الشيخ راغب له فضيلة علمية بارزة ،، وهو محترم جدا في الأوساط الحوزوية والمجتمع ،، يتحلى بالتقوى والصلاح ،، وهو طيب النفس ،، إلا أنه عصبي وحاد المزاج .
تقدم وهو في الخامسة والعشرين من عمره لخطبة نجية ،، وهي في الحادية والعشرين من عمرها .تخرجت نجية من الثانوية العامة ،، القسم الأدبي ،، بتقدير ممتاز ،، إلا أنها فضلت الالتحاق بالحوزة على الدراسة في الجامعة .وكانت نجيه تعرف الشيخ راغب من خلال الحوزة ،، وتعرف فضيلته العلمية ،، وتعرف أخلاقه وحدة مزاجه .ولما تقدم لخطبتها وسألت عائلتها عنه ،، قيل لهم ما كانت تعرفه عنه ،، إلا أنها كانت تعتقد ،، بأنها تمتلك الدواء الناجع ،، لعلاج عصبيته وحدة مزاجه ،، وأنها قادرة على علاجه بامتياز ،، فوافقت على الزواج منه .تزوجا ،، وكانت سفينة حياتهما الزوجية تشق طريقها :على نسيم طيب النفس ، وأمواج الغضب ، وحدة المزاج ، وإعصارها ، من جانبه ،، وعلى مجاديف الصبر ، والفكاهة ، والابتسامة ، والدلال ، والإصرار ، والجدال ، من جانبها ،، لقد كانت تستخدم هذه العناصر الستة ببراعة ودهاء ،، للتأثير على وضع السفينة وتحديد مسارها .فكانت تستفزه بإصرارها وفكاهتها ،، وتنفذ إلى أعماق عقله وضميره بجدالها الديني والمنطقي ،، وتحتويه بصبرها ودلالها وابتسامتها .
في ذات يوم جادلته ،، وقالت له بإصرار :أنت جاهل !! فقال مستنكرا وغاضبا :أأنا جاهل ؟! فقالت : نعم والذي فلق الحبة وبرأ النسمة وأحيى العباد !!فالعلم يا شيخ : ليس حشو الكتب في الدماغ ،، فمن كان همه حشو الكتب في خرج رأسه ،، فهو كالحمار يحمل أسفارا .العلم يا شيخ نور ورحمة ،،
قال الله تعالى يصف أخلاق الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } ،،
وقال الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " ألا أخبركم بأشبهكم بي أخلاقا ؟ قالوا بلى يا رسول الله ، فقال : أحسنكم أخلاقا ، وأعظمكم حلما ، وأبركم بقرابته ، وأشدكم إنصافا من نفسه في الغضب والرضا " ،،
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " ثمرة العقل مداراة الناس " ،، وقال : " الحلم نور جوهره العقل " ،، وقال : " عليك بالحلم فإنه ثمرة العلم " .فحدة المزاج والغضب الزائد لأتفه الأسباب ،، ليسا من الإيمان والصحة الروحية في شيء ،، وليسا من أخلاق العلماء الروحانيين .
الغضب يا شيخ جمرة من الشيطان ،، وهو مفتاح كل شر ،، فالمعاصي كلها تتولد من الغضب والشهوة ،، وأقرب ما يكون العبد إلى غضب الله عز وجل إذا غضب ،، وأن الغضب يفسد الألباب ، ويبعد عن الصواب ، ويحول دون استيفاء النظر ،، ولا رأي لغضبان ولا حكم .
إلا أن الشيخ راغب لم يقبل من زوجته ،، واعتبر كلامها هذا تجرؤ زائد عليه ،، وهتك لحرمته العلمية والدينية ،، فأحضر في نفس اليوم شاهدين ،، وطلقها .
ثم قال لها : أذهبي إلى بيت أهلك ،، فقالت : لن أذهب إلى بيت أهلي ،، ولن أخرج من هذا البيت إلا بحتف أنفي !! فقال لها : لقد طلقتك ،، ولا حاجة لي فيك ،، أخرجي من بيتي .
فقالت : لن أخرج ،، ولا يجوز لك أخراجي من البيت حتى أخرج من العدة وعليك النفقة.
فقال : هذه جرأة ووقاحة وقلة حياء.
قالت : لست أكثر تأديبا من الله جل جلاله ،،
وقرأت قول الله تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } ( الطلاق : 1 ) .
فنفض عباءته بشدة ،، وأدبر غاضبا ،، وهو يقول في تدمر :والله بلشة ،، ويش أسوي مع هالحرمة ؟!
وخرج من البيت . أما هي ،، فابتسمت وكأن شيئا لم يحدث ،، وجمعت أمرها ،، فكانت تتعمد في كل يوم :تجمير البيت ( تبخيره بالطيب ) ،، وتأخذ زينتها عن آخرها ،، وتتعطر ،، وتجلس له في البيت ،، في طريق خروجه ودخوله ،، فلم يقاوم لأكثر من خمسة أيام ،، وعاد إليها بإنشاء الفعل وليس باللفظ .
وفي ذات يوم : تأخرت في إعداد الفطور ،، فقال لها معنفا : هذا تقصير منك في حقي عليك ،، وهو ليس من سلوك المرأة المؤمنة ،،
فقالت له : احمل أخاك المؤمن على سبعين محمل من الخير ،،
وكما قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " أعرف الناس بالله أعذرهم للناس وإن لم يجد لهم عذرا " ،، ألا تعلم : بأن سوء الظن بالمحسن شر الإثم وأقبح الظلم ،، وأن سوء الظن يفسد العبادة ويعظم الوزر ويبعث على الشرور ،، وحسن الظن من أفضل السجايا ،، وأنه من راحة البال وسلامة الدين ،، ومن حسن ظنه بالناس حاز منهم المحبة ؟!
فقال لها : هذا الكلام لا ينفع في تبرير التقصير ،، أيرضيك أن أخرج إلى الحوزة بدون فطور ؟!
فقالت له : أليس الإيمان بالله والآخرة يدعوان الإنسان إلى القناعة ،، وهي الرضا بالميسور وبما قسم الله عز وجل ولو كان قليلا ،، أنسيت أن القناعة سبيل الصالحين ،، وأنها تمد صاحبها باليقظة الروحية وتحفزه على التأهب للآخرة ،، وهي الطريق إلى : راحة النفس ، واطمئنان القلب ، وشرف الوجدان، وكرم الأخلاق ، ومحبة الله عز وجل ، ومحبة العباد؟ !فإذا كنت من أهل الإيمان والحكمة قولا وعملا ،، كل ما تيسر ،، وأشكر ربك على ما رزقك ،، وأخرج إلى درسك وأنت مرتاح البال ،، راضيا قانعا بما قسم الله عز وجل لك من الرزق الحلال ،،
قال الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : "قد أفلح من أسلم ، ورزق كفافا ، وقنعه الله بما أتاه " .
فقال : لن أأكل أي شيء ،،
فقالت : أنت لم تتعلم الدرس من خطيئة الطمع لدى أبيك آدم ( عليه السلام ) ،، تلك الخطيئة التي زرعت الشوك والتعب في طريقه وطريق أبنائه من بعده إلى يوم القيامة .
لم يلتفت الشيخ راغب إلى كلام زوجته ،، وخرج غاضبا من بيته ،، ولم يكلمها بعد عودته إلى البيت . وفي الليل هجر فراشها ،، فنام أسفل السرير ،، واستمر على هذا الحال ،، لعشر ليالي بأيامها .وكانت في النهار ،، تهيأ له طعامه وشرابه ،، وتقوم على عادتها بجميع شؤونه ،، وفي الليل :تخلع لباس الحياء ،، فتتزين ، وتتعطر ، وتنام في فراشها ،، إلا أنها لا تكلمه عن قصد وتدبير .
وفي الليلة الحادية عشر ،، نام في أول الأمر كعادته أسفل السرير ،، ثم صعد إلى سريره ،، فضحكت وقالت له :لماذا جئت ؟ فقال لها : لقد انقلبت !! فقالت : ينقلبون من الأعلى إلى الأسفل ،، وليس من الأسفل إلى الأعلى ،، فقال وهو يبتسم :المغناطيس فوق السرير ،، أقوى من جاذبية الأرض .
ثم قال في بهجة وسرور :لو أن كل النساء مثلك يا نجية ،، لما طلق رجل زوجته ،، ولحلت جميع المشاكل في البيوت ،، وصدق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذ قال : " من صبرت على سوء خلق زوجها أعطاها ( الله ) مثل ثواب آسية بنت مزاحم " ،، لقد كنت لي يا نجية ،، نعم المعين على طاعة الله عز وجل ،، فجزاك الله عني خير الجزاء ،، ولا فرق الله بيني وبينك في الدنيا.
تعليق