لكل تجربة شعرية من تجارب الشعر الحسيني رؤية خاصة بها وطريقة فهمهما للمعنى المنجز كمشروع وجود ...ولها حق أختيار كيفية استخدام التاريخ بحيث يكون مصدراً لحيويتها .. فمنه ما يشكل كياناً ومعتقداً في ذواتها الشعرية وينفتح عبر استخدامات غير محدودة من حيث وسائل التعبير وبناء مثل هذه الذوات تنصهر تماما في قوة البناء التاريخي ...في أعادة تراكيبه ...وتحمل مسؤولية طرح افكاره الانتقائية المقدسة لتصبح معيارا أيمانيا فلذلك نجد أن بناء الذات الشعرية في مجموعة (عبرات قلب الترجمان ) للشاعر المرحوم الحاج عبد الامير الترجمان والتي تكونت من (82) قصيدةاستطاعت أن تجسد لنا لغة سلسة مباشرة نمت قوتها في ألفتها واستحكمت تلك الالفة على بناء اقتداري أظهر لنا أمكانية الولوج إلى الواقعة من أين ما شاء فكل المواضيع الحياتية عند الترجمان تؤدي إلى الطف ورموزه العملاقة ومكوناته ومصائبه وجراحاته دون أن تفقد وحدة الموضوع رصانتها .. وقبل أن ندخل في دراسة تأملية علينا أن نضع في الحسبان بعض النقاط المهمة مثل( المكون الزمني ) حيث لايمكن التغافل عنه ابداً لأن الفاصل الزمني بين فعل الكتابة وفعل القراءة فاصل كبير مكون من عدة عقود زمانية مهمة تغيرت فيها الكثير من الاسس والرؤى والمساعي والاحكام النقدية وثانيا( المكون الوظيفي) فالشاعر الترجمان كان رادودا حسينيا وخطيبا منبريا يحمل على عاتقه رسالة انسانية وايمانية مهمتها بث الوعي الفكري من خلال وعظ الناس بلغة مباشرة سهلة المضامين كي تعم الفائدة لاكثر عدد وهذا في المسعى النقدي يسمى (المسعي التوصيلي )الذي هو حلم الشعراء ..فلابد لنا أن ننظر إلى أن الذات الموضوعية التي لها متطلباتها ،تكويناتها وحتى على مستوى السمعي فثمة اطوار كانت معروفة ومشهورة ومطلوبة الان ربما تغيرت احكام الذائقة الجمعية عنها فالمفهوم العام كله تأثر بواقع الظرف الزماني والمكاني بانعكاسات اجتماعية من حيث المفهوم والاختيار وبعد هذا نستطيع أن نطرق باب خصوصية الشاعر والنظر إلى عملية بناء الذات الشعرية عند الشاعر الترجمان فنجد انها تكونت عبر عدة مساع جادة ومنها ( التوثيقية) التي هي مهمة رجل التاريخ ونقلت لنا هذه المجموعة قصائد مهمة عن كربلاء وخلدت مواقف واحداث تاريخية نيرة مثل تلك القصيدة التي كتبها عند تشييد قبة مرقد ابي الفضل العباس عليه السلام سنة 1376هـ أي في عام 1954م
( كبة العباس من شرف راعيها
مثل الشمس تزهي معانيها
كبة شبل حامي الحمه ـ بسر الاله مطلسمه ـ فاقت على كبة السمه
بذهب المصفه تعلت )
وثمة قصائد توثيقية كثيرة تؤرخ بعض الاحداث مثل تشييد الحسينية الطهرانية في كربلاء أو استقبال الوفد العامل الذي انجز مرقد رقية بنت الحسين في الشام ومجيئه لزيارة الحسين (ع)أو نراه يوثق لنا الماساة التي وقعت في ( ركضة طويريج ) وكان ذلك عام (1386هـ) ولنتابع الدقة المعلوماتية في نقل الحادث لنتعرف على طريقة الترجمان في التوثيق
هاي السنه صارت رزيه لمصيبتك يبن الزجية
فيقول فيها
بين ما جانت تهرول تلطم وتندب اباسمه
انسحكوا ابساعة اللي خيل العده سحكت الجسمه
ونقرأ
انصرعوا ابباب الصحن لاجن الصرعه اشلون صرعه
ونتابع التفصيليه
اثنين وثلاثين استشهدوا وابهاي القضيه
اسبوعطش منها الضحايا من اهالي الغاضريه
ويشرح في ثنايا القصيده عن موقف الحكومه مع ذكر رئيس الجمهورية في وقتها مع بيانات تحمل اسم المتصرف واسماء ومواقف توثيقية عارفة بعملها التوثيقي.. وبما إن الهم الاول للكتابة لم يكن من اجل ابراز الانا المنفردة بل كانت اناه انا صاحية تتخذ عدة وسائل لبناء هذه الذات من خلال التضمينات الواسعة التي اشتغل عليها الشاعر الترجمان محاولا ربط شعريته بعدة بينات لغوية منها قرآنية مثل
( ما يغير الباري بقوم اله متغير نفسهه )
وبعضها الآخر ( حسيني ) يسعى من خلالها ليبين عملية الادراك الحقيقي لمعنى الرمز موضحا مسعاه الجهادي
( تركتُ الناس طرا يا آلهي وهذا حالي
لجل مرضاتك ياألاهي يتمت حتى عيالي
ونراه يعتمد ايضا على تضمين بعض الابيات الشعرية المعروفة
( ابجتلي لوله الدين يبكه خذيني يسيوف آل اميه )
ولديه عدة مقاربات أخرى اتخذها الشاعر الترجمان ليزيد بها حيوية هذا البناء وترصينه وعدم تحديده كاحتواء بعض الامثال التعبيرية الشائعة في وقته
( واللي يحفر بير هو بيهه يصير وانته سامع هالمثل )
اولنقرا هذا المثل الشعبي المعروف
( للحام يكوم تدري كثر الطق )
أو نجده يتخذ من بعض القصص التي اصبحت مثلا مسعى من مسعيات بنائه الشعري مثل
( مثل ابن يقطين صير الحج وهو بديرة البصره
بذل كل افلوس حجه عاليتامه وعلى الفقره)
ومن البديهيات المعروفة عند أي ادراك شعري أن القضية العلمية لا تنبع من العالم الواقعي فلا يتم تضمينه الا لحساب دعم الواقع المحسوس وخلق متابعة لكل واقع يفرض نفسه في الساحة الفكرية أي أن مقصد القول هو الكشف عن مداليل ايمانية ثابتة تؤكد أن العلم لاينافي الايمان بل أن الله سبحانه وتعالى هو اساس كل علم واذا اردنا النتيجة الفنية لمثل هذه المساعي فنقول هي محاولة جادة لتحويل الجامد المادي إلى مرتقى شعوري
(هالعصر عصر اكتشاف الذرة عصر النو راسمه
هالعصر عصر التقدم بكتشافات المهمه
لاجن على البشر من طاقة الذر مجعول نقمه)
كما نقرأ قصيدته في اختراع اقمار صناعية يقول فيها
(شوف عصر النور المنشحن نار بكثر شره
شوف عصر النور المظلم على العالم بأسره
ولاشك أن هناك عدة مرجعيات مؤثرة استخدمها الشاعر الترجمان كوسائل لبناء ذاته الشعريه ومنها المرجعية التاريخية مع الميل الواضح لثنايا الواقعة كمرجع استدلالي وكواقعة معاشة يحملها ضمير المنجزباعتزاز وله جدليات تاريخية كبيرة ونأخذ منها كمثال فهو يرى أن (الطرماح بن عدي) كان دليل الركب الحسيني وبعض المصادر تذكر وروده إلى الواقعة متأخرا ولم يشارك فيها ..
فيرى النقد الحديث أن لاحقائق للنص الادبي بل هناك مجموعة من الخطوط التي لها وظيفة تحفيز المتلقي ليأخذ لنفسه من تلك الحقائق معتبراً روحيا وتؤدي هذه الخطط كما يرى النقد إلى ظهور اوجه من الصدق .. وهذا يعني أن مثل هذه الشعرية تحمل عبأً رسالياً ومهمة تبليغية تسعى لاشغال دور وعظي رسالي تنويري
( اليرضه بمعاويه وفعله ملعون مثله
اللعنه عليه واجبه اليوم القيامه )
كما نجده يعمل جاهداً إلى بث روح العبرة من خلال حياة الرموز المقدسة نفسها ذكر عاداتها العبادية والجهادية والارتكاز على احترامها المتبادل
( والد اليمه لو كعد عباس مايكعد ابد يوكف للخدمه استعد
هاي اداب الهاشميه )
ولضمان استجابة المتلقي نجده يتغلغل في المسائل المتنوعة التي تكشف عن مكونات الجذب فهو يشير إلى بعض التفاصيل السياسية المهمة والتي كانت تشغل البلد في حينها للوصول إلى احتواء موضوعي .. فيكون الشعر المنبري وسيلة من وسائل التوجيه العام ومحاولة جادة لبث المشاعر الوطنية المعنوية في قلوب متلقيه
( ليمته نبقى نيام أو ما يحسسنه وطنه
انشوف اليوم اليهود التطعن الحربه بضلعنه
على الحد كليوم تغزي تريد تشتت جمعنه )
أو نجده يسعى لبث روح الوحدة الوطنية من خلال عاشوراء ومن خلال قضية الحسين عليه السلام
ياروح الزجيه كلما يمر عاشور
سنه وجعفرية تدمي عليك صدور
وعند العيسوية هذا الحزن مأثور
ولكي ينصهر في شعرية الجمع يحاول أن يرسم مشروعه الشعري على المنحى الشعوري العاطفي المصائبي
(متكلي اشبيك ياجرح ماذيك
اوميلي بي بيه دليني )
واخيرا يمكن أن نسأل ما نوع اللغة المدركة التي كانت تعتبر ميزة خاصة للترجمان ولا سيما أن معظم ما ذكر هي سمات تمثل المسعى العمومي لجيل شعري أو اكثر فلا بد لنا أن نشير إلى سمتين مهمتين في شعرية الترجمان اولهما المسعى التهكمي والذي شكل عنده خصوصية مشهودة فنقرأ قصيدته التي رد بها فتوى الخالصي بتحريم الشهادة الثالثة
( للفتن نار مورثه ـ يفتي بفتاوي كارثه ـ محرم شهادة الثالثه ـ لاجن محلل الارنب )
أو نجده يقول في قصيدة اخرى
كل عالم المايعمل الدينه تكثر شياطينه
وبليس هلملتبس بجسمه لاتلتقي يمه )
ونجده في مقطع آخر يحي به موكب الخندق لاهل البصرة
( خذتو كاس على المواكب )
ولنقرأ هذه الجملة الطرية
( والقوي ايجر النار الكرصته محفوضة حصته
واللي ضعيف نشاهده ماكل السطره )
والمسعى الخاص الثاني هو المنحى الشعري الذي سعى به لخلق شعرية جملته ومعالم الشعرية المتكونه قبل عقود شعرية عند الترجمان....
ياعلي ابجرحك وضعت تراب محراب العباده
من تراب الغاضريه حسين سواله وساده )
وكثيرة هي مراكز الاستشهاد الشعري لكننا قبل الختام نقول نحن ندرك قبل الغير عدم امكانية احتوائناعلى شاعر يمتلك هذا التاريخ الشعري وليس لدينا سوى قراءة سورة الفاتحة
تعليق