بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾
النفاق . . الداء الأكبر
الذهنية والعاطفية في شخصيتيه ذات الأبعاد المزدوجة .النفاق المشكلة التي تسري الى جميع جوانب الحياة . فهي لا تقتصر على حياة بني البشر فحسب ، بل تتعدى الى ميادين واسعة لتشتبك مع الحياة والطبيعة برمتها .
فالاشجار التي ينم مظهرها عن الجمال والارتفاع ، ليس من المؤكد ان يكون باطنها على نفس الدرجة من الحيوية والاستواء ، اذ لعل الديدان قد استولت على أحشائها وحولتها الى موجود نخر . والإنسان في حال كهذا لا يسعه إلاّ تسمية هذه الشجرة ـ مثلاً ـ بالشجرة النافقة ، اي الميتة رغم وجود بعض الحياة في جزء منها الذي هو مظهرها . وأنت حينما تصف الإنسان بـ ( الإنسان المنافق ) فانك تعني بصورة جدلية أن النفق قد عم باطنه . وبكلمة أ خرى ؛ تعني ان الموت قد استولى على ما يستره بدنه ، وهو القلب والعاطفة والاحساس الإنساني السوي . فالضمير قد احترق ، والنفس قد انتهت ، والارادة قد انهارت وخارت . . فهو قد اصبح ضحية مزعجة للثغرات
والنفق الذي يراه الإنسان في داخل الجبل انما يعبر تعبيراً صريحاً ومتكاملاً عن هذه الحقيقة . فالجبل وفق هذه الحقيقة له طبيعتان متفاوتتان على اكبر درجات التفاوت ، اذ الظاهر ينبئ عن الصلابة والشموخ والتحدي ، بينما الباطن يؤكد حقيقة الانهيار والفراغ .
كيف نواجه النفاق ؟
من أين يبدأ النفاق في شخصية الإنسان ؟ وكيف يجب أن نعالجه ؟ وما هي حقيقة أزمة النفاق ؟
ان هذه مجموعة من الاسئلة اذا تمكنا من الإجابة عليها فسيكون بمقدورنا مواجهة مرض النفاق . فنحن لا نستطيع معالجة داء ما حتى نشخصه على هيئته الحقيقية ، أو نتعرف على أسبابه على الأقل . والاهتمام البالغ الذي ينبغي ان نوليه لأزمة النفاق انما ينبع من أبعاد ثلاثة كما يبدو .
البعد الأول : لاننا بشر تعترينا الكثير من الابتلاءات من كل جانب ومكان ، وفي كل وقت وأوان . وبالتالي فنحن معرضون للاصابة بداء النفاق ما لم نصمد أمام الابتلاءات .
البعد الثاني : لأن المجتمع يضم فيما يضم اناساً منافقين ، ونحن ولا مراء في ذلك مجبورون على الاحتكاك بهم . وهذا الاحتكاك ان لم يكن بداعي المعالجة ، فانه سيأتي بداعي التعامل اليومي . فالمرء ماذا بوسعه ان يتصرف فيما لو كان أحد اخوانه ـ والعياذ بالله ـ مصاباً بمرض النفاق ؟ فبداعي قابلية التأثير والتأثر المخلوقة في الإنسان والتي تسايره في كل وقت ، لابد له من أن يخلق له المناعة ضد سريان المرض اليه بالدرجة الأولى ثم يعمل على ازاحة هذا المرض عن أخيه أو تحديده بالدرجة الثانية .
البعد الثالث : لأن حركة النفاق هي الحركة السائدة في عالم اليوم ، على صعيد التعامل الدولي والاقليمي والمحلي . نعود لنتساءل : كيف نواجه النفاق كمرض ؟ وما هي أسبابه الحقيقية ؟
أقول : ان الإنسان حينما يعيش حياة هادئة طبيعية خالية عن المشاكل ، وخالية عن التعرض للابتلاءات اليومية ؛ لن يستطيع معرفة أبعاد شخصيته السلبية منها والايجابية . فهو غير قادر على تحديد مستوى تحمل صدمة خسارته المالية ـ مثلاً ـ ما لم يعمل في التجارة والأسواق . وهو لا يستطيع ان يدعي الكرم ما لم يحل أحدهم ضيفاً عليه . وليس بامكانه الادعاء بانه متسامح في حال عدم تنازله وتواضعه في شؤون المنافسة على تسنم المناصب .
فالفارق كبير جداً بين موازين القوة وموازين الفعل من وجهة النظر الرياضية . ان من طبيعة بني البشر العجز عن اكتشاف قابلياتهم وطاقاتهم دون وجود ميادين عملية للاستفادة من هذه الطاقات والقابليات .
من يثبت لنا ان هذا الإنسان إنسان مؤمن غير منافق من دون ان يتعرض الى فتن المال والقوة والجنس والتعصب والتحزب والرئاسة والحسد والعيوب والآلام ؟
من يثبت لنا ان هذا الفرد فرد مؤمن غير منافق ما لم ينجح باجتياز وغلبة هذه الفتن الجبارة ؟
كان أمير المؤمنين علي عليه السلام جالساً بين عدد من أصحابه في مسجد الكوفة ذات يوم ، وعند ذاك مرت إمرأة أمامهم ، فما كان من بعض من يدعي صحبة الامام إلاّ ان لاحقوا المرأة بنظراتهم المريبة ، فأمرهم الامام بغض انظارهم عن الحرام .
ان هذا امتحان وفتنة ذات حدين ؛ الاول : امتحان لمعرفة من يصبر حيال ارتكاب العمل الحرام . والثاني : فتنة لأمير المؤمنين عليه السلام وهو سيد المتقين ، في ممارسة مهامه وواجباته كحاكم للمسلمين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .
قلنا ان النفاق مأخوذ من النفق وهو الموت ، والمخلوق قد تكون احدى جوانبه ميتة ، وتتفاوت نسبة الموت لديه . واصطلاحاً يمكن القول ان المنافق من كانت روحه ميتة ، والشيطان يعمل على استمرار حالة الموت في هذه الروح . وقد كان هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الاسبق ينصح موظفي السلك الدبلوماسي الأمريكي في محاوراتهم مع مسؤولي الدول الأخرى بالنصيحة التالية : " اضرب حيث لا يكونون " اي ان الدبلوماسي الأمريكي ينبغي عليه من وجهة نظر كيسنجر أن يستغل جوانب الضعف في نظرائه ، وان يستغلوا النقاط والمفاصل التي ينعدم فيها تأثير مفاوضيهم . فهو ـ كيسنجر ـ يرى ان انعدام التأثير بمثابة عدم الوجود ، فعليه ينبغي الضرب على هذه النقطة حتى حصول المراد .
وحينما يصلي الإنسان الضعيف النفس صلاته تراه هادئاً وقوراً ، وحال دخول أحدهم في مصلاه تراه يستجيب لوساوس الشيطان الرجيم والنفس الأمارة ودعوتها بضرورة اضفاء مزيد من الوقار والاهتمام بقراءته وركوعه وسجوده لكسب المديح والثناء من الناظر اليه . وهو ـ بطبيعة الحال ـ يغفل أشد الغفلة عن ان الله جلت قدرته خبير بالظاهر والباطن ، بل هو أقرب اليه من حبل الوريد ، وأعلم به من نفسه . انه لا يهتم باطلاع الباري عليه بقدر اطلاع الناس عليه ، ولا ينظر أو يترقب ثواب الرحمن الرحيم بقدر ترقبه لكيل المديح والثناء عليه من قبل الناس الذين لا يضرونه ولا ينفعونه شيئاً ! . .
ومرة كنت أتمشى في شوارع إحدى المدن في شهر رمضان المبارك ، واذا بي أرى بعض الرجال متحلقين حول بعضهم يلعبون بورق القمار ويدخنون السجائر . وما أن اقتربت منهم مخفضاً رأسي سلمت عليهم ، فقاموا احتراماً لي محيين وقد جمعوا أوراق القمار واطفئوا لفافات التبغ . فشكرت احترامهم لي كشخص روحاني ، وقلت لهم : أراكم قد احترمتوني ولم تحترموا أوامر الله سبحانه ! ان الله هو الذي أمركم بالصوم فلم تطيعوه ، ونهاكم عن الميسر فلم تنتهوا . . انني لا أملك لكم من دون الله نفعاً ولا ضراً ، فهو الذي ينبغي ان تخافوه وتحذروه وتمتثلوا لأوامره التي فيها نجاتكم وخلاصكم .
المهم في الأمر ان الرياء من أشد انواع النفاق خطراً على سلوك الإنسان . فمن النفاق ان يظهر المرء البشاشة على ملامح وجهه لأخيه ثم يطعنه من وراء ظهره ، ومن النفاق ان لا يطابق قول الإنسان الحسن فعله الحسن . وقد قال تبارك وتعالى في كتابه المجيد : ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ . فمهما يكون عليه داء النفاق من خفاء فان الله خبير به ؛ مطلع عليه ؛ فهو الذي يعرف خافية الصدور وما يحاول الإنسان اخفائه جهلاً منه وعنتاً .
ان داء النفاق يتخذ حالات لا تحصى عدداً ، ويصل الحال به ان يخفى على الإنسان ذاته ، لاسيما وان الإنسان مفطور على العجالة والجهالة .
معالجة النفاق . . الجهاد الأكبر
من هذا المنطلق كان لزاماً على المؤمنين أن يعرفوا معنى النفاق وأبعاده ، وأن يكونوا في حالة جهاد دائم للنفس ، وان يضعوا هذه النفس على المحك المميز ليكونوا على بينة من أمرهم ، تحاشياً لحالة العجالة والجهالة من أجل الفوز على وساوس الشيطان وتآمر النفس . وبذلك تكون ذممهم قد برأت أمام الله سبحانه وتعالى ، وأوامره ونواهيه القاطعة ، وحكمه الجلية .
والآية الكريمة القائلة بـ ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾ تعني فيما تعني ان المرء أعرف بنفسه من غيره وانه من الجدير به ان يستمر في واقع المعرفة هذا ، وأن العزم الراسخ بعد التوكل على الله عز وجل ، كفيل بأن يصل بالإنسان الى شاطئ الامان والرضوان ، تبعاً الى مفهوم النظرية القرآنية القائلة بـ ﴿... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ... ﴾ .
ان طبيعة بني البشر التي جبلوا عليها تشير الى انهم معرضون دوماً للخطأ والخطيئة ، وهم في صراع دائم مع ما يحيط بهم من امكانات وفتن وامتحانات .وهذا لا يعده الله سبحانه وتعالى عيباً عليهم البتة ، بل العكس هو الصحيح تماماً . اذ ان الصراع مع هذه الامكانات وهذه الفتن التي تترى عليهم ، انما هي نعمة سخرها الله لهم لينجح من نجح منهم على بينة ، ويسقط من سقط على بينة .
فالعيب ليس في التجربة الإنسانية النابعة من حب الخير وحب الفوز ، وانما العيب هو الخضوع والاستسلام . وهل يعيب الناس على من يتعلم السباحة ؟ ام يعيبون على من لم يتعلم بداعي الكسل والخوف من الماء ؟
وكما هو الحال في تعدد نماذج النفاق ، فإن طرق معالجته عديدة لا تحصى ، بل لعل رحمة الله بنا وعطفه علينا ان وهبنا العقل السليم وان لم يجعل لهذا العقل حدوداً .
نماذج جهادية
ومن نماذج مجاهدة مرض النفاق الاجتماعي ؛ ان كان آية الله جواد الطهراني ( رحمه الله ) في مدينة مشهد المقدسة جالساً في مجلس ، حيث سمع احدهم يغتاب مؤمناً ، فرده بأن قال للمغتاب : ان امامي احد خيارين ؛ اما ان اضع القطن في أذني او اغادر هذا المجلس الى مجلس آخر ، فما ترى ؟!
اما السيد بحر العلوم ( قدس سره ) فقد سمع احد جلسائه يغتاب بعض الناس ، فما كان منه وقد كان طفلاً إلاّ أن غادر المجلس الذي كان فيه راكضاً . فظن الناس أن حادثاً ألم به أو عقرباً لسعته ، وعندما لحقوا به وجدوه يبكي . فسألوه : مم بكاؤك يا سيدنا ؟ فقال لهم: كيف اجلس في مجلس يعصى الله فيه ؟ إن في هذا تؤكل لحوم اخواني المؤمنين . .
اننا اذا رأينا في انفسنا ضعفاً أمام الغيبة التي هي أقبح مظاهر النفاق الاجتماعي ـ حيث تنعدم فيه الثقة بين أفراد المجتمع ، وينتشر فيه سوء الظن ـ أو وجدنا في انفسنا ضعفاً تجاه مجاهدة النماذج النفاقية الاخرى ، فما علينا إلا استدارك هذا الضعف الخطير والبحث عن السبل الناجعة لمواجهتها ـ كل حسب موقعه ـ . اما اذا تركنا هذا الضعف يستشري في اوساطنا ، فان ذلك يعني تعميق الضعف واستفحاله ، وبالتالي تحول داء النفاق الى داء اكبر كالشرك بالله . وهذه سنة الهية في عالم التشريعات ، إذ هناك أمثلة عديدة يطرحها الشارع المقدس علينا ، كالاصرار على الصغائر التي تعد من وجهة النظر الشرعية كبائر تدخل النار وتحيق بمصير الإنسان . وبتعبير آخر ؛ ان الذنوب اكثر ما تشبه كرة الثلج التي كلما اتجهت نحو السفح كلما تضخمت مكتسحة ما تلقاه في طريقها .
النفاق الاجتماعي
البعد الثاني هو ما يتصل بالمنافقين الخارجيين ، ويواجه هذا النوع من النفاق عبر المعايير الحقيقة .
فالإنسان بإمكانه التظاهر في عباداته بأشد انواع الخشوع ، بل يصل به الأمر الى ان تكون دموعه بين يديه ـ كما تقول الروايات ـ ولقد لاحق ذلك المجرم احدى بنات رسول الله صلى الله عليه وآله يوم عاشوراء وسط الصحراء لينزع عنها قرطيها ، ولما تمكن من ذلك اخذته موجة من البكاء ( الكاذب ) ولما سألته متعجبة عن السبب وراء سلبها وبكائه ؟ قال : إن لم أسلبك أنا فسيسلبك غيري !! وأما بكائي فلما أراه يجري على أهل بيت النبوة !!
وكان أمير المؤمنين عليه السلام سائراً مع احد من اصحابه في ازقة الكوفة إذا بهما يسمعان صوتاً جميلاً يرتل القرآن الكريم على أحسن ما يكون الترتيل ، فوقع موقع الإعجاب في أذن رفيق أمير المؤمنين عليه السلام فقال له : لا يغرنك هذا . ثم تبين لهما ان قارئ القرآن هو عبد الرحمن بن ملجم الذي قتل الإمام عليه السلام غدراً .
كيف نميز المنافق ؟!
هذا تساؤل مثير حدد ائمة أهل البيت عليهم السلام جوابه بحدين ؛ الأول صدق الحديث ، والثاني أداء الأمانة .
إذن فالقول ( صدق الحديث ) والفعل ( أداء الأمانة ) هما المقياس الأوحد لتحديد شخصية الإنسان . فمن كان يضمر أمر ما لا محالة يظهر على لسانه الذي لابد له من فلتات ، وذلك كله ينبع من أن المنافق ذو شخصية ازدواجية حيث يبطن ما لا يعلن . وهذا النفاق بدوره لا بُدَّ من هدف يقف وراءه ، وأول الأهداف هو محاولة الربح وجني العائدات الحرام . ولا جرم ان شخصيته ونفسه ستسول له لخيانة الأمانة ـ على أنواعها ـ فهو ذو قوام ذاتي مهزوز أمام ابسط الاغراءات ، ولا سيما المالية منها .
وفي هذا الزمن نعيش كمجتمعات مسلمة في ظل امواج متلاطمة من النفاق . والمتابع البسيط يبصر هذا الواقع بأبسط جهد . فوسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة تتحدث ليل نهار عن حقوق الإنسان والحرية والرفاه والعدالة ، وتنمق بتقنية فائقة هذا الحديث ، لتخادع به المتابع وتضمن تأييده القولي والفعلي والفكري . وقد حدا بالرئيس الاميركي السابق جورج بوش يكذب كذبته المفضوحة التي ادعى فيها انه لم يتمكن من النوم في إحدى ليالي حرب الخليج الثانية بعد مشاهدته منظر احد الطيور المضطربة بسبب تلوث مياه الخليج بالنفط المتسرب من آبار الكويت التي أحرقها صدام حسين !!! ان مثل هذا الرئيس ( المنافق ) لم تطرف له عين و ابناء الشعب العراقي المظلوم يسقطون جوعاً آلافاً آلافاً . . بينما يتقلب في مضجعه عطفاً على طير ملوث بالنفط .
هل سمعتم بقصة الخوارج الذين ذبحوا عبد الله بن الخباب بن الأرت من الوريد الى الوريد ، الذي كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكذلك والده خباب بن الارت كان من اعظم أصحاب الرسول ، فمرّ بهم عبد الله وفي عنقه قرآن ، ومعه زوجته الحامل ، وكانت في شهرها الأخير ، فاخذوه وقالوا له : ان هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك ، فقال لهم : أحيوا ما أحياه القرآن ، وأميتوا ما أماته .
وفيما هم يحاورونه كانت تسقط تمرة من نخلة فيتناولها أحدهم ، فيصيحون به حتى يلفظها . ويمر بهم خنزير فيقتله أحدهم ، فينهرونه ويقولون هذا فساد في الأرض .
وعادوا الى عبد الله بن خباب وقالوا لو : ما تقول في أبي بكر وعمر وعلي قبل التحكيم ، وعثمان في الست سنين الأخيرة من خلافته ؟ فاثنى عليهم خيراً . فقالوا : ما تقول في علي بعد التحكيم والحكومة ؟ فقال : ان علياً أعلم بالله ، وأشد توقياً على دينه ، وأنفذ بصيرة .
فقالوا : انك لا تتبع الهدى ، بل تتبع الهوى ، والرجال على اسمائهم . ثم جرّوه الى شاطئ النهر وذبحوه ، وجاؤوا بزوجته فبقروا بطنها وذبحوها مع ولدها الى جانبه !
أليس هذا هو النفاق بعينه ؟
ان قصة النفاق المخزية تكرر نفسها ؛ فالولايات المتحدة الأميريكة التي تدعو الى نظام دولي جديد يحمل راية الحرية والعدل والسعادة هي ذاتها احتجت بأعظم ما يكون الاحتجاج على اصدار حكم القتل على سلمان رشدي الذي وجه إهانته الى الله عز وجل والى رسول الله صلى الله عليه وآله والى مليار مسلم . . بينما رأت بأم عينيها مناظر مرعبة تم فيها اغتصاب خمسين الف امرأة بوسنية دون ان تستنكر ذلك .
فالعدالة والحرية في قاموس النفاق والمنافقين ، انما هي للذي يؤمن مصالحهم ويضمن الاستمرار في استنزاف طاقات الآخرين .
كيف نواجه النفاق الدولي
لقد تحدثنا عن سبل مواجهة النفاق الفردي وعن النفاق في المجتمع ، والآن نتحدث عن زاوية أخرى من النفاق ؛ وهي النفاق على مستوى الدول والتيارات السياسية العالمية الحاكمة ؛ وكيفية مقاومة هذا النفاق بوسائل جديدة .
يقول القرآن الكريم : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ... ﴾ وهذا الجهاد بحاجة الى عطاء وتضحية وهمة عالية .
ولقد تابع أئمة أهل البيت عليهم السلام مسيرة سيدهم المصطفى صلى الله عليه وآله الجهادية هذه ، إذ خاض أمير المؤمنين عليه السلام ثلاث حروب طاحنة ؛ هي الجمل وصفين والنهروان ، لانه كان يعلم علم اليقين انه لو داهن مع أعدائه سيكونون هم قادة المسلمين . وكذلك بقية الائمة عليهم السلام الذين جاهدوا النفاق بمختلف أشكاله وصوره . وبعد كل ذلك الجهاد والتضحية التي لا نظير لها على مر التاريخ ، نرى اليوم الجيل الإسلامي الحاضر يحمل وسائل جهاده المادية والمعنوية في كل بقعة من البقاع الإسلامية ، ويواجهون حكوماتهم المنافقة أو الكافرة على أشد حالات المواجهة ، تطبيقاً للأمر الالهي : ﴿... وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ... ﴾ .
فالكلمة الطيبة لا تنفع إلا الإنسان الطيب ، اما الخبيث فلا تجدي به سوى المواجهة المباشرة . فهذا الإنسان الذي تبرأ من فطرته وخلف أوامر الله وراء ظهره لا يستحق الحياة الدنيوية ولا الاخروية ﴿ ... وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ... ﴾ .
ان شخصاً مثل صدام حسين ، كيف يمكن التعايش معه ؟ فأقرب الناس اليه لم يستطع ذلك . . ان مثل هذا الشخص ليس بالوسع ان يجابه بغير الغلظة والعنف الذي هو اختاره لنفسه . .
اذن ؛ فالنفاق يتمثل في ثلاثة انواع ؛ الأول : نفاق المرء عن نفسه ، ويمكن معالجته بالمراقبة والتربية الذاتية والتوكل على الله . والثاني : نفاق الإنسان في المجتمع ، ويمكن استئصاله بالنصيحة أو الابتعاد والاعتزال للمنافقين . والثالث : النفاق السياسي الحاكم ، وهذا يعالج بالمجاهدة والمواجهة .
هكذا نعالج النفاق
في مجال المقارنة بين النفاق والايمان هناك سؤال مهم يطرح نفسه وهو : هل يجب علينا ان نعرف النفاق اولاً ثم الايمان ، أم ان معرفة الايمان يجب ان تسبق معرفة النفاق ؟
من الممكن ان يكون هذا السؤال سؤالاً فلسفياً غامضاً ، إلاّ ان ضرورته تتضح من خلال بيان حقيقة ان الإنسان لا يمكنه ان يعرف الأشياء إلاّ عبر معرفة أضدادها وحدودها وعلاقاتها بسائر الأشياء ؛ لان معرفة الإنسان لا تحدث اعتباطاً ، بل ضمن محور من العناصر المتسلسلة .
وعلى سبيل المثال فان معرفة الله عز وجل لا يمكن ان تتأتى للإنسان إلاّ بعد نفي الشركاء عنه ، فنحن نقول في البدء ( لا إله ) ثم نقول بعد ذلك ( إلاّ الله ) . لان الذي لا يكفر بالشركاء لا يمكنه ان يؤمن بالله ، وهكذا الحال بالنسبة إلى الإيمان والنفاق . ففي البداية يتوجب على الإنسان ان يعرف النفاق لكي يكون بمقدوره معرفة الايمان ، او ان معرفة النفاق هي ـ على الأقل ـ ضرورية للمعرفة العميقة والواسعة والصحيحة بالإيمان .
ما هو النفاق ؟
بعد هذه المقدمة السريعة نطرح على انفسنا السؤال التالي : ما هو النفاق ؟
وللاجابة على هذا السؤال نقول : ان معرفة النفاق يمثل ضرورة من ضرورات حياتنا اذا اخذنا بنظر الاعبتار ان الإنسان اما ان يكون مؤمناً واما ان يكون منافقاً . ولذلك فان النفاق والايمان هما ظاهرتان او حقيقتان يجب ان يعرفهما الإنسان بنفسه ؛ بمعنى انه لا يستطيع ان يعتمد اعتماداً كلياً على معارفه او قناعاته السابقة ، فقد تكون هذه المعارف والقناعات وسيلة للتغرير بالإنسان ، وتبرير اخطائه وسلبياته . واذا كانت كذلك ، فمن الممكن ان تكون حجاباً دون وصوله الى الحقيقة .
ان القرآن الكريم ، واحاديث النبي صلى الله عليه وآله ، والائمة الاطهار عليهم السلام اكدت علينا ضرورة ان نعرض انفسنا على القرآن ؛ فاذا اردنا ان نعرف حقيقة انفسنا وميزانها وواقعها ، وهل نحن سائرون على طريق الحق ام طريق الباطل ، فما علينا إلاّ ان نعرض انفسنا على القرآن . علماً ان الله سبحانه وتعالى وصف ذكره الحكيم بانه ميزان وفرقان . ومن المعلوم ان الميزان هو ما يقيم الإنسان ، والفرقان ما يفرق بين الحق والباطل .
وبسبب ذلك كله فاننا لا نستطيع ان نمر على السؤال السابق مرور الكرام ، فهو سؤال ضروري لاننا لا نمتلك الحق في ان نحسب انفسنا مؤمنين من الدرجة الاولى ونحن ـ مثلاً ـ نعيش النفاق في حياتنا ، ونموت عل هذا النفاق ، ولا نكتشف اننا كنا نعيش منافقين الا بعد ان تقبل علينا الملائكة لتقبض ارواحنا . وقد اشار الله تبارك وتعالى الى هذا الصنف من الناس الذي لا يكتشف نفاقه إلاّ في وقت متأخر قائلاً : ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا ﴾ .
فهؤلاء المستضعفون يظنون ان تعرضهم للاستضعاف يمكن ان يكون سبباً وجيهاً لتبرير واقعهم ، وحجة للتخلص من نار جهنم . ولكنهم لا يكتشفون الحقيقة إلاّ عندما لا تنفعهم معرفة هذه الحقيقة ، إلاّ بعد فوات الفرصة .
المقياس القرآني
وبناء على ذلك فمن الممكن ان نعيش حالة النفاق في حياتنا دون ان نحس بذلك ، وهنا تتضح الضرورة الشديدة لطرح السؤال السابق على انفسنا واستخراج الاجابة من القرآن الكريم من خلال عرض انفسنا عليه . ذلك لان القرآن الكريم لا يمثل كلام الاباء والاجداد او آراء المجتمع ، كما انه كتاب لا يأتيه الريب من بين يديه او من خلفه ، وليس كلامه مشوباً بسلبية الإنسان وبالعصبيات والادعاءات الباطلة ، بل هو كلام الله تقدست اسمائه الذي هو هدى للمتقين .
وعلى هذا الاساس فلنتعرف أولاً على الايمان ، لنرى انه يعني في الحقيقة خضوع نفس الإنسان وما فيها من شهوات واهواء للعقل . فعندما تخضع شهوات الإنسان لعقله وفكره وارادته ، فحينئذ يكون هذا الإنسان مؤمناً .
عدم الايمان مشكلة نفسية
وعدم الايمان لا يمثل مشكلة علمية ، بل هو في الاساس مشكلة نفسية . فالإنسان لا يؤمن لانه لا يستطيع ان يؤمن ، ولان في قلبه مرضاً ، ولان الله تعالى قد طبع على قلبه كما يشير الى ذلك قوله سبحانه : ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ .
وفي هذا المجال تحضرني كلمة طريفة لأحد علماء النفس الامريكيين المعاصرين يقول فيها : ان اولئك الذين لا يؤمنون ، ويدعون انهم لا يؤمنون بالله بحجة ان عقولهم كبيرة ، وانهم لا يقتنعون بوجود الله ؛ كل هؤلاء كاذبون ، والحقيقة انهم لا يستطيعون ان يؤمنوا بالله ، لانهم أقل قدراً من الايمان به . وهم في الحقيقة مقتنعون في قرارة انفسهم بوجود الله تعالى ولكن واقعهم وظروفهم الفاسدة هي التي تدفعهم الى الكفر بالله .
وبناء على ذلك فان الايمان يمثل مشكلة نفسية ، وبؤرة هذه المشكلة هي ان الإنسان لا يستطيع ان يخضع نفسه وشهواته لعقله وارادته . فعندما تستسلم نفس الإنسان فان قوى المقاومة فيها سرعان ما تنهار امام الايمان ، اما اذا صمم الإنسان على اتباع الحق متحدياً جميع ظروفه ومشاكله وشهواته فحينئذ سيكون مؤمناً حقاً ؛ لان تحدي الإنسان لظروفه يختلف قوة وضعفاً ، فمن الممكن ان يكون قادراً على تحدي ظرف ما دون ان يكون قادراً على تحدي ظرف آخر . ومن الممكن ان يكون باستطاعته تحدي المجتمع ، ولكنك تراه ضعيفاً عاجزاً عن تحدي شهوات الذات . ومن الممكن ان يستطيع تحدي الذات من ناحية الشهوة الجنسية ، ولكنه لا يستطيع ان يتحدى ذاته من ناحية الرئاسة ، وحب الشهرة والجاه . . .
الايمان درجات :
ومن هنا يمكننا القول ان للايمان درجات كثيرة ومختلفة ، وقد اكدت آيات قرآنية كثيرة على هذه الحقيقة كقوله تعالى : ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ ... ﴾ وقوله : ﴿... وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ... ﴾.
فهذه الآيات تدل دلالة واضحة على ان المؤمنين يتدرجون في مدارج الايمان .
ومن المعلوم ان الدرجة الايمانية العليا هي درجة الاستسلام الكامل لله تبارك وتعالى . فالإسلام لله يعني مقاومة كل ما ليس إلهاً ، وتحدي الشركاء جميعاً ، ومقاومة المجتمع الفاسد ، والوقوف في وجه الارادة البشرية المنحرفة ، والتراث المتخلف .
اما الدرجة الثانية من الايمان فهي ان يؤمن الإنسان بالله سبحانه وتعالى ، ثم يتحدى ظروفه ومجتمعه ، ولكنه لا يستطيع ان يبقى على تحديه لدى الامتحان الصعب .
اما الدرجة الثالثة فتتمثل في ان يكون الإنسان مؤمناً شريطة عدم مواجهته للظروف الصعبة . فيكون مؤمناً باللسان والقلب ، ولكن الاركان لا تصدق هذا الايمان . وهذه هي الدرجة الضعيفة للايمان ، وهي التي يصفها النبي صلى الله عليه وآله بـ ( اضعف الايمان ) عندما يبين أهمية فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وبعد فهذه هي الدرجات الثلاث من الايمان ؛ الايمان القوي الصارم المتحدي الذي لا يخضع لاي اغراء ، والايمان حسب الظروف المتغيرة وهذه الدرجة يصفها القرآن الكريم بانها نفاق ، وهكذا الحال بالنسبة الى الدرجة الثالثة .
النفاق درجات
وهذا النفاق ينقسم بدوره الى قسمين : القسم الاول ان يتوب الإنسان الى الله جل وعلا عندما يجد في نفسه العجز عن مقاومة الظروف ، والمبادرة الى الاستسلام لشهواته ، وضغوط مجتمعه ، وتراثه الجاهلي . وهذه حالة ضعيفة من النفاق . اما القسم الثاني فهو الذي يمثل النفاق الخظير الذي يترسخ في قلب الإنسان ، ويبقى فيه حتى يموت ليحشر مع المنافقين . وهذا النفاق هو نفاق الإنسان الذي يستسلم للظروف ، ويبقى مستسلماً لها دون ان يتوب الى الخالق سبحانه ، وقد أشار القرآن الكريم الى هذا القسم من المنافقين ، وأمر رسوله الكريم صلى الله عليه وآله ان يجاهدهم جهاداً لا هوادة فيه في قوله : ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ... ﴾ .
المنافقون والكفار :
وقد يتبادر الى الاذهان بشأن هذه الآية الكريمة السؤال التالي : من هم الكفار ومن هم المنافقون ، وكيف ربط القرآن الكريم الكفار مع المنافقين في سياق واحد ؟
في الآية التالية التي سنستعرضها تفسير لتلك التساؤلات : ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴾ .
فهؤلاء المنافقون والكفار يواجهون في الدنيا جهاد المؤمنين ، وفي الآخرة تنتظرهم جهنم وبئس المصير . كما ان القرآن الكريم يصرح في الآيات السابقة ان ليست هناك حدود بين الكفر والنفاق ، فهؤلاء المنافقون الذين يتظاهرون بالإسلام هم كفار في الحقيقة كما يصرح بذلك قوله سبحانه :﴿ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ ... ﴾ .
صحيح انهم كانوا مسلمين ، ولكنهم فرضوا لإسلامهم هذا شروطاً . ومن المعلوم ان الله جل وعلا يريد إنساناً مسلماً من غير شروط وفي جميع الظروف .
على ان هؤلاء المنافقين لم يكفروا فحسب ، وانما ارتبطوا بشكل علني بالأجهزة المعادية للإسلام ، واستهدفوا تحطيم وتغيير النظام الإسلامي . ﴿... بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ... ﴾.
ثم يقول تعالى : ﴿... فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ... ﴾ .
فان تاب المنافقون فانهم سيعودون الى حظيرة الإسلام ، ويتحولون الى مسلمين مرة اخرى . وان بقوا على حالة النفاق ، فان الله تبارك وتعالى سيعذبهم عذاباً اليماً في الدنيا والاخرة ، دون ان يكون لهم في الارض من ولي او نصير . فهم يظنون انهم بنفاقهم يستمدون القوة من الكفار والفئات المعارضة ، ولكن ظنهم هذا باطل .
ومن ثم يقول ربنا عز وجل : ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ .
فمن المفروض في الذين يعاهدون الله ان يكونوا مؤمنين وعارفين بانه يعلم خفاياهم لكي يبرموا العهود معه ، ولكن شهوة المال والسلطة سلبت منهم عقولهم ، فكانت النتيجة ان سقطوا في الامتحان . ﴿فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴾ .
عندما يترسخ النفاق
وعندما سقط هؤلاء في الامتحان ، وترسخت فيهم حالة التولي عن رسول الله صلى الله عليه وآله والقيم التي يدعو اليها ، فان ذلك اعقبهم نفاقاً في قلوبهم الى يوم يلقون رب العالمين ، لانهم لم يتوبوا اليه . فمن الممكن ان يخضع الإنسان لشهوة الثروة يوماً او بعض يوم ثم يعود بعد ذلك الى بارئه ، وحينئذ سوف لا يكون منافقاً . ولكن الإنسان الذي يستمر في جحوده ونفاقه ، ومعاداته للعقيدة الالهية ، فانه سوف يتحول الى منافق حقيقي . فالإنسان المسلم الذي يتعمد ترك الفرائض الدينية ، ويبقى مصراً على تركها ، وجاحداً لوجوبها ، فانه سيتحول الى إنسان منافق ، وسيسلب منه الايمان بالكامل ليبقى على هذه الحالة الى يوم القيامة .
ثم يبين الله عز شأنه سبب ترسخ النفاق في قلوب المنافقين فيقول: ﴿... بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴾ .
فالإنسان عندما يعاهد الله فانه قد يعاهده صادقاً ، وقد يعاهده كاذباً منذ البداية . فالذي يعاهد الله تعالى على ان يكون متصدقاً ، وان يكون من الصالحين ، يجب ان يكون عند عهده عندما يؤتيه الله من فضله . ولكن المنافقين بخلوا منذ اللحظة الاولى ، فانطبق عليهم حكم الكاذبين .
فلننظر الى انفسنا ؛ هل نحن منافقون ام مؤمنون ؟ ولا ننسى ان الادعاءات لا تغير حقيقة ، ولا تصلح واقعاً ، بل علينا ان نكون واقعيين ، وان نخترق الحواجز ، وننمي في انفسنا الارادة القوية المقاومة .
ان الإنسان الذي يعاهد الله على ان يكون صالحاً ، وان يكف عن ارتكاب الذنوب ثم لا يفي بوعده هذا ، فانه لا يكذب على الله فحسب ، وانما يكذب على نفسه ايضاً . ومثل هذا الإنسان لا يريد ان يصارح نفسه بالحقيقة ، لانه يريد ان يتخلص من وخز الضمير ، ومن شلال النور الذي يتوجه الى قلبه عبر آيات القرآن الكريم . فهو عندما يقرأ القرآن ويرى نفسه ليست في مستوى تعاليمه ، فانه اما ان يقول ان القرآن يبالغ ، واما ان يسوف في المبادرة الى العمل الصالح ، وهو لا يعلم ان كلمة ( سوف ) ذهبت بالكثير من الناس الى النار .
وفي الحقيقة ان هذه هي مشكلة الإنسان الرئيسية ، فهو لا يصارح نفسه بالحقيقة ، وليست لديه الشجاعة الكافية لمعارضة ذاته . فتراه يعيش دوماً حالة النفاق ، والقلق ، والاضطراب .
الصراحة علاج النفاق
ومن اجل ان يتخلص الإنسان من هذه الحالة المرضية ، فان عليه ان يكون صريحاً مع نفسه ، محاسباً لها على الدوام ، وان يطرح على نفسه دائماً السؤال الذي سبق وان طرحناه وهو : ما هو النفاق ، وهل فيَّ نسبة من النفاق ام لا ؟ ثم يعرض نفسه بعد ذلك على المقاييس القرآنية لكي يستطيع من خلالها ان يسلط الاضواء الكاشفة على نفسه ، ويكتشف النفاق في مراحل ظهوره الاولى لكي يقضي عليه وهو في المهد . ولكي لا يخدع نفسه بانه مؤمن ، وانه يحمل حقيقة الايمان دون ان يعرض نفسه للامتحان ، ودون ان يخضعها للمعايير الالهية .
وفي هذه الحالة وحدها ـ حالة عرض النفس على القرآن ـ سيكون بمقدور الإنسان التخلص من رواسب وادران النفاق ، وحينئذ ستنطبق عليه مواصفات الإنسان المؤمن المخلص في ايمانه
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾
النفاق . . الداء الأكبر
الذهنية والعاطفية في شخصيتيه ذات الأبعاد المزدوجة .النفاق المشكلة التي تسري الى جميع جوانب الحياة . فهي لا تقتصر على حياة بني البشر فحسب ، بل تتعدى الى ميادين واسعة لتشتبك مع الحياة والطبيعة برمتها .
فالاشجار التي ينم مظهرها عن الجمال والارتفاع ، ليس من المؤكد ان يكون باطنها على نفس الدرجة من الحيوية والاستواء ، اذ لعل الديدان قد استولت على أحشائها وحولتها الى موجود نخر . والإنسان في حال كهذا لا يسعه إلاّ تسمية هذه الشجرة ـ مثلاً ـ بالشجرة النافقة ، اي الميتة رغم وجود بعض الحياة في جزء منها الذي هو مظهرها . وأنت حينما تصف الإنسان بـ ( الإنسان المنافق ) فانك تعني بصورة جدلية أن النفق قد عم باطنه . وبكلمة أ خرى ؛ تعني ان الموت قد استولى على ما يستره بدنه ، وهو القلب والعاطفة والاحساس الإنساني السوي . فالضمير قد احترق ، والنفس قد انتهت ، والارادة قد انهارت وخارت . . فهو قد اصبح ضحية مزعجة للثغرات
والنفق الذي يراه الإنسان في داخل الجبل انما يعبر تعبيراً صريحاً ومتكاملاً عن هذه الحقيقة . فالجبل وفق هذه الحقيقة له طبيعتان متفاوتتان على اكبر درجات التفاوت ، اذ الظاهر ينبئ عن الصلابة والشموخ والتحدي ، بينما الباطن يؤكد حقيقة الانهيار والفراغ .
كيف نواجه النفاق ؟
من أين يبدأ النفاق في شخصية الإنسان ؟ وكيف يجب أن نعالجه ؟ وما هي حقيقة أزمة النفاق ؟
ان هذه مجموعة من الاسئلة اذا تمكنا من الإجابة عليها فسيكون بمقدورنا مواجهة مرض النفاق . فنحن لا نستطيع معالجة داء ما حتى نشخصه على هيئته الحقيقية ، أو نتعرف على أسبابه على الأقل . والاهتمام البالغ الذي ينبغي ان نوليه لأزمة النفاق انما ينبع من أبعاد ثلاثة كما يبدو .
البعد الأول : لاننا بشر تعترينا الكثير من الابتلاءات من كل جانب ومكان ، وفي كل وقت وأوان . وبالتالي فنحن معرضون للاصابة بداء النفاق ما لم نصمد أمام الابتلاءات .
البعد الثاني : لأن المجتمع يضم فيما يضم اناساً منافقين ، ونحن ولا مراء في ذلك مجبورون على الاحتكاك بهم . وهذا الاحتكاك ان لم يكن بداعي المعالجة ، فانه سيأتي بداعي التعامل اليومي . فالمرء ماذا بوسعه ان يتصرف فيما لو كان أحد اخوانه ـ والعياذ بالله ـ مصاباً بمرض النفاق ؟ فبداعي قابلية التأثير والتأثر المخلوقة في الإنسان والتي تسايره في كل وقت ، لابد له من أن يخلق له المناعة ضد سريان المرض اليه بالدرجة الأولى ثم يعمل على ازاحة هذا المرض عن أخيه أو تحديده بالدرجة الثانية .
البعد الثالث : لأن حركة النفاق هي الحركة السائدة في عالم اليوم ، على صعيد التعامل الدولي والاقليمي والمحلي . نعود لنتساءل : كيف نواجه النفاق كمرض ؟ وما هي أسبابه الحقيقية ؟
أقول : ان الإنسان حينما يعيش حياة هادئة طبيعية خالية عن المشاكل ، وخالية عن التعرض للابتلاءات اليومية ؛ لن يستطيع معرفة أبعاد شخصيته السلبية منها والايجابية . فهو غير قادر على تحديد مستوى تحمل صدمة خسارته المالية ـ مثلاً ـ ما لم يعمل في التجارة والأسواق . وهو لا يستطيع ان يدعي الكرم ما لم يحل أحدهم ضيفاً عليه . وليس بامكانه الادعاء بانه متسامح في حال عدم تنازله وتواضعه في شؤون المنافسة على تسنم المناصب .
فالفارق كبير جداً بين موازين القوة وموازين الفعل من وجهة النظر الرياضية . ان من طبيعة بني البشر العجز عن اكتشاف قابلياتهم وطاقاتهم دون وجود ميادين عملية للاستفادة من هذه الطاقات والقابليات .
من يثبت لنا ان هذا الإنسان إنسان مؤمن غير منافق من دون ان يتعرض الى فتن المال والقوة والجنس والتعصب والتحزب والرئاسة والحسد والعيوب والآلام ؟
من يثبت لنا ان هذا الفرد فرد مؤمن غير منافق ما لم ينجح باجتياز وغلبة هذه الفتن الجبارة ؟
كان أمير المؤمنين علي عليه السلام جالساً بين عدد من أصحابه في مسجد الكوفة ذات يوم ، وعند ذاك مرت إمرأة أمامهم ، فما كان من بعض من يدعي صحبة الامام إلاّ ان لاحقوا المرأة بنظراتهم المريبة ، فأمرهم الامام بغض انظارهم عن الحرام .
ان هذا امتحان وفتنة ذات حدين ؛ الاول : امتحان لمعرفة من يصبر حيال ارتكاب العمل الحرام . والثاني : فتنة لأمير المؤمنين عليه السلام وهو سيد المتقين ، في ممارسة مهامه وواجباته كحاكم للمسلمين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .
قلنا ان النفاق مأخوذ من النفق وهو الموت ، والمخلوق قد تكون احدى جوانبه ميتة ، وتتفاوت نسبة الموت لديه . واصطلاحاً يمكن القول ان المنافق من كانت روحه ميتة ، والشيطان يعمل على استمرار حالة الموت في هذه الروح . وقد كان هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الاسبق ينصح موظفي السلك الدبلوماسي الأمريكي في محاوراتهم مع مسؤولي الدول الأخرى بالنصيحة التالية : " اضرب حيث لا يكونون " اي ان الدبلوماسي الأمريكي ينبغي عليه من وجهة نظر كيسنجر أن يستغل جوانب الضعف في نظرائه ، وان يستغلوا النقاط والمفاصل التي ينعدم فيها تأثير مفاوضيهم . فهو ـ كيسنجر ـ يرى ان انعدام التأثير بمثابة عدم الوجود ، فعليه ينبغي الضرب على هذه النقطة حتى حصول المراد .
وحينما يصلي الإنسان الضعيف النفس صلاته تراه هادئاً وقوراً ، وحال دخول أحدهم في مصلاه تراه يستجيب لوساوس الشيطان الرجيم والنفس الأمارة ودعوتها بضرورة اضفاء مزيد من الوقار والاهتمام بقراءته وركوعه وسجوده لكسب المديح والثناء من الناظر اليه . وهو ـ بطبيعة الحال ـ يغفل أشد الغفلة عن ان الله جلت قدرته خبير بالظاهر والباطن ، بل هو أقرب اليه من حبل الوريد ، وأعلم به من نفسه . انه لا يهتم باطلاع الباري عليه بقدر اطلاع الناس عليه ، ولا ينظر أو يترقب ثواب الرحمن الرحيم بقدر ترقبه لكيل المديح والثناء عليه من قبل الناس الذين لا يضرونه ولا ينفعونه شيئاً ! . .
ومرة كنت أتمشى في شوارع إحدى المدن في شهر رمضان المبارك ، واذا بي أرى بعض الرجال متحلقين حول بعضهم يلعبون بورق القمار ويدخنون السجائر . وما أن اقتربت منهم مخفضاً رأسي سلمت عليهم ، فقاموا احتراماً لي محيين وقد جمعوا أوراق القمار واطفئوا لفافات التبغ . فشكرت احترامهم لي كشخص روحاني ، وقلت لهم : أراكم قد احترمتوني ولم تحترموا أوامر الله سبحانه ! ان الله هو الذي أمركم بالصوم فلم تطيعوه ، ونهاكم عن الميسر فلم تنتهوا . . انني لا أملك لكم من دون الله نفعاً ولا ضراً ، فهو الذي ينبغي ان تخافوه وتحذروه وتمتثلوا لأوامره التي فيها نجاتكم وخلاصكم .
المهم في الأمر ان الرياء من أشد انواع النفاق خطراً على سلوك الإنسان . فمن النفاق ان يظهر المرء البشاشة على ملامح وجهه لأخيه ثم يطعنه من وراء ظهره ، ومن النفاق ان لا يطابق قول الإنسان الحسن فعله الحسن . وقد قال تبارك وتعالى في كتابه المجيد : ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ . فمهما يكون عليه داء النفاق من خفاء فان الله خبير به ؛ مطلع عليه ؛ فهو الذي يعرف خافية الصدور وما يحاول الإنسان اخفائه جهلاً منه وعنتاً .
ان داء النفاق يتخذ حالات لا تحصى عدداً ، ويصل الحال به ان يخفى على الإنسان ذاته ، لاسيما وان الإنسان مفطور على العجالة والجهالة .
معالجة النفاق . . الجهاد الأكبر
من هذا المنطلق كان لزاماً على المؤمنين أن يعرفوا معنى النفاق وأبعاده ، وأن يكونوا في حالة جهاد دائم للنفس ، وان يضعوا هذه النفس على المحك المميز ليكونوا على بينة من أمرهم ، تحاشياً لحالة العجالة والجهالة من أجل الفوز على وساوس الشيطان وتآمر النفس . وبذلك تكون ذممهم قد برأت أمام الله سبحانه وتعالى ، وأوامره ونواهيه القاطعة ، وحكمه الجلية .
والآية الكريمة القائلة بـ ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾ تعني فيما تعني ان المرء أعرف بنفسه من غيره وانه من الجدير به ان يستمر في واقع المعرفة هذا ، وأن العزم الراسخ بعد التوكل على الله عز وجل ، كفيل بأن يصل بالإنسان الى شاطئ الامان والرضوان ، تبعاً الى مفهوم النظرية القرآنية القائلة بـ ﴿... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ... ﴾ .
ان طبيعة بني البشر التي جبلوا عليها تشير الى انهم معرضون دوماً للخطأ والخطيئة ، وهم في صراع دائم مع ما يحيط بهم من امكانات وفتن وامتحانات .وهذا لا يعده الله سبحانه وتعالى عيباً عليهم البتة ، بل العكس هو الصحيح تماماً . اذ ان الصراع مع هذه الامكانات وهذه الفتن التي تترى عليهم ، انما هي نعمة سخرها الله لهم لينجح من نجح منهم على بينة ، ويسقط من سقط على بينة .
فالعيب ليس في التجربة الإنسانية النابعة من حب الخير وحب الفوز ، وانما العيب هو الخضوع والاستسلام . وهل يعيب الناس على من يتعلم السباحة ؟ ام يعيبون على من لم يتعلم بداعي الكسل والخوف من الماء ؟
وكما هو الحال في تعدد نماذج النفاق ، فإن طرق معالجته عديدة لا تحصى ، بل لعل رحمة الله بنا وعطفه علينا ان وهبنا العقل السليم وان لم يجعل لهذا العقل حدوداً .
نماذج جهادية
ومن نماذج مجاهدة مرض النفاق الاجتماعي ؛ ان كان آية الله جواد الطهراني ( رحمه الله ) في مدينة مشهد المقدسة جالساً في مجلس ، حيث سمع احدهم يغتاب مؤمناً ، فرده بأن قال للمغتاب : ان امامي احد خيارين ؛ اما ان اضع القطن في أذني او اغادر هذا المجلس الى مجلس آخر ، فما ترى ؟!
اما السيد بحر العلوم ( قدس سره ) فقد سمع احد جلسائه يغتاب بعض الناس ، فما كان منه وقد كان طفلاً إلاّ أن غادر المجلس الذي كان فيه راكضاً . فظن الناس أن حادثاً ألم به أو عقرباً لسعته ، وعندما لحقوا به وجدوه يبكي . فسألوه : مم بكاؤك يا سيدنا ؟ فقال لهم: كيف اجلس في مجلس يعصى الله فيه ؟ إن في هذا تؤكل لحوم اخواني المؤمنين . .
اننا اذا رأينا في انفسنا ضعفاً أمام الغيبة التي هي أقبح مظاهر النفاق الاجتماعي ـ حيث تنعدم فيه الثقة بين أفراد المجتمع ، وينتشر فيه سوء الظن ـ أو وجدنا في انفسنا ضعفاً تجاه مجاهدة النماذج النفاقية الاخرى ، فما علينا إلا استدارك هذا الضعف الخطير والبحث عن السبل الناجعة لمواجهتها ـ كل حسب موقعه ـ . اما اذا تركنا هذا الضعف يستشري في اوساطنا ، فان ذلك يعني تعميق الضعف واستفحاله ، وبالتالي تحول داء النفاق الى داء اكبر كالشرك بالله . وهذه سنة الهية في عالم التشريعات ، إذ هناك أمثلة عديدة يطرحها الشارع المقدس علينا ، كالاصرار على الصغائر التي تعد من وجهة النظر الشرعية كبائر تدخل النار وتحيق بمصير الإنسان . وبتعبير آخر ؛ ان الذنوب اكثر ما تشبه كرة الثلج التي كلما اتجهت نحو السفح كلما تضخمت مكتسحة ما تلقاه في طريقها .
النفاق الاجتماعي
البعد الثاني هو ما يتصل بالمنافقين الخارجيين ، ويواجه هذا النوع من النفاق عبر المعايير الحقيقة .
فالإنسان بإمكانه التظاهر في عباداته بأشد انواع الخشوع ، بل يصل به الأمر الى ان تكون دموعه بين يديه ـ كما تقول الروايات ـ ولقد لاحق ذلك المجرم احدى بنات رسول الله صلى الله عليه وآله يوم عاشوراء وسط الصحراء لينزع عنها قرطيها ، ولما تمكن من ذلك اخذته موجة من البكاء ( الكاذب ) ولما سألته متعجبة عن السبب وراء سلبها وبكائه ؟ قال : إن لم أسلبك أنا فسيسلبك غيري !! وأما بكائي فلما أراه يجري على أهل بيت النبوة !!
وكان أمير المؤمنين عليه السلام سائراً مع احد من اصحابه في ازقة الكوفة إذا بهما يسمعان صوتاً جميلاً يرتل القرآن الكريم على أحسن ما يكون الترتيل ، فوقع موقع الإعجاب في أذن رفيق أمير المؤمنين عليه السلام فقال له : لا يغرنك هذا . ثم تبين لهما ان قارئ القرآن هو عبد الرحمن بن ملجم الذي قتل الإمام عليه السلام غدراً .
كيف نميز المنافق ؟!
هذا تساؤل مثير حدد ائمة أهل البيت عليهم السلام جوابه بحدين ؛ الأول صدق الحديث ، والثاني أداء الأمانة .
إذن فالقول ( صدق الحديث ) والفعل ( أداء الأمانة ) هما المقياس الأوحد لتحديد شخصية الإنسان . فمن كان يضمر أمر ما لا محالة يظهر على لسانه الذي لابد له من فلتات ، وذلك كله ينبع من أن المنافق ذو شخصية ازدواجية حيث يبطن ما لا يعلن . وهذا النفاق بدوره لا بُدَّ من هدف يقف وراءه ، وأول الأهداف هو محاولة الربح وجني العائدات الحرام . ولا جرم ان شخصيته ونفسه ستسول له لخيانة الأمانة ـ على أنواعها ـ فهو ذو قوام ذاتي مهزوز أمام ابسط الاغراءات ، ولا سيما المالية منها .
وفي هذا الزمن نعيش كمجتمعات مسلمة في ظل امواج متلاطمة من النفاق . والمتابع البسيط يبصر هذا الواقع بأبسط جهد . فوسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة تتحدث ليل نهار عن حقوق الإنسان والحرية والرفاه والعدالة ، وتنمق بتقنية فائقة هذا الحديث ، لتخادع به المتابع وتضمن تأييده القولي والفعلي والفكري . وقد حدا بالرئيس الاميركي السابق جورج بوش يكذب كذبته المفضوحة التي ادعى فيها انه لم يتمكن من النوم في إحدى ليالي حرب الخليج الثانية بعد مشاهدته منظر احد الطيور المضطربة بسبب تلوث مياه الخليج بالنفط المتسرب من آبار الكويت التي أحرقها صدام حسين !!! ان مثل هذا الرئيس ( المنافق ) لم تطرف له عين و ابناء الشعب العراقي المظلوم يسقطون جوعاً آلافاً آلافاً . . بينما يتقلب في مضجعه عطفاً على طير ملوث بالنفط .
هل سمعتم بقصة الخوارج الذين ذبحوا عبد الله بن الخباب بن الأرت من الوريد الى الوريد ، الذي كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكذلك والده خباب بن الارت كان من اعظم أصحاب الرسول ، فمرّ بهم عبد الله وفي عنقه قرآن ، ومعه زوجته الحامل ، وكانت في شهرها الأخير ، فاخذوه وقالوا له : ان هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك ، فقال لهم : أحيوا ما أحياه القرآن ، وأميتوا ما أماته .
وفيما هم يحاورونه كانت تسقط تمرة من نخلة فيتناولها أحدهم ، فيصيحون به حتى يلفظها . ويمر بهم خنزير فيقتله أحدهم ، فينهرونه ويقولون هذا فساد في الأرض .
وعادوا الى عبد الله بن خباب وقالوا لو : ما تقول في أبي بكر وعمر وعلي قبل التحكيم ، وعثمان في الست سنين الأخيرة من خلافته ؟ فاثنى عليهم خيراً . فقالوا : ما تقول في علي بعد التحكيم والحكومة ؟ فقال : ان علياً أعلم بالله ، وأشد توقياً على دينه ، وأنفذ بصيرة .
فقالوا : انك لا تتبع الهدى ، بل تتبع الهوى ، والرجال على اسمائهم . ثم جرّوه الى شاطئ النهر وذبحوه ، وجاؤوا بزوجته فبقروا بطنها وذبحوها مع ولدها الى جانبه !
أليس هذا هو النفاق بعينه ؟
ان قصة النفاق المخزية تكرر نفسها ؛ فالولايات المتحدة الأميريكة التي تدعو الى نظام دولي جديد يحمل راية الحرية والعدل والسعادة هي ذاتها احتجت بأعظم ما يكون الاحتجاج على اصدار حكم القتل على سلمان رشدي الذي وجه إهانته الى الله عز وجل والى رسول الله صلى الله عليه وآله والى مليار مسلم . . بينما رأت بأم عينيها مناظر مرعبة تم فيها اغتصاب خمسين الف امرأة بوسنية دون ان تستنكر ذلك .
فالعدالة والحرية في قاموس النفاق والمنافقين ، انما هي للذي يؤمن مصالحهم ويضمن الاستمرار في استنزاف طاقات الآخرين .
كيف نواجه النفاق الدولي
لقد تحدثنا عن سبل مواجهة النفاق الفردي وعن النفاق في المجتمع ، والآن نتحدث عن زاوية أخرى من النفاق ؛ وهي النفاق على مستوى الدول والتيارات السياسية العالمية الحاكمة ؛ وكيفية مقاومة هذا النفاق بوسائل جديدة .
يقول القرآن الكريم : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ... ﴾ وهذا الجهاد بحاجة الى عطاء وتضحية وهمة عالية .
ولقد تابع أئمة أهل البيت عليهم السلام مسيرة سيدهم المصطفى صلى الله عليه وآله الجهادية هذه ، إذ خاض أمير المؤمنين عليه السلام ثلاث حروب طاحنة ؛ هي الجمل وصفين والنهروان ، لانه كان يعلم علم اليقين انه لو داهن مع أعدائه سيكونون هم قادة المسلمين . وكذلك بقية الائمة عليهم السلام الذين جاهدوا النفاق بمختلف أشكاله وصوره . وبعد كل ذلك الجهاد والتضحية التي لا نظير لها على مر التاريخ ، نرى اليوم الجيل الإسلامي الحاضر يحمل وسائل جهاده المادية والمعنوية في كل بقعة من البقاع الإسلامية ، ويواجهون حكوماتهم المنافقة أو الكافرة على أشد حالات المواجهة ، تطبيقاً للأمر الالهي : ﴿... وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ... ﴾ .
فالكلمة الطيبة لا تنفع إلا الإنسان الطيب ، اما الخبيث فلا تجدي به سوى المواجهة المباشرة . فهذا الإنسان الذي تبرأ من فطرته وخلف أوامر الله وراء ظهره لا يستحق الحياة الدنيوية ولا الاخروية ﴿ ... وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ... ﴾ .
ان شخصاً مثل صدام حسين ، كيف يمكن التعايش معه ؟ فأقرب الناس اليه لم يستطع ذلك . . ان مثل هذا الشخص ليس بالوسع ان يجابه بغير الغلظة والعنف الذي هو اختاره لنفسه . .
اذن ؛ فالنفاق يتمثل في ثلاثة انواع ؛ الأول : نفاق المرء عن نفسه ، ويمكن معالجته بالمراقبة والتربية الذاتية والتوكل على الله . والثاني : نفاق الإنسان في المجتمع ، ويمكن استئصاله بالنصيحة أو الابتعاد والاعتزال للمنافقين . والثالث : النفاق السياسي الحاكم ، وهذا يعالج بالمجاهدة والمواجهة .
هكذا نعالج النفاق
في مجال المقارنة بين النفاق والايمان هناك سؤال مهم يطرح نفسه وهو : هل يجب علينا ان نعرف النفاق اولاً ثم الايمان ، أم ان معرفة الايمان يجب ان تسبق معرفة النفاق ؟
من الممكن ان يكون هذا السؤال سؤالاً فلسفياً غامضاً ، إلاّ ان ضرورته تتضح من خلال بيان حقيقة ان الإنسان لا يمكنه ان يعرف الأشياء إلاّ عبر معرفة أضدادها وحدودها وعلاقاتها بسائر الأشياء ؛ لان معرفة الإنسان لا تحدث اعتباطاً ، بل ضمن محور من العناصر المتسلسلة .
وعلى سبيل المثال فان معرفة الله عز وجل لا يمكن ان تتأتى للإنسان إلاّ بعد نفي الشركاء عنه ، فنحن نقول في البدء ( لا إله ) ثم نقول بعد ذلك ( إلاّ الله ) . لان الذي لا يكفر بالشركاء لا يمكنه ان يؤمن بالله ، وهكذا الحال بالنسبة إلى الإيمان والنفاق . ففي البداية يتوجب على الإنسان ان يعرف النفاق لكي يكون بمقدوره معرفة الايمان ، او ان معرفة النفاق هي ـ على الأقل ـ ضرورية للمعرفة العميقة والواسعة والصحيحة بالإيمان .
ما هو النفاق ؟
بعد هذه المقدمة السريعة نطرح على انفسنا السؤال التالي : ما هو النفاق ؟
وللاجابة على هذا السؤال نقول : ان معرفة النفاق يمثل ضرورة من ضرورات حياتنا اذا اخذنا بنظر الاعبتار ان الإنسان اما ان يكون مؤمناً واما ان يكون منافقاً . ولذلك فان النفاق والايمان هما ظاهرتان او حقيقتان يجب ان يعرفهما الإنسان بنفسه ؛ بمعنى انه لا يستطيع ان يعتمد اعتماداً كلياً على معارفه او قناعاته السابقة ، فقد تكون هذه المعارف والقناعات وسيلة للتغرير بالإنسان ، وتبرير اخطائه وسلبياته . واذا كانت كذلك ، فمن الممكن ان تكون حجاباً دون وصوله الى الحقيقة .
ان القرآن الكريم ، واحاديث النبي صلى الله عليه وآله ، والائمة الاطهار عليهم السلام اكدت علينا ضرورة ان نعرض انفسنا على القرآن ؛ فاذا اردنا ان نعرف حقيقة انفسنا وميزانها وواقعها ، وهل نحن سائرون على طريق الحق ام طريق الباطل ، فما علينا إلاّ ان نعرض انفسنا على القرآن . علماً ان الله سبحانه وتعالى وصف ذكره الحكيم بانه ميزان وفرقان . ومن المعلوم ان الميزان هو ما يقيم الإنسان ، والفرقان ما يفرق بين الحق والباطل .
وبسبب ذلك كله فاننا لا نستطيع ان نمر على السؤال السابق مرور الكرام ، فهو سؤال ضروري لاننا لا نمتلك الحق في ان نحسب انفسنا مؤمنين من الدرجة الاولى ونحن ـ مثلاً ـ نعيش النفاق في حياتنا ، ونموت عل هذا النفاق ، ولا نكتشف اننا كنا نعيش منافقين الا بعد ان تقبل علينا الملائكة لتقبض ارواحنا . وقد اشار الله تبارك وتعالى الى هذا الصنف من الناس الذي لا يكتشف نفاقه إلاّ في وقت متأخر قائلاً : ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا ﴾ .
فهؤلاء المستضعفون يظنون ان تعرضهم للاستضعاف يمكن ان يكون سبباً وجيهاً لتبرير واقعهم ، وحجة للتخلص من نار جهنم . ولكنهم لا يكتشفون الحقيقة إلاّ عندما لا تنفعهم معرفة هذه الحقيقة ، إلاّ بعد فوات الفرصة .
المقياس القرآني
وبناء على ذلك فمن الممكن ان نعيش حالة النفاق في حياتنا دون ان نحس بذلك ، وهنا تتضح الضرورة الشديدة لطرح السؤال السابق على انفسنا واستخراج الاجابة من القرآن الكريم من خلال عرض انفسنا عليه . ذلك لان القرآن الكريم لا يمثل كلام الاباء والاجداد او آراء المجتمع ، كما انه كتاب لا يأتيه الريب من بين يديه او من خلفه ، وليس كلامه مشوباً بسلبية الإنسان وبالعصبيات والادعاءات الباطلة ، بل هو كلام الله تقدست اسمائه الذي هو هدى للمتقين .
وعلى هذا الاساس فلنتعرف أولاً على الايمان ، لنرى انه يعني في الحقيقة خضوع نفس الإنسان وما فيها من شهوات واهواء للعقل . فعندما تخضع شهوات الإنسان لعقله وفكره وارادته ، فحينئذ يكون هذا الإنسان مؤمناً .
عدم الايمان مشكلة نفسية
وعدم الايمان لا يمثل مشكلة علمية ، بل هو في الاساس مشكلة نفسية . فالإنسان لا يؤمن لانه لا يستطيع ان يؤمن ، ولان في قلبه مرضاً ، ولان الله تعالى قد طبع على قلبه كما يشير الى ذلك قوله سبحانه : ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ .
وفي هذا المجال تحضرني كلمة طريفة لأحد علماء النفس الامريكيين المعاصرين يقول فيها : ان اولئك الذين لا يؤمنون ، ويدعون انهم لا يؤمنون بالله بحجة ان عقولهم كبيرة ، وانهم لا يقتنعون بوجود الله ؛ كل هؤلاء كاذبون ، والحقيقة انهم لا يستطيعون ان يؤمنوا بالله ، لانهم أقل قدراً من الايمان به . وهم في الحقيقة مقتنعون في قرارة انفسهم بوجود الله تعالى ولكن واقعهم وظروفهم الفاسدة هي التي تدفعهم الى الكفر بالله .
وبناء على ذلك فان الايمان يمثل مشكلة نفسية ، وبؤرة هذه المشكلة هي ان الإنسان لا يستطيع ان يخضع نفسه وشهواته لعقله وارادته . فعندما تستسلم نفس الإنسان فان قوى المقاومة فيها سرعان ما تنهار امام الايمان ، اما اذا صمم الإنسان على اتباع الحق متحدياً جميع ظروفه ومشاكله وشهواته فحينئذ سيكون مؤمناً حقاً ؛ لان تحدي الإنسان لظروفه يختلف قوة وضعفاً ، فمن الممكن ان يكون قادراً على تحدي ظرف ما دون ان يكون قادراً على تحدي ظرف آخر . ومن الممكن ان يكون باستطاعته تحدي المجتمع ، ولكنك تراه ضعيفاً عاجزاً عن تحدي شهوات الذات . ومن الممكن ان يستطيع تحدي الذات من ناحية الشهوة الجنسية ، ولكنه لا يستطيع ان يتحدى ذاته من ناحية الرئاسة ، وحب الشهرة والجاه . . .
الايمان درجات :
ومن هنا يمكننا القول ان للايمان درجات كثيرة ومختلفة ، وقد اكدت آيات قرآنية كثيرة على هذه الحقيقة كقوله تعالى : ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ ... ﴾ وقوله : ﴿... وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ... ﴾.
فهذه الآيات تدل دلالة واضحة على ان المؤمنين يتدرجون في مدارج الايمان .
ومن المعلوم ان الدرجة الايمانية العليا هي درجة الاستسلام الكامل لله تبارك وتعالى . فالإسلام لله يعني مقاومة كل ما ليس إلهاً ، وتحدي الشركاء جميعاً ، ومقاومة المجتمع الفاسد ، والوقوف في وجه الارادة البشرية المنحرفة ، والتراث المتخلف .
اما الدرجة الثانية من الايمان فهي ان يؤمن الإنسان بالله سبحانه وتعالى ، ثم يتحدى ظروفه ومجتمعه ، ولكنه لا يستطيع ان يبقى على تحديه لدى الامتحان الصعب .
اما الدرجة الثالثة فتتمثل في ان يكون الإنسان مؤمناً شريطة عدم مواجهته للظروف الصعبة . فيكون مؤمناً باللسان والقلب ، ولكن الاركان لا تصدق هذا الايمان . وهذه هي الدرجة الضعيفة للايمان ، وهي التي يصفها النبي صلى الله عليه وآله بـ ( اضعف الايمان ) عندما يبين أهمية فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وبعد فهذه هي الدرجات الثلاث من الايمان ؛ الايمان القوي الصارم المتحدي الذي لا يخضع لاي اغراء ، والايمان حسب الظروف المتغيرة وهذه الدرجة يصفها القرآن الكريم بانها نفاق ، وهكذا الحال بالنسبة الى الدرجة الثالثة .
النفاق درجات
وهذا النفاق ينقسم بدوره الى قسمين : القسم الاول ان يتوب الإنسان الى الله جل وعلا عندما يجد في نفسه العجز عن مقاومة الظروف ، والمبادرة الى الاستسلام لشهواته ، وضغوط مجتمعه ، وتراثه الجاهلي . وهذه حالة ضعيفة من النفاق . اما القسم الثاني فهو الذي يمثل النفاق الخظير الذي يترسخ في قلب الإنسان ، ويبقى فيه حتى يموت ليحشر مع المنافقين . وهذا النفاق هو نفاق الإنسان الذي يستسلم للظروف ، ويبقى مستسلماً لها دون ان يتوب الى الخالق سبحانه ، وقد أشار القرآن الكريم الى هذا القسم من المنافقين ، وأمر رسوله الكريم صلى الله عليه وآله ان يجاهدهم جهاداً لا هوادة فيه في قوله : ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ... ﴾ .
المنافقون والكفار :
وقد يتبادر الى الاذهان بشأن هذه الآية الكريمة السؤال التالي : من هم الكفار ومن هم المنافقون ، وكيف ربط القرآن الكريم الكفار مع المنافقين في سياق واحد ؟
في الآية التالية التي سنستعرضها تفسير لتلك التساؤلات : ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴾ .
فهؤلاء المنافقون والكفار يواجهون في الدنيا جهاد المؤمنين ، وفي الآخرة تنتظرهم جهنم وبئس المصير . كما ان القرآن الكريم يصرح في الآيات السابقة ان ليست هناك حدود بين الكفر والنفاق ، فهؤلاء المنافقون الذين يتظاهرون بالإسلام هم كفار في الحقيقة كما يصرح بذلك قوله سبحانه :﴿ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ ... ﴾ .
صحيح انهم كانوا مسلمين ، ولكنهم فرضوا لإسلامهم هذا شروطاً . ومن المعلوم ان الله جل وعلا يريد إنساناً مسلماً من غير شروط وفي جميع الظروف .
على ان هؤلاء المنافقين لم يكفروا فحسب ، وانما ارتبطوا بشكل علني بالأجهزة المعادية للإسلام ، واستهدفوا تحطيم وتغيير النظام الإسلامي . ﴿... بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ... ﴾.
ثم يقول تعالى : ﴿... فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ... ﴾ .
فان تاب المنافقون فانهم سيعودون الى حظيرة الإسلام ، ويتحولون الى مسلمين مرة اخرى . وان بقوا على حالة النفاق ، فان الله تبارك وتعالى سيعذبهم عذاباً اليماً في الدنيا والاخرة ، دون ان يكون لهم في الارض من ولي او نصير . فهم يظنون انهم بنفاقهم يستمدون القوة من الكفار والفئات المعارضة ، ولكن ظنهم هذا باطل .
ومن ثم يقول ربنا عز وجل : ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ .
فمن المفروض في الذين يعاهدون الله ان يكونوا مؤمنين وعارفين بانه يعلم خفاياهم لكي يبرموا العهود معه ، ولكن شهوة المال والسلطة سلبت منهم عقولهم ، فكانت النتيجة ان سقطوا في الامتحان . ﴿فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴾ .
عندما يترسخ النفاق
وعندما سقط هؤلاء في الامتحان ، وترسخت فيهم حالة التولي عن رسول الله صلى الله عليه وآله والقيم التي يدعو اليها ، فان ذلك اعقبهم نفاقاً في قلوبهم الى يوم يلقون رب العالمين ، لانهم لم يتوبوا اليه . فمن الممكن ان يخضع الإنسان لشهوة الثروة يوماً او بعض يوم ثم يعود بعد ذلك الى بارئه ، وحينئذ سوف لا يكون منافقاً . ولكن الإنسان الذي يستمر في جحوده ونفاقه ، ومعاداته للعقيدة الالهية ، فانه سوف يتحول الى منافق حقيقي . فالإنسان المسلم الذي يتعمد ترك الفرائض الدينية ، ويبقى مصراً على تركها ، وجاحداً لوجوبها ، فانه سيتحول الى إنسان منافق ، وسيسلب منه الايمان بالكامل ليبقى على هذه الحالة الى يوم القيامة .
ثم يبين الله عز شأنه سبب ترسخ النفاق في قلوب المنافقين فيقول: ﴿... بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴾ .
فالإنسان عندما يعاهد الله فانه قد يعاهده صادقاً ، وقد يعاهده كاذباً منذ البداية . فالذي يعاهد الله تعالى على ان يكون متصدقاً ، وان يكون من الصالحين ، يجب ان يكون عند عهده عندما يؤتيه الله من فضله . ولكن المنافقين بخلوا منذ اللحظة الاولى ، فانطبق عليهم حكم الكاذبين .
فلننظر الى انفسنا ؛ هل نحن منافقون ام مؤمنون ؟ ولا ننسى ان الادعاءات لا تغير حقيقة ، ولا تصلح واقعاً ، بل علينا ان نكون واقعيين ، وان نخترق الحواجز ، وننمي في انفسنا الارادة القوية المقاومة .
ان الإنسان الذي يعاهد الله على ان يكون صالحاً ، وان يكف عن ارتكاب الذنوب ثم لا يفي بوعده هذا ، فانه لا يكذب على الله فحسب ، وانما يكذب على نفسه ايضاً . ومثل هذا الإنسان لا يريد ان يصارح نفسه بالحقيقة ، لانه يريد ان يتخلص من وخز الضمير ، ومن شلال النور الذي يتوجه الى قلبه عبر آيات القرآن الكريم . فهو عندما يقرأ القرآن ويرى نفسه ليست في مستوى تعاليمه ، فانه اما ان يقول ان القرآن يبالغ ، واما ان يسوف في المبادرة الى العمل الصالح ، وهو لا يعلم ان كلمة ( سوف ) ذهبت بالكثير من الناس الى النار .
وفي الحقيقة ان هذه هي مشكلة الإنسان الرئيسية ، فهو لا يصارح نفسه بالحقيقة ، وليست لديه الشجاعة الكافية لمعارضة ذاته . فتراه يعيش دوماً حالة النفاق ، والقلق ، والاضطراب .
الصراحة علاج النفاق
ومن اجل ان يتخلص الإنسان من هذه الحالة المرضية ، فان عليه ان يكون صريحاً مع نفسه ، محاسباً لها على الدوام ، وان يطرح على نفسه دائماً السؤال الذي سبق وان طرحناه وهو : ما هو النفاق ، وهل فيَّ نسبة من النفاق ام لا ؟ ثم يعرض نفسه بعد ذلك على المقاييس القرآنية لكي يستطيع من خلالها ان يسلط الاضواء الكاشفة على نفسه ، ويكتشف النفاق في مراحل ظهوره الاولى لكي يقضي عليه وهو في المهد . ولكي لا يخدع نفسه بانه مؤمن ، وانه يحمل حقيقة الايمان دون ان يعرض نفسه للامتحان ، ودون ان يخضعها للمعايير الالهية .
وفي هذه الحالة وحدها ـ حالة عرض النفس على القرآن ـ سيكون بمقدور الإنسان التخلص من رواسب وادران النفاق ، وحينئذ ستنطبق عليه مواصفات الإنسان المؤمن المخلص في ايمانه
تعليق