بسم الله الرحمن الرحيم
الصبر: هو توطين النفس على تحمل المصائب والمكاره من دون جزع , وينقسم إلى ثلاثة أقسام: صبر على الطاعة , وصبر عن المعصية , وصبر على البلاء.
فصبر الطاعة لما فيها من تكاليف ومتاعب للمكلّف , يجب عليه أن يصبر على تحملها ليفوز برضا الرب جلّ جلاله , وعلى سبيل المثال: ( الحج ) وفيه تحمّل مشقات السفر , وتحمّل الحرّ الشديد أو البرد القارص , والجهد في تأدية المناسك مع الزخم البشري الهائل , وغير ذلك مما يحتاج إلى الصبر والمثابرة.
والصبر عن المعصية: فالنفس أمّارة بالسوء, وتميل للانزلاق, وتهوي الرذيلة, وتألف المعصية, والصبر هو الزمام لها, يوقفها عن حدّها, ويمنعها عن التمادي في غيّها.
وصبر على البلاء: فالدنيا دار بلاء واختبار, فيها فقدان الأحبة, وذهاب المال والصحّة, وغير ذلك من عوارض الحياة, فعليه أن يتحمّل ذلك بعزم وإيمان , وأن يرضى بالقضاء والقدر , ولقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله محمد ابن عبد الله (ص) قال: " إذا أحب الله عبدا ابتلاه, فإن صبر اجتباه, فإن رضي اصطفاه ". وقال الإمام موسى بن جعفر(ع): "مثل المؤمن كمثل كفتي الميزان, كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه, ليلقى الله عز وجل ولا خطيئة له".
وقال الإمام جعفر الصادق (ع): " إن عظيم الأجر لمع عظيم البلاء , وما أحب الله قوما إلا ابتلاهم ".
وأعلم -يا أخي العزيز- عندما تتحلى بالصبر تنال الدرجات الرفيعة, والمقامات السامية, وحسبنا الآية الكريمة: {إنّما يوفّى الصّابرون أجرهم بغير حساب}.
تعتبر قصة نبي الله أيوب (ع) وبلائه في الحقيقة , تضرب المثل الأعظم في الصبر والتحمل , وعدم اليأس من رحمة الله تعالى تلك الفضيلة التي تظهر ساعة المحن , عندما يبتلي الله أحدا من عباده , وكما يقال فإن الصبر " مطية " لا تكبو , ونبي الله أيوب (ع) يضرب به المثل في الصبر , عندما تعرض لبلاء شديد , فأعطى درسا عظيما في الصبر والاحتساب والرضا بقضاء الله تعالى , ليصفه المولى عز وجل بقوله: { إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب }. فأيوب (ع) كان يعيش مع زوجته رحمة بنت نبي الله يوسف ( رضوان الله عليها ) في نعيم مقيم ببلاد الشام , وكان كما يقول علماء التفسير والتاريخ كثير المال , وهو في الوقت نفسه بر كريم تقي رحيم , يحسن إلى المساكين والضعفاء ويكفل الأيتام والأرامل ويكرم الضيف , ويشكر الله سبحانه وتعالى على نعمائه ويؤدي حق الله في ماله: كانت زوجته رحمة بنت نبي الله يوسف (رضوان الله عليها ) ترفل في هذا النعيم شاكرة المولى عز وجل على ما رزقها من البنين والبنات وعلى ما أوسع على زوجها من الرزق.
وجاءت بداية الابتلاء والامتحان الإلهي في وفاة جميع أولاده وفقدان أمواله وثرواته , وابتلي في جسده بأنواع عدة من الأمراض المستعصية , ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما المولى عز وجل , وهو في ذلك كله صابر محتسب , يذكر الخالق في ليله ونهاره وصبحه ومساءه , ثم طال مرضه وانقطع عنه الناس , ولم يبق أحد يحنو ويعطف عليه سوى زوجته التي ضعف حالها وقل مالها , حتى باتت تخدم في البيوت بالأجر , لتطعم زوجها المريض , تفعل ذلك وهي الزوجة الصابرة المحتسبة , وكلما زاد الألم والوجع بنبي الله أيوب (ع) زاد صبره وحمد الله وشكره على قضائه.
أما الزوجة الوفية فقد عاشت مع زوجها محنته طوال ثمانية عشر عاما, فكانت مثالا للمرأة البارة بزوجها الحانية عليه. وهكذا ورغم هذا المرض الشديد والابتلاء القاسي الذي تعرض له نبي الله أيوب (ع), إلا أنه كان ذا قلب راض وصابر, ولم يسخط لحظة واحدة, ولذلك وصفه المولى عز وجل بقوله: { إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب }. أي كثير الاستغفار والتسبيح وامتثال الطاعة الخالصة لله تعالى, وكان شاكرا, حامدا, راضيا في كل الأحوال.. قال الإمام الصادق (ع) لأبي بصير وقد سأله عن بلية أيوب (ع) لأي علّة كانت , قال: لنعمة أنعم الله عليه بها في الدنيا , وأدّى شكرها , وكان في ذلك لا يحجب إبليس من دون العرش , فلمّا صعد ورأى شكر أيوب نعمة ربّه حسده إبليس وقال: يا رب إن أيوب لم يؤد إليك شكر هذه النعمة إلاّ بما أعطيته من الدنيا , ولو حرمته دنياه ما أدّى إليك شكر نعمة أبدا , فسلّطني على دنياه حتّى تعلم أنه لا يؤدي إليك شكر نعمة أبدا. فقيل له: قد سلطتك على ماله وولده , فانحدر إبليس فلم يبق له مالا ولا ولدا , فازداد أيوب لله شكرا وحمدا. قال: سلّطني على زرعه, قال: قد فعلت,فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق , فازداد أيوب شكرا وحمدا. فقال: يا رب سلطني على غنمه , فسلّطه على غنمه فأهلكها , فازداد أيوب شكرا وحمدا. قال: يا رب سلطني على بدنه, فسلطه على بدنه ما خلا عقله وعينيه, فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه إلى قدمه , فبقي على ذلك عمرا طويلا يحمد الله ويشكره.
بعد كل هذه المعاناة توجه أيوب (ع) إلى ربه بالدعاء, يطلب منه كشف ما به من بلاء: { أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين }. و { أني مسني الشيطان بنصب وعذاب }. واستجاب الله دعاءه , وكشف عنه بلاءه , بقدرته سبحانه التي لا حدود لها , الذي يقول للشيء كن فيكون , عندئذ جاء الفرج الإلهي بوصفة ربانية بقوله تعالى: { اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب }. وبالفعل جاءه الفرج , فلقد أمر الله نبيه عليه السلام أن يضرب برجله الأرض , التي نبع منها الماء العذب , فشرب منه ليشفى من كل الأمراض التي في بطنه , ثم اغتسل بهذا الماء فشفاه الله من كل ما كان يعانيه من ظاهر جسده. وفي أحد الأيام وهو جالس أمام بيته المتواضع.. رأته زوجته الصالحة والصابرة والمحتسبة فلم تعرفه, رغم أنها رأت فيه شبها لزوجها قبل أن يفتك به المرض, فسألته: هل رأى زوجها الرجل المريض المبتلى ؟؟؟ وذكرت له ما لاحظته من شبه بينهما أيام كان صحيحا , فقال لها نبي الله إنه هو أيوب (ع) , وأن الله شفاه من كل ما أصابه , ثم أفاض الله عليه من نعمائه بقوله تعالى: { ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب }. فأرغد الله سبحانه وتعالى على أهله العيش فزاد نسلهم حتى بلغ عددهم عدد من مضى , فكان له ضعف ما كان , وكما رد الله عليه عافيته وصحته رد عليه ضعفي المال الذي فقده , وضعفي ما كان عنده من الأولاد.