إن قصة علي بن مهزيار من قصص اللقاء المعبرة، وعندما يقرأ الإنسان هذه القصة، فإنه يعيش في عالم آخر.. يقول هذا الرجل:
(حججت عشرين حجّةً كُلاًّ أطلب به عيان الإمام).. فهو قد سمع عن الإمام، وذُكر له.. ولكن أين العيان، أو المشاهدة من الاستماع؟.. فتمنى أن يرى إمام زمانه أمامه حيا حاضرا ناظرا.. (فلم أجد إلى ذلك سبيلاً).. عشرون حجة من حجج تلك الأيام، وكل حجة مشروع سفر إلى الآخرة، أي قد يرجع إلى أهله، وقد لا يرجع.. (فبينا أنا ليلة نائمٌ في مرقدي إذ رأيت قائلاً يقول: يا علي بن إبراهيم!.. فلم أعقل ليلتي حتى أصبحتُ فأنا مفكّرٌ في أمري، أرقب الموسم ليلي ونهاري).. فهذا المنام كان قبل موسم الحج، فأخذ يترقب الليالي والأيام متى موسم الحج.
(فلما كان وقت الموسم، أصلحت أمري وخرجت متوجّهاً نحو المدينة.. فما زلت كذلك حتى دخلتُ يثرب، فسألتُ عن آل أبي محمد (ع)).. أي عن أولاد الإمام العسكري (ع).. (فلم أجد له أثراً ولا سمعتُ له خبراً.. فأقمت مفكّراً في أمري).. كان صاحب القصة في عصر مقارب لعصر الإمام العسكري (ع).. والغيبة لم تكن طويلة، وهذه هي الأشواق.. وحقيقة حق لنا أن نزداد شوقا متناسبا مع هذه المدة الزمنية الطويلة.
يقول: (حتى خرجت من المدينة أريد مكة، فدخلت الجحفة، وأقمت بها يوماً، وخرجت منها متوجّهاً نحو الغدير -وهو على أربعة أميال من الجحفة- فلما أن دخلت المسجد صلّيتُ وعفّرتُ، واجتهدتُ في الدعاء، وابتهلتُ إلى الله لهم.. وخرجتُ أريد عسفان، فمازلت كذلك حتى دخلتُ مكة، فأقمت بها أياماً أطوف البيت واعتكفت.. فبينا أنا ليلة في الطواف إذا أنا بفتىً حسن الوجه، طيب الرائحة، يتبختر في مشيته، طائفٌ حول البيت، فحسّ قلبي به).. أي رأيت أن هناك انجذابا نحو هذا الشاب.. (فقمت نحوه فحككته).. أي مشيت إلى جانبه.. (فقال لي:من أين الرجل؟.. فقلت: من أهل العراق، فقال لي: من أي العراق؟..قلت: من الأهواز، فقال لي: تعرف بها ابن الخضيب؟.. فقلت: رحمه الله، دُعي فأجاب، فقال: رحمه الله، فما كان أطول ليلته، وأكثر تبتله، وأغزر دمعته)!.. نعم، هؤلاء الذين يشار إليهم بالبنان، وهذه صفاتهم.. لا أشواق من خلال الشعر والنثر فحسب!..
قال: (أفتعرف علي بن إبراهيم المازيار؟.. فقلت: أنا علي بن إبراهيم، فقال: حيّاك الله أبا الحسن!.. ما فعلت بالعلامة التي بينك وبين أبي محمد الحسن بن علي؟.. فقلت: معي، قال: أخرجها!.. فأدخلت يدي في جيبي فاستخرجتها، فلما أن رآها لم يتمالك أن تغرغرت عيناه وبكى منتحباً حتى بلّ أطماره.. ثم قال: أُذن لك الآن يا بن المازيار!.. صرْ إلى رحلك، وكنْ على أُهبة من أمرك، حتى إذا لبس الليل جلبابه، وغمر الناس ظلامه، صر إلى شعب بني عامر، فإنك ستلقاني هناك).. فالموعد الأول عند الشعب.. (فصرت إلى منزلي فلما أن حسست بالوقت، أصلحت رحلي، وقدّمت راحلتي وعكمتها شديداً، وحملت وصرت في متنه، وأقبلت مجدّاً في السير حتى وردتُ الشعب، فإذا أنا بالفتى قائمٌ ينادي: إليّ يا أبا الحسن إليّ!.. فما زلت نحوه، فلما قربت بدأني بالسلام وقال لي: سرْ بنا يا أخ)!..
(فما زال يحدّثني وأحدثه حتى تخرّقنا جبال عرفات، وسرنا إلى جبال منى، وانفجر الفجر الأول، ونحن قد توسّطنا جبال الطائف.. فلما أن كان هناك أمرني بالنزول وقال لي: انزل فصلِّ صلاة الليل!.. فصلّيت وأمرني بالوتر فأوترت، وكانت فائدة منه، ثم أمرني بالسجود والتعقيب، ثم فرغ من صلاته وركب وأمرني بالركوب، وسار وسرتُ معه حتى علا ذروة الطائف، فقال: هل ترى شيئاً؟.. قلت: نعم، أرى كثيب رمل، عليه بيت شعر، يتوقّد البيت نوراً.. فلما أن رأيته طابت نفسي، فقال لي: هنّاك الأمل والرجاء، ثم قال: سرْ بنا يا أخ!.. فسار وسرتُ بمسيره إلى أن انحدر من الذروة، وسار في أسفله، فقال: انزل!.. فههنا يذلُّ كلّ صعبٍ، ويخضع كلّ جبّارٍ.. ثم قال: خلِّ عن زمام الناقة!.. قلت: فعلى من أُخلّفها؟.. فقال: حرم القائم (ع) لا يدخله إلا مؤمنٌ ولا يخرج منه إلا مؤمنٌ.. فخلّيت عن زمام راحلتي، وسار وسرتُ معه إلى أن دنا من باب الخباء، فسبقني بالدخول، وأمرني أن أقف حتى يخرج إليّ).
(ثم قال لي: ادخل هنّأك السلامة!.. فدخلت فإذا أنا به جالسٌ: قد اتّشح ببردةٍ، واتّزر بأخرى، وقد كسر بردته على عاتقه.. وهو كأُقحوانة أرجوان، قد تكاثف عليها الندى، وأصابها ألم الهوى.. وإذا هو كغصن بان، أو قضيب ريحان.. سمحٌ، سخيٌّ، تقيٌّ، نقيٌّ.. ليس بالطويل الشامخ، ولا بالقصير اللازق.. بل مربوع القامة، مدوّر الهامة، صلت الجبين، أزجُّ الحاجبين، أقنى الأنف، سهل الخدين، على خده الأيمن خالٌ، كأنه فتات مسك على رضراضة عنبر).
(فلما أن رأيته بدرته بالسلام، فردّ عليّ أحسن ما سلّمت عليه، وشافهني وسألني عن أهل العراق، فقلت: سيدي!.. قد أُلبسوا جلباب الذلّة، وهم بين القوم أذلاء.. فقال لي: يا بن المازيار!.. لتملكونهم كما ملكوكم، وهم يومئذ أذلاء.. فقلت: سيدي!.. لقد بعُد الوطن، وطال المطلب، فقال: يا بن المازيار!.. أبي أبو محمد عهد إليّ أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم، ولهم الخزي في الدنيا والآخرة، ولهم عذابٌ أليمٌ.. وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلا وعرها، ومن البلاد إلا قفرها، والله مولاكم أظهر التقية فوكلها بي، فأنا في التقية إلى يوم يُؤذن لي فأخرج).
إن هذه القصة تجعل الإنسان يعيش حالة من الشوق، شوق المتقين الذين وصفهم الإمام علي (ع) حيث قال فيهم: (أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لاَِجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً) و (وَأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ).
(حججت عشرين حجّةً كُلاًّ أطلب به عيان الإمام).. فهو قد سمع عن الإمام، وذُكر له.. ولكن أين العيان، أو المشاهدة من الاستماع؟.. فتمنى أن يرى إمام زمانه أمامه حيا حاضرا ناظرا.. (فلم أجد إلى ذلك سبيلاً).. عشرون حجة من حجج تلك الأيام، وكل حجة مشروع سفر إلى الآخرة، أي قد يرجع إلى أهله، وقد لا يرجع.. (فبينا أنا ليلة نائمٌ في مرقدي إذ رأيت قائلاً يقول: يا علي بن إبراهيم!.. فلم أعقل ليلتي حتى أصبحتُ فأنا مفكّرٌ في أمري، أرقب الموسم ليلي ونهاري).. فهذا المنام كان قبل موسم الحج، فأخذ يترقب الليالي والأيام متى موسم الحج.
(فلما كان وقت الموسم، أصلحت أمري وخرجت متوجّهاً نحو المدينة.. فما زلت كذلك حتى دخلتُ يثرب، فسألتُ عن آل أبي محمد (ع)).. أي عن أولاد الإمام العسكري (ع).. (فلم أجد له أثراً ولا سمعتُ له خبراً.. فأقمت مفكّراً في أمري).. كان صاحب القصة في عصر مقارب لعصر الإمام العسكري (ع).. والغيبة لم تكن طويلة، وهذه هي الأشواق.. وحقيقة حق لنا أن نزداد شوقا متناسبا مع هذه المدة الزمنية الطويلة.
يقول: (حتى خرجت من المدينة أريد مكة، فدخلت الجحفة، وأقمت بها يوماً، وخرجت منها متوجّهاً نحو الغدير -وهو على أربعة أميال من الجحفة- فلما أن دخلت المسجد صلّيتُ وعفّرتُ، واجتهدتُ في الدعاء، وابتهلتُ إلى الله لهم.. وخرجتُ أريد عسفان، فمازلت كذلك حتى دخلتُ مكة، فأقمت بها أياماً أطوف البيت واعتكفت.. فبينا أنا ليلة في الطواف إذا أنا بفتىً حسن الوجه، طيب الرائحة، يتبختر في مشيته، طائفٌ حول البيت، فحسّ قلبي به).. أي رأيت أن هناك انجذابا نحو هذا الشاب.. (فقمت نحوه فحككته).. أي مشيت إلى جانبه.. (فقال لي:من أين الرجل؟.. فقلت: من أهل العراق، فقال لي: من أي العراق؟..قلت: من الأهواز، فقال لي: تعرف بها ابن الخضيب؟.. فقلت: رحمه الله، دُعي فأجاب، فقال: رحمه الله، فما كان أطول ليلته، وأكثر تبتله، وأغزر دمعته)!.. نعم، هؤلاء الذين يشار إليهم بالبنان، وهذه صفاتهم.. لا أشواق من خلال الشعر والنثر فحسب!..
قال: (أفتعرف علي بن إبراهيم المازيار؟.. فقلت: أنا علي بن إبراهيم، فقال: حيّاك الله أبا الحسن!.. ما فعلت بالعلامة التي بينك وبين أبي محمد الحسن بن علي؟.. فقلت: معي، قال: أخرجها!.. فأدخلت يدي في جيبي فاستخرجتها، فلما أن رآها لم يتمالك أن تغرغرت عيناه وبكى منتحباً حتى بلّ أطماره.. ثم قال: أُذن لك الآن يا بن المازيار!.. صرْ إلى رحلك، وكنْ على أُهبة من أمرك، حتى إذا لبس الليل جلبابه، وغمر الناس ظلامه، صر إلى شعب بني عامر، فإنك ستلقاني هناك).. فالموعد الأول عند الشعب.. (فصرت إلى منزلي فلما أن حسست بالوقت، أصلحت رحلي، وقدّمت راحلتي وعكمتها شديداً، وحملت وصرت في متنه، وأقبلت مجدّاً في السير حتى وردتُ الشعب، فإذا أنا بالفتى قائمٌ ينادي: إليّ يا أبا الحسن إليّ!.. فما زلت نحوه، فلما قربت بدأني بالسلام وقال لي: سرْ بنا يا أخ)!..
(فما زال يحدّثني وأحدثه حتى تخرّقنا جبال عرفات، وسرنا إلى جبال منى، وانفجر الفجر الأول، ونحن قد توسّطنا جبال الطائف.. فلما أن كان هناك أمرني بالنزول وقال لي: انزل فصلِّ صلاة الليل!.. فصلّيت وأمرني بالوتر فأوترت، وكانت فائدة منه، ثم أمرني بالسجود والتعقيب، ثم فرغ من صلاته وركب وأمرني بالركوب، وسار وسرتُ معه حتى علا ذروة الطائف، فقال: هل ترى شيئاً؟.. قلت: نعم، أرى كثيب رمل، عليه بيت شعر، يتوقّد البيت نوراً.. فلما أن رأيته طابت نفسي، فقال لي: هنّاك الأمل والرجاء، ثم قال: سرْ بنا يا أخ!.. فسار وسرتُ بمسيره إلى أن انحدر من الذروة، وسار في أسفله، فقال: انزل!.. فههنا يذلُّ كلّ صعبٍ، ويخضع كلّ جبّارٍ.. ثم قال: خلِّ عن زمام الناقة!.. قلت: فعلى من أُخلّفها؟.. فقال: حرم القائم (ع) لا يدخله إلا مؤمنٌ ولا يخرج منه إلا مؤمنٌ.. فخلّيت عن زمام راحلتي، وسار وسرتُ معه إلى أن دنا من باب الخباء، فسبقني بالدخول، وأمرني أن أقف حتى يخرج إليّ).
(ثم قال لي: ادخل هنّأك السلامة!.. فدخلت فإذا أنا به جالسٌ: قد اتّشح ببردةٍ، واتّزر بأخرى، وقد كسر بردته على عاتقه.. وهو كأُقحوانة أرجوان، قد تكاثف عليها الندى، وأصابها ألم الهوى.. وإذا هو كغصن بان، أو قضيب ريحان.. سمحٌ، سخيٌّ، تقيٌّ، نقيٌّ.. ليس بالطويل الشامخ، ولا بالقصير اللازق.. بل مربوع القامة، مدوّر الهامة، صلت الجبين، أزجُّ الحاجبين، أقنى الأنف، سهل الخدين، على خده الأيمن خالٌ، كأنه فتات مسك على رضراضة عنبر).
(فلما أن رأيته بدرته بالسلام، فردّ عليّ أحسن ما سلّمت عليه، وشافهني وسألني عن أهل العراق، فقلت: سيدي!.. قد أُلبسوا جلباب الذلّة، وهم بين القوم أذلاء.. فقال لي: يا بن المازيار!.. لتملكونهم كما ملكوكم، وهم يومئذ أذلاء.. فقلت: سيدي!.. لقد بعُد الوطن، وطال المطلب، فقال: يا بن المازيار!.. أبي أبو محمد عهد إليّ أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم، ولهم الخزي في الدنيا والآخرة، ولهم عذابٌ أليمٌ.. وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلا وعرها، ومن البلاد إلا قفرها، والله مولاكم أظهر التقية فوكلها بي، فأنا في التقية إلى يوم يُؤذن لي فأخرج).
إن هذه القصة تجعل الإنسان يعيش حالة من الشوق، شوق المتقين الذين وصفهم الإمام علي (ع) حيث قال فيهم: (أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لاَِجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً) و (وَأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ).