الدلالة الصوتية في القرآنالكاتب : الدكتور محمد حسين علي الصغير
الدلالة الصوتية في القرآن
هذا المقال الشيق هو الفصل السادس من كتاب : " الصوت اللُّغوي في القرآن " للدكتور محمد حسين علي الصغير أستاذ الدراسات القرآنية في جامعة الكوفة .
مظاهر الدلالة الصوتية :
انصبت عناية القرآن العظيم بالاهتمام في إذكاء حرارة الكلمة عند العرب ، و توهج العبارة في منظار حياتهم ، و حدب البيان القرآني على تحقيق موسيقى اللفظ في جمله ، و تناغم الحروف في تركيبه ، و تعادل الوحدات الصوتية في مقاطعه ، فكانت مخارج الكلمات متوازنة النبرات ، و تراكيب البيان متلائمة الأصوات ، فاختار لكل حالة مرادة ألفاظها الخاصة التي لا يمكن أن تستبدل بغيرها ، فجاء كل لفظ متناسباً مع صورته الذهنية من وجه ، و مع دلالته السمعية من وجه آخر ، فالذي يستلذه السمع ، و تسيغه النفس ، و تقبل عليه العاطفة هو المتحقّق في العذوبة و الرقة ، و الذي يشرأب له العنق ، و تتوجس منه النفس هو المتحقق في الزجر و الشدة ، و هنا ينبه القرآن المشاعر الداخلية عند الإنسان في إثارة الانفعال المترتب على مناخ الألفاظ المختارة في مواقعها فيما تشيعه من تأثير نفسي معين سلباً و إيجاباً .
و بيان القرآن المجيد تلمح فيه الفروق بين مجموعة هذه الأصوات في إيقاعها ، و التي كونت كلمة معين في النص ، و بين تلك الأصوات التي كونت كلمة أخرى ، و تتعرف فيه على ما يوحيه كل لفظ من صورة سمعية صارخة تختلف عن سواها قوة أو ضعفاً ، رقةً أو خشونة ، حتى تدرك بين هذا و ذاك المعنى المحدد المراد به إثارة الفطرة ، أو إذكاء الحفيظة ، أو مواكبة الطبيعة بدقة متناهية ، و يستعان على هذا الفهم لا بموسيقى اللفظ منفرداً ، أو بتناغم الكلمة وحدها ، بل بدلالة الجملة أو العبارة منضمّة إليه .
إن إيقاع اللفظ المفرد ، و تناغم الكلمة الواحدة ، عبارة عن جرس موسيقى للصوت فيما يجلبه من وقع في الأذن ، أو أثر عند المتلقي ، يساعد على تنبيه الأحاسيس في النفس الإنسانية ، لهذا كان ما أورد القرآن الكريم في هذا السياق متجاوباً مع معطيات الدلالة الصوتية : " التي تستمد من طبيعة الأصوات نغمتها وجرسها " [1] . فتوحي بأثر موسيقي خاص ، يستنبط من ضم الحروف بعضها لبعض ، و يستقرأ من خلال تشابك النص الأدبي في عبارته ، فيعطي مدلولاً متميزاً في مجالات عدة : الألم ، البهجة ، اليأس ، الرجاء ، الرغبة ، الرهبة ، الوعد ، الوعيد ، الإنذار ، التوقع ، الترصد ، التلبث . . . إلخ .
و لا شك أن استقلالية أية كلمة بحروف معينة ، يكسبها صوتياً ذائقة سمعية منفردة ، تختلف ـ دون شك ـ عما سواها من الكلمات التي تؤدي المعنى نفسه ، مما يجعل كلمة ما دون كلمة ـ و إن اتحدا بالمعنى ، لها استقلاليتها الصوتية ، إما في الصدى المؤثر ، و إما في البعد الصوتي الخاص ، و إما بتكثيف المعنى بزيادة المبنى ، و إما بإقبال العاطفة ، و إما بزيادة التوقع ، فهي حيناً تصك السمع ، و حيناً تهيئ النفس ، و حيناً تضفي صيغة التأثر : فزعاً من شيء ، أو توجهاً لشيء ، أو طمعاً في شيء ، و هكذا .
هذا المناخ الحافل تضفيه الدلالة الصوتية للألفاظ ، و هي تشكل في القرآن الوقع الخاص المتجلي بكلمات مختارة ، تكونت من حروف مختارة ، فشكلت أصواتاً مختارة ، هذه السمات في القرآن بارزة الصيغ في مئات التراكيب الصوتية في مظاهر شتى ، و مجالات عديدة ، تستوعبها جمهرة هائلة من ألفاظه في ظلال مكثفة في الجرس و النغم و الصدى و الإيقاع .
قال الخطابي ( ت : 383 ـ 388 هـ ) إن الكلام إنما يقوم بأشياء ثلاثة : " لفظ حاصل ، و معنى به قائم ، و رباط لهما ناظم ، و إذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف و الفضيلة ، حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ، و لا أجزل ، و لا أعذب من ألفاظه " [2] .
و هذا مما ينطبق على استيحاء الدلالة الصوتية في القرآن بجميع الأبعاد ، يضاف إليه الوقع السمعي للفظ ، و التأثير النفسي للكلمة ، و المدلول الانفعالي بالحدث ، و تلك مظاهر متأنقة قد يتعذر حصرها ، و قد يطول الوقوف عند استقصائها .
و كان من فضيلة القرآن الصوتية أن استوعب جميع مظاهر الدلالة في مجالاتها الواسعة ، و تمرس في استيفاء وجوه التعبير عنها بمختلف الصور الناطقة ، و قد يكون من غير الممكن استحضار جميع الصيغ في استعمالات منها ، أو ما يبدو أنه مهم في الأقل ، و ذلك باستطراد بعض النماذج النابضة فيما أخال و أزعم ، و قد يعبر كل نموذج منها عن مظهر فني ، ليقاس مثله عليه ، و شبيهه به ، و بذلك يتأتى للباحث و المتلقي إلقاء الضوء الكاشف على أبعاد دلالة القرآن الصوتية ، في تشعب جوانبها ، و عظمة انطلاقها ، مما يكوّن معجماً لغوياً خاصاً بمفرداتها ، و قاموساُ صوتياً حافلاً بإمكاناتها .
سيقتصر حديثنا عن مظاهر الدلالة في مجالات قد تكون متقابلة ، أو متناظرة ، أو متضادة ، أو متوافقة ، و هي بمجموعها تكون أبعاد الدلالة الصوتية في القرآن ، و هذا ما تتكفّل بإيضاحه المباحث الآتية .
دلالة الفزع الهائل :
استعمل القرآن طائفة من الألفاظ ، ثم اختار أصواتها بما يتناسب مع أصدائها ، و استوحى دلالتها من جنس صياغتها ، فكانت دالة على ذاتها بذاتها ، فالفزع مثلاً ، و الشدة ، و الهدة ، و الاشتباك ، و الخصام ، و العنف ، دلائل هادرة بالفزع الهائل و المناخ القاتل .
1 ـ قف عند مادة " صرخ " في القرآن ، و صرخة : الصّيحة الشديدة عند الفزع ، و الصراخ : الصوت الشديد [3] . لتلمس عن كثب ، و بعفوية بالغة : الاستغاثة بلا مغيث ، في قوله تعالى : ﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا ... ﴾ [4] . مما يوحي بأن الصراخ قد بلغ ذروته ، و الاضطراب قد تجاوز مداه ، و الصوت العالي الفظيع يصطدم بعضه ببعض ، فلا أذن صاغية ، و لا نجدة متوقعة ، فقد وصل اليأس أقصاه ، و القنوط منتهاه ، فالصراخ في شدة إطباقه ، و تراصف إيقاعه ، من توالي الصاد و الطاء ، و تقاطر الراء و الخاء ، و الترنم بالواو و النون يمثل لك رنة هذا الإصطراخ المدوي " و الإصطراخ : الصياح و النداء و الاستغاثة ، افتعال من الصراخ قلبت التاء طاءً لأجل الصاد الساكنة قبلها ، و إنما نفعل ذلك لتعديل الحروف بحرف وسط بين حرفين يوافق الصاد في الاستعلاء و الإطباق ، و يوافق التاء في المخرج " [5] .
و الإصراخ هو الإغاثة ، و تلبية الصارخ ، و قوله تعالى : ﴿ ... مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ... ﴾ [6] .تعني البراءة المتناهية ، و الإحباط التام ، و الصوت المجلجل في الدفع ، فلا يغني بعضهم عن بعض شيئاً ، و لا ينجي أحدهما الآخر من عذاب الله ، و لا يغيثه مما نزل به ، فلا إنقاذ و لا خلاص و لا صريخ من هذه الهوة ، و تلك النازلة ، فلا الشيطان بمغيثهم ، و لا هم بمغيثيه .
و الصريخ في اللغة يعني المغيث و المستغيث ، فهو من الأضداد ، و في المثل : عبدٌ صَريخُه أمة ، أي ناصره أذل منه [7] . و قد قال تعالى : ﴿ ... فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ ﴾ [8] . فيا له من موقف خاسر ، و جهد بائر ، فلا سماع حتى لصوت الاستغاثة ، و لا إجارة مما وقعوا فيه .
و الاستصراخ الإغاثة ، و استصرخ الإنسان إذا أتاه الصارخ ، و هو الصوت يعلمه بأمر حادث ليستعين به [9] .
قال تعالى : ﴿ ... فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ... ﴾ [10] . طلب للنجدة في فزع ، و محاولة للإنقاذ في رهب ، و الاستعانة على العدو بما يردعه عن الإيقاع به ، و ما ذلك إلا نتيجة خوف نازل ، و فزع متواصل ، و تشبث بالخلاص.
2 ـ و ما يستوحى من شدة اللفظ في مادة " صرخ " يستوحى بإيقاع مقارب من قوله تعالى : ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ ... ﴾ [11] . لتبرز " متشاكسون " و هي تعبر لغة عن المخاصمة و العناد و الجدل في أخذ و رَدٍّ لا يستقران ، و قد تعطي معناها الكلمة : متخاصمون ، و لكن المثل القرآني لم يستعملها حفاظاً على الدلالة الصوتية التي أعطت معنى النزاع المستمر ، و الجدل القائم ، و قد جمعت في هذه الكلمة حروف التفشي و الصفير في الشين و السين تعاقباً ، تتخللهما الكاف من وسط الحلق ، و الواو و النون للمد و الترنم ، و التأثر بالحالة ، فأعطت هذه الحروف مجتمعة نغماً موسيقياً خاصاً حمّلها أكثر من معنى الخصومة و الجدل و النقاش بما أكسبها أزيزاً في الأذن ، يبلغ به السامع أن الخصام ذو خصوصية بلغت درجة الفورة ، و العنف و الفزع من جهة ، كما أحيط السمع بجرس مهموس معين ذي نبرات تؤثر في الحس و الوجدان من جهة أخرى .
3 ـ و تأمل مادة " كبّ " في القرآن ، و هي تعني إسقاط الشيء على وجهه كما في قوله تعالى : ﴿ ... فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ... ﴾ [12] . فلا إنقاذ و لا خلاص و لا إخراج ، و الوجه أشرف مواضع الجسد ، و هو يهوي بشدة فكيف بباقي البدن .
و الإكباب جعل وجهه مكبوباً على العمل ، قال تعالى : ﴿ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ ... ﴾ [13] .
و الكبكبة تدهور الشيء في هوة [14] . قال تعالى : ﴿ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ﴾ [15] .
و هذه الصيغة قد حملت اللفظ في تكرار صوتها ، زيادة معنى التدهور لما أفاده الزمخشري ( ت : 538 هـ ) بقوله : " إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى " [16] .
و قال العلامة الطيبي ( ت : 743 هـ ) : " كرر الكب دلالة على الشدة " [17] .
و من هنا نفيد أن دلالة الفزع فيما تقدم من ألفاظ أريدت بحد ذاتها لتهويل الأمر ، و تفخيم الدلالة ، و هذا أمر مطرد في القرآن ، و قد يمثله قوله تعالى : ﴿ ... فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ﴾ [18] . و المادة نفسها قد توحي بشدة الإتيان والتوقع عند النوائب .
الإغراق في مدّ الصوت و استطالته :
هنالك مقاطع صوتية مغرقة في الطول و المد و التشديد و بالرغم من ندرة صيغة هذه المركبات الصوتية في اللغة العربية حتى أنها لتعدّ بالأصابع ، فإننا نجد القرآن الكريم يستعل أفخمها لفظاً ، و أعظمها وقعاً ، فتستوحي من دلالتها الصوتية مدى شدّتها ، لتستنتج من ذلك أهميتها و أحقيتها بالتلبث و الرصد و التفكير .
من تلك الألفاظ : الحاقّة ، الطّامة ، الصّاخة . و قد تأتي مجّردة عن التعريف فتهتدي إلى عموميتها ، مثل : دابّة . كافة .
هذه الصيغة صوتياً تمتاز بتوجه الفكر نحوها في تساؤل ، و اصطكاك السمع بصداها المدوي ، و أخيراً بتفاعل الوجدان معها مترقباً : الأحداث ، المفاجئات ، النتائج المجهولة .
الحاقة الطامة و الصاخة : كلمات تستدعي نسبة عالية من الضغط الصوتي ، و الأداء الجهوري لسماع رنتها ، مما يتوافق نسبياً مع إرادتها في جلجلة الصوت ، و شدة الإيقاع ، كل ذلك مما يوضع مجموعة العلاقات القائمة بين اللفظ و دلالته في مثل هذه العائلة الصوتية الواحدة ، فإذا أضفنا إلى ذلك معناها المحدد في كتاب الله تعالى ، و هو يوم القيامة ، خرجنا بحصيلة علمية تنتهي بمطابقة الشدة الصوتية للشدة الدلالية بين الصوت و المعنى الحقيقي ، فقوله تعالى : ﴿ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ﴾ [19] . إشارة إلى يوم القيامة ، و علم عليها فيما أفاد العلماء ، قال الفرّاء ( ت : 207 هـ ) : " الحاقة : القيامة ، سميت بذلك لأن فيها الثواب و الجزاء " [20] .
و قال الطبرسي ( ت : 548 هـ ) " الحاقة اسم من أسماء القيامة في قول جميع المفسرين ، و سميت بذلك ، لأنها ذات الحواق من الأمور ، و هي الصادقة الواجبة الصدق ، لأن جميع أحكام القيامة واجبة الوقوع ، صادقة الوجود . و قيل سميت القيامة الحاقة لأنها تحق الكفار من قولهم : " حاققته فحققته ، مثل : خاصمته فخصمته " [21] .
و قيل : لأنها تحق كل إنسان بعمله . و يقال : حقّت القيامة : أحاطت بالخلائق فهي حاقة [22] . فإذا رصدت الصاخة ، رأيتها القيامة أيضاً ، و به فسّر أبو عبيدة ( ت : 210 هـ ) قوله تعالى : ﴿ فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ ﴾ [23] . فأما أن تكون الصاخة اسم فاعل من صخَّ يصخُّ ، و إما أن تكون مصدراً و قال أبو اسحق الزجاج : الصاخة هي الصيحة تكون فيها القيامة تصخ الأسماع ، أي : تصمها فلا تسمع .
و قال ابن سيده : الصاخة : صيحة تصخ الأذن أي تطعنها فتصمها لشدتها ، و منه سميت القيامة .
و يقال : كأن في أذنه صاخة ، أي طعنة [24] .
و قال الطريحي ( ت : 1085 هـ ) الصاخة بتشديد الخاء يعني القيامة ، فإنها تصخ الأسماع ، أي تقرعها و تصمها ، يقال : رجل أصخ ، إذا كان لا يسمع [25] . و المعاني كلها متقاربة في الدلالة ، إلا أن الراغب ( ت : 502 هـ ) يعطي الصاخة دلالة أعمق في الإرادة الصوتية المنفردة فيقول : الصاخة شدة صوت ذي المنطق [26] .
فيكون استعمالها حينئذ في القيامة على سبيل المجاز . فإذا وقفنا عند الطامة ، فهي القيامة تطم على كل شيء [27] . و إليه ذهب الزجاج : الطامة هي الصيحة التي تطم على كل شيء [28] . و تسمى الداهية التي لا يستطاع دفعها : طامة [29] . قال تعالى : ﴿ فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ﴾ [30] .قال الطبرسي ( ت : 548 هـ ) " و هي القيامة لأنها تطم كل داهية هائلة ، أي تعلو و تغلب ، و من ذلك قيل : ما من طامة إلا وفوقها طامة ، و القيامة فوق كل طامة ، فهي الداهية العظمى " [31] .
و لعل اختيار الطبرسي للداهية في تفسير الطامة باعتبارها داهية لا يستطاع دفعها ، و لأن القيامة تطم كل داهية هائلة ، لا يخلو من وجه عربي أصيل ، فالعرب استعملت الطامة في الداهية العظيمة تغلب ما سواها ، و أية داهية أعظم من القيامة لاسيما و هي توصف هنا بالكبرى .
إن موافقة أصوات الحاقة و الصاخة و الطامة لمعانيها في الدلالة على يوم القيامة ، من أعظم الدلالات الصوتية في الشدة و الوقع و التلاؤم البنيوي و المعنوي لمثل هذه الصيغة الحافلة .
و دلالة هذه الصيغة في : دابة ، و كافة ، على الشمول و الكلية المطلقة يوحي بالمضمون نفسه في الإيقاع الصوتي ، قال تعالى : ﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [32] ، فشمل الخلائق كلها ، و أصناف الأجناس المرئية و غير المرئية مما يدب أدركناه أو لم ندركه ، علمنا طبيعة رزقه أو لم نعلم ، و قوله تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ... ﴾ [33] . يدل أن هذا الرسول العربي الأمين ، لم يختص بزمنية ، و لم يبعث لطبقة خاصة ، فتخطى برسالته حدود الزمان و المكان ، فكانت عالمية السيرورة ، إنسانية الأحياء ، البشارة في يد ، و النذارة في يد ، لينقذ العالم أجمع من خلال هاتين.
الصيغة الصوتية الواحدة :
و ظاهرة أخرى جديرة بالعناية و التلبث ، هي تسمية الكائن الواحد ، و الأمر المرتقب المنظور ، بأسماء متعددة ذات صيغة واحدة ، بنسق صوتي متجانس ، للدلالة بمجموعة مقاطعة على مضمونه ، و بصوتيته على كنه معناه ، و من ذلك تسمية القيامة في القرآن بأسماء متقاربة الصدى ، في إطار الفاعل المتمكن ، و القائم الذي لا يجحد .
هذه الصيغة الفريدة تهزك من الأعماق ، و يبعثك صوتها من الجذور ، لتطمئن يقيناً إلى يوم لا مناص عنه ، و لا خلاص منه ، فهو واقع يقرعك بقوارعه ، و حادث يثيرك برواجفه . . الصدى الصوتي ، و الوزن المتراص ، و السكت على هائه أو تائه القصيرة تعبير عما ورائه من شؤون و عوالم و عظات و عبر و متغيرات في :
الواقعة | القارعة | الآزفة | الراجفة | الرادفة | الغاشية ، و كل معطيك المعنى المناسب للصوت ، و الدلالة المنتزعة من اللفظ ، و تصل مع الجميع إلى حقيقة نازلة واحدة .
1 ـ الواقعة ، قال تعالى : ﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾ [34] .
و قال تعالى : ﴿ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴾ [35] .
قال الخليل : وقع الشيء يقع وقوعاً ، أي : هوياً .
و الواقعة النازلة الشديدة من صروف الدهر [36] .
و قال الراغب ( ت : 502 هـ ) الوقوع ثبوت الشيء و سقوطه ، و الواقعة لا تقال إلا في الشدة و المكروه ، و أكثر ما جاء في القرآن من لفظ وقع : جاء في العذاب و الشدائد [37] .
و قال الطبرسي ( ت : 548 هـ ) في تفسيره للواقعة : " و الواقعة اسم القيامة كالآزفة و غيرها ، و المعنى إذا حدثت الحادثة ، و هي الصّيحة عند النفخة الأخيرة لقيام الساعة . و قيل سميت بها لكثرة ما يقع فيها من الشدة ، أو لشدة وقعها " [38] . و قال ابن منظور ( ت : 711 هـ ) الواقعة : الداهية ، و الواقعة النازلة من صروف الدهر ، و الواقعة اسم من أسماء يوم القيامة [39] .
و باستقراء هذه الأقوال ، و مقارنة بعضها ببعض ، تتجلى الدلالة الصوتية ، فالوقوع هو الهوي ، و سقوط الشيء من الأعلى ، و الواقعة هي النازلة الشديد ، و الواقعة هي الداهية ، و هي الحادثة ، و هي الصيحة ، و هي اسم من أسماء يوم القيامة ، و أكثر ما جاء في القرآن من هذه الصيغة جاء في الشدة و العذاب ، و صوت اللفظ يوحي بهذا المعنى ، و أطلاقه بزنة الفاعل ، و إسناده بصيغة الماضي ، يدلان على وقوعه في شدته و هدته ، و صيحته و داهيته .
2 ـ القارعة ، قال تعالى : ﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ [40] .
و قال تعالى : ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ﴾ [41] .
قال الخليل ( ت : 175 هـ ) : و القارعة : القيامة . و القارعة : الشدة .
و فلان أمن قوارع الدهر : أي شدائده . و قوارع القرآن : نحو آية الكرسي ، يقال : من قرأها لم تصبيه قارعة .
وكل شيء ضربته فقد قرعته . قال أبو ذؤيب الهذلي [42] .
حتى كأني للحوادث مروة *** بصفا المشرق كل يوم تقرع
قال الطبرسي : و سميت القارعة ، لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة إلى أن يصير المؤمنون إلى الأمن [43] . و القارعة اسم من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بالفزع ، و تقرع أعداء الله بالعذاب [44] .
و أنما حسن أن توضع القارعة موضع الكناية لتذكر بهذه الصفة الهائلة بعد ذكرها بأنها الحاقة [45] .
و بمقارنة هذه المعاني ، نجدها متقاربة الدلالة ، فالقارعة الشدة ، و قوارع الدهر شدائده ، و كل شيء ضربته فقد قرعته ، و القارعة تقرع القلوب بالفزع ، و قلوب العباد بالمخافة ، و أعداء الله بالعذاب ، و هي في موضع كناية للتعبير عن القيامة ، من أجل التذكير بصفة القرع ، و كلها مفردات إيحائية تؤذن بالقرع في الأذن ، و تفزع القلوب بالشدة ، تتوالى خلالها المترادفات و المشتركات ، لتنتقل بك إلى عالم الواقعة ، و هي مجاورة لها في الشدة و الهول و الصدى و الإيقاع .
3 ـ الآزفة ، قال تعالى : ﴿ أَزِفَتْ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ﴾ [46] .
و قال تعالى : ﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾ [47] .
قال الراغب : معناه : أي دنت القيامة ... فعبر عنها بلفظ الماضي لقربها و ضيق وقتها [48] .
و قال الطبرسي : ﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ ... ﴾ [49] . أي الدانية . و هو يوم القيامة ، لأن كل ما هو آت دان قريب [50] .
قال الزمخشري : و الآزفة ، القيامة لأزوفها [51] .
و في اللغة : الآزفة القيامة ، و إن استبعد الناس مداها [52] .
و الآزفة : الدانية من قولهم أزف الأمر إذا دنا وقته [53] .
و رقة الآزفة في لفظها بانطلاق الألف الممدودة من الصدر ، و صفير الزاي من الأسنان ، و انحدار الفاء من أسفل الشفة ، و السكت على الهاء منبعثة من الأعماق ، كالرقة في معناها في الدنو و الاقتراب و حلول الوقت ، و مع هذه الرقة في الصوت و المعنى ، إلا أن المراد من هذا الصفير أزيزه ، و من هذا التأفف هديره و رجيفه ، فادناء يوم القيامة غير إدناء الحبيب ، و اقتراب الساعة غير اقتراب المواعيد ، أنه دنو اليوم الموعود ، و الحالات الحرجة ، و الهدير النازل ، إنه يوم القيامة في شدائده ، فكانت الآزفة كالواقعة و القارعة .
4 ـ الراجفة و الرادفة ، قال تعالى : ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾ [54] و تبدأ القيامة بالراجفة ، و هي النفخة الأولى ( تتبعها الرادفة ) و هي النفحة الثانية [55] .
و هو المروي عن ابن عباس و مجاهد و الحسن و قتادة و الضحاك [56] .قال الزمخشري ( ت : 538 هـ ) " الراجفة : الواقعة التي ترجف عندها الأرض و الجبال و هي النفحة الأولى ، وصفت بما يحدث بحدوثها ( تتبعها الرادفة ) أي الواقعة التي تردف الأولى ، و هي النفحة الثانية ، أي القيامة التي يستعجلها الكفرة ، إستبعاداً لها و هي رادفة لهم لاقترابها . و قيل الراجفة : الأرض و الجبال من قوله : ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ ... ﴾ [57] و الرادفة : السماء و الكواكب لأنها تنشق و تنتثر كواكبها إثر ذلك " [58] . و قال الطبرسي ( ت : 548 هـ ) الراجفة : يعني النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق ، و الراجفة صيحة عظيمة فيها تردد و اضطراب كالرعد إذا تمخض ( تتبعها الرادفة ) يعني النفخة الثانية تعقب النفخة الأولى ، و هي التي يبعث معها الخلق [59] .
و بمتابعة هذه المعاني : النفخة الأولى ، النفخة الثانية ، الصيحة ، التردد ، الاضطراب ، الواقعة التي ترجف عندها الأرض و الجبال ، الواقعة التي تردف الراجفة ، انشقاق السماء ، انتثار الكواكب ، الرعد إذا تمخض ، بعث الخلائق و انتشارهم . . إلخ .
بمتابعة أولئك جميعاً يتجلى العمق الصوتي في المراد كتجليه في الألفاظ دلالة على الرجيف و الوجيف ، و التزلزل و الاضطراب ، و تغيير الكون ، و تبدل العوالم ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [60] .
فتعاقبت معالم الراجفة و الرادفة مع معالم الواقعة و القارعة و الآزفة ، و تناسبت دلالة الأصوات مع دلالة المعاني في الصدى و الأوزان .
5 ـ الغاشية ، قال تعالى : ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ﴾ [61] . و هو خطاب للنبي صلى الله عليه و آله و سلم يريد قد أتاك حديث يوم القيامة بغتة عن ابن عباس و الحسن و قتادة [62] .
قال الراغب ( ت : 502 هـ ) الغاشية كناية عن القيامة و جمعها غواش [63] .
و قال الزمخشري ( ت : 538 هـ ) : الغاشية الداهية التي تغشى الناس بشدائدها و تلبسهم أهوالها ، يعني القيامة [64] .
و قال ابن منظور ( ت : 711 هـ ) الغاشية القيامة ، لأنها تغشى الخلق بأفزاعها ، و قيل الغاشية : النار لأنها تغشى وجوه الكفار . و قيل للقيامة غاشية : لأنها تجلل الخلق فتعمهم [65] .
و بمقارنة هذه الأقوال ، و ضم بعضها إلى بعض ، يبدو أن الغاشية كني بها عن القيامة لأنها تغشى الناس بأهوالها ، و تعم الخلق بأفزاعها ، فهي تجللهم الإحاطة من كل جانب ، و قد تكون هي النار التي تغشى وجوه الكفار ، و هي الداهية التي تغشى الناس بشدائدها ، و تلبسهم أهوالها . . إلخ .
إذن ، ما أقرب هذا المناخ المفزع ، و الأفق الرهيب لمناخ الواقعة و القارعة و الآزفة و الراجفة و الرادفة ، إنه منطلق واحد ، في صيغة واحدة ، صدى هائل تجتمع فيه أهوالها ، و صوت حافل تتساقط حوله مصاعبها ، تتفرق فيه الألفاظ لتدل في كل الأحوال على هذه الحقيقة القادمة ، حقيقة يوم القيامة برحلتها الطولية ، في الشدائد ، و النوازل ، و القوارع ، و الوقائع ، لتصور لنا عن كثب هيجانها و غليانها ، و شمولها و إحاطتها :
﴿ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ﴾ [66] .
دلالة الصدى الحالم :
تنطلق في القرآن أصداء حالمة ، في ألفاظ ملؤها الحنان ، تؤدي معناها من خلال أصواتها ، و توحي بمؤداها مجردة عن التصنيع و البديع ، فهي ناطقة بمضمونها هادرة بإرادتها ، دون إضافة و إضاءة ، و ما أكثر هذا المنحنى في القرآن ، و ما أروع تواليه في آياته الكريمة ، و لنأخذ عينة على هذا فنقف عند الرحمة من مادة " رحم " في القرآن الكريم بجزء من إرادتها ، و لمح من هديها .
قال تعالى : ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ... ﴾ [67] .
و قال تعالى : ﴿ ... لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [68] .
و قال تعالى : ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ ... ﴾ [69] .
و قال تعالى : ﴿ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ﴾ [70] .
و قال تعالى : ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ ... ﴾ [71] .
و قال تعالى : ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [72] .
فأنت تنادي من صدى " الرحمة " بأزيز حالم ، و تحتفل من صوتها بنداء يأخذ طريقه إلى العمق النفسي ، يهز المشاعر ، و يستدعي العواطف ، ناضحاً بالرضا و الغبطة و البهجة ، رافلاً بالخير و الإحسان و الحنان ، فماذا يرجو أهل الإيمان أكثر من اقتران صلوات ربهم برحمته بهم و عليهم ، و لمغفرة من الله تعالى و رحمة خير مما تجمع خزائن الأرض و كنوزها ، و هذا محمد صلى الله عليه و آله و سلم ذو الخلق العظيم ، و المخائل الفذة ، لولا رحمة ربه لما لان لهؤلاء القوم الأشداء في غطرستهم و غلظتهم ، و هذا زكريا تتداركه رحمة من الله و بركات في أوج احتياجه و فزعه إلى الله عزَّ و جلَّ : ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا ﴾ [73] .
فيهب له يحيى ﴿ ... وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء ... ﴾ [74] .
و وقفة مستوحية عند الأبوين الكريمين ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [75] . فستلمس صيغة الرحمة قد تجلت بأرق مظاهرها الصادقة و أرقاها ، توجيه رحيم ، و استعارة هادفة ، و عاطفة مهذبة ، فقد اقترنت الرحمة بالاسترحام ، و خفض الجناح بتواضع بل بذل إشفاقاً و حنواً و حدباً ، فكما يخفض الطائر الوجل أو المطمئن السارب جناحيه حذراً أو عطفاً أو احتضاناً لصغاره حباً بهم ، أو صيانة لهم من كل الطوارئ ، أو هما معاً ، فكذلك رحمة الولد البار بوالديه شفقة و رعاية ، مواساة و معاناة ، في حالتي الصحة و السقم ، الرضا و الغضب ، و الدعة والاحتياج ، يضاف إلى ذلك الدعاء من الأعماق " وقل رب ارحمها " مجازاة على تربيته صغيراً ، و الرحمة ، و ارحمها ، لفظان متلازمان في بحة الحاء المنطلقة من الصدر فهي صوتياً مثلها دلالياً من القلب و إلى القلب ، و من الشغاف إلى الشغاف ، و هنا يظهر أن الرحمة ظاهرة واقعية تنبعث من داخل النفس الإنسانية ، فيتفجر بها الضمير الحي النابض بالطهارة و النقاء و الحب السرمدي ، فهي إذن لا تفرض من الخارج بالقوة و القهر و الإستطالة ، و إنما سبيلها سبيل الماء المتدفق من الأعالي لأنها صفة ملائكية ، تمزج الإنسانية بالصفاء الروحي .
" و الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم ، و قد تستعمل تارة في الرقة المجردة ، و تارة في الإحسان المجرد عن الرقة نحو : رحم الله فلاناً . و إذا وصف به الباري فليس يراد به إلا الإحسان المجرد دون الرقة ، و على هذا روي أن الرحمة من الله إنعام و إفضال ، و من الآدميين رقة و تعطف " [76] .
فالله تعالى تفرد بالإحسان في رحمته إلى رعيته ، فجاء له الحمد مساوقاً لهذه الرحمة ﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [77] . و نشر الرقة بين البشر في الطباع ﴿ ... لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء ... ﴾ [78] .
و لو تابعنا أصل المادة لغوياً لوجدنا ملائمتها للمعنى صوتياً في الرقة و اللحمة و التناسب ، فالرحم رحم المرأة ، قل تعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء ... ﴾ [79] . و منه استعير الرحم للقرابة لكونهم من رحم واحدة نسبياً ، لذلك قال تعالى : ﴿ ... وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ... ﴾ [80] . و لولا قرابتهم لما كانت الولاية بينهم .
فكان الالتصاق في الرحم قد نشر الالتصاق بالولاية من جهة ، و جدد الرحمة بالرقة و المودة و العطف الكريم .
دلالة النغم الصارم :
أصوات الصفير في وضوحها ، و أصداؤها في أزيزها ، جعل لها وقعاً متميزاً ما بين الأصوات الصوامت ، و كان ذلك ـ فيما يبدو لي ـ نتيجة التصاقها في مخرج الصوت ، و اصطكاكها في جهاز السمع ، و وقعها الحاصل ما بين هذا الالتصاق و ذلك الاصطكاك ، هذه الأصوات ذات الجرس الصارخ هي : الزاي ، السين ، الصاد ، يلحظ لدى استعراضها أنها تؤدي مهمة الإعلان الصريح عن المراد في تأكيد الحقيقة ، و هي بذلك تعبر عن الشدة حيناً ، و عن العناية بالأمر حيناً آخر ، مما يشكل نغماً صارماً في الصوت ، و أزيزاً مشدداً لدى السمع ، يخلصان إلى دلالة اللفظ في إرادته الإستعمالية ، و مؤداه عند إطلاقه في مظان المعنى .
الدلالة الصوتية في القرآن
هذا المقال الشيق هو الفصل السادس من كتاب : " الصوت اللُّغوي في القرآن " للدكتور محمد حسين علي الصغير أستاذ الدراسات القرآنية في جامعة الكوفة .
مظاهر الدلالة الصوتية :
انصبت عناية القرآن العظيم بالاهتمام في إذكاء حرارة الكلمة عند العرب ، و توهج العبارة في منظار حياتهم ، و حدب البيان القرآني على تحقيق موسيقى اللفظ في جمله ، و تناغم الحروف في تركيبه ، و تعادل الوحدات الصوتية في مقاطعه ، فكانت مخارج الكلمات متوازنة النبرات ، و تراكيب البيان متلائمة الأصوات ، فاختار لكل حالة مرادة ألفاظها الخاصة التي لا يمكن أن تستبدل بغيرها ، فجاء كل لفظ متناسباً مع صورته الذهنية من وجه ، و مع دلالته السمعية من وجه آخر ، فالذي يستلذه السمع ، و تسيغه النفس ، و تقبل عليه العاطفة هو المتحقّق في العذوبة و الرقة ، و الذي يشرأب له العنق ، و تتوجس منه النفس هو المتحقق في الزجر و الشدة ، و هنا ينبه القرآن المشاعر الداخلية عند الإنسان في إثارة الانفعال المترتب على مناخ الألفاظ المختارة في مواقعها فيما تشيعه من تأثير نفسي معين سلباً و إيجاباً .
و بيان القرآن المجيد تلمح فيه الفروق بين مجموعة هذه الأصوات في إيقاعها ، و التي كونت كلمة معين في النص ، و بين تلك الأصوات التي كونت كلمة أخرى ، و تتعرف فيه على ما يوحيه كل لفظ من صورة سمعية صارخة تختلف عن سواها قوة أو ضعفاً ، رقةً أو خشونة ، حتى تدرك بين هذا و ذاك المعنى المحدد المراد به إثارة الفطرة ، أو إذكاء الحفيظة ، أو مواكبة الطبيعة بدقة متناهية ، و يستعان على هذا الفهم لا بموسيقى اللفظ منفرداً ، أو بتناغم الكلمة وحدها ، بل بدلالة الجملة أو العبارة منضمّة إليه .
إن إيقاع اللفظ المفرد ، و تناغم الكلمة الواحدة ، عبارة عن جرس موسيقى للصوت فيما يجلبه من وقع في الأذن ، أو أثر عند المتلقي ، يساعد على تنبيه الأحاسيس في النفس الإنسانية ، لهذا كان ما أورد القرآن الكريم في هذا السياق متجاوباً مع معطيات الدلالة الصوتية : " التي تستمد من طبيعة الأصوات نغمتها وجرسها " [1] . فتوحي بأثر موسيقي خاص ، يستنبط من ضم الحروف بعضها لبعض ، و يستقرأ من خلال تشابك النص الأدبي في عبارته ، فيعطي مدلولاً متميزاً في مجالات عدة : الألم ، البهجة ، اليأس ، الرجاء ، الرغبة ، الرهبة ، الوعد ، الوعيد ، الإنذار ، التوقع ، الترصد ، التلبث . . . إلخ .
و لا شك أن استقلالية أية كلمة بحروف معينة ، يكسبها صوتياً ذائقة سمعية منفردة ، تختلف ـ دون شك ـ عما سواها من الكلمات التي تؤدي المعنى نفسه ، مما يجعل كلمة ما دون كلمة ـ و إن اتحدا بالمعنى ، لها استقلاليتها الصوتية ، إما في الصدى المؤثر ، و إما في البعد الصوتي الخاص ، و إما بتكثيف المعنى بزيادة المبنى ، و إما بإقبال العاطفة ، و إما بزيادة التوقع ، فهي حيناً تصك السمع ، و حيناً تهيئ النفس ، و حيناً تضفي صيغة التأثر : فزعاً من شيء ، أو توجهاً لشيء ، أو طمعاً في شيء ، و هكذا .
هذا المناخ الحافل تضفيه الدلالة الصوتية للألفاظ ، و هي تشكل في القرآن الوقع الخاص المتجلي بكلمات مختارة ، تكونت من حروف مختارة ، فشكلت أصواتاً مختارة ، هذه السمات في القرآن بارزة الصيغ في مئات التراكيب الصوتية في مظاهر شتى ، و مجالات عديدة ، تستوعبها جمهرة هائلة من ألفاظه في ظلال مكثفة في الجرس و النغم و الصدى و الإيقاع .
قال الخطابي ( ت : 383 ـ 388 هـ ) إن الكلام إنما يقوم بأشياء ثلاثة : " لفظ حاصل ، و معنى به قائم ، و رباط لهما ناظم ، و إذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف و الفضيلة ، حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ، و لا أجزل ، و لا أعذب من ألفاظه " [2] .
و هذا مما ينطبق على استيحاء الدلالة الصوتية في القرآن بجميع الأبعاد ، يضاف إليه الوقع السمعي للفظ ، و التأثير النفسي للكلمة ، و المدلول الانفعالي بالحدث ، و تلك مظاهر متأنقة قد يتعذر حصرها ، و قد يطول الوقوف عند استقصائها .
و كان من فضيلة القرآن الصوتية أن استوعب جميع مظاهر الدلالة في مجالاتها الواسعة ، و تمرس في استيفاء وجوه التعبير عنها بمختلف الصور الناطقة ، و قد يكون من غير الممكن استحضار جميع الصيغ في استعمالات منها ، أو ما يبدو أنه مهم في الأقل ، و ذلك باستطراد بعض النماذج النابضة فيما أخال و أزعم ، و قد يعبر كل نموذج منها عن مظهر فني ، ليقاس مثله عليه ، و شبيهه به ، و بذلك يتأتى للباحث و المتلقي إلقاء الضوء الكاشف على أبعاد دلالة القرآن الصوتية ، في تشعب جوانبها ، و عظمة انطلاقها ، مما يكوّن معجماً لغوياً خاصاً بمفرداتها ، و قاموساُ صوتياً حافلاً بإمكاناتها .
سيقتصر حديثنا عن مظاهر الدلالة في مجالات قد تكون متقابلة ، أو متناظرة ، أو متضادة ، أو متوافقة ، و هي بمجموعها تكون أبعاد الدلالة الصوتية في القرآن ، و هذا ما تتكفّل بإيضاحه المباحث الآتية .
دلالة الفزع الهائل :
استعمل القرآن طائفة من الألفاظ ، ثم اختار أصواتها بما يتناسب مع أصدائها ، و استوحى دلالتها من جنس صياغتها ، فكانت دالة على ذاتها بذاتها ، فالفزع مثلاً ، و الشدة ، و الهدة ، و الاشتباك ، و الخصام ، و العنف ، دلائل هادرة بالفزع الهائل و المناخ القاتل .
1 ـ قف عند مادة " صرخ " في القرآن ، و صرخة : الصّيحة الشديدة عند الفزع ، و الصراخ : الصوت الشديد [3] . لتلمس عن كثب ، و بعفوية بالغة : الاستغاثة بلا مغيث ، في قوله تعالى : ﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا ... ﴾ [4] . مما يوحي بأن الصراخ قد بلغ ذروته ، و الاضطراب قد تجاوز مداه ، و الصوت العالي الفظيع يصطدم بعضه ببعض ، فلا أذن صاغية ، و لا نجدة متوقعة ، فقد وصل اليأس أقصاه ، و القنوط منتهاه ، فالصراخ في شدة إطباقه ، و تراصف إيقاعه ، من توالي الصاد و الطاء ، و تقاطر الراء و الخاء ، و الترنم بالواو و النون يمثل لك رنة هذا الإصطراخ المدوي " و الإصطراخ : الصياح و النداء و الاستغاثة ، افتعال من الصراخ قلبت التاء طاءً لأجل الصاد الساكنة قبلها ، و إنما نفعل ذلك لتعديل الحروف بحرف وسط بين حرفين يوافق الصاد في الاستعلاء و الإطباق ، و يوافق التاء في المخرج " [5] .
و الإصراخ هو الإغاثة ، و تلبية الصارخ ، و قوله تعالى : ﴿ ... مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ... ﴾ [6] .تعني البراءة المتناهية ، و الإحباط التام ، و الصوت المجلجل في الدفع ، فلا يغني بعضهم عن بعض شيئاً ، و لا ينجي أحدهما الآخر من عذاب الله ، و لا يغيثه مما نزل به ، فلا إنقاذ و لا خلاص و لا صريخ من هذه الهوة ، و تلك النازلة ، فلا الشيطان بمغيثهم ، و لا هم بمغيثيه .
و الصريخ في اللغة يعني المغيث و المستغيث ، فهو من الأضداد ، و في المثل : عبدٌ صَريخُه أمة ، أي ناصره أذل منه [7] . و قد قال تعالى : ﴿ ... فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ ﴾ [8] . فيا له من موقف خاسر ، و جهد بائر ، فلا سماع حتى لصوت الاستغاثة ، و لا إجارة مما وقعوا فيه .
و الاستصراخ الإغاثة ، و استصرخ الإنسان إذا أتاه الصارخ ، و هو الصوت يعلمه بأمر حادث ليستعين به [9] .
قال تعالى : ﴿ ... فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ... ﴾ [10] . طلب للنجدة في فزع ، و محاولة للإنقاذ في رهب ، و الاستعانة على العدو بما يردعه عن الإيقاع به ، و ما ذلك إلا نتيجة خوف نازل ، و فزع متواصل ، و تشبث بالخلاص.
2 ـ و ما يستوحى من شدة اللفظ في مادة " صرخ " يستوحى بإيقاع مقارب من قوله تعالى : ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ ... ﴾ [11] . لتبرز " متشاكسون " و هي تعبر لغة عن المخاصمة و العناد و الجدل في أخذ و رَدٍّ لا يستقران ، و قد تعطي معناها الكلمة : متخاصمون ، و لكن المثل القرآني لم يستعملها حفاظاً على الدلالة الصوتية التي أعطت معنى النزاع المستمر ، و الجدل القائم ، و قد جمعت في هذه الكلمة حروف التفشي و الصفير في الشين و السين تعاقباً ، تتخللهما الكاف من وسط الحلق ، و الواو و النون للمد و الترنم ، و التأثر بالحالة ، فأعطت هذه الحروف مجتمعة نغماً موسيقياً خاصاً حمّلها أكثر من معنى الخصومة و الجدل و النقاش بما أكسبها أزيزاً في الأذن ، يبلغ به السامع أن الخصام ذو خصوصية بلغت درجة الفورة ، و العنف و الفزع من جهة ، كما أحيط السمع بجرس مهموس معين ذي نبرات تؤثر في الحس و الوجدان من جهة أخرى .
3 ـ و تأمل مادة " كبّ " في القرآن ، و هي تعني إسقاط الشيء على وجهه كما في قوله تعالى : ﴿ ... فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ... ﴾ [12] . فلا إنقاذ و لا خلاص و لا إخراج ، و الوجه أشرف مواضع الجسد ، و هو يهوي بشدة فكيف بباقي البدن .
و الإكباب جعل وجهه مكبوباً على العمل ، قال تعالى : ﴿ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ ... ﴾ [13] .
و الكبكبة تدهور الشيء في هوة [14] . قال تعالى : ﴿ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ﴾ [15] .
و هذه الصيغة قد حملت اللفظ في تكرار صوتها ، زيادة معنى التدهور لما أفاده الزمخشري ( ت : 538 هـ ) بقوله : " إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى " [16] .
و قال العلامة الطيبي ( ت : 743 هـ ) : " كرر الكب دلالة على الشدة " [17] .
و من هنا نفيد أن دلالة الفزع فيما تقدم من ألفاظ أريدت بحد ذاتها لتهويل الأمر ، و تفخيم الدلالة ، و هذا أمر مطرد في القرآن ، و قد يمثله قوله تعالى : ﴿ ... فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ﴾ [18] . و المادة نفسها قد توحي بشدة الإتيان والتوقع عند النوائب .
الإغراق في مدّ الصوت و استطالته :
هنالك مقاطع صوتية مغرقة في الطول و المد و التشديد و بالرغم من ندرة صيغة هذه المركبات الصوتية في اللغة العربية حتى أنها لتعدّ بالأصابع ، فإننا نجد القرآن الكريم يستعل أفخمها لفظاً ، و أعظمها وقعاً ، فتستوحي من دلالتها الصوتية مدى شدّتها ، لتستنتج من ذلك أهميتها و أحقيتها بالتلبث و الرصد و التفكير .
من تلك الألفاظ : الحاقّة ، الطّامة ، الصّاخة . و قد تأتي مجّردة عن التعريف فتهتدي إلى عموميتها ، مثل : دابّة . كافة .
هذه الصيغة صوتياً تمتاز بتوجه الفكر نحوها في تساؤل ، و اصطكاك السمع بصداها المدوي ، و أخيراً بتفاعل الوجدان معها مترقباً : الأحداث ، المفاجئات ، النتائج المجهولة .
الحاقة الطامة و الصاخة : كلمات تستدعي نسبة عالية من الضغط الصوتي ، و الأداء الجهوري لسماع رنتها ، مما يتوافق نسبياً مع إرادتها في جلجلة الصوت ، و شدة الإيقاع ، كل ذلك مما يوضع مجموعة العلاقات القائمة بين اللفظ و دلالته في مثل هذه العائلة الصوتية الواحدة ، فإذا أضفنا إلى ذلك معناها المحدد في كتاب الله تعالى ، و هو يوم القيامة ، خرجنا بحصيلة علمية تنتهي بمطابقة الشدة الصوتية للشدة الدلالية بين الصوت و المعنى الحقيقي ، فقوله تعالى : ﴿ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ﴾ [19] . إشارة إلى يوم القيامة ، و علم عليها فيما أفاد العلماء ، قال الفرّاء ( ت : 207 هـ ) : " الحاقة : القيامة ، سميت بذلك لأن فيها الثواب و الجزاء " [20] .
و قال الطبرسي ( ت : 548 هـ ) " الحاقة اسم من أسماء القيامة في قول جميع المفسرين ، و سميت بذلك ، لأنها ذات الحواق من الأمور ، و هي الصادقة الواجبة الصدق ، لأن جميع أحكام القيامة واجبة الوقوع ، صادقة الوجود . و قيل سميت القيامة الحاقة لأنها تحق الكفار من قولهم : " حاققته فحققته ، مثل : خاصمته فخصمته " [21] .
و قيل : لأنها تحق كل إنسان بعمله . و يقال : حقّت القيامة : أحاطت بالخلائق فهي حاقة [22] . فإذا رصدت الصاخة ، رأيتها القيامة أيضاً ، و به فسّر أبو عبيدة ( ت : 210 هـ ) قوله تعالى : ﴿ فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ ﴾ [23] . فأما أن تكون الصاخة اسم فاعل من صخَّ يصخُّ ، و إما أن تكون مصدراً و قال أبو اسحق الزجاج : الصاخة هي الصيحة تكون فيها القيامة تصخ الأسماع ، أي : تصمها فلا تسمع .
و قال ابن سيده : الصاخة : صيحة تصخ الأذن أي تطعنها فتصمها لشدتها ، و منه سميت القيامة .
و يقال : كأن في أذنه صاخة ، أي طعنة [24] .
و قال الطريحي ( ت : 1085 هـ ) الصاخة بتشديد الخاء يعني القيامة ، فإنها تصخ الأسماع ، أي تقرعها و تصمها ، يقال : رجل أصخ ، إذا كان لا يسمع [25] . و المعاني كلها متقاربة في الدلالة ، إلا أن الراغب ( ت : 502 هـ ) يعطي الصاخة دلالة أعمق في الإرادة الصوتية المنفردة فيقول : الصاخة شدة صوت ذي المنطق [26] .
فيكون استعمالها حينئذ في القيامة على سبيل المجاز . فإذا وقفنا عند الطامة ، فهي القيامة تطم على كل شيء [27] . و إليه ذهب الزجاج : الطامة هي الصيحة التي تطم على كل شيء [28] . و تسمى الداهية التي لا يستطاع دفعها : طامة [29] . قال تعالى : ﴿ فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ﴾ [30] .قال الطبرسي ( ت : 548 هـ ) " و هي القيامة لأنها تطم كل داهية هائلة ، أي تعلو و تغلب ، و من ذلك قيل : ما من طامة إلا وفوقها طامة ، و القيامة فوق كل طامة ، فهي الداهية العظمى " [31] .
و لعل اختيار الطبرسي للداهية في تفسير الطامة باعتبارها داهية لا يستطاع دفعها ، و لأن القيامة تطم كل داهية هائلة ، لا يخلو من وجه عربي أصيل ، فالعرب استعملت الطامة في الداهية العظيمة تغلب ما سواها ، و أية داهية أعظم من القيامة لاسيما و هي توصف هنا بالكبرى .
إن موافقة أصوات الحاقة و الصاخة و الطامة لمعانيها في الدلالة على يوم القيامة ، من أعظم الدلالات الصوتية في الشدة و الوقع و التلاؤم البنيوي و المعنوي لمثل هذه الصيغة الحافلة .
و دلالة هذه الصيغة في : دابة ، و كافة ، على الشمول و الكلية المطلقة يوحي بالمضمون نفسه في الإيقاع الصوتي ، قال تعالى : ﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [32] ، فشمل الخلائق كلها ، و أصناف الأجناس المرئية و غير المرئية مما يدب أدركناه أو لم ندركه ، علمنا طبيعة رزقه أو لم نعلم ، و قوله تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ... ﴾ [33] . يدل أن هذا الرسول العربي الأمين ، لم يختص بزمنية ، و لم يبعث لطبقة خاصة ، فتخطى برسالته حدود الزمان و المكان ، فكانت عالمية السيرورة ، إنسانية الأحياء ، البشارة في يد ، و النذارة في يد ، لينقذ العالم أجمع من خلال هاتين.
الصيغة الصوتية الواحدة :
و ظاهرة أخرى جديرة بالعناية و التلبث ، هي تسمية الكائن الواحد ، و الأمر المرتقب المنظور ، بأسماء متعددة ذات صيغة واحدة ، بنسق صوتي متجانس ، للدلالة بمجموعة مقاطعة على مضمونه ، و بصوتيته على كنه معناه ، و من ذلك تسمية القيامة في القرآن بأسماء متقاربة الصدى ، في إطار الفاعل المتمكن ، و القائم الذي لا يجحد .
هذه الصيغة الفريدة تهزك من الأعماق ، و يبعثك صوتها من الجذور ، لتطمئن يقيناً إلى يوم لا مناص عنه ، و لا خلاص منه ، فهو واقع يقرعك بقوارعه ، و حادث يثيرك برواجفه . . الصدى الصوتي ، و الوزن المتراص ، و السكت على هائه أو تائه القصيرة تعبير عما ورائه من شؤون و عوالم و عظات و عبر و متغيرات في :
الواقعة | القارعة | الآزفة | الراجفة | الرادفة | الغاشية ، و كل معطيك المعنى المناسب للصوت ، و الدلالة المنتزعة من اللفظ ، و تصل مع الجميع إلى حقيقة نازلة واحدة .
1 ـ الواقعة ، قال تعالى : ﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾ [34] .
و قال تعالى : ﴿ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴾ [35] .
قال الخليل : وقع الشيء يقع وقوعاً ، أي : هوياً .
و الواقعة النازلة الشديدة من صروف الدهر [36] .
و قال الراغب ( ت : 502 هـ ) الوقوع ثبوت الشيء و سقوطه ، و الواقعة لا تقال إلا في الشدة و المكروه ، و أكثر ما جاء في القرآن من لفظ وقع : جاء في العذاب و الشدائد [37] .
و قال الطبرسي ( ت : 548 هـ ) في تفسيره للواقعة : " و الواقعة اسم القيامة كالآزفة و غيرها ، و المعنى إذا حدثت الحادثة ، و هي الصّيحة عند النفخة الأخيرة لقيام الساعة . و قيل سميت بها لكثرة ما يقع فيها من الشدة ، أو لشدة وقعها " [38] . و قال ابن منظور ( ت : 711 هـ ) الواقعة : الداهية ، و الواقعة النازلة من صروف الدهر ، و الواقعة اسم من أسماء يوم القيامة [39] .
و باستقراء هذه الأقوال ، و مقارنة بعضها ببعض ، تتجلى الدلالة الصوتية ، فالوقوع هو الهوي ، و سقوط الشيء من الأعلى ، و الواقعة هي النازلة الشديد ، و الواقعة هي الداهية ، و هي الحادثة ، و هي الصيحة ، و هي اسم من أسماء يوم القيامة ، و أكثر ما جاء في القرآن من هذه الصيغة جاء في الشدة و العذاب ، و صوت اللفظ يوحي بهذا المعنى ، و أطلاقه بزنة الفاعل ، و إسناده بصيغة الماضي ، يدلان على وقوعه في شدته و هدته ، و صيحته و داهيته .
2 ـ القارعة ، قال تعالى : ﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ [40] .
و قال تعالى : ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ﴾ [41] .
قال الخليل ( ت : 175 هـ ) : و القارعة : القيامة . و القارعة : الشدة .
و فلان أمن قوارع الدهر : أي شدائده . و قوارع القرآن : نحو آية الكرسي ، يقال : من قرأها لم تصبيه قارعة .
وكل شيء ضربته فقد قرعته . قال أبو ذؤيب الهذلي [42] .
حتى كأني للحوادث مروة *** بصفا المشرق كل يوم تقرع
قال الطبرسي : و سميت القارعة ، لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة إلى أن يصير المؤمنون إلى الأمن [43] . و القارعة اسم من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بالفزع ، و تقرع أعداء الله بالعذاب [44] .
و أنما حسن أن توضع القارعة موضع الكناية لتذكر بهذه الصفة الهائلة بعد ذكرها بأنها الحاقة [45] .
و بمقارنة هذه المعاني ، نجدها متقاربة الدلالة ، فالقارعة الشدة ، و قوارع الدهر شدائده ، و كل شيء ضربته فقد قرعته ، و القارعة تقرع القلوب بالفزع ، و قلوب العباد بالمخافة ، و أعداء الله بالعذاب ، و هي في موضع كناية للتعبير عن القيامة ، من أجل التذكير بصفة القرع ، و كلها مفردات إيحائية تؤذن بالقرع في الأذن ، و تفزع القلوب بالشدة ، تتوالى خلالها المترادفات و المشتركات ، لتنتقل بك إلى عالم الواقعة ، و هي مجاورة لها في الشدة و الهول و الصدى و الإيقاع .
3 ـ الآزفة ، قال تعالى : ﴿ أَزِفَتْ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ﴾ [46] .
و قال تعالى : ﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾ [47] .
قال الراغب : معناه : أي دنت القيامة ... فعبر عنها بلفظ الماضي لقربها و ضيق وقتها [48] .
و قال الطبرسي : ﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ ... ﴾ [49] . أي الدانية . و هو يوم القيامة ، لأن كل ما هو آت دان قريب [50] .
قال الزمخشري : و الآزفة ، القيامة لأزوفها [51] .
و في اللغة : الآزفة القيامة ، و إن استبعد الناس مداها [52] .
و الآزفة : الدانية من قولهم أزف الأمر إذا دنا وقته [53] .
و رقة الآزفة في لفظها بانطلاق الألف الممدودة من الصدر ، و صفير الزاي من الأسنان ، و انحدار الفاء من أسفل الشفة ، و السكت على الهاء منبعثة من الأعماق ، كالرقة في معناها في الدنو و الاقتراب و حلول الوقت ، و مع هذه الرقة في الصوت و المعنى ، إلا أن المراد من هذا الصفير أزيزه ، و من هذا التأفف هديره و رجيفه ، فادناء يوم القيامة غير إدناء الحبيب ، و اقتراب الساعة غير اقتراب المواعيد ، أنه دنو اليوم الموعود ، و الحالات الحرجة ، و الهدير النازل ، إنه يوم القيامة في شدائده ، فكانت الآزفة كالواقعة و القارعة .
4 ـ الراجفة و الرادفة ، قال تعالى : ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾ [54] و تبدأ القيامة بالراجفة ، و هي النفخة الأولى ( تتبعها الرادفة ) و هي النفحة الثانية [55] .
و هو المروي عن ابن عباس و مجاهد و الحسن و قتادة و الضحاك [56] .قال الزمخشري ( ت : 538 هـ ) " الراجفة : الواقعة التي ترجف عندها الأرض و الجبال و هي النفحة الأولى ، وصفت بما يحدث بحدوثها ( تتبعها الرادفة ) أي الواقعة التي تردف الأولى ، و هي النفحة الثانية ، أي القيامة التي يستعجلها الكفرة ، إستبعاداً لها و هي رادفة لهم لاقترابها . و قيل الراجفة : الأرض و الجبال من قوله : ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ ... ﴾ [57] و الرادفة : السماء و الكواكب لأنها تنشق و تنتثر كواكبها إثر ذلك " [58] . و قال الطبرسي ( ت : 548 هـ ) الراجفة : يعني النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق ، و الراجفة صيحة عظيمة فيها تردد و اضطراب كالرعد إذا تمخض ( تتبعها الرادفة ) يعني النفخة الثانية تعقب النفخة الأولى ، و هي التي يبعث معها الخلق [59] .
و بمتابعة هذه المعاني : النفخة الأولى ، النفخة الثانية ، الصيحة ، التردد ، الاضطراب ، الواقعة التي ترجف عندها الأرض و الجبال ، الواقعة التي تردف الراجفة ، انشقاق السماء ، انتثار الكواكب ، الرعد إذا تمخض ، بعث الخلائق و انتشارهم . . إلخ .
بمتابعة أولئك جميعاً يتجلى العمق الصوتي في المراد كتجليه في الألفاظ دلالة على الرجيف و الوجيف ، و التزلزل و الاضطراب ، و تغيير الكون ، و تبدل العوالم ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [60] .
فتعاقبت معالم الراجفة و الرادفة مع معالم الواقعة و القارعة و الآزفة ، و تناسبت دلالة الأصوات مع دلالة المعاني في الصدى و الأوزان .
5 ـ الغاشية ، قال تعالى : ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ﴾ [61] . و هو خطاب للنبي صلى الله عليه و آله و سلم يريد قد أتاك حديث يوم القيامة بغتة عن ابن عباس و الحسن و قتادة [62] .
قال الراغب ( ت : 502 هـ ) الغاشية كناية عن القيامة و جمعها غواش [63] .
و قال الزمخشري ( ت : 538 هـ ) : الغاشية الداهية التي تغشى الناس بشدائدها و تلبسهم أهوالها ، يعني القيامة [64] .
و قال ابن منظور ( ت : 711 هـ ) الغاشية القيامة ، لأنها تغشى الخلق بأفزاعها ، و قيل الغاشية : النار لأنها تغشى وجوه الكفار . و قيل للقيامة غاشية : لأنها تجلل الخلق فتعمهم [65] .
و بمقارنة هذه الأقوال ، و ضم بعضها إلى بعض ، يبدو أن الغاشية كني بها عن القيامة لأنها تغشى الناس بأهوالها ، و تعم الخلق بأفزاعها ، فهي تجللهم الإحاطة من كل جانب ، و قد تكون هي النار التي تغشى وجوه الكفار ، و هي الداهية التي تغشى الناس بشدائدها ، و تلبسهم أهوالها . . إلخ .
إذن ، ما أقرب هذا المناخ المفزع ، و الأفق الرهيب لمناخ الواقعة و القارعة و الآزفة و الراجفة و الرادفة ، إنه منطلق واحد ، في صيغة واحدة ، صدى هائل تجتمع فيه أهوالها ، و صوت حافل تتساقط حوله مصاعبها ، تتفرق فيه الألفاظ لتدل في كل الأحوال على هذه الحقيقة القادمة ، حقيقة يوم القيامة برحلتها الطولية ، في الشدائد ، و النوازل ، و القوارع ، و الوقائع ، لتصور لنا عن كثب هيجانها و غليانها ، و شمولها و إحاطتها :
﴿ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ﴾ [66] .
دلالة الصدى الحالم :
تنطلق في القرآن أصداء حالمة ، في ألفاظ ملؤها الحنان ، تؤدي معناها من خلال أصواتها ، و توحي بمؤداها مجردة عن التصنيع و البديع ، فهي ناطقة بمضمونها هادرة بإرادتها ، دون إضافة و إضاءة ، و ما أكثر هذا المنحنى في القرآن ، و ما أروع تواليه في آياته الكريمة ، و لنأخذ عينة على هذا فنقف عند الرحمة من مادة " رحم " في القرآن الكريم بجزء من إرادتها ، و لمح من هديها .
قال تعالى : ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ... ﴾ [67] .
و قال تعالى : ﴿ ... لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [68] .
و قال تعالى : ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ ... ﴾ [69] .
و قال تعالى : ﴿ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ﴾ [70] .
و قال تعالى : ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ ... ﴾ [71] .
و قال تعالى : ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [72] .
فأنت تنادي من صدى " الرحمة " بأزيز حالم ، و تحتفل من صوتها بنداء يأخذ طريقه إلى العمق النفسي ، يهز المشاعر ، و يستدعي العواطف ، ناضحاً بالرضا و الغبطة و البهجة ، رافلاً بالخير و الإحسان و الحنان ، فماذا يرجو أهل الإيمان أكثر من اقتران صلوات ربهم برحمته بهم و عليهم ، و لمغفرة من الله تعالى و رحمة خير مما تجمع خزائن الأرض و كنوزها ، و هذا محمد صلى الله عليه و آله و سلم ذو الخلق العظيم ، و المخائل الفذة ، لولا رحمة ربه لما لان لهؤلاء القوم الأشداء في غطرستهم و غلظتهم ، و هذا زكريا تتداركه رحمة من الله و بركات في أوج احتياجه و فزعه إلى الله عزَّ و جلَّ : ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا ﴾ [73] .
فيهب له يحيى ﴿ ... وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء ... ﴾ [74] .
و وقفة مستوحية عند الأبوين الكريمين ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [75] . فستلمس صيغة الرحمة قد تجلت بأرق مظاهرها الصادقة و أرقاها ، توجيه رحيم ، و استعارة هادفة ، و عاطفة مهذبة ، فقد اقترنت الرحمة بالاسترحام ، و خفض الجناح بتواضع بل بذل إشفاقاً و حنواً و حدباً ، فكما يخفض الطائر الوجل أو المطمئن السارب جناحيه حذراً أو عطفاً أو احتضاناً لصغاره حباً بهم ، أو صيانة لهم من كل الطوارئ ، أو هما معاً ، فكذلك رحمة الولد البار بوالديه شفقة و رعاية ، مواساة و معاناة ، في حالتي الصحة و السقم ، الرضا و الغضب ، و الدعة والاحتياج ، يضاف إلى ذلك الدعاء من الأعماق " وقل رب ارحمها " مجازاة على تربيته صغيراً ، و الرحمة ، و ارحمها ، لفظان متلازمان في بحة الحاء المنطلقة من الصدر فهي صوتياً مثلها دلالياً من القلب و إلى القلب ، و من الشغاف إلى الشغاف ، و هنا يظهر أن الرحمة ظاهرة واقعية تنبعث من داخل النفس الإنسانية ، فيتفجر بها الضمير الحي النابض بالطهارة و النقاء و الحب السرمدي ، فهي إذن لا تفرض من الخارج بالقوة و القهر و الإستطالة ، و إنما سبيلها سبيل الماء المتدفق من الأعالي لأنها صفة ملائكية ، تمزج الإنسانية بالصفاء الروحي .
" و الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم ، و قد تستعمل تارة في الرقة المجردة ، و تارة في الإحسان المجرد عن الرقة نحو : رحم الله فلاناً . و إذا وصف به الباري فليس يراد به إلا الإحسان المجرد دون الرقة ، و على هذا روي أن الرحمة من الله إنعام و إفضال ، و من الآدميين رقة و تعطف " [76] .
فالله تعالى تفرد بالإحسان في رحمته إلى رعيته ، فجاء له الحمد مساوقاً لهذه الرحمة ﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [77] . و نشر الرقة بين البشر في الطباع ﴿ ... لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء ... ﴾ [78] .
و لو تابعنا أصل المادة لغوياً لوجدنا ملائمتها للمعنى صوتياً في الرقة و اللحمة و التناسب ، فالرحم رحم المرأة ، قل تعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء ... ﴾ [79] . و منه استعير الرحم للقرابة لكونهم من رحم واحدة نسبياً ، لذلك قال تعالى : ﴿ ... وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ... ﴾ [80] . و لولا قرابتهم لما كانت الولاية بينهم .
فكان الالتصاق في الرحم قد نشر الالتصاق بالولاية من جهة ، و جدد الرحمة بالرقة و المودة و العطف الكريم .
دلالة النغم الصارم :
أصوات الصفير في وضوحها ، و أصداؤها في أزيزها ، جعل لها وقعاً متميزاً ما بين الأصوات الصوامت ، و كان ذلك ـ فيما يبدو لي ـ نتيجة التصاقها في مخرج الصوت ، و اصطكاكها في جهاز السمع ، و وقعها الحاصل ما بين هذا الالتصاق و ذلك الاصطكاك ، هذه الأصوات ذات الجرس الصارخ هي : الزاي ، السين ، الصاد ، يلحظ لدى استعراضها أنها تؤدي مهمة الإعلان الصريح عن المراد في تأكيد الحقيقة ، و هي بذلك تعبر عن الشدة حيناً ، و عن العناية بالأمر حيناً آخر ، مما يشكل نغماً صارماً في الصوت ، و أزيزاً مشدداً لدى السمع ، يخلصان إلى دلالة اللفظ في إرادته الإستعمالية ، و مؤداه عند إطلاقه في مظان المعنى .
تعليق