريف) على نجف الكوفة، وقد سار إليها من مكة في خمسة آلاف من الملائكة، وجبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، والمؤمنون بين يديه، وهو يفرق الجنود في البلاد).
3ـ رواية المفضل أيضاً عن الإمام الصادق (عليه السلام):
(سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا قام قائم آل محمد (ص وآله) بنى في ظهر الكوفة مسجداً له بألف باب، واتصلت بيوت الكوفة بنهر كربلاء).
4ـ رواية الثمالي قال:
قال أبو جعفر الباقر(عليه السلام):
(يا ثابت كأني بقائم أهل بيتي قد اشرف على نجفكم هذا ـ وأومأ بيده إلى ناحية الكوفة ـ فإذا هو أشرف على نجفكم نشر راية رسول الله (ص وآله) فإذا هو نشرها انحطت عليه ملائكة بدر..).
5ـ رواية جعفر بن يحيى عن أبيه عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:
(كيف أنتم لو ضرب أصحاب القائم بالفساطيط في مسجد الكوفان).
6ـ رواية أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:
قال لي: يا أبا محمد كأني أرى نزول القائم (عجل الله فرجه الشريف) في مسجد السهلة بأهله وعياله.
قلت: يكون منزله جعلت فداك؟
قال: نعم، كان فيه منزل إدريس، وكان منزل إبراهيم خليل الرحمن، وما بعث الله نبياً إلا وقد صلى فيه.
قلت: جعلت فداك لا يزال القائم فيه أبداً؟
قال: نعم.
7ـ رواية عمرو بن شمر عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال:
ذكر المهدي فقال:
يدخل الكوفة وبها ثلاث رايات قد اضطربت، فتصفو له ويدخل حتى يأتي المنبر فيخطب، فلا يدري الناس ما يقوله من البكاء، فإذا كان الجمعة الثانية سأله الناس أن يصلي بهم الجمعة، فيأمر أن يخط له مسجد من الغري ويصلي بهم هناك، ثم يأمر من يحفر من ظهر مشهد الحسين (عليه السلام) نهراً يجري إلى الغريين حتى ينزل الماء في النجف..).
8ـ رواية إبن الجارود عن الباقر (عليه السلام) قال:
إذا قام القائم سار إلى الكوفة فيخرج منها بضعة عشر ألف نفس يدعون البترية عليهم السلاح فيقولون له: إرجع من حيث جئت فلا حاجة لنا في بني فاطمة، فيضع فيهم السيف حتى يأتي على آخرهم، ثم يدخل الكوفة فيقتل فيها كل فاسق مرتاب، ويهدم قصورها ويقتل مقاتليها..).
وعلى الرغم من ضعف بعض الروايات المذكورة من الجانب السندي، لكنها بمجموعها ـ خاصة إذا أضفنا إليها الكم الكبير من الروايات الأخرى المماثلة ـ تدل بشكل وآخر على أن الكوفة ـ وهي قلب العراق يومئذ ـ هي مركز حركة الإمام العسكرية والسياسية، ولذا فإن الشيخ المفيد (قدس سره) في كتابه الإرشاد افتتح الفصل الثاني من القسم المختص بالإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) بقوله (وقد جاء في الأثر بأنه عليه وعلى آبائه السلام يسير من مكة حتى يأتي الكوفة فينزل على نجفها ثم يفرق الجنود منها في الأمصار).
وحيث كانت هذه الروايات المتعددة رغم ضعف بعضها ـ كما أشرنا ـ ربما أمكن إعتمادها لتكوين فكرة إجمالية عن طبيعة التحرك الجغرافي للإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف).
ولعل هذا هو السبب فيما يبدو من كبار علمائنا من رجال الحديث البناء على إعتبارها والتسليم لها، كما نلاحظ ذلك في الإرشاد للمفيد والغيبة للنعماني.
وعلى كل حال فإن هذه الروايات التي بين أيدينا تعطي تواتراً معنوياً بأن الكوفة هي عاصمة الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) في حركته لإقرار العدل في أرجاء البسيطة.
البحث الثاني: الهوية الدينية والسياسية للشعب العراقي
ومن الحق أن نتساءل عن فلسفة اختيار الإمام صاحب العصر (عجل الله فرجه الشريف) العراق متمثلاً يومئذ بالكوفة ونجفها (النجف لغة بمعنى الظهر، والنجف هي ظهر الكوفة وشمالها المرتفع) عاصمة ومنطلقاً لحركته العالمية.
لماذا هذا الاختيار؟
هل لاعتبارات جغرافية وعسكرية؟ وهو أمر نستبعده جداً، أم لاعتبارات بشرية ترتبط بالهوية الدينية والسياسية لأبناء هذه المنطقة؟
هذا هو ما قد تكشفه نصوص أخرى تحدثت عن سبب هجرة الإمام من مكة والمدينة لعدم وجوده الأرضية السياسية والدينية المساعدة لحركة الإمام (عجل الله فرجه الشريف) العالمية إلى الكوفة حيث الولاء الديني والسياسي لدى شعب هذه المنطقة للإمام (عجل الله فرجه الشريف).
ففي الوقت الذي نلاحظ أن إمام العصر (عجل الله فرجه الشريف) يقول لأصحابه حسب رواية أبي بصير (يا قوم إن أهل مكة لا يريدونني).
نجد الرواية الأخرى عن الإمام تقول: (أسعد الناس به أهل الكوفة).
وفي رواية الحلبي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (لكأنّي أنظر إليهم مصعدين من نجف الكوفة ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً كأن قلوبهم زبر الحديد، جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، يسير الرعب أمامه شهراً وخلفه شهراً، أمدّه الله بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، حتى إذا صعد النجف قال لأصحابه: تعبّدوا ليلتكم! هذه فيبيتون بين راكع وساجد يتضرّعون إلى الله، حتى إذا أصبح قال: خذوا بنا طريق النخيلة.. وتستمر الرواية في الحديث عن تطهير الإمام للكوفة من الجماعات المنافقة المعادية إلى أن يقول: (ثم يدخل الكوفة فلا يبقى مؤمن إلا كان فيها أو حنّ إليها).
ربما تكون هذه الروايات ـ شاهدة على طبيعة الهوية الدينية والسياسية لأهل العراق، الذين تمثل الكوفة والنجف مركز ثقلهم الديني والسياسي وولائهم لأهل البيت (عليه السلام).
ومن الممكن أن نذكر هنا على سبيل الاحتمال أن يكون قد اشترك في العراق قوميات أخرى كما قد يفهم ذلك من بعض النصوص، ولا نملك دلالة قطعية على أن العرب وحدهم يومئذ هم سكان الكوفة والنجف، بل سيشاركهم في هذا الشرف بعض المؤمنين من قوميات أخرى، ولعلهم يساهمون في بناء صرح الكوفة العلمي أو الاقتصادي أو المهني.
لاحظ ما يأتي:
عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قال:
(كأني بالعجم فساطيطهم في مسجد الكوفة، يعلّمون القرآن كما أنزل).
وفي رواية عبد الله بن الهذيل قال:
(لا تقوم الساعة حتى يجتمع كل مؤمن بالكوفة).
المبحث الثالث: رؤية أهل البيت للشعب العراقي
والحقيقة أن الحديث عن اعتبار العراق عاصمة الدولة العالمية الكبرى لصاحب العصر (عجل الله فرجه الشريف) يجرّنا للحديث عن رؤية أهل البيت (عليه السلام) للشعب العراقي، وهي مسألة في غاية الأهمية لطبيعة دلالاتها وانعكاساتها عن تعاطينا وتعاملنا مع هذا الشعب الذي ذاق تكاتفاً لألوان الظلم، وتآمراً اشتركت فيه جميع الجهات التي تسلطت عليه عبر القرون الطويلة الماضية بمجرد ولائه لأهل البيت (عليه السلام) وارتباطه بهم فكرياً وسياسياً.
الرؤية الإيجابية لأهل البيت (عليه السلام) عن الشعب العراقي
إننا نجد في المأثور عن أهل البيت (عليه السلام) نموذجين من النصوص، النموذج الأول يحمل رؤية بيضاء إيجابية عن أهل العراق، والنموذج الثاني يحمل رؤية سوداء سيئة عن هذا الشعب، وهذا أمر يجتاح إلى دراسة نقدية دقيقة، حيث نلاحظ من خلال ذلك أن الاتجاه السلطاني (والأموي خاصة) المعادي لأهل البيت (عليه السلام) والمتسلط على العراق عبر قرون طويلة هو الذي عمد إلى ترسيخ الرؤية السلبية عن شيعة العراق ليكون ذلك ذريعة لقمعهم، وإيجاد الهزيمة الداخلية في نفوسهم.
إننا نقرأ في الرؤية الإيجابية النصوص الآتية:
عن الإمام علي (عليه السلام) وهو يتحدث عن الكوفة أنه قال:
(هذه مدينتنا ومحلنا ومقر شيعتنا). البحار/ج60/210.
ونقرأ عن الإمام الصادق (عليه السلام) النصوص الآتية:
(إن ولايتنا عرضت على السماوات والأرض والجبال والأمصار، فما قبلها قبول أهل الكوفة). البحار/ج60/209.
(إن الله احتج بالكوفة على سائر البلاد، وبالمؤمنين من أهلها على غيرهم من أهل البلاد) البحار/ج60/213.
(أهل الكوفة أوتادنا).
ويروي عبد الله بن الوليد فيقول: دخلنا على أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) فسلمنا عليه وجلسنا بين يديه، فسألنا: من أنتم؟.
قلنا: من أهل الكوفة.
فقال: أما أنه ليس من بلد من البلدان أكثر حباً لنا من أهل الكوفة، ثم هذه العصابة خاصة، إن الله هداكم لأمر جهله الناس، أحببتمونا وأبغضنا الناس، وصدقتمونا وكذبنا الناس، واتبعتمونا وخالفنا الناس، فجعل الله محياكم محيانا، ومماتكم مماتنا). البحار/ج60/222.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً أنه قال: (ألا وأن لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، ألا وإن قم الكوفة الصغيرة). البحار/ج60/228.
وفي مدح أهل العراق عموماً نجد الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: (الحمد الله الذي جعل أجلّة مواليّ بالعراق). البحار/ج60/222.
ومن قبل ذلك وجدنا الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة يقول: (ليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة) نهج البلاغة/الرسائل/ 17.
رؤية الاتجاه الأموي السلبي للعراقيين ... وهو فخر لهم
وحتى تتجلى الصورة بشكل أوضح عن واقع الصراع بين أهل العراق وبين الاتجاه السلطاني (الأموي خاصة) من حيث الولاء والعداء لأهل البيت (عليه السلام) وتكوين الرؤية الحاقدة السوداء عن أهل العراق (عليه السلام) بخلفية ولائهم لأهل البيت (عليه السلام) وتمردهم على السلطات المعادية لأهل البيت (عليه السلام). يمكن أن نلاحظ الروايات التاريخية الآتية: الأولى تتحدث عن رواية عثمان بن عفان، والثانية تتحدث عن رواية الحجاج بن يوسف الثقفي.
عثمان بن عفان
يروي المؤرخون أن عثمان بن عفان حين قال لأبي ذر الغفاري: أخرج عنا من بلادنا.
قال: إلى أين أخرج؟
قال: حيث شئت.
قال: أخرج إلى الشام أرض الجهاد.
قال: إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها فأردك إليها؟!.
قال: فأخرج إلى العراق؟.
قال: لا، إنك إن تخرج إليها تقدم على قوم أولي شبه وطعن على الأئمة والولاة).
إن من الطبيعي أن نفهم بشكل واضح ماذا يشير إليه عثمان بن عفان حين يصف العراقيين بأنهم أهل شبه وطعن على الأئمة والولاة، إذا عرفنا أن العراق يومئذ كان موالياً لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن يومذاك كان العراق متمرداً على الإتجاهات الحكومية المعادية لأهل البيت (عليه السلام)، حيث لم يكن للعراق الذي شمله الفتح الإسلامي أيام عمر بن الخطاب أن شهد ظاهرة الطعن على الأئمة والولاة التي يتحدث عنها عثمان بن عفان سوى ملامح السخط الخفي أحياناً والمعلن أحياناً أخرى على حكومة عمر بن الخطاب ثم حكومة عثمان بن عفان، كما شرحت ذلك كتب التاريخ مفصلاً.
الحجاج بن يوسف الثقفي
وبنفس الإتجاه تسير خطب الحجاج الثقفي وتقييمه لأهل العراق بعدما كان بينه وبينهم من الجفاء والقطيعة وعدم الطاعة.
حيث خطب فيهم قائلاً:
(يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق).
يا أهل العراق: هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو زفر زافر إلا كنتم أشياعه وأتباعه وحماته وأنصاره).
وهو يشير بذلك إلى تمردهم على السلطان. بينما يذكر في نفس الخطبة تعظيم أهل الشام وتمجيدهم قائلاً وقد التفت إلى أهل الشام وهم حول المنبر:
(يا أهل الشام أنتم الجنة والرداء، وأنتم العدة والحذاء). وقال: في موضع آخر وقد التفت إلى أهل الشام أيضا: (لأزواجكم أطيب من المسك، ولأبناؤكم آنس من القلب بالولد، وما أنتم إلا كما قال أخو ذبيان:
إذا حاولت في أسدٍ فجوراً فإني لست منك ولست مني
هم درعي التي استلأمت فيها إلى يوم النسار وهم مجنّي
ثم قال: بل أنتم يا أهل الشام كما قال الله سبحانه وتعالى (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، ون جندنا لهم الغالبون).
تحليل الجاحظ لشخصية الشعب العراقي
ومن المفيد هنا أن نقرأ تحليلاً جميلاً للجاحظ حيث يقدم تقييماً موضوعياً لأهل العراق بعيداً عن التعصبات السياسية والأحقاد المذهبية، خاصة إذا عرفنا أن الجاحظ ليس من شيعة أهل البيت (عليه السلام)، فهو يقول:
(العلة في عصيان أهل العراق على الأمراء، وطاعة أهل الشام أن أهل العراق نظر وذوو فطن، ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤساء وإظهار عيوب الأمراء، وأهل الشام ذوو بلادة وتقليد وجمود على رأي واحد، لا يرون النظر، ولا يسألون عن مغيب الأحوال).
إننا نعتقد أن هذا التحليل فيه شيء كبير من الرؤية الموضوعية ومحاولة العثور على الجوانب الواقعية لمواقف العراقيين من الأمراء، خاصة الذين لا يتفقون في الاتجاه المذهبي والسياسي مع الشعب العراقي.
ليس ببلد الشقاق والنفاق كما يدعي أعداءه
دلت مجموعة النصوص المروية عن أهل البيت (عليه السلام) على أن العراق العاصمة السياسية للدولة العالمية الكبرى لصاحب العصر (عجل الله فرجه الشريف). ولدينا حول هذا الموضوع مجموعة بحوث:
الأول: استعراض للمهم من تلك النصوص.
الثاني: دلالة تلك النصوص على الهوية الدينية والسياسية للشعب العراقي.
الثالث: رؤية أهل البيت (عليه السلام) للشعب العراقي.
البحث الأول:
رغم أن الثابت بدون شك أن انطلاقة إمام العصر (عجل الله فرجه الشريف) ستكون من أرض الحجاز (مكة المكرمة ثم المدينة المنورة) حيث يلتحق به في مكة المكرمة أصحابه وجنوده من مختلف بقاع العالم، لكن النصوص جميعها تؤكد أنه سيزحف إلى العراق، وبعد تحرير العراق من قبضة السفياني سيتخذ العراق عاصمة دولته الكبرى، ومنه تنطلق قواته لتحرير العالم كله:
أنظر في ذلك النصوص الآتية:
1ـ رواية المفضل بن عمر عن الإمام الصادق (عليه السلام): قال المفضل: قلت: يا سيدي فأين تكون دار المهدي أو مجتمع المؤمنين؟
قال (عليه السلام): دار ملكه الكوفة، ومجلس حكمه جامعها، وبيت ماله ومقسم غنائم المسلمين مسجد السهلة، وموضع خلواته الذكوات البيض من الغريين.
2ـ رواية أبي بكر الحضرمي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال:
(كأني بالقائم (عجل الله فرجه الشريف) على نجف الكوفة، وقد سار إليها من مكة في خمسة آلاف من الملائكة، وجبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، والمؤمنون بين يديه، وهو يفرق الجنود في البلاد).
3ـ رواية المفضل أيضاً عن الإمام الصادق (عليه السلام):
(سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا قام قائم آل محمد (ص وآله) بنى في ظهر الكوفة مسجداً له بألف باب، واتصلت بيوت الكوفة بنهر كربلاء).
4ـ رواية الثمالي قال:
قال أبو جعفر الباقر(عليه السلام):
(يا ثابت كأني بقائم أهل بيتي قد اشرف على نجفكم هذا ـ وأومأ بيده إلى ناحية الكوفة ـ فإذا هو أشرف على نجفكم نشر راية رسول الله (ص وآله) فإذا هو نشرها انحطت عليه ملائكة بدر..).
5ـ رواية جعفر بن يحيى عن أبيه عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:
(كيف أنتم لو ضرب أصحاب القائم بالفساطيط في مسجد الكوفان).
6ـ رواية أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:
قال لي: يا أبا محمد كأني أرى نزول القائم (عجل الله فرجه الشريف) في مسجد السهلة بأهله وعياله.
قلت: يكون منزله جعلت فداك؟
قال: نعم، كان فيه منزل إدريس، وكان منزل إبراهيم خليل الرحمن، وما بعث الله نبياً إلا وقد صلى فيه.
قلت: جعلت فداك لا يزال القائم فيه أبداً؟
قال: نعم.
7ـ رواية عمرو بن شمر عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال:
ذكر المهدي فقال:
يدخل الكوفة وبها ثلاث رايات قد اضطربت، فتصفو له ويدخل حتى يأتي المنبر فيخطب، فلا يدري الناس ما يقوله من البكاء، فإذا كان الجمعة الثانية سأله الناس أن يصلي بهم الجمعة، فيأمر أن يخط له مسجد من الغري ويصلي بهم هناك، ثم يأمر من يحفر من ظهر مشهد الحسين (عليه السلام) نهراً يجري إلى الغريين حتى ينزل الماء في النجف..).
8ـ رواية إبن الجارود عن الباقر (عليه السلام) قال:
إذا قام القائم سار إلى الكوفة فيخرج منها بضعة عشر ألف نفس يدعون البترية عليهم السلاح فيقولون له: إرجع من حيث جئت فلا حاجة لنا في بني فاطمة، فيضع فيهم السيف حتى يأتي على آخرهم، ثم يدخل الكوفة فيقتل فيها كل فاسق مرتاب، ويهدم قصورها ويقتل مقاتليها..).
وعلى الرغم من ضعف بعض الروايات المذكورة من الجانب السندي، لكنها بمجموعها ـ خاصة إذا أضفنا إليها الكم الكبير من الروايات الأخرى المماثلة ـ تدل بشكل وآخر على أن الكوفة ـ وهي قلب العراق يومئذ ـ هي مركز حركة الإمام العسكرية والسياسية، ولذا فإن الشيخ المفيد (قدس سره) في كتابه الإرشاد افتتح الفصل الثاني من القسم المختص بالإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) بقوله (وقد جاء في الأثر بأنه عليه وعلى آبائه السلام يسير من مكة حتى يأتي الكوفة فينزل على نجفها ثم يفرق الجنود منها في الأمصار).
وحيث كانت هذه الروايات المتعددة رغم ضعف بعضها ـ كما أشرنا ـ ربما أمكن إعتمادها لتكوين فكرة إجمالية عن طبيعة التحرك الجغرافي للإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف).
ولعل هذا هو السبب فيما يبدو من كبار علمائنا من رجال الحديث البناء على إعتبارها والتسليم لها، كما نلاحظ ذلك في الإرشاد للمفيد والغيبة للنعماني.
وعلى كل حال فإن هذه الروايات التي بين أيدينا تعطي تواتراً معنوياً بأن الكوفة هي عاصمة الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) في حركته لإقرار العدل في أرجاء البسيطة.
البحث الثاني: الهوية الدينية والسياسية للشعب العراقي
ومن الحق أن نتساءل عن فلسفة اختيار الإمام صاحب العصر (عجل الله فرجه الشريف) العراق متمثلاً يومئذ بالكوفة ونجفها (النجف لغة بمعنى الظهر، والنجف هي ظهر الكوفة وشمالها المرتفع) عاصمة ومنطلقاً لحركته العالمية.
لماذا هذا الاختيار؟
هل لاعتبارات جغرافية وعسكرية؟ وهو أمر نستبعده جداً، أم لاعتبارات بشرية ترتبط بالهوية الدينية والسياسية لأبناء هذه المنطقة؟
هذا هو ما قد تكشفه نصوص أخرى تحدثت عن سبب هجرة الإمام من مكة والمدينة لعدم وجوده الأرضية السياسية والدينية المساعدة لحركة الإمام (عجل الله فرجه الشريف) العالمية إلى الكوفة حيث الولاء الديني والسياسي لدى شعب هذه المنطقة للإمام (عجل الله فرجه الشريف).
ففي الوقت الذي نلاحظ أن إمام العصر (عجل الله فرجه الشريف) يقول لأصحابه حسب رواية أبي بصير (يا قوم إن أهل مكة لا يريدونني).
نجد الرواية الأخرى عن الإمام تقول: (أسعد الناس به أهل الكوفة).
وفي رواية الحلبي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (لكأنّي أنظر إليهم مصعدين من نجف الكوفة ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً كأن قلوبهم زبر الحديد، جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، يسير الرعب أمامه شهراً وخلفه شهراً، أمدّه الله بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، حتى إذا صعد النجف قال لأصحابه: تعبّدوا ليلتكم! هذه فيبيتون بين راكع وساجد يتضرّعون إلى الله، حتى إذا أصبح قال: خذوا بنا طريق النخيلة.. وتستمر الرواية في الحديث عن تطهير الإمام للكوفة من الجماعات المنافقة المعادية إلى أن يقول: (ثم يدخل الكوفة فلا يبقى مؤمن إلا كان فيها أو حنّ إليها).
ربما تكون هذه الروايات ـ شاهدة على طبيعة الهوية الدينية والسياسية لأهل العراق، الذين تمثل الكوفة والنجف مركز ثقلهم الديني والسياسي وولائهم لأهل البيت (عليه السلام).
ومن الممكن أن نذكر هنا على سبيل الاحتمال أن يكون قد اشترك في العراق قوميات أخرى كما قد يفهم ذلك من بعض النصوص، ولا نملك دلالة قطعية على أن العرب وحدهم يومئذ هم سكان الكوفة والنجف، بل سيشاركهم في هذا الشرف بعض المؤمنين من قوميات أخرى، ولعلهم يساهمون في بناء صرح الكوفة العلمي أو الاقتصادي أو المهني.
لاحظ ما يأتي:
عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قال:
(كأني بالعجم فساطيطهم في مسجد الكوفة، يعلّمون القرآن كما أنزل).
وفي رواية عبد الله بن الهذيل قال:
(لا تقوم الساعة حتى يجتمع كل مؤمن بالكوفة).
المبحث الثالث: رؤية أهل البيت للشعب العراقي
والحقيقة أن الحديث عن اعتبار العراق عاصمة الدولة العالمية الكبرى لصاحب العصر (عجل الله فرجه الشريف) يجرّنا للحديث عن رؤية أهل البيت (عليه السلام) للشعب العراقي، وهي مسألة في غاية الأهمية لطبيعة دلالاتها وانعكاساتها عن تعاطينا وتعاملنا مع هذا الشعب الذي ذاق تكاتفاً لألوان الظلم، وتآمراً اشتركت فيه جميع الجهات التي تسلطت عليه عبر القرون الطويلة الماضية بمجرد ولائه لأهل البيت (عليه السلام) وارتباطه بهم فكرياً وسياسياً.
الرؤية الإيجابية لأهل البيت (عليه السلام) عن الشعب العراقي
إننا نجد في المأثور عن أهل البيت (عليه السلام) نموذجين من النصوص، النموذج الأول يحمل رؤية بيضاء إيجابية عن أهل العراق، والنموذج الثاني يحمل رؤية سوداء سيئة عن هذا الشعب، وهذا أمر يجتاح إلى دراسة نقدية دقيقة، حيث نلاحظ من خلال ذلك أن الاتجاه السلطاني (والأموي خاصة) المعادي لأهل البيت (عليه السلام) والمتسلط على العراق عبر قرون طويلة هو الذي عمد إلى ترسيخ الرؤية السلبية عن شيعة العراق ليكون ذلك ذريعة لقمعهم، وإيجاد الهزيمة الداخلية في نفوسهم.
إننا نقرأ في الرؤية الإيجابية النصوص الآتية:
عن الإمام علي (عليه السلام) وهو يتحدث عن الكوفة أنه قال:
(هذه مدينتنا ومحلنا ومقر شيعتنا). البحار/ج60/210.
ونقرأ عن الإمام الصادق (عليه السلام) النصوص الآتية:
(إن ولايتنا عرضت على السماوات والأرض والجبال والأمصار، فما قبلها قبول أهل الكوفة). البحار/ج60/209.
(إن الله احتج بالكوفة على سائر البلاد، وبالمؤمنين من أهلها على غيرهم من أهل البلاد) البحار/ج60/213.
(أهل الكوفة أوتادنا).
ويروي عبد الله بن الوليد فيقول: دخلنا على أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) فسلمنا عليه وجلسنا بين يديه، فسألنا: من أنتم؟.
قلنا: من أهل الكوفة.
فقال: أما أنه ليس من بلد من البلدان أكثر حباً لنا من أهل الكوفة، ثم هذه العصابة خاصة، إن الله هداكم لأمر جهله الناس، أحببتمونا وأبغضنا الناس، وصدقتمونا وكذبنا الناس، واتبعتمونا وخالفنا الناس، فجعل الله محياكم محيانا، ومماتكم مماتنا). البحار/ج60/222.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً أنه قال: (ألا وأن لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، ألا وإن قم الكوفة الصغيرة). البحار/ج60/228.
وفي مدح أهل العراق عموماً نجد الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: (الحمد الله الذي جعل أجلّة مواليّ بالعراق). البحار/ج60/222.
ومن قبل ذلك وجدنا الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة يقول: (ليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة) نهج البلاغة/الرسائل/ 17.
رؤية الاتجاه الأموي السلبي للعراقيين ... وهو فخر لهم
وحتى تتجلى الصورة بشكل أوضح عن واقع الصراع بين أهل العراق وبين الاتجاه السلطاني (الأموي خاصة) من حيث الولاء والعداء لأهل البيت (عليه السلام) وتكوين الرؤية الحاقدة السوداء عن أهل العراق (عليه السلام) بخلفية ولائهم لأهل البيت (عليه السلام) وتمردهم على السلطات المعادية لأهل البيت (عليه السلام). يمكن أن نلاحظ الروايات التاريخية الآتية: الأولى تتحدث عن رواية عثمان بن عفان، والثانية تتحدث عن رواية الحجاج بن يوسف الثقفي.
عثمان بن عفان
يروي المؤرخون أن عثمان بن عفان حين قال لأبي ذر الغفاري: أخرج عنا من بلادنا.
قال: إلى أين أخرج؟
قال: حيث شئت.
قال: أخرج إلى الشام أرض الجهاد.
قال: إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها فأردك إليها؟!.
قال: فأخرج إلى العراق؟.
قال: لا، إنك إن تخرج إليها تقدم على قوم أولي شبه وطعن على الأئمة والولاة).
إن من الطبيعي أن نفهم بشكل واضح ماذا يشير إليه عثمان بن عفان حين يصف العراقيين بأنهم أهل شبه وطعن على الأئمة والولاة، إذا عرفنا أن العراق يومئذ كان موالياً لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن يومذاك كان العراق متمرداً على الإتجاهات الحكومية المعادية لأهل البيت (عليه السلام)، حيث لم يكن للعراق الذي شمله الفتح الإسلامي أيام عمر بن الخطاب أن شهد ظاهرة الطعن على الأئمة والولاة التي يتحدث عنها عثمان بن عفان سوى ملامح السخط الخفي أحياناً والمعلن أحياناً أخرى على حكومة عمر بن الخطاب ثم حكومة عثمان بن عفان، كما شرحت ذلك كتب التاريخ مفصلاً.
الحجاج بن يوسف الثقفي
وبنفس الإتجاه تسير خطب الحجاج الثقفي وتقييمه لأهل العراق بعدما كان بينه وبينهم من الجفاء والقطيعة وعدم الطاعة.
حيث خطب فيهم قائلاً:
(يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق).
يا أهل العراق: هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو زفر زافر إلا كنتم أشياعه وأتباعه وحماته وأنصاره).
وهو يشير بذلك إلى تمردهم على السلطان. بينما يذكر في نفس الخطبة تعظيم أهل الشام وتمجيدهم قائلاً وقد التفت إلى أهل الشام وهم حول المنبر:
(يا أهل الشام أنتم الجنة والرداء، وأنتم العدة والحذاء). وقال: في موضع آخر وقد التفت إلى أهل الشام أيضا: (لأزواجكم أطيب من المسك، ولأبناؤكم آنس من القلب بالولد، وما أنتم إلا كما قال أخو ذبيان:
إذا حاولت في أسدٍ فجوراً فإني لست منك ولست مني
هم درعي التي استلأمت فيها إلى يوم النسار وهم مجنّي
ثم قال: بل أنتم يا أهل الشام كما قال الله سبحانه وتعالى (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، ون جندنا لهم الغالبون).
تحليل الجاحظ لشخصية الشعب العراقي
ومن المفيد هنا أن نقرأ تحليلاً جميلاً للجاحظ حيث يقدم تقييماً موضوعياً لأهل العراق بعيداً عن التعصبات السياسية والأحقاد المذهبية، خاصة إذا عرفنا أن الجاحظ ليس من شيعة أهل البيت (عليه السلام)، فهو يقول:
(العلة في عصيان أهل العراق على الأمراء، وطاعة أهل الشام أن أهل العراق نظر وذوو فطن، ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤساء وإظهار عيوب الأمراء، وأهل الشام ذوو بلادة وتقليد وجمود على رأي واحد، لا يرون النظر، ولا يسألون عن مغيب الأحوال).
إننا نعتقد أن هذا التحليل فيه شيء كبير من الرؤية الموضوعية ومحاولة العثور على الجوانب الواقعية لمواقف العراقيين من الأمراء، خاصة الذين لا يتفقون في الاتجاه المذهبي والسياسي مع الشعب العراقي.
تعليق