عائشة في ميزان التاريخ - الدكتور محمد التيجاني السماوي.
عائشة التي بلغت من المرتبة السّامية والمكانة العالية والشهرة الكبيرة ما لم تبلغه أيّة زوجة أخرى للنبي (صلى الله عليه وآله)، لا ولا حتّى لو جمعنا فضائلهنّ بأجمعهنّ ما بلغنَ عشر معشار عائشة بنت أبي بكر، هذا ما يقوله أهل السنة فيها والذين يعتبرون أنّ نصف الدّين يؤخذ عنها وحدها.
وإذا ما تجرّدنا للحقيقة بدون تعصّب ولا انحياز، فهل من المعقول أن يحكم العقل بأنها مطهّرة من الذنوب والمعاصي؟ أم أنّ الله سبحانه رفع عنها حصانته المنيعة بعد موت زوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فلننظر معاً إلى الواقع.
عائشة في حياة النّبي (صلى الله عليه وآله)
وإذا ما بحثنا حياتها مع زوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وجدنا الكثير من الذنوب والمعاصي فكانت كثيراً ما تتآمر مع حفصة على النبي حتّى اضطرّته إلى تحريم ما أحل الله له كما جاء ذلك في البخاري ومسلم وتظاهرتا عليه أيضاً كما أثبت ذلك كل الصحاح وكتب التفسير وقد ذكر الله الحادثتين في كتابه العزيز.
كما كانت الغيرة تسيطر على قلبها وعقلها فتتصرف بحضرة النبي تصرّفاً بغير احترام ولا أدب، فمرّة قالت للنبي (صلى الله عليه وآله) عندما ذكر عندها خديجة: مالي ولخديجة إنها عجوز حمراء الشدقين أبدلك الله خيراً منها، فغضب لذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى اهتزّ شعره (1) ومرّة أُخرى بعث إحدى أمهات المؤمنين للنبي (وكان في بيتها) بصحفة فيها طعام كان النبي (صلى الله عليه وآله) يشتهيه، فكسّرت الصحفة أمامه بطعامها (2) وقالت للنبي مرة أخرى: أنت الذي تزعم أنك نبي الله (3) ومرّة غضبت عنده فقالت له: اعدل وكان أبوها حاضراً فضربها حتى سال دمها (4) وبلغ بها الأمر من كثرة الغيرة أن تكذب على أسماء بنت النعمان لمّا زُفّت عرساً للنبي (صلى الله عليه وآله)، فقالت لها: أن النبي (صلى الله عليه وآله) ليعجبُه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول له أعوذ بالله منك، وغرضها من وراء ذلك هو تطليق المرأة البريئة الساذجة والتي طلقها النبي بسبب هذه المقالة (5). وقد بلغ من سوء أدبها مع حضرة الرسول (صلى الله عليه وآله)، أنّه كان يصلّي وهي باسطة رجليها في قبلته فإذا سجد غمزها فقبضت رجليها وإذا قام أعادت بسطتها في قبلته (6).
وتآمرت هي وحفصة مرّة أخرى على رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى اعتزل نساءه بسببها لمدّة شهر كامل ينام على حصير (7). ولمّا نزل قول الله تعالى: «ترجي من تشاء منهنّ وتؤوي إليك من تشاء…» قالت للنبي في غير حياء: ما أرى ربّك إلا يسارع في هواك (8) وكانت عائشة إذا غضبت (وكثيراً ما كانت تغضب) تهجر اسم النبي (صلى الله عليه وآله) فلا تذكر اسم محمد وإنما تقول وربّ إبراهيم (9).
وقد أساءت عائشة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) كثيراً وجرّعته الغصص ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) رؤوف رحيم، وأخلاقه عالية وصبره عميق، فكان كثيراً ما يقول لها: «ألبسك شيطانك يا عائشة» وكثيرا ما كان يأسى لتهديد الله لها ولحفصة بنت عمر، وكم من مرّة ينزل القرآن بسببها فقد قال تعالى لها ولحفصة: «وإن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما» ، أي أنها زاغت وانحرفت عن الحق (10) وقوله: «إن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيراً» هو تهديد صريح من رب العزة لها ولحفصة التي كانت كثيراً ما تنصاع لها وتعمل بأوامرها. وقال الله لهما: «عسى ربّه إن طلّقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكنّ مسلمات مؤمنات» وهذه الآيات نزلت في عائشة وحفصة بشهادة عمر بن الخطاب كما جاء في البخاري (11). فدلّت هذه الآية لوحدها على وجود نساء مؤمنات في المسلمين خير من عائشة.
ومرّة بعثها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا أراد أن يخطب لنفسه شراف أخت دحية الكلبي، وطلب من عائشة أن تذهب وتنظر إليها ولما رجعت كانت الغيرة قد أكلت قلبها فسألها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما رأيت يا عائشة؟ فقالت: ما رأيت طائلاً! فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): لقد رأيت طائلاً، لقد رأيت خالاً تجدها اقشعرت منه ذوائبك. فقالت: يا رسول الله ما دونك سرّ، ومن يستطيع أن يكتمك (12).
وكل ما فعلته عائشة مع حضرة النبي (صلى الله عليه وآله) من مؤامرات كانت في أغلب الأحيان تجرّ معها حفصة بنت عمر والغريب أننا نجد تفاهماً وانسجاماً تامّاً بين المرأتين عائشة وحفصة كالانسجام والتفاهم بين أبويهما أبو بكر وعمر غير أنّه في النّساء كانت عائشة دائماً هي الجريئة والقوية وصاحبة المبادرة وهي التي كانت تجرّ حفصة بنت عمر وراءها في كل شيء. بينما كان أبوها أبو بكر ضعيفاً أمام عمر الذي كان هو الجريء والقوي وصاحب المبادرة في كل شيء ولقد رأينا هذا الأمر في خلافته حيث كان ابن الخطاب هو الحاكم الفعلي ـ وقد حدث بعض المؤرخين أنّ عائشة لما همّت بالخروج إلى البصرة لمحاربة الإمام علي (عليه السلام) فيما سُمّي بحرب الجمل أرسلت إلى أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) أمهات المؤمنين تسألهن الخروج معها فلم يستجب لها منهن إلاّ حفصة بنت عمر التي تجهّزت وهمّت بالخروج معها لكن أخاها عبد الله بن عمر هو الذي منعها وعزم عليها فحطّت رحلها (13) ومن أجل ذلك كان الله سبحانه يتهدد عائشة وحفصة معاً في قوله: «وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرا» وكذلك قوله: «إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما» ولقد ضرب الله لهما مثلاً خطيراً في سورة التحريم ليعلمهما وبقية المسلمين الذين يعتقدون بأنّ أم المؤمنين تدخل الجنّة بلا حساب ولا عقاب لأنها زوجة الرسول (صلى الله عليه وآله) كلاّ، فقد أعلم الله عباده ذكوراً وإناثاً بأن مجرد الزوجية لا تضر ولا تنفع حتّى ولو كان الزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإنما الذي ينفع ويضرُّ عند الله هو فقط أعمال الإنسان. قال تعالى: «ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل أدخلا النار مع الدّاخلين» [سورة التحريم: الآية 10].
وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذا قالت: «رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجنّي من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين. ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين» [سورة التحريم: الآيتان 11 ـ 12].
وبهذا يتبين لكل الناس بأن الزوجية والصّحبة وإن كانت فيهما فضائل كثيرة إلا أنهما لا يغنيان من عذاب الله إلاّ إذا اتسمتا بالأعمال الصالحة، وإلاّ فإن العذاب يكون مضاعفاً. لأن عدل الله سبحانه يقتضي أن لا يعذّب البعيد الذي لم يسمع الوحي كالقريب الذي ينزل القرآن في بيته والإنسان الذي عرف الحق فعانده كالجاهل الذي لم يعرف الحق.
وإليك الآن أيها القارئ بعض رواياتها بشيء من التفصيل لكي تتعرف على شخصية هذه المرأة التي لعبت أكبر الأدوار في إبعاد الإمام علي عن الخلافة وحاربته بكل ما أوتيت من قوة ودهاء.
ولكي تعرف أيضاً بأنّ آية إذهاب الرجل والتطهير بعيدة عنها بعد السماء عن الأرض، وأنّ أهل السنة أكثرهم ضحايا الدسّ والتزوير فهم أتباع بني أمية من حيث لا يشعرون.
أم المؤمنين عائشة تشهد على نفسها
ولنستمع إلى عائشة تروي عن نفسها وكيف تفقدها الغيرة صوابها، فتتصرّف بحضرة النبي (صلى الله عليه وآله) تصرفاً لا أخلاقياً، قالت: «بعثت صفية زوج النبي إلى رسول الله بطعام قد صنعته له، وهو عندي، فلما رأيت الجارية أخذتني رعدة حتّى أستقلّني أفكل، فضربت القصعة ورميت بها، قالت: فنظر إليّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فعرفت الغضب في وجهه، فقتل: أعوذ برسول الله أن يلعنني اليوم، قالت، قال: أوِّلي، قلت وما كفّارته يا رسول الله؟ قال: طعام كطعامها وإناء كإنائها (14).
ومرة أخرى تروي عن نفسها، قالت: قلت للنبي حسبُك من صفيّة كذا وكذا، فقال لي النبي (صلى الله عليه وآله): لقد قلتِ كلمة لو مُزجتْ بماء البحر لمزجته (15).
سبحان الله! أين أم المؤمنين من الأخلاق وأبسط الحقوق التي فرضها الإسلام في تحريم الغيبة والنّميمة؟ ولا شكّ بأن قولها: «حسبك من صفية كذا وكذا»، وقول الرسول بأنها كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته بأنّ ما قالته عائشة في ضرّتها أمّ المؤمنين صفية أمرٌ عظيم. وخطبٌ جسيم.
وأعتقد بأنّ روّاة الحديث استفضعوها واستعظموها فأبدلوها بعبارة (كذا وكذا) كما هي عادتهم في مثل هذه القضايا.
وها هي عائشة أم المؤمنين تحكي مرة أخرى عن غيرتها من أمهات المؤمنين قالت: ما غرت على امرأة إلاّ دون ما غرت على مارية، وذلك أنها كانت جميلة جعدة وأعجب بها رسول الله، وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت حارثة بين النعمان، وفزعنا لها فجزعت، فحوّلها رسول الله إلى العالية فكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشدّ علينا ثم رزقه الله الولد منها وحرمناه (16).
كما أنّ عائشة تعدت غيرتها دائرة مارية ضرّتها إلى إبراهيم المولود الرضيع البريء! قالت لما ولد إبراهيم جاء به رسول الله إليّ، فقال: أنظري إلى شبهه بي، فقلت: ما أرى شبهاً. فقال رسول الله: ألا ترين إلى بياضه ولحمه؟ قالت فقلت: من سقي ألبان الضّان إبيضّ وسمن (17).
وقد تعدّت غيرتها كل الحدود وفاقت كل تعبير عندما وصلت بها الظّنون والوساوس إلى الشك في رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكانت كثيراً ما تتظاهر بالنّوم عندما يبات عندها رسول الله ولكنّها ترقب زوجها وتتحسّس مكانه في الظلام وتتعقّبه أين ما ذهب وإليك الرواية عن لسانها والتي: أخرجها مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده وغيرهم قالت: لمّا كانت ليلتي التي كان النبي (صلى الله عليه وآله) فيها عندي انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع فلم يلبث إلاّ ريثما ظنّ أن قد رقدتُ فأخذ رداءه رويداً وانتعل رويداً وفتح الباب فخرج ثم أجافه رويداً فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرّات ثم انحرف فانحرفت فأسرع فاسرعت فهرول فهرولت فأحضر فأحضرت فسبقته فدخلت فليس إلا أن اضطجعت فدخل فقال: مالك يا عائش حشياً رابيهً؟ قالت فقلت: لا شيء قال: لتخبريني أو ليخبرني اللّطيف الخبير قالت قلت: يا رسول الله بأبي أنت واُمّي فأخبرته قال: فأنت السّواد الذي رأيت أمامي قلت: نعم، فلهدني في صدري لهدة أوجعتني ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله… (18).
ومرة أخرى قالت فقدت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فظننت أنّه أتى بعض جواريه، فطلبته فإذا هو ساجد يقول: رب اغفر لي (19) وأخرى قالت: إن رسول الله خرج من عندي ليلاً، قالت: فغرت عليه، قالت فجاء فرأى ما أصنع فقال: مالك يا عائشة، أغرتِ؟ فقلت: ومالي أن لا يغار مثلي على مثلك! فقال رسول الله: أفأخذك شيطانك… (20).
وهذه الرواية الأخيرة تدلّ دلالة واضحة على أنها عندما تغار تخرج عن أطوارها وتفعل أشياء غريبة كأن تكسّر الأواني أو تمزّق الملابس مثلاً. ولذلك تقول في هذه الرواية فلمّا جاء ورأى ما أصنع قال: أفأخذكِ شيطانكِ؟
ولا شك أنّ شيطان عائشة كان كثيراً ما يأخذها أو يلبسها وقد وجد لقلبها سبيلاً من طريق الغيرة وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «الغيرة للرّجل إيمان وللمرأة كفرٌ». باعتبار أن الرّجل يغار على زوجته لأنّه لا يجوز شرعاً أن يشاركه فيها أحد ـ أما المرأة فليس من حقّها أن تغارٍ على زوجها لأنّ الله سبحانه أباح له الزواج بأكثر من واحدة، فالمرأة الصالحة المؤمنة التي أذعنت لأحكام الله سبحانه تتقبّل ضرّتها بنفس رياضية كما يقال اليوم وخصوصاً إذا كان زوجها عادلاً مستقيماً يخاف الله، فما بالك بسيّد الإنسانية ورمز الكمال والعدل والخلق العظيم؟ على أنّنا نجد تناقضاً واضحاً في خصوص حبّ النبي (صلى الله عليه وآله) لعائشة وما يقوله أهل السنّة والجماعة من أنّها كانت أحبّ نسائه إليه وأعزّهم لديه حتّى أنّهم يروون أنّ بع نسائه وهبْنَ نوبتهنّ لعائشة لمّا علمن بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) يحبّها ولا يصبر عليها، فهل يمكن والحال هذه أن نجد مبرّراً وتفسيراً لغيرة عائشة المفرطة؟ والمفروض أن العكس هو الصحيح. أي أن تغار بقية أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) من عائشة لشدّة حبه إياها وميله معها كما يروون ويزعمون، وإذا كانت هي المدلّلة عند الرسول (صلى الله عليه وآله) فما هو مبرّر الغيرة؟
والتاريخ لم يحدّث إلا بأحاديثها وكتب السيرة طافحة إلاّ بتمجيدها وأنها حبيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدلّلة التي كان لا يطيق فراقها.
واعتقد بأنّ كل ذلك من الأموّيين الذين أحبّوا عائشة وفضّلوها لمّا خدمت مصالحهم وروت لهم ما أحبّوا وحاربت عدّوُّهم علي بن أبي طالب.
وكما أعتقد بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يكن يحبّها لما فعلته معه كما قدّمنا! وكيف يحبّ رسول الله من تكذب وتغتاب وتمشي بالنميمة وتشكّ في الله ورسوله وتظنّ منهما الحيف ـ كيف يحبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تتجسّس عليه وتخرج من بيتها بدون إذنه لتعلم أين يذهب ـ كيف يحبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تشتم زوجاته بحضرته ولو كنّ أمواتاً ـ كيف يحبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تبغض إبنه إبراهيم وترمي أمّه مارية بالإفك (21) ـ كيف يحبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تتدخّل بينه وبين زوجاته بالكذب مرّة وبإثارة الأحقاد أخرى وتتسبب في طلاقهنّ ـ كيف يحبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تبغض إبنته الزهراء وتبغض أخاه وابن عمّه علي بن أبي طالب إلى درجة أنها لا تذكر اسمه ولا تطيب له نفساً بخير (22). كلّ هذا وأكثر في حياته (صلى الله عليه وآله) أمّا بعد وفاته فحدّث ولا حرج.
وكل هذه الأفعال يمقُتها الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) ولا يحبّان فاعلها، لأنّ الله هو الحق ورسوله (صلى الله عليه وآله) يمثل الحق، فلا يمكن له أن يُحب من كان على غير الحق.
وسوف نعرف خلال الأبحاث القادمة بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يكن يحبّها، بل إنّه حذّر الأمة من فتنتها (23).
سألت بعض شيوخنا مرّة عن سبب حبّ النبي المفرط لعائشة بالذّات دون سواها؟ فأجابوني بأجوبة عديدة كلّها مزيّفة.
قال أحدهم: لأنها جميلة وصغيرة وهي البكر الوحيدة التي دخل بها ولم يشاركه فيها أحد سواه. وقال آخر: لأنها ابنة أبي بكر الصدّيق صاحبه في الغار.
وقال ثالث: لأنها حفظت عن رسول الله نصف الدّين فهي العالمة الفقيهة. وقال رابع: لأنّ جبرئيل جاءه بصورتها وكان لا يدخل على النبي إلاّ في بيتها.
وأنت كما ترى أيها القارئ بأن كلّ هذه الدّعايات لا تقوم على دليل ولا يقبلها العقل والواقع، وسوف نأتي على نقضها بالأدلة، فإذا كان الرسول يحبّها لأنها جميلة وهي البكر والوحيدة التي دخل بها، فما الذي يمنعه من الزواج بالأبكار الجميلات اللآتي كن بارعات في الحسن والجمال وكنّ مضرب الأمثال في القبائل العربية وكنّ رهن إشارته، على أنّ المؤرخين يذكرون غيرة عائشة من زينب بنت جحش ومن صفية بنت حيي ومن مارية القبطية لأنهن كنّ أجمل منها.
روى ابن سعد في طبقاته: 8/148 وابن كثير في تاريخه: 5/299 أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) تزوّج مليكة بنت كعب، وكانت تعرف بجمال بارع، فدخلت عليها عائشة، فقالت لها: أما تستحين أن تنكحي قاتل أبيك، فاستعاذت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فطلّقها فجاء قومها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا رسول الله إنّها صغيرة وإنها لا رأي لها، وإنها خُدعت فارتجِعْها، فأبى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان أبوها قد قُتل في يوم فتح مكة، قتله خالد بن الوليد بالخندمة.
وهذه الرواية تدلّنا بوضوح بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما كان همّه من الزواج الصغر والجمال وإلاّ لما طلّق مليكة بنت كعب وهي صغيرة وبارعة في الجمال، كما تدلّنا هذه الرواية وأمثالها على الأساليب التي إتّبعتها عائشة في خداع المؤمنات البريئات وحرمانهن من الزواج برسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد سبق لها أن طلّقت أسماء بنت النّعمان لمّا غارت من جمالها وقالت لها: إن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ليعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول له: أعوذ بالله منك. وهذه مليكة، تُثير فيها حساسية مقتل أبيها وأنّ قاتله هو رسول الله وتقول لها: أما تستحين أن تنكحي قاتل أبيك. فما كان جواب هذه المسكينة إلاّ أنها استعاذت من رسول الله! وما عساها أن تقول غير ذلك والناس لا يزالون حديثي عهد بالجاهلية الذين يأخذون بالثأر ويعيّرون من لا يثأر لأبيه؟
بقي أن نتساءل ويحق لنا أن نتساءل: لماذا يطلّق الرسول (صلى الله عليه وآله) هاتين المرأتين البريئتين واللّتين ذهبتا ضحية مكر وخداع عائشة لهنّ؟
وقبل كل شيء لابدّ لنا أن نضع في حسابنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) معصوم ولا يظلم أحداً ولا يفعل إلاّ الحق فلا بدّ أن يكون في تطليقهنّ حكمة يعلمها الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) كما إن عدم تطليق عائشة رغم أفعالها فيه أيضاً حكمة، ولعلّنا نقف على شيء منها في الأبحاث المقبلة.
أما بالنسبة للمرأة الأولى وهي أسماء بنت النعمان فقد ظهرت سذاجتها عندما انطلت عليها حيلة عائشة فأول كلمة قابلت بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندما مدّ يده إليها هي: «أعوذ بالله منك». ورغم جمالها البارع فلم يبقها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لبلاهتها يقول ابن سعد في طبقاته في: 8/145 وغيره عن ابن عبّاس: قال: «تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسماء بنت النعمان وكانت من أجمل أهل زمانها وأتمّه». ولعلّه (صلى الله عليه وآله)؟ أراد أن يعلّمنا أنّ رجاحة العقل أولى من الجمال. فكم من امرأة جميلة جرّها غباؤها للفاحشة.
أمّا بالنسبة للمرأة الثانية وهي مليكة بنت كعب والتي عيّرتها عائشة بأن زوجها هو قاتل أبيها، فلم يرد النبي (صلى الله عليه وآله) أن تعيش هذه المسكينة (والتي هي صغيرة السنّ ولا رأي لها كما شهد بذلك قومها) على هواجس ومخاوف قد تُسبّب مصائب كبرى خصوصاً وأنّ عائشة سوف لن تتركها ترتاح مع رسول الله (صلى الله عليه وآله). ولا شك أنّ هناك أسباباً أخرى يعلمها رسول الله وغابت عنّا.
والمهم أن نعرف بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يكن يجري وراء الجمال والشهوات الجسدية والجنسية كما يتوهّمه بعض الجاهلين وبعض المستشرقين الذين يقولون كان همّ محمّد هو النساء الحسناوات.
وقد رأينا كيف طلّق رسول الله (صلى الله عليه وآله) هاتين المرأتين رغم صغرهما وجمالهما فكانتا أجمل أهل زمانهما وأتمّه كما جاء
في كتب التاريخ وكتب الحديث ـ فقول من يدّعي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحبّ عائشة لصغرها وجمالها مردود ولا يقبل.
أمّا القائلين بان حبّه إيّاها لأنها إبنة أبي بكر، فهذا غير صحيح، ولكن يمكننا أن نقول بأنّه تزوّجها من أجل أبي بكر، لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) تزوّج من عدّة قبائل زواجاً سيّاسياً لتأليف القلوب ولتسُود المودة والرحمة في تلك القبائل بدلاً من التنافر والتّباغض فقد تزوّج النبي (صلى الله عليه وآله) بأمّ حبيبة أخت معاوية وهي بنت أبي سفيان العدوّ الأول للنبيّ (صلى الله عليه وآله) وذلك لأنّه لا يحقد وهو رحمة للعالمين، وقد تعدّى عطفه وحنانه القبائل العربية إلى مصاهرة اليهود والنصارى والأقباط ليقرّب أهل الأديان بعضهم من بعض.
وبالخصوص إذا عرفنا من خلال ما نقرأه في كتب السّيرة بأنّ أبا بكر هو الذي طلب من النبيّ (صلى الله عليه وآله) بأن يتزوج من ابنته عائشة، كما طلب عمر من النبي (صلى الله عليه وآله) بأن يتزوج إنته حفصة، وقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأن قلبه يسع أهل الأرض كلّهم.
قال تعالى: «ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك» [سورة آل عمران: الآية 159].
وإذا رجعنا إلى الرواية التي روتها عائشة وقالت فيها بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يلبث إلاّ ريثما ظنّ أن قد رقدت فأخذ رداءه رويداً وفتح الباب فخرج ثم أجافه، عرفنا كذب الزعم بأنه (صلى الله عليه وآله) لا يصبر عنها (24).
وهذا الاستنتاج ليس استنتاجاً عفوياً ألّفه خيالي، كلاّ فإنّ له أدلّة في صحاح السنّة، فقد روى مسلم في صحيحه وغيره من صحاح أهل السنّة، أنّ عمر بن الخطاب قال: لمّا اعتزل نبي الله (صلى الله عليه وآله) نساءه قال دخلت المسجد فإذا النّاس ينكتون بالحصى ويقولون طلّق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب، فقال عمر: فقلت لأعلمنّ ذلك اليوم قال: فدخلت على عائشة فقلت: يا بنت أبي بكر أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقالت: مالي ومالك يا ابن الخطاب عليك بعيبتك! قال: فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والله لقد علمت أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يحبّك، ولولا أنا لطلّقك رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فبكت أشدّ البكاء… الحديث (25).
إنّ هذه الرواية تدلّنا بوضوح لا يقبل الشكّ في أن زواج النبي (صلى الله عليه وآله) من حفصة بنت عمر لم يكن عن محبّة، ولكنّه لمصلحة سياسية اقتضتها الظروف.
وممّا يزيدنا يقيناً بصحّة ما ذهبنا إليه في هذا الاستنتاج أنّ عمر بن الخطاب يُقسمُ بالله بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يحبّ حفصة ويزيدنا عمر يقيناً جديداً بأنّ ابنته حفصة تعلم هي الأخرى هذه الحقيقة المؤلمة، إذ يقول لها: «والله لقد علمت بأنّ رسول الله لا يحبّك».
ثم لا يبقي لنا أدنى شكّ في أنّ الزواج منها كان لمصلحة سياسيّة عندما قال: «ولولا أنا لطّلقك رسول الله (صلى الله عليه وآله)».
فهذه الرواية تعطينا أيضاً فكرة على زواج النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعائشة بنت أبي بكر، وأنّه صبر وتحمّل كل أذاها من أجل أبي بكر أيضاً، وإلاّ فإنّ حفصة أولى بحبّ الرسول وتقديره، لأنّه لم يصدر منها ما يسيء للنبي (صلى الله عليه وآله) عشر معشار ما فعلته عائشة بنت أبي بكر.
وإذا بحثنا في الواقع العملي بقطع النّظر عن الروايات الموضوعة الّتي نمّقها بنو أميّة في فضائل عائشة لوجدنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان كثيراً ما يتأذّى منها وكثيراً ما يغضب عليها، وها نحن ننقل رواية واحدة أخرجها البخاري وكثير من المحدّثين من أهل السنّة، تعرب عن مدى النفور الذي كانت تشعر به أم المؤمنين عائشة من قبل زوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله).
أخرج البخاري في صحيحه في الجزء السابع في باب قول المريض إنّي وجع، أو وارأساه.
قال: سمعت القاسم بن محمد قال قالت عائشة: وا رأساه! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ذاك لو كان وأنا حيّ فأستغفر لك وأدعو لك» فقالت عائشة: واثكلياه، والله إنّي لأظنّك تحبّ موتي، ولو كان ذاك لظلت آخر يومك معرِّساً ببعض أزواجك (26).
فهل تدلّك هذه الرواية على حبّ النبيّ لعائشة؟؟
ونخلص بالأخير إلى أنّ بني أميّة وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان، يبغضون رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ومنذ أن آلت إليهم الخلافة عملوا على تقليب الحقائق ظهراً على عقب، ورفعوا أقواماً إلى القمّة من المجد والعظمة بينما كانوا في حياة النبيّ أناساً عاديّين وليس لهم شان كبير، ووضعوا آخرين كانوا في قمة الشرف والعزّ أيام النبيّ (صلى الله عليه وآله).
وأعتقد أنّ ميزانهم الوحيد في الرفع والوضع هو فقط عداؤهم الشديد وبغضهم اللاّمحدود لمحمد وأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين، فكل شخص كان ضد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وضد أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً رفعوا من شأنه واختلقوا له روايات وفضائل وقرّبوه وأعطوه المناصب والعطايا فأصبح يحظى بتقدير النّاس واحترامهم.
وكل شخص كان يحب الرسول (صلى الله عليه وآله) ويدافع عنه، عملوا على انتقاصه وخلق المعايب الكاذبة له واختلاق الروايات التي تنكر فضله وفضائله.
وهكذا أصبح عمر بن الخطاب الذي كان يعارضه في كل أوامره حتّى رماه بالهجر في أواخر أيام حياته (صلى الله عليه وآله). أصبح هذا الرجل هو قمّة الإسلام عند المسلمين زمن الدولة الأمويّة.
أمّا علي بن أبي طالب الذي كان منه بمنزلة هارون من موسى والذي يحبّ الله ورسوله ويُحبّه الله ورسولُه والذي هو ولي كلّ مؤمن أصبح يلعنُ على منابر المسلمين ثمانين عاماً.
وهكذا أصبحت عائشة الّتي جرّعت رسول الله الغصص وعصت أوامره كما عصت أمر ربّها، وحاربت وصيّ رسول الله وتسبّبت في أكبر فتنة عرفها المسلمون والتي قُتل فيها الآلف المسلمين، أصبحت هذه المرأة هي أشهر نساء الإسلام وعنها تؤخذ الأحكام ـ أمّا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين التي يغضب ربّ العزّة لغضبها ويرضى لرضاها، أصبحت نسياً منسيّاً ودفنت في الليل سرّاً بعد ما هددّوها بالحرق وعصروا على بطنها بالباب حتى أسقطت جنينها ولا أحد من المسلمين من أهل السنّة يعرف رواية واحدة تنقلها عن أبيها.
وهكذا أصبح يزيد بن معاوية وزياد بن أبيه وابن مرجانة وابن مروان والحجّاج وابن العاص وغيرهم من الفسّاق الملعونين بنص الكتاب على لسان نبي الله. نعم أصبح هؤلاء أمراء المؤمنين وولاّة أمورهم ـ أمّا الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة وريحانتا النبي من هذه الأمّة، والأئمة من عترة الرسول الذين هم أمان الأمة، أصبحوا مشرّدين مسجونين مقتولين مسمومين.
وهكذا أصبح أبو سفيان المنافق الذي ما وقعت حربٌ ضدّ الرّسول إلاّ وكان هو قائدها، أصبح محموداً مشكوراً حتّى قيل من دخل داره كان آمناً أمّا أبو طالب حامي النبي وكفيله والمدافع عنه بكل ما يملك، والذي قضى حياته مناوئاً لقومه وعشيرته من أجل دعوة ابن أخيه حتّى قضى ثلاث سنوات في الحصار مع النبيّ في شعب مكة وكتم إيمانه لمصلحة الإسلام أي لإبقاء بعض الجسور مفتوحة مع قريش فلا يؤذون المسلمين كما يريدون ـ وذلك كمؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه. أما هذا فكان جزاؤه ضحضاح من نار يضع فيها رجله فيغلي منها دماغه، وهكذا أصبح معاوية بن أبي سفيان الطليق بن الطّليق واللعين بن اللعين ومن كان يتلاعب بأحكام الله روسوله ولا يقيم لها وزناً ويقتل الصلحاء والأبرياء في سبيل الوصول إلى أهدافه الخسيسة ويسبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) على مرأى ومسمع من المسلمين (27)، أصبح هذا الرّجل يسمّى كاتب الوحي ويقولون بأن الله إئتمن على وحيه جبرئيل ومحمداً ومعاوية وأصبح يوصف بأنه رجل الحكمة والسياسة والتدبير.
أما أبو ذر الغفاري الذي ما أقلّت الخضراء ولا أظلت الغبراء أصدق ذي لهجة منه، فأصبح صاحب فتنة يضربُ ويشرّد ويُنفى إلى الربذة وأمّا سلمان والمقداد وعمّار وحذيفة وكل الصحابة المخلصين الذين والوا عليّا وتشيّعوا له فقد لا قوا التعذيب والتشريد والقتل.
يتبع
عائشة التي بلغت من المرتبة السّامية والمكانة العالية والشهرة الكبيرة ما لم تبلغه أيّة زوجة أخرى للنبي (صلى الله عليه وآله)، لا ولا حتّى لو جمعنا فضائلهنّ بأجمعهنّ ما بلغنَ عشر معشار عائشة بنت أبي بكر، هذا ما يقوله أهل السنة فيها والذين يعتبرون أنّ نصف الدّين يؤخذ عنها وحدها.
وإذا ما تجرّدنا للحقيقة بدون تعصّب ولا انحياز، فهل من المعقول أن يحكم العقل بأنها مطهّرة من الذنوب والمعاصي؟ أم أنّ الله سبحانه رفع عنها حصانته المنيعة بعد موت زوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فلننظر معاً إلى الواقع.
عائشة في حياة النّبي (صلى الله عليه وآله)
وإذا ما بحثنا حياتها مع زوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وجدنا الكثير من الذنوب والمعاصي فكانت كثيراً ما تتآمر مع حفصة على النبي حتّى اضطرّته إلى تحريم ما أحل الله له كما جاء ذلك في البخاري ومسلم وتظاهرتا عليه أيضاً كما أثبت ذلك كل الصحاح وكتب التفسير وقد ذكر الله الحادثتين في كتابه العزيز.
كما كانت الغيرة تسيطر على قلبها وعقلها فتتصرف بحضرة النبي تصرّفاً بغير احترام ولا أدب، فمرّة قالت للنبي (صلى الله عليه وآله) عندما ذكر عندها خديجة: مالي ولخديجة إنها عجوز حمراء الشدقين أبدلك الله خيراً منها، فغضب لذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى اهتزّ شعره (1) ومرّة أُخرى بعث إحدى أمهات المؤمنين للنبي (وكان في بيتها) بصحفة فيها طعام كان النبي (صلى الله عليه وآله) يشتهيه، فكسّرت الصحفة أمامه بطعامها (2) وقالت للنبي مرة أخرى: أنت الذي تزعم أنك نبي الله (3) ومرّة غضبت عنده فقالت له: اعدل وكان أبوها حاضراً فضربها حتى سال دمها (4) وبلغ بها الأمر من كثرة الغيرة أن تكذب على أسماء بنت النعمان لمّا زُفّت عرساً للنبي (صلى الله عليه وآله)، فقالت لها: أن النبي (صلى الله عليه وآله) ليعجبُه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول له أعوذ بالله منك، وغرضها من وراء ذلك هو تطليق المرأة البريئة الساذجة والتي طلقها النبي بسبب هذه المقالة (5). وقد بلغ من سوء أدبها مع حضرة الرسول (صلى الله عليه وآله)، أنّه كان يصلّي وهي باسطة رجليها في قبلته فإذا سجد غمزها فقبضت رجليها وإذا قام أعادت بسطتها في قبلته (6).
وتآمرت هي وحفصة مرّة أخرى على رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى اعتزل نساءه بسببها لمدّة شهر كامل ينام على حصير (7). ولمّا نزل قول الله تعالى: «ترجي من تشاء منهنّ وتؤوي إليك من تشاء…» قالت للنبي في غير حياء: ما أرى ربّك إلا يسارع في هواك (8) وكانت عائشة إذا غضبت (وكثيراً ما كانت تغضب) تهجر اسم النبي (صلى الله عليه وآله) فلا تذكر اسم محمد وإنما تقول وربّ إبراهيم (9).
وقد أساءت عائشة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) كثيراً وجرّعته الغصص ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) رؤوف رحيم، وأخلاقه عالية وصبره عميق، فكان كثيراً ما يقول لها: «ألبسك شيطانك يا عائشة» وكثيرا ما كان يأسى لتهديد الله لها ولحفصة بنت عمر، وكم من مرّة ينزل القرآن بسببها فقد قال تعالى لها ولحفصة: «وإن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما» ، أي أنها زاغت وانحرفت عن الحق (10) وقوله: «إن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيراً» هو تهديد صريح من رب العزة لها ولحفصة التي كانت كثيراً ما تنصاع لها وتعمل بأوامرها. وقال الله لهما: «عسى ربّه إن طلّقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكنّ مسلمات مؤمنات» وهذه الآيات نزلت في عائشة وحفصة بشهادة عمر بن الخطاب كما جاء في البخاري (11). فدلّت هذه الآية لوحدها على وجود نساء مؤمنات في المسلمين خير من عائشة.
ومرّة بعثها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا أراد أن يخطب لنفسه شراف أخت دحية الكلبي، وطلب من عائشة أن تذهب وتنظر إليها ولما رجعت كانت الغيرة قد أكلت قلبها فسألها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما رأيت يا عائشة؟ فقالت: ما رأيت طائلاً! فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): لقد رأيت طائلاً، لقد رأيت خالاً تجدها اقشعرت منه ذوائبك. فقالت: يا رسول الله ما دونك سرّ، ومن يستطيع أن يكتمك (12).
وكل ما فعلته عائشة مع حضرة النبي (صلى الله عليه وآله) من مؤامرات كانت في أغلب الأحيان تجرّ معها حفصة بنت عمر والغريب أننا نجد تفاهماً وانسجاماً تامّاً بين المرأتين عائشة وحفصة كالانسجام والتفاهم بين أبويهما أبو بكر وعمر غير أنّه في النّساء كانت عائشة دائماً هي الجريئة والقوية وصاحبة المبادرة وهي التي كانت تجرّ حفصة بنت عمر وراءها في كل شيء. بينما كان أبوها أبو بكر ضعيفاً أمام عمر الذي كان هو الجريء والقوي وصاحب المبادرة في كل شيء ولقد رأينا هذا الأمر في خلافته حيث كان ابن الخطاب هو الحاكم الفعلي ـ وقد حدث بعض المؤرخين أنّ عائشة لما همّت بالخروج إلى البصرة لمحاربة الإمام علي (عليه السلام) فيما سُمّي بحرب الجمل أرسلت إلى أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) أمهات المؤمنين تسألهن الخروج معها فلم يستجب لها منهن إلاّ حفصة بنت عمر التي تجهّزت وهمّت بالخروج معها لكن أخاها عبد الله بن عمر هو الذي منعها وعزم عليها فحطّت رحلها (13) ومن أجل ذلك كان الله سبحانه يتهدد عائشة وحفصة معاً في قوله: «وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرا» وكذلك قوله: «إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما» ولقد ضرب الله لهما مثلاً خطيراً في سورة التحريم ليعلمهما وبقية المسلمين الذين يعتقدون بأنّ أم المؤمنين تدخل الجنّة بلا حساب ولا عقاب لأنها زوجة الرسول (صلى الله عليه وآله) كلاّ، فقد أعلم الله عباده ذكوراً وإناثاً بأن مجرد الزوجية لا تضر ولا تنفع حتّى ولو كان الزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإنما الذي ينفع ويضرُّ عند الله هو فقط أعمال الإنسان. قال تعالى: «ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل أدخلا النار مع الدّاخلين» [سورة التحريم: الآية 10].
وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذا قالت: «رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجنّي من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين. ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين» [سورة التحريم: الآيتان 11 ـ 12].
وبهذا يتبين لكل الناس بأن الزوجية والصّحبة وإن كانت فيهما فضائل كثيرة إلا أنهما لا يغنيان من عذاب الله إلاّ إذا اتسمتا بالأعمال الصالحة، وإلاّ فإن العذاب يكون مضاعفاً. لأن عدل الله سبحانه يقتضي أن لا يعذّب البعيد الذي لم يسمع الوحي كالقريب الذي ينزل القرآن في بيته والإنسان الذي عرف الحق فعانده كالجاهل الذي لم يعرف الحق.
وإليك الآن أيها القارئ بعض رواياتها بشيء من التفصيل لكي تتعرف على شخصية هذه المرأة التي لعبت أكبر الأدوار في إبعاد الإمام علي عن الخلافة وحاربته بكل ما أوتيت من قوة ودهاء.
ولكي تعرف أيضاً بأنّ آية إذهاب الرجل والتطهير بعيدة عنها بعد السماء عن الأرض، وأنّ أهل السنة أكثرهم ضحايا الدسّ والتزوير فهم أتباع بني أمية من حيث لا يشعرون.
أم المؤمنين عائشة تشهد على نفسها
ولنستمع إلى عائشة تروي عن نفسها وكيف تفقدها الغيرة صوابها، فتتصرّف بحضرة النبي (صلى الله عليه وآله) تصرفاً لا أخلاقياً، قالت: «بعثت صفية زوج النبي إلى رسول الله بطعام قد صنعته له، وهو عندي، فلما رأيت الجارية أخذتني رعدة حتّى أستقلّني أفكل، فضربت القصعة ورميت بها، قالت: فنظر إليّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فعرفت الغضب في وجهه، فقتل: أعوذ برسول الله أن يلعنني اليوم، قالت، قال: أوِّلي، قلت وما كفّارته يا رسول الله؟ قال: طعام كطعامها وإناء كإنائها (14).
ومرة أخرى تروي عن نفسها، قالت: قلت للنبي حسبُك من صفيّة كذا وكذا، فقال لي النبي (صلى الله عليه وآله): لقد قلتِ كلمة لو مُزجتْ بماء البحر لمزجته (15).
سبحان الله! أين أم المؤمنين من الأخلاق وأبسط الحقوق التي فرضها الإسلام في تحريم الغيبة والنّميمة؟ ولا شكّ بأن قولها: «حسبك من صفية كذا وكذا»، وقول الرسول بأنها كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته بأنّ ما قالته عائشة في ضرّتها أمّ المؤمنين صفية أمرٌ عظيم. وخطبٌ جسيم.
وأعتقد بأنّ روّاة الحديث استفضعوها واستعظموها فأبدلوها بعبارة (كذا وكذا) كما هي عادتهم في مثل هذه القضايا.
وها هي عائشة أم المؤمنين تحكي مرة أخرى عن غيرتها من أمهات المؤمنين قالت: ما غرت على امرأة إلاّ دون ما غرت على مارية، وذلك أنها كانت جميلة جعدة وأعجب بها رسول الله، وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت حارثة بين النعمان، وفزعنا لها فجزعت، فحوّلها رسول الله إلى العالية فكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشدّ علينا ثم رزقه الله الولد منها وحرمناه (16).
كما أنّ عائشة تعدت غيرتها دائرة مارية ضرّتها إلى إبراهيم المولود الرضيع البريء! قالت لما ولد إبراهيم جاء به رسول الله إليّ، فقال: أنظري إلى شبهه بي، فقلت: ما أرى شبهاً. فقال رسول الله: ألا ترين إلى بياضه ولحمه؟ قالت فقلت: من سقي ألبان الضّان إبيضّ وسمن (17).
وقد تعدّت غيرتها كل الحدود وفاقت كل تعبير عندما وصلت بها الظّنون والوساوس إلى الشك في رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكانت كثيراً ما تتظاهر بالنّوم عندما يبات عندها رسول الله ولكنّها ترقب زوجها وتتحسّس مكانه في الظلام وتتعقّبه أين ما ذهب وإليك الرواية عن لسانها والتي: أخرجها مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده وغيرهم قالت: لمّا كانت ليلتي التي كان النبي (صلى الله عليه وآله) فيها عندي انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع فلم يلبث إلاّ ريثما ظنّ أن قد رقدتُ فأخذ رداءه رويداً وانتعل رويداً وفتح الباب فخرج ثم أجافه رويداً فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرّات ثم انحرف فانحرفت فأسرع فاسرعت فهرول فهرولت فأحضر فأحضرت فسبقته فدخلت فليس إلا أن اضطجعت فدخل فقال: مالك يا عائش حشياً رابيهً؟ قالت فقلت: لا شيء قال: لتخبريني أو ليخبرني اللّطيف الخبير قالت قلت: يا رسول الله بأبي أنت واُمّي فأخبرته قال: فأنت السّواد الذي رأيت أمامي قلت: نعم، فلهدني في صدري لهدة أوجعتني ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله… (18).
ومرة أخرى قالت فقدت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فظننت أنّه أتى بعض جواريه، فطلبته فإذا هو ساجد يقول: رب اغفر لي (19) وأخرى قالت: إن رسول الله خرج من عندي ليلاً، قالت: فغرت عليه، قالت فجاء فرأى ما أصنع فقال: مالك يا عائشة، أغرتِ؟ فقلت: ومالي أن لا يغار مثلي على مثلك! فقال رسول الله: أفأخذك شيطانك… (20).
وهذه الرواية الأخيرة تدلّ دلالة واضحة على أنها عندما تغار تخرج عن أطوارها وتفعل أشياء غريبة كأن تكسّر الأواني أو تمزّق الملابس مثلاً. ولذلك تقول في هذه الرواية فلمّا جاء ورأى ما أصنع قال: أفأخذكِ شيطانكِ؟
ولا شك أنّ شيطان عائشة كان كثيراً ما يأخذها أو يلبسها وقد وجد لقلبها سبيلاً من طريق الغيرة وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «الغيرة للرّجل إيمان وللمرأة كفرٌ». باعتبار أن الرّجل يغار على زوجته لأنّه لا يجوز شرعاً أن يشاركه فيها أحد ـ أما المرأة فليس من حقّها أن تغارٍ على زوجها لأنّ الله سبحانه أباح له الزواج بأكثر من واحدة، فالمرأة الصالحة المؤمنة التي أذعنت لأحكام الله سبحانه تتقبّل ضرّتها بنفس رياضية كما يقال اليوم وخصوصاً إذا كان زوجها عادلاً مستقيماً يخاف الله، فما بالك بسيّد الإنسانية ورمز الكمال والعدل والخلق العظيم؟ على أنّنا نجد تناقضاً واضحاً في خصوص حبّ النبي (صلى الله عليه وآله) لعائشة وما يقوله أهل السنّة والجماعة من أنّها كانت أحبّ نسائه إليه وأعزّهم لديه حتّى أنّهم يروون أنّ بع نسائه وهبْنَ نوبتهنّ لعائشة لمّا علمن بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) يحبّها ولا يصبر عليها، فهل يمكن والحال هذه أن نجد مبرّراً وتفسيراً لغيرة عائشة المفرطة؟ والمفروض أن العكس هو الصحيح. أي أن تغار بقية أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) من عائشة لشدّة حبه إياها وميله معها كما يروون ويزعمون، وإذا كانت هي المدلّلة عند الرسول (صلى الله عليه وآله) فما هو مبرّر الغيرة؟
والتاريخ لم يحدّث إلا بأحاديثها وكتب السيرة طافحة إلاّ بتمجيدها وأنها حبيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدلّلة التي كان لا يطيق فراقها.
واعتقد بأنّ كل ذلك من الأموّيين الذين أحبّوا عائشة وفضّلوها لمّا خدمت مصالحهم وروت لهم ما أحبّوا وحاربت عدّوُّهم علي بن أبي طالب.
وكما أعتقد بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يكن يحبّها لما فعلته معه كما قدّمنا! وكيف يحبّ رسول الله من تكذب وتغتاب وتمشي بالنميمة وتشكّ في الله ورسوله وتظنّ منهما الحيف ـ كيف يحبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تتجسّس عليه وتخرج من بيتها بدون إذنه لتعلم أين يذهب ـ كيف يحبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تشتم زوجاته بحضرته ولو كنّ أمواتاً ـ كيف يحبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تبغض إبنه إبراهيم وترمي أمّه مارية بالإفك (21) ـ كيف يحبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تتدخّل بينه وبين زوجاته بالكذب مرّة وبإثارة الأحقاد أخرى وتتسبب في طلاقهنّ ـ كيف يحبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تبغض إبنته الزهراء وتبغض أخاه وابن عمّه علي بن أبي طالب إلى درجة أنها لا تذكر اسمه ولا تطيب له نفساً بخير (22). كلّ هذا وأكثر في حياته (صلى الله عليه وآله) أمّا بعد وفاته فحدّث ولا حرج.
وكل هذه الأفعال يمقُتها الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) ولا يحبّان فاعلها، لأنّ الله هو الحق ورسوله (صلى الله عليه وآله) يمثل الحق، فلا يمكن له أن يُحب من كان على غير الحق.
وسوف نعرف خلال الأبحاث القادمة بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يكن يحبّها، بل إنّه حذّر الأمة من فتنتها (23).
سألت بعض شيوخنا مرّة عن سبب حبّ النبي المفرط لعائشة بالذّات دون سواها؟ فأجابوني بأجوبة عديدة كلّها مزيّفة.
قال أحدهم: لأنها جميلة وصغيرة وهي البكر الوحيدة التي دخل بها ولم يشاركه فيها أحد سواه. وقال آخر: لأنها ابنة أبي بكر الصدّيق صاحبه في الغار.
وقال ثالث: لأنها حفظت عن رسول الله نصف الدّين فهي العالمة الفقيهة. وقال رابع: لأنّ جبرئيل جاءه بصورتها وكان لا يدخل على النبي إلاّ في بيتها.
وأنت كما ترى أيها القارئ بأن كلّ هذه الدّعايات لا تقوم على دليل ولا يقبلها العقل والواقع، وسوف نأتي على نقضها بالأدلة، فإذا كان الرسول يحبّها لأنها جميلة وهي البكر والوحيدة التي دخل بها، فما الذي يمنعه من الزواج بالأبكار الجميلات اللآتي كن بارعات في الحسن والجمال وكنّ مضرب الأمثال في القبائل العربية وكنّ رهن إشارته، على أنّ المؤرخين يذكرون غيرة عائشة من زينب بنت جحش ومن صفية بنت حيي ومن مارية القبطية لأنهن كنّ أجمل منها.
روى ابن سعد في طبقاته: 8/148 وابن كثير في تاريخه: 5/299 أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) تزوّج مليكة بنت كعب، وكانت تعرف بجمال بارع، فدخلت عليها عائشة، فقالت لها: أما تستحين أن تنكحي قاتل أبيك، فاستعاذت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فطلّقها فجاء قومها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا رسول الله إنّها صغيرة وإنها لا رأي لها، وإنها خُدعت فارتجِعْها، فأبى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان أبوها قد قُتل في يوم فتح مكة، قتله خالد بن الوليد بالخندمة.
وهذه الرواية تدلّنا بوضوح بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما كان همّه من الزواج الصغر والجمال وإلاّ لما طلّق مليكة بنت كعب وهي صغيرة وبارعة في الجمال، كما تدلّنا هذه الرواية وأمثالها على الأساليب التي إتّبعتها عائشة في خداع المؤمنات البريئات وحرمانهن من الزواج برسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد سبق لها أن طلّقت أسماء بنت النّعمان لمّا غارت من جمالها وقالت لها: إن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ليعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول له: أعوذ بالله منك. وهذه مليكة، تُثير فيها حساسية مقتل أبيها وأنّ قاتله هو رسول الله وتقول لها: أما تستحين أن تنكحي قاتل أبيك. فما كان جواب هذه المسكينة إلاّ أنها استعاذت من رسول الله! وما عساها أن تقول غير ذلك والناس لا يزالون حديثي عهد بالجاهلية الذين يأخذون بالثأر ويعيّرون من لا يثأر لأبيه؟
بقي أن نتساءل ويحق لنا أن نتساءل: لماذا يطلّق الرسول (صلى الله عليه وآله) هاتين المرأتين البريئتين واللّتين ذهبتا ضحية مكر وخداع عائشة لهنّ؟
وقبل كل شيء لابدّ لنا أن نضع في حسابنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) معصوم ولا يظلم أحداً ولا يفعل إلاّ الحق فلا بدّ أن يكون في تطليقهنّ حكمة يعلمها الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) كما إن عدم تطليق عائشة رغم أفعالها فيه أيضاً حكمة، ولعلّنا نقف على شيء منها في الأبحاث المقبلة.
أما بالنسبة للمرأة الأولى وهي أسماء بنت النعمان فقد ظهرت سذاجتها عندما انطلت عليها حيلة عائشة فأول كلمة قابلت بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندما مدّ يده إليها هي: «أعوذ بالله منك». ورغم جمالها البارع فلم يبقها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لبلاهتها يقول ابن سعد في طبقاته في: 8/145 وغيره عن ابن عبّاس: قال: «تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسماء بنت النعمان وكانت من أجمل أهل زمانها وأتمّه». ولعلّه (صلى الله عليه وآله)؟ أراد أن يعلّمنا أنّ رجاحة العقل أولى من الجمال. فكم من امرأة جميلة جرّها غباؤها للفاحشة.
أمّا بالنسبة للمرأة الثانية وهي مليكة بنت كعب والتي عيّرتها عائشة بأن زوجها هو قاتل أبيها، فلم يرد النبي (صلى الله عليه وآله) أن تعيش هذه المسكينة (والتي هي صغيرة السنّ ولا رأي لها كما شهد بذلك قومها) على هواجس ومخاوف قد تُسبّب مصائب كبرى خصوصاً وأنّ عائشة سوف لن تتركها ترتاح مع رسول الله (صلى الله عليه وآله). ولا شك أنّ هناك أسباباً أخرى يعلمها رسول الله وغابت عنّا.
والمهم أن نعرف بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يكن يجري وراء الجمال والشهوات الجسدية والجنسية كما يتوهّمه بعض الجاهلين وبعض المستشرقين الذين يقولون كان همّ محمّد هو النساء الحسناوات.
وقد رأينا كيف طلّق رسول الله (صلى الله عليه وآله) هاتين المرأتين رغم صغرهما وجمالهما فكانتا أجمل أهل زمانهما وأتمّه كما جاء
في كتب التاريخ وكتب الحديث ـ فقول من يدّعي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحبّ عائشة لصغرها وجمالها مردود ولا يقبل.
أمّا القائلين بان حبّه إيّاها لأنها إبنة أبي بكر، فهذا غير صحيح، ولكن يمكننا أن نقول بأنّه تزوّجها من أجل أبي بكر، لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) تزوّج من عدّة قبائل زواجاً سيّاسياً لتأليف القلوب ولتسُود المودة والرحمة في تلك القبائل بدلاً من التنافر والتّباغض فقد تزوّج النبي (صلى الله عليه وآله) بأمّ حبيبة أخت معاوية وهي بنت أبي سفيان العدوّ الأول للنبيّ (صلى الله عليه وآله) وذلك لأنّه لا يحقد وهو رحمة للعالمين، وقد تعدّى عطفه وحنانه القبائل العربية إلى مصاهرة اليهود والنصارى والأقباط ليقرّب أهل الأديان بعضهم من بعض.
وبالخصوص إذا عرفنا من خلال ما نقرأه في كتب السّيرة بأنّ أبا بكر هو الذي طلب من النبيّ (صلى الله عليه وآله) بأن يتزوج من ابنته عائشة، كما طلب عمر من النبي (صلى الله عليه وآله) بأن يتزوج إنته حفصة، وقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأن قلبه يسع أهل الأرض كلّهم.
قال تعالى: «ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك» [سورة آل عمران: الآية 159].
وإذا رجعنا إلى الرواية التي روتها عائشة وقالت فيها بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يلبث إلاّ ريثما ظنّ أن قد رقدت فأخذ رداءه رويداً وفتح الباب فخرج ثم أجافه، عرفنا كذب الزعم بأنه (صلى الله عليه وآله) لا يصبر عنها (24).
وهذا الاستنتاج ليس استنتاجاً عفوياً ألّفه خيالي، كلاّ فإنّ له أدلّة في صحاح السنّة، فقد روى مسلم في صحيحه وغيره من صحاح أهل السنّة، أنّ عمر بن الخطاب قال: لمّا اعتزل نبي الله (صلى الله عليه وآله) نساءه قال دخلت المسجد فإذا النّاس ينكتون بالحصى ويقولون طلّق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب، فقال عمر: فقلت لأعلمنّ ذلك اليوم قال: فدخلت على عائشة فقلت: يا بنت أبي بكر أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقالت: مالي ومالك يا ابن الخطاب عليك بعيبتك! قال: فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والله لقد علمت أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يحبّك، ولولا أنا لطلّقك رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فبكت أشدّ البكاء… الحديث (25).
إنّ هذه الرواية تدلّنا بوضوح لا يقبل الشكّ في أن زواج النبي (صلى الله عليه وآله) من حفصة بنت عمر لم يكن عن محبّة، ولكنّه لمصلحة سياسية اقتضتها الظروف.
وممّا يزيدنا يقيناً بصحّة ما ذهبنا إليه في هذا الاستنتاج أنّ عمر بن الخطاب يُقسمُ بالله بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يحبّ حفصة ويزيدنا عمر يقيناً جديداً بأنّ ابنته حفصة تعلم هي الأخرى هذه الحقيقة المؤلمة، إذ يقول لها: «والله لقد علمت بأنّ رسول الله لا يحبّك».
ثم لا يبقي لنا أدنى شكّ في أنّ الزواج منها كان لمصلحة سياسيّة عندما قال: «ولولا أنا لطّلقك رسول الله (صلى الله عليه وآله)».
فهذه الرواية تعطينا أيضاً فكرة على زواج النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعائشة بنت أبي بكر، وأنّه صبر وتحمّل كل أذاها من أجل أبي بكر أيضاً، وإلاّ فإنّ حفصة أولى بحبّ الرسول وتقديره، لأنّه لم يصدر منها ما يسيء للنبي (صلى الله عليه وآله) عشر معشار ما فعلته عائشة بنت أبي بكر.
وإذا بحثنا في الواقع العملي بقطع النّظر عن الروايات الموضوعة الّتي نمّقها بنو أميّة في فضائل عائشة لوجدنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان كثيراً ما يتأذّى منها وكثيراً ما يغضب عليها، وها نحن ننقل رواية واحدة أخرجها البخاري وكثير من المحدّثين من أهل السنّة، تعرب عن مدى النفور الذي كانت تشعر به أم المؤمنين عائشة من قبل زوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله).
أخرج البخاري في صحيحه في الجزء السابع في باب قول المريض إنّي وجع، أو وارأساه.
قال: سمعت القاسم بن محمد قال قالت عائشة: وا رأساه! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ذاك لو كان وأنا حيّ فأستغفر لك وأدعو لك» فقالت عائشة: واثكلياه، والله إنّي لأظنّك تحبّ موتي، ولو كان ذاك لظلت آخر يومك معرِّساً ببعض أزواجك (26).
فهل تدلّك هذه الرواية على حبّ النبيّ لعائشة؟؟
ونخلص بالأخير إلى أنّ بني أميّة وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان، يبغضون رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ومنذ أن آلت إليهم الخلافة عملوا على تقليب الحقائق ظهراً على عقب، ورفعوا أقواماً إلى القمّة من المجد والعظمة بينما كانوا في حياة النبيّ أناساً عاديّين وليس لهم شان كبير، ووضعوا آخرين كانوا في قمة الشرف والعزّ أيام النبيّ (صلى الله عليه وآله).
وأعتقد أنّ ميزانهم الوحيد في الرفع والوضع هو فقط عداؤهم الشديد وبغضهم اللاّمحدود لمحمد وأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين، فكل شخص كان ضد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وضد أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً رفعوا من شأنه واختلقوا له روايات وفضائل وقرّبوه وأعطوه المناصب والعطايا فأصبح يحظى بتقدير النّاس واحترامهم.
وكل شخص كان يحب الرسول (صلى الله عليه وآله) ويدافع عنه، عملوا على انتقاصه وخلق المعايب الكاذبة له واختلاق الروايات التي تنكر فضله وفضائله.
وهكذا أصبح عمر بن الخطاب الذي كان يعارضه في كل أوامره حتّى رماه بالهجر في أواخر أيام حياته (صلى الله عليه وآله). أصبح هذا الرجل هو قمّة الإسلام عند المسلمين زمن الدولة الأمويّة.
أمّا علي بن أبي طالب الذي كان منه بمنزلة هارون من موسى والذي يحبّ الله ورسوله ويُحبّه الله ورسولُه والذي هو ولي كلّ مؤمن أصبح يلعنُ على منابر المسلمين ثمانين عاماً.
وهكذا أصبحت عائشة الّتي جرّعت رسول الله الغصص وعصت أوامره كما عصت أمر ربّها، وحاربت وصيّ رسول الله وتسبّبت في أكبر فتنة عرفها المسلمون والتي قُتل فيها الآلف المسلمين، أصبحت هذه المرأة هي أشهر نساء الإسلام وعنها تؤخذ الأحكام ـ أمّا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين التي يغضب ربّ العزّة لغضبها ويرضى لرضاها، أصبحت نسياً منسيّاً ودفنت في الليل سرّاً بعد ما هددّوها بالحرق وعصروا على بطنها بالباب حتى أسقطت جنينها ولا أحد من المسلمين من أهل السنّة يعرف رواية واحدة تنقلها عن أبيها.
وهكذا أصبح يزيد بن معاوية وزياد بن أبيه وابن مرجانة وابن مروان والحجّاج وابن العاص وغيرهم من الفسّاق الملعونين بنص الكتاب على لسان نبي الله. نعم أصبح هؤلاء أمراء المؤمنين وولاّة أمورهم ـ أمّا الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة وريحانتا النبي من هذه الأمّة، والأئمة من عترة الرسول الذين هم أمان الأمة، أصبحوا مشرّدين مسجونين مقتولين مسمومين.
وهكذا أصبح أبو سفيان المنافق الذي ما وقعت حربٌ ضدّ الرّسول إلاّ وكان هو قائدها، أصبح محموداً مشكوراً حتّى قيل من دخل داره كان آمناً أمّا أبو طالب حامي النبي وكفيله والمدافع عنه بكل ما يملك، والذي قضى حياته مناوئاً لقومه وعشيرته من أجل دعوة ابن أخيه حتّى قضى ثلاث سنوات في الحصار مع النبيّ في شعب مكة وكتم إيمانه لمصلحة الإسلام أي لإبقاء بعض الجسور مفتوحة مع قريش فلا يؤذون المسلمين كما يريدون ـ وذلك كمؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه. أما هذا فكان جزاؤه ضحضاح من نار يضع فيها رجله فيغلي منها دماغه، وهكذا أصبح معاوية بن أبي سفيان الطليق بن الطّليق واللعين بن اللعين ومن كان يتلاعب بأحكام الله روسوله ولا يقيم لها وزناً ويقتل الصلحاء والأبرياء في سبيل الوصول إلى أهدافه الخسيسة ويسبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) على مرأى ومسمع من المسلمين (27)، أصبح هذا الرّجل يسمّى كاتب الوحي ويقولون بأن الله إئتمن على وحيه جبرئيل ومحمداً ومعاوية وأصبح يوصف بأنه رجل الحكمة والسياسة والتدبير.
أما أبو ذر الغفاري الذي ما أقلّت الخضراء ولا أظلت الغبراء أصدق ذي لهجة منه، فأصبح صاحب فتنة يضربُ ويشرّد ويُنفى إلى الربذة وأمّا سلمان والمقداد وعمّار وحذيفة وكل الصحابة المخلصين الذين والوا عليّا وتشيّعوا له فقد لا قوا التعذيب والتشريد والقتل.
يتبع
تعليق