كان عليه السلام قد بلغ في كمال العقل والفضل والعلم والحكم والاَدب ـ مع صغر سنه ـ منزلة لم يساوه فيها أحد من ذوي السنّ من السادات وغيرهم ، ولذلك كان المأمون مشغوفاً به لما رأى من علوّ رتبته وعظم منزلته في جميع الفضائل ، فزوّجه ابنته اُمّ الفضل ، وحملها معه إلى المدينة ، وكان متوفّراً على تعظيمه وتوقيره وتبجيله .
وروي عن الريّان بن شبيب : أنّ المأمون لمّا أراد أن يزوّجه ابنته استكبر ذلك جماعة العبّاسيّة ، وخاضوا في ذلك ، وقالوا للمأمون : ننشدك الله أن تقيم على هذا الاَمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا ، فإنّا نخاف أن تخرج به عنّا أمراً قد ملّكناه الله! وتنزع عنّا عزّاً قد ألبسناه الله وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا حتّى كفانا الله المهم من ذلك!
فقال المأمون : والله ماندمت على ما كان منّي من استخلاف الرضا ، ولقد سألته أن يقوم بالاَمر وانزعه من عنقي فأبى ، وكان أمر الله قدراً مقدوراً ، وأمّا أبو جعفر فقد اخترته لتبريزه على كافّة أهل الفضل مع صغر سنّه والاُعجوبة فيه بذلك .
فقالوا له : إنّه صبيّ لا معرفة له ، فأمهله ليبأدب ويتفقّه في الدين ثمّ اصنع ماتراه .
فقال لهم : ويحكم ، إنّي أعرف بهذا الفتى منك ، وإنّ أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى وموادّه وإلهامه ، ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والاَدب عن الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال ، فإن شئتم فامتحنوا أباجعفر حتّى يتبيّن لكم ما وصفت لكم من حاله .
قالوا : قد رضينا بذلك .
فخرجوا ، واتّفق رأيهم على أنّ يحيى بن أكثم يسأله مسألة ـ وهو قاضي الزمان ـ فأجابهم المأمون إلى ذلك .
واجتمع القوم في يوم اتّفقوا عليه ، وأمر المأمون أن يفرش لاَبي جعفر دست (1) ، ويجعل له فيه مسورتان ، ففعل ذلك ، وخرج أبو جعفر ـ وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر ـ فجلس بين المسورتين ، وجلس يحيى بن أكثم بين يديه ، وقام الناس في مراتبهم ، والمأمون جالسٌ في دست متّصل بدست أبي جعفر عليه السلام ، فقال يحيى بن أكثم للمأمون : أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر ؟
فقال : استأذنه في ذلك .
فأقبل عليه يحيى وقال : أتأذن لي جعلت فداك في مسألة ؟
فقال : « سل إن شئت » .
فقال : ما تقول ـ جعلت فداك ـ في محرم قتل صيداً ؟
فقال أبو جعفر عليه السلام : « في حلّ أو حرم ؟ عالماً كان المحرم أو جاهلاً ؟ قتله عمداً أو خطأً ؟ حرّاً كان المحرم أو عبداً ؟ صغيراً كان أم كبيراً ؟ مبتدئاً كان بالقتل أم معيداً ؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ؟ من صغار الصيد كان أم كبارها ؟ مصرّاً كان على ما فعل أم نادماً ؟ ليلاً كان قتله للصيد أم نهاراً ؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحجّ كان محرماً ؟ » .
فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ، وتلجلج حتّى عرف أهل المجلس أمره ، فقال المأمون : الحمدلله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ، ثمّ قال لاَبي جعفر عليه السلام : إخطب لنفسك ، فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوّجك أمّ الفضل ابنتي .
فقال أبو جعفر عليه السلام : « الحمد لله إقراراً بنعمته ، ولا إله إلاّ الله إخلاصاً لوحدانيّته ، وصلّى الله على محمّد سيّد بريّته ، وعلى الاَصفياء من عترته .
أمّا بعد : فقد كان من فضل الله على الاَنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام فقال سبحانه : ﴿ وانكِحُوا الاَيامى مِنكُم والصّالحينَ مِن عِبادِكُم وإمائِكُم إن يَكونُوا فُقراء يُغنِهُمُ اللهُ واسعٌ عَليم ﴾ (2)ثمّ إنّ محمد بن علي بن موسى يخطب اُمّ الفضل ابنة عبدالله المأمون ، وقد بذل لها من الصداق مهر جدّته فاطمة بنت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو خمسمائة درهم جياداً ، فهل زوّجته يا أمير المؤمنين بها على الصداق المذكور ؟ »
فقال المأمون : نعم ، قد زوّجتك يا أبا جعفر أم الفضل ابنتي على الصداق المذكور ، فهل قبلت النكاح ؟
قال أبو جعفر : « نعم ، قبلت النكاح ورضيت به » .
فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم .
قال الريّان : فلم نلبث أن سمعنا أصواتاً تشبه أصوات الملاّحين ، فإذا الخدم يجرّون سفينة مصنوعة من فضّة تشدّ بحبال الاَبريسم على عجلة مملوّة من الغالية (3) ، ثم أمر المأمون أن تُخضب لحى الخاصّة من تلك الغالية ، ثمّ مدّت إلى دار العامّة ، وطيّبوا بها ، ووضع الموائد وأكل الناس ، وخرجت الجوائز إلى كلّ قوم على قدرهم .
فلمّا تفرّق الناس وبقي من الخاصّة من بقي قال المأمون لاَبي جعفر : إن رأيت جعلت فداك أن تذكر تفصيل ماذكرته من الفقه في قتل المحرم فعلت .
فقال أبو جعفر : « نعم » . وأجاب عن جميع المسائل بما هو مشهورٌ .
فقال له المأمون : أحسنت ، أحسن الله إليك يا أبا جعفر ، فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك .
فقال له أبو جعفر عليه السلام : « اخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه ، فلمّا ارتفع النهار حلّت له ، فلمّا زالت الشمس حرمت عليه ، فلمّا كان وقت العصر حلت له ، فلما غربت الشمس حرمت عليه ، فلمّا دخل وقت العشاء الآخرة حلّت له ، فلمّا كان انتصاف الليل حرمت عليه ، فلمّا طلع الفجر حلّت له ، ما حال هذه المرأة ، وبماذا حلّت له وحرمت عليه ؟ »
فقال يحيى : لا أعرف ذلك ، فإن رأيت أن تفيدنا .
فقال أبو جعفر عليه السلام : « هذه المرأة أمة لرجل من الناس ، نظر إليها <أجنبي> (4)أوّل النهار < فكان نظره إليها حراماً > (5) فلمّا ارتفع النهار إبناعها من مولاها فحلّت له ، فلمّا كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه ، ثم تزوجها وقت العصر فحلّت له ، ثمّ ظاهر منها وقت المغرب فحرمت عليه ، ثمّ كفّر عن الظهار وقت العشاء فحلّ له ، ثمّ طلّقها واحدة نصف الليل فحرمت عليه ، ثمّ راجعها وقت الفجر فحلّت له » .
فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته وقال : ويحكم ، إنّ أهل هذا البيت خصّوا من الخلق بما ترون من الفضل ، وإنّ صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال ، أما علمتم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم افتتح دعوته بدعاء امير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وهو ابن عشر سنين ، وقبل منه الاِسلام ، وحكم الله له به ، ولم يدع أحداً في سنّه غيره ، وبايع الحسن والحسين عليهما السلام وهما ابنا دون الستّ سنين ولم يايع صبيّاً غيرهما ، فإنّهم ذرّيّة بعضها من بعض ، يجري لآخرهم ما يجري لاَوّلهم .
قالوا : صدقت يا أميرالمؤمنين . ثمّ نهض القوم .
فلمّا كان من الغد أُحضر الناس ، وحضر أبو جعفر عليه السلام ، وصار القوّاد والحجّاب والخاصّة والعمّال لتهنئة المأمون وأبي جعفر ، فاُخرجت ثلاثة أطباق من الفضّة فيها بنادق مسك وزعفران معجون ، في أجواف تلك البنادق رقاع مكتوبة بأموال جزيلة وعطايا سنيّة واقطاعات ، فأمر المأمون بنثرها على القوم من خاصّته ، فكلّ من وقع في يده بندقة أخرج الرقعة التي فيها والتمسه فأُطلق له ، ووضعت البدر فنثر ما فيها على القوّاد وغيرهم ، وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز والعطايا ، ولم يزل مكرماً لاَبي جعفر عليه السلام يؤثره على ولده وجماعة أهل بيته (6) .
ولمّا انصرف أبو جعفر عليه السلام من عند المأمون ببغداد ومعه أُمّ الفضل إلى المدينة ، صار إلى شارع باب الكوفة والناس يشيّعونه ، فانتهى إلى دار المسيّب عند مغيب الشمس فنزل ودخل المسجد ، وكان في صحنه نبقة لم تحمل بعد ، فدعا بكوز فيه ماء فتوضّأ في أصل النبقة وقام وصلّى بالناس صلاة المغرب ، فقرأ في الاُولى « بالحمد » و « أذا جاء نصرالله » وفي الثانية « بالحمد » و« قل هو الله أحد » وقنت قبل الركوع ، وجلس بعد التسليم هنيهة يذكر الله تعالى ، وقام من غير تعقيب فصلّى النوافل أربع ركعات ، وعقّب بعدها ، وسجد سجدتي الشكر ثمّ خرج ، فلمّا انتهى إلى النبقة رآها الناس وقد حملت حملاً كثيراً حسناً ، فتعجّبوا من ذلك ، فأكلوا منها فوجدوه نبقاً حلواً لا عجم له ، ومضى عليه السلام إلى المدينة (7) .
ولم يزل بها حتّى أشخصه المعتصم إلى بغداد في أوّل سنة (خمس وعشرين) (8)ومائتين ، فأقام بها حتّى توفي في آخر ذي القعدة من هذه السنة (9) .
وقيل : إنّه مضى عليه السلام مسموماً (10) .
وخلّف من الولد : ابنه علياً عليه السلام الاِمام ، وموسى (11) .
(ويقال : و) (12) فاطمة ، وامامة ابنتيه ، ولم يخلّف غيرهم . (13)
(1) دست : كلمة معرّبة ، ويراد بها جانب من البيت .
(2) النور 24 : 32 .
(3) الغالية : نوع من الطيب مركّب من مسك وعنبر وعود ودهن . « لسان العرب 15 : 134 » .
(4و5) ما بين المعقوفين اثبتناه من الارشاد ليستقيم السياق .
(6) ارشاد المفيد 2 : 281 ، وباختلاف يسير في : الاحتجاج : 443 ، ونحوه في : اثبات الوصية : 189 ، دلائل الامامة : 206 ، روضة الواعظين : 237 ، الفصول المهمة : 267 ، ودون ذيله في : المناقب لابن شهرآشوب 4 : 380 .
(7) ارشاد المفيد 2 : 288 : مناقب ابن شهرآشوب 4 : 390 ، كشف الغمة 2 : 370 ، الفصول المهمة : 270
(8) كذا في نسخنا والصواب : عشرين .
انظر : الكافي 1 : 411 و 416 | 12 ، ارشاد المفيد 2 : 273 و 295 ، تاريخ أهل البيت عليهم السلام : 85 ، كشف الغمة 2 : 370 ، الفصول المهمة : 275 .
(9) ارشاد المفيد 2 : 289 ، كشف الغمة 2 : 370 ، الفصول المهمة : 275 ، وانظر : الكافي 1 : 411 و 416 | 12 ، تاريخ أهل البيت عليهم السلام : 85 .
(10) ارشاد المفيد 2 : 295 ، تفسير العياشي 1 : 320 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 379 ، دلائل الامامة : 209 ، كشف الغمة 2 : 370 ، الفصول المهمة 276 ، ونقله المجلسي في بحار الانوار 50 : 13 ذيل ح12
(11) في نسخه « م » زيادة : ومن البنات حكيمة وخديجة وأم كلثوم .
(12) في نسخة « م » وقد قيل أنّه خلّف .
(13) ارشاد المفيد 2 : 295 .
وروي عن الريّان بن شبيب : أنّ المأمون لمّا أراد أن يزوّجه ابنته استكبر ذلك جماعة العبّاسيّة ، وخاضوا في ذلك ، وقالوا للمأمون : ننشدك الله أن تقيم على هذا الاَمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا ، فإنّا نخاف أن تخرج به عنّا أمراً قد ملّكناه الله! وتنزع عنّا عزّاً قد ألبسناه الله وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا حتّى كفانا الله المهم من ذلك!
فقال المأمون : والله ماندمت على ما كان منّي من استخلاف الرضا ، ولقد سألته أن يقوم بالاَمر وانزعه من عنقي فأبى ، وكان أمر الله قدراً مقدوراً ، وأمّا أبو جعفر فقد اخترته لتبريزه على كافّة أهل الفضل مع صغر سنّه والاُعجوبة فيه بذلك .
فقالوا له : إنّه صبيّ لا معرفة له ، فأمهله ليبأدب ويتفقّه في الدين ثمّ اصنع ماتراه .
فقال لهم : ويحكم ، إنّي أعرف بهذا الفتى منك ، وإنّ أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى وموادّه وإلهامه ، ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والاَدب عن الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال ، فإن شئتم فامتحنوا أباجعفر حتّى يتبيّن لكم ما وصفت لكم من حاله .
قالوا : قد رضينا بذلك .
فخرجوا ، واتّفق رأيهم على أنّ يحيى بن أكثم يسأله مسألة ـ وهو قاضي الزمان ـ فأجابهم المأمون إلى ذلك .
واجتمع القوم في يوم اتّفقوا عليه ، وأمر المأمون أن يفرش لاَبي جعفر دست (1) ، ويجعل له فيه مسورتان ، ففعل ذلك ، وخرج أبو جعفر ـ وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر ـ فجلس بين المسورتين ، وجلس يحيى بن أكثم بين يديه ، وقام الناس في مراتبهم ، والمأمون جالسٌ في دست متّصل بدست أبي جعفر عليه السلام ، فقال يحيى بن أكثم للمأمون : أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر ؟
فقال : استأذنه في ذلك .
فأقبل عليه يحيى وقال : أتأذن لي جعلت فداك في مسألة ؟
فقال : « سل إن شئت » .
فقال : ما تقول ـ جعلت فداك ـ في محرم قتل صيداً ؟
فقال أبو جعفر عليه السلام : « في حلّ أو حرم ؟ عالماً كان المحرم أو جاهلاً ؟ قتله عمداً أو خطأً ؟ حرّاً كان المحرم أو عبداً ؟ صغيراً كان أم كبيراً ؟ مبتدئاً كان بالقتل أم معيداً ؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ؟ من صغار الصيد كان أم كبارها ؟ مصرّاً كان على ما فعل أم نادماً ؟ ليلاً كان قتله للصيد أم نهاراً ؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحجّ كان محرماً ؟ » .
فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ، وتلجلج حتّى عرف أهل المجلس أمره ، فقال المأمون : الحمدلله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ، ثمّ قال لاَبي جعفر عليه السلام : إخطب لنفسك ، فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوّجك أمّ الفضل ابنتي .
فقال أبو جعفر عليه السلام : « الحمد لله إقراراً بنعمته ، ولا إله إلاّ الله إخلاصاً لوحدانيّته ، وصلّى الله على محمّد سيّد بريّته ، وعلى الاَصفياء من عترته .
أمّا بعد : فقد كان من فضل الله على الاَنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام فقال سبحانه : ﴿ وانكِحُوا الاَيامى مِنكُم والصّالحينَ مِن عِبادِكُم وإمائِكُم إن يَكونُوا فُقراء يُغنِهُمُ اللهُ واسعٌ عَليم ﴾ (2)ثمّ إنّ محمد بن علي بن موسى يخطب اُمّ الفضل ابنة عبدالله المأمون ، وقد بذل لها من الصداق مهر جدّته فاطمة بنت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو خمسمائة درهم جياداً ، فهل زوّجته يا أمير المؤمنين بها على الصداق المذكور ؟ »
فقال المأمون : نعم ، قد زوّجتك يا أبا جعفر أم الفضل ابنتي على الصداق المذكور ، فهل قبلت النكاح ؟
قال أبو جعفر : « نعم ، قبلت النكاح ورضيت به » .
فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم .
قال الريّان : فلم نلبث أن سمعنا أصواتاً تشبه أصوات الملاّحين ، فإذا الخدم يجرّون سفينة مصنوعة من فضّة تشدّ بحبال الاَبريسم على عجلة مملوّة من الغالية (3) ، ثم أمر المأمون أن تُخضب لحى الخاصّة من تلك الغالية ، ثمّ مدّت إلى دار العامّة ، وطيّبوا بها ، ووضع الموائد وأكل الناس ، وخرجت الجوائز إلى كلّ قوم على قدرهم .
فلمّا تفرّق الناس وبقي من الخاصّة من بقي قال المأمون لاَبي جعفر : إن رأيت جعلت فداك أن تذكر تفصيل ماذكرته من الفقه في قتل المحرم فعلت .
فقال أبو جعفر : « نعم » . وأجاب عن جميع المسائل بما هو مشهورٌ .
فقال له المأمون : أحسنت ، أحسن الله إليك يا أبا جعفر ، فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك .
فقال له أبو جعفر عليه السلام : « اخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه ، فلمّا ارتفع النهار حلّت له ، فلمّا زالت الشمس حرمت عليه ، فلمّا كان وقت العصر حلت له ، فلما غربت الشمس حرمت عليه ، فلمّا دخل وقت العشاء الآخرة حلّت له ، فلمّا كان انتصاف الليل حرمت عليه ، فلمّا طلع الفجر حلّت له ، ما حال هذه المرأة ، وبماذا حلّت له وحرمت عليه ؟ »
فقال يحيى : لا أعرف ذلك ، فإن رأيت أن تفيدنا .
فقال أبو جعفر عليه السلام : « هذه المرأة أمة لرجل من الناس ، نظر إليها <أجنبي> (4)أوّل النهار < فكان نظره إليها حراماً > (5) فلمّا ارتفع النهار إبناعها من مولاها فحلّت له ، فلمّا كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه ، ثم تزوجها وقت العصر فحلّت له ، ثمّ ظاهر منها وقت المغرب فحرمت عليه ، ثمّ كفّر عن الظهار وقت العشاء فحلّ له ، ثمّ طلّقها واحدة نصف الليل فحرمت عليه ، ثمّ راجعها وقت الفجر فحلّت له » .
فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته وقال : ويحكم ، إنّ أهل هذا البيت خصّوا من الخلق بما ترون من الفضل ، وإنّ صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال ، أما علمتم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم افتتح دعوته بدعاء امير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وهو ابن عشر سنين ، وقبل منه الاِسلام ، وحكم الله له به ، ولم يدع أحداً في سنّه غيره ، وبايع الحسن والحسين عليهما السلام وهما ابنا دون الستّ سنين ولم يايع صبيّاً غيرهما ، فإنّهم ذرّيّة بعضها من بعض ، يجري لآخرهم ما يجري لاَوّلهم .
قالوا : صدقت يا أميرالمؤمنين . ثمّ نهض القوم .
فلمّا كان من الغد أُحضر الناس ، وحضر أبو جعفر عليه السلام ، وصار القوّاد والحجّاب والخاصّة والعمّال لتهنئة المأمون وأبي جعفر ، فاُخرجت ثلاثة أطباق من الفضّة فيها بنادق مسك وزعفران معجون ، في أجواف تلك البنادق رقاع مكتوبة بأموال جزيلة وعطايا سنيّة واقطاعات ، فأمر المأمون بنثرها على القوم من خاصّته ، فكلّ من وقع في يده بندقة أخرج الرقعة التي فيها والتمسه فأُطلق له ، ووضعت البدر فنثر ما فيها على القوّاد وغيرهم ، وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز والعطايا ، ولم يزل مكرماً لاَبي جعفر عليه السلام يؤثره على ولده وجماعة أهل بيته (6) .
ولمّا انصرف أبو جعفر عليه السلام من عند المأمون ببغداد ومعه أُمّ الفضل إلى المدينة ، صار إلى شارع باب الكوفة والناس يشيّعونه ، فانتهى إلى دار المسيّب عند مغيب الشمس فنزل ودخل المسجد ، وكان في صحنه نبقة لم تحمل بعد ، فدعا بكوز فيه ماء فتوضّأ في أصل النبقة وقام وصلّى بالناس صلاة المغرب ، فقرأ في الاُولى « بالحمد » و « أذا جاء نصرالله » وفي الثانية « بالحمد » و« قل هو الله أحد » وقنت قبل الركوع ، وجلس بعد التسليم هنيهة يذكر الله تعالى ، وقام من غير تعقيب فصلّى النوافل أربع ركعات ، وعقّب بعدها ، وسجد سجدتي الشكر ثمّ خرج ، فلمّا انتهى إلى النبقة رآها الناس وقد حملت حملاً كثيراً حسناً ، فتعجّبوا من ذلك ، فأكلوا منها فوجدوه نبقاً حلواً لا عجم له ، ومضى عليه السلام إلى المدينة (7) .
ولم يزل بها حتّى أشخصه المعتصم إلى بغداد في أوّل سنة (خمس وعشرين) (8)ومائتين ، فأقام بها حتّى توفي في آخر ذي القعدة من هذه السنة (9) .
وقيل : إنّه مضى عليه السلام مسموماً (10) .
وخلّف من الولد : ابنه علياً عليه السلام الاِمام ، وموسى (11) .
(ويقال : و) (12) فاطمة ، وامامة ابنتيه ، ولم يخلّف غيرهم . (13)
(1) دست : كلمة معرّبة ، ويراد بها جانب من البيت .
(2) النور 24 : 32 .
(3) الغالية : نوع من الطيب مركّب من مسك وعنبر وعود ودهن . « لسان العرب 15 : 134 » .
(4و5) ما بين المعقوفين اثبتناه من الارشاد ليستقيم السياق .
(6) ارشاد المفيد 2 : 281 ، وباختلاف يسير في : الاحتجاج : 443 ، ونحوه في : اثبات الوصية : 189 ، دلائل الامامة : 206 ، روضة الواعظين : 237 ، الفصول المهمة : 267 ، ودون ذيله في : المناقب لابن شهرآشوب 4 : 380 .
(7) ارشاد المفيد 2 : 288 : مناقب ابن شهرآشوب 4 : 390 ، كشف الغمة 2 : 370 ، الفصول المهمة : 270
(8) كذا في نسخنا والصواب : عشرين .
انظر : الكافي 1 : 411 و 416 | 12 ، ارشاد المفيد 2 : 273 و 295 ، تاريخ أهل البيت عليهم السلام : 85 ، كشف الغمة 2 : 370 ، الفصول المهمة : 275 .
(9) ارشاد المفيد 2 : 289 ، كشف الغمة 2 : 370 ، الفصول المهمة : 275 ، وانظر : الكافي 1 : 411 و 416 | 12 ، تاريخ أهل البيت عليهم السلام : 85 .
(10) ارشاد المفيد 2 : 295 ، تفسير العياشي 1 : 320 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 379 ، دلائل الامامة : 209 ، كشف الغمة 2 : 370 ، الفصول المهمة 276 ، ونقله المجلسي في بحار الانوار 50 : 13 ذيل ح12
(11) في نسخه « م » زيادة : ومن البنات حكيمة وخديجة وأم كلثوم .
(12) في نسخة « م » وقد قيل أنّه خلّف .
(13) ارشاد المفيد 2 : 295 .
كتاب إعلام الورى بأعلام الهدى ، للشيخ الطبرسي ، تحقيق مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث
تعليق