1.إن الذين يريدون أن يصلوا إلى شهر رمضان متميز، فتحقيق ذلك يتم من خلال القرآن الكريم.. لأن الصيام -حسب الظاهر- هو: عملية كف عن الطعام، والشراب، وباقي المفطرات.. ولكن هذا الكف أو هذا الصوم يحتاج إلى منهج، وإلى خلفية فكرية؛ والقرآن الكريم هو الجزء المكمل، من خلال إعطاء الإنسان الرؤية الكونية المناسبة.
2. إن البعض في ليالي القدر يحلق في الأجواء العالية جداً، ولكن بعد شهر رمضان ينتهي كل شيء، ويرجع إلى ما كان عليه.. في الحج يصبح وكأنه قديس، يظن المرء عندما يراه وكأنه لا يوجد من هو أقدس منه في هذه البقعة، وإذا به من اليوم الثاني يغير الهيئة الظاهرية والباطنية معاً، وهذا الأمر يتكرر في محرم وصفر.. ولكن المطلوب هو المواظبة في الخشية، وفي الاتصال بالعبودية.
3. إن من موجبات اطمئنان القلب: ذكر الله عز وجل، لقوله تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.. وبما أن ذكر الله -عز وجل- في شهر رمضان متميز ومستوعب، والصائم في ليله ونهاره أقرب ما يكون إلى الذكر الإلهي؛ فإن معنى ذلك أن اطمئنان القلب في شهر رمضان، أكثر من باقي الشهور.
4. إن أفضل عمل يقوم به الإنسان في ليلة القدر بالنسبة لارتباطها بالقرآن الكريم: أن يعزم عزماً جازماً على أن يعمل بمضامين القرآن الكريم بعد شهر رمضان المبارك.. والذي هو عاكف على معاصي الله -عز وجل- عليه أن يعلم أن أداء حق القرآن الكريم، وأداء حق ليلة القدر: هو أن يكف عما لا يرضي ربه في الشهر وبعد الشهر الكريم.
5. إن السيطرة على الجوارح لا تتم إلا بالسيطرة على البواطن، والسيطرة على البواطن لا تكون إلا من خلال السيطرة على الجهاز المتحكم في الباطن، ألا وهي: الإرادة التي تكون في أرقى مستوياتها في شهر رمضان المبارك.
6. إن من المعالم الدعائية المتميزة في هذا شهر رمضان المبارك: دعاء الافتتاح، ودعاء أبي حمزة الثمالي.. فإنهما ينقلان العبد إلى أجواء متميزة من الأنس برب العالمين (تدرك، ولا توصف)!.. فهنيئاً لمن جعل الأول ورد أول ليلته؛ ليعمق في نفسه حالة الارتباط بالقيادة الإلهية المتمثلة في وليه الأعظم (ع).. وجعل الثاني ورد آخر ليلته؛ ليكون نورهما جابراً لكل ظلمة فيما بينهما، في ليله أو نهاره!..
7. إن التهيئة الفكرية للمواسم هي: أن يطلع الإنسان على أسرار ذلك الموسم، كأن يقرأ أعمال شهر رمضان المبارك قبل حلوله، ويكتب لنفسه برنامجاً كي يوفق للمحطات العبادية المختلفة.
8. إن المؤمن في شهر رمضان قريب إلى الله عز وجل، لئن كانت الذنوب أسقطته من عين الله في غير شهر رمضان، فإن شهر رمضان شهر المصالحة، وشهر التقرب والتودد.. وحاشى أن يدعو الناس إلى ضيافته، ثم يعاملهم معاملة غير ضيافته!..
9. إن شهر رمضان شهر متكامل، أي على المؤمن أن يضبط برامجه من أول ليلة، فينظر إلى أعمال الشهر كاملة.. لأنه إذا لم يبدأ من الليلة الأولى؛ فإنه لن ينتفع منه النفع المقصود.. فهذا الأجر يعطى لمن يقوم بهذا العمل، من أول ليلة إلى آخر ليلة.
10. يقول النبي (صلى الله عليه واله) في خطبته التي ألقاها في استقبال شهر رمضان: (أيها الناس!.. إنه قد أقبل إليكم شهر الله، بالبركة والرحمة والمغفرة)، وكأن شهر رمضان قافلة محملة بالبضائع، جاء ليعطي الصائم ما عنده مجاناً، مقابل أيام قليلة {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} وقد كان بإمكان الله -عز وجل- وهو المالك على الإطلاق، أن يطلب منا صيام كل يوم، فهو خالق النفس، وخالق الطعام، فما المانع؟!..
11. انظر إلى التعبير القرآني الجميل {لَعَلَّكُمْ}!.. فالقضية ليست قضية تلقائية، وشهر رمضان ليس شهر التقوى بشكل تلقائي.. فليس كل من صام شهر رمضان، إنساناً يحوز على ثمرة التقوى.. وإنما يحتاج إلى أمور أخرى غير الصيام المتعارف.
12. إن شهر رمضان بمثابة بستان فيه أشجار، وثمرته هي التقوى، والتقوى ليس في هذا الشهر فحسب!.. وإنما التقوى على مدار السنة.
13. إن هناك فرقاً بين إنسان يشتاق لشهر رمضان المبارك، وبين إنسان يتمنى لو أنه يتأخر لأيام!..
14. إن الإنسان إذا فقد شهيته للطاعات؛ -كأن يدخل المسجد، فيشعر أنه في مكان كئيب لا يستطيع التحمل، فيصلي ويخرج بسرعة دون تعقيبات.. وفي شهر رمضان يعد الأيام عدّا، ليصل ليوم العيد- فهذه أول المصيبة.. وأما إذا رأى في نفسه حرصاً وجوعاً معنوياً: كأن يصلي الصلاة المستحبة، ولا يشبع.. ويصلي الفريضة، ولا يشبع.. ويحضر المسجد أو المأتم.. إذا وصل إلى هذه الدرجة، فليعلم أنه وصل!.. هذه الشهية المتغيرة علامة على أن الإنسان قد رشح، لأن يكون نديم السلطان، ورب العالمين يعرف زبائنه!..
15. إن بعض الناس لأجل كسب مادي بسيط، لأمور أرضية، يتحلى بالصبر.. فقد يصبر أربع سنوات للحصول على شهادة جامعية، أما عندما تصل القضية إلى عالم الأنفس، فإنه يتوقع أن يصل -في أربعين يوما، أو في شهر رمضان المبارك، أو في حجة، أو في عمرة، أو في موسم معين- إلى مستوى الصالحين، والذين وصلوا إلى درجات عالية من الكمال.. وهذا خلاف السنة الإلهية في خلقه.
16. إن شهر رمضان هو شهر التزكية، ببركة الصيام والمناجاة.. فمن المناسب استثمار هذه الحالة التي نعيشها؛ فإنها نعم الزاد للخروج في هذا الموسم بهذه النقلة الجوهرية!..
17. إن التحديد في العمل أمرٌ مطلوب، ولهذا الشريعة وضعت فترات من التركيز العبادي، منها: شهر رمضان المبارك ثلاثون يوماً، وموسم الحج من يوم التاسع من عرفة إلى اليوم الثاني عشر.. فالعبادات لها فترة زمنية مؤقتة، حتى يستجمع الإنسان كل طاقاتهِ وقواه.
18. إن الذكر قسمان: ذكر لفظي، وذكر قلبي.. لا بأس للمؤمن أن يتخذ ورداً بين وقت وآخر؛ فكل أربعين يوماً يختار ورداً معيناً، ويلتزم به خلال ذهابه وإيابه.. ومن أفضل الأذكار سورة التوحيد، خصوصاً في شهر رمضان؛ حيث أن تكرارها ثلاثاً بمثابة ختمة، وفي شهر رمضان كل آية بحكم ختمة.. انظر إلى العدد التصاعدي من الأجر لمن كان له قلب!..
19. هناك ارتباط وتجانس بين عشرات ثلاث: العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، والعشر الأوائل من شهر ذي الحجة الحرام، والعشر الأوائل من محرم الحرام.. وهي بمجموعها تمثل شهراً كاملاً في كل عام.. علينا أن نتخذ من مجموع هذه العشرات المباركات، والموزعة على مدار السنة محطات لإعادة الصلة بالله -تعالى- الذي نبتعد عنه خطوة بعد كل معصية؛ لنعوض بذلك أميال البعد عنه، بخطوة جريئة إليه في كل موسم مصالحة!..
20. إن من المهم جداً أن نعيد تقييم أنفسنا من جديد، عندما يمر علينا موسم عبادي: كشهر رمضان ومحرم، لنرى ما هي العطاءات التي خرجنا منها؟.. وهل أنها كانت متناسبة مع قوة عطاء الموسم؟.. وهل أننا حافظنا على تلك العطاءات؟.. وما هو الاستثمار الأفضل لها بعد انتهاء الموسم؟.. فإن الكثير يعيش حالة الارتياح لما كان فيه، دون قلق لما سيكون عليه!.. والشيطان -كما اعتدنا عليه- حريص على مصادرة مكتسبات المؤمن في أول منعطف في حياته.. فهل نحن حذرون من ذلك؟..
21. إن من الأمور التي تكثر فيها الشكاوى، هي حالة التذبذب والمرحلية في العلاقة مع رب العالمين.. إذ أن البعض -مع الأسف- يكثف سعيه وجهده في مواسم معينة -كشهر رمضان مثلاً - وكأنه المطلوب منه التعبد في هذه الأشهر فقط!.. بينما المفروض للمؤمن أن تكون علاقته وطيدة مع ربه في كل الأحوال: في السراء وفي الضراء.. وفي كل الأزمنة، فلا فرق في شهر رمضان أو شوال.. وفي كل المواطن تكون حالته واحدة، فسواء كان في بيت من بيوتات الرحمن، أو في أي من ديار الله الواسعة.
22. ينبغي الحذر الشديد من الحرام في مواسم الطاعة، وفي أماكن الطاعة!.. فالنظر للأجنبية في السوق شيء، وحول الكعبة شيء آخر.. والحرام في شهر رمضان شيء، وفي شهر شوال شيء آخر!.. ومن هنا فإن البعض يبتلى بقسوة قلب عجيبة في شهر رمضان، تتجلى في ليالي القدر، حيث الناس الباكية والمبتهلة، وهو يتحسر على قطرة دمعة من خشية الله.. فهذه مرتبطة بمعاصيه في ما قبل ليالي القدر المباركة.
23. إن شهر رمضان شهر تجلي الكرم الإلهي، الكرم الذي لا حدّ له.. شهر رمضان شهر تجلي الرحمة، الرحمة التي لا حدود لها.. شهر رمضان شهر تجلي المغفرة، المغفرة التي لا حدود لها.. ولهذا يقال: من لم يغفر له في شهر رمضان، فمتى يغفر له؟.. وعن أبي عبد الله (عليه السلام): (من لم يغفر له في شهر رمضان، لم يغفر له إلى قابل، إلاّ أن يشهد عرفة).
24. إن القرآن الكريم أيضاً من صور الضيافة الإلهية.. فشهر رمضان هو شهر الدعوة إلى الضيافة، إذ ليس كل أحد دخل في ضيافة الله عز وجل!.. فشهر رمضان ليس شهر السحر والإعجاز، وليس كل من دخل الشهر، يكون قد دخل الضيافة؟!..
25. إن البعض إذا وصل إلى درجة تناسبت شهيته مع الحرام، فإنه يرتكب المنكر ويكرره في شهر رمضان وفي غيره، ولا يرى بأساً في ذلك!.. فهذا الإنسان على مشارف الكفر!.. {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون}.. أوله إساءة، وفحشاء، ومنكر.. وفي الأخير إنكار لمبادئ الشريعة!..
26. لماذا لا نفكر أن نعمم ضيافة شهر رمضان طوال العام؟.. فنقول: (يا رب، أضفتني في هذا الشهر المبارك: وجعلت نفسي تسبيحاً، ونومي عبادةً، ودعائي مستجاباً.. أنا بعد شهر رمضان، إلى أين أذهب؟!.. لماذا لا تبقي لي هذه الضيافة من شعبان ِ إلى شهرِ شوال؟!.. أبقني في ضيافتك)!..
27. إن على المؤمن أن يضع شعاراً لنفسه في شهر رمضان، وأن يسأل الله -عز وجل- أن يجعل شهر رمضان هذا، خير شهر مر عليه.. وليلة القدر هذه السنة، خير ليلة قدر مرت عليه!.. لأن الإمام علي (ع) قال: (مغبون من تساوى يوماه)!.. وعليه، فإن المغبون أيضاً من تساوى شهراه، والمغبون من تساوت سنتاه!..
28. إن الختمات في شهر رمضان أمر مطلوب، ولكن لتكن لنا ختمتان: ختمة التلاوة، وختمة التدبر.
29. إن البرمجة ضرورية جداً، لتحقيق خير شهر رمضان مر على الإنسان!..
30. إن من صفات المؤمن كلما مرّت عليه ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، ازداد خوفا وقلقا؛ لأنَّ كلَّ يوم وكلَّ ليلة يفقد فرصة من فرص التقرب إلى الله -عزَّ وجل-، ومن الليلة الأولى في شهر رمضان يبدأ العدّ العكسي.
31. إن شهر رمضان شهر التعارف والمصالحة مع الله -سبحانه وتعالى-، والقرآن الكريم بالنسبة إلى عامة الناس، يقول: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.. فلنطبق هذه الآية في تعاملنا مع رب العالمين!..
32. إن الذي لا يعيش جو الأنس الربوبي طوال السنة، لا يمكنه بسهولة أن يعيش هذا الجو، بمجرد دخول شهر رمضان -مثلاً- ولهذا نلاحظ أن أغلب الناس صومهم لا يتجاوز صوم العوام، أي الإمساك عن الطعام والشراب.. والحال أن الصوم أرقى من ذلك!..
33. إن الناس في الدنيا أذكى الأذكياء!.. أما في التعامل مع رب العالمين، فإنهم حمقى!.. من منا أحسن التعامل مع ربه!.. من منا قطف ثمار شهر رمضان حق قطافه!..
34. إن جوف الليل مجال للحديث العاطفي والعفوي مع رب العالمين، حتى لو أن الله -عز وجل- رفع الكلفة عن عباده.. فالنبي الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يكن ملزماً في أصله بصلاة الليل، ولكن الله -عز وجل- أراد لنبيه أن يتميز عن باقي الأمة في هذه الوقفة الليلية!.. والإنسان في شهر رمضان من طبيعته السهر!.. فمن الحري أن يحول هذه الليالي إلى محطات أنسٍ، فإذا انتهى الشهر الكريم، لا يمكنه إلا وأن يستمر في هذا المنهج الإلهي الرباني.
35. إن هنالك مقولات ومفاهيم موطنها القلب، ولكن اشتباهاً جعلنا موطنها اللسان، وبالتالي فقدت الخواص.. مثلاً: إنسان يريد في شهر رمضان أن يغير من طعم فمه، فيشتري الحلوى.. لو أن إنساناً أخذ ورقة وكتب عليها كلمة "الحلوى" وأخذ سبحة، وأخذ يذكر الحلوى ألف مرة، ماذا سيستفيد من حلاوة الحلوى في تلك الليلة؟.. كذلك فإن الذكر والدعاء والحوقلة والاستغفار، كل هذه معانٍ قلبية؛ ولكن لأن قلوب بني آدم لا تعمل، وفيها ضمور، وشلل، وخدر، والبعض فيه موت -مثلاً- من الطبيعي أن القلب لا يتفاعل مع الدعاء.. كمن يقول: بأن الحلوى لا يمكن الوصول إليها الآن، فأذهب إلى المحل، وأنظر إلى أطباق الحلوى، وأتحسر بالنظر إليها!..
36. إن قمة الجوائز تعطى في شهر رمضان، لذا نحاول تهيئة الجو لاستقبال شهر رمضان، ليكون أوج اللقاء في ليالي القدر؛ ففي هذه الليلة يجري تغيير المقدرات.. فإذن، إن المؤمن لا ييأس من رحمة الله -عز وجل- يقول تعالى: {قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِنرَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ}؛ونحن على أضعف تقدير عصاة، ولسنا كفرة!.. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِإِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.
37. إن البعض في شهر رمضان على الخصوص يدعو الله تعالى، ويستغفر ربه، ويتصدق، ويبكي، ويخشع، ويتضرع.. ولكن لا يرى إجابة!.. قد يكون الدعاء جيداً، ولكنه هو خلق الموانع بيده، فإذا وجد المانع فالمؤثر لا يعطي أثره؛ فلذلك الدعاء لا يؤثر.. مثل الخشب الذي لا يحترق مع وجود الرطوبة فيه.. الدعاء جيد لا نقص فيه، ولكن هذه المظلة هي التي حالت بينه وبين صعود الدعاء إلى رب العزة والجلال.. فإذن، إن الذنوب خطيرة جداً!..
38. إن المؤمن لا يبتلى بالعجب بعد إحياء ليلة من الليالي، فمن مجموع ثلاثمائة وخمس وستين ليلة، ما وزن ليلة واحدة؟!.. وإن زاد إلى عشرين ليلة أيضاً ما وزنها؟!.. على الإنسان ألا ينظر إلى ليالي التوفيق، بل ينظر إلى ليالي الحرمان، أين نحن في باقي الليالي والأيام؟.. لهذا نقرأ في دعاء كميل: (وسَكنتُ إلى قديم ذكرك لي، ومنِّك عليَّ).. لذا علينا أن ننظر إلى النقص لا إلى التوفيقات، (من تساوى يوماه فهو مغبون) نحن في أغلب أيام السنة على وتيرة واحدة من الغفلة.
39. إن شهر رجب وشعبان، شهران تمهيديان للدخول في شهر رمضان المبارك.. فإذا أردنا أن نصل إلى إحياء متميز في شهر رمضان -كما أراده الله عز وجل- ونصل إلى ملكوت ليالي القدر، والليالي المباركة في هذه الأشهر الثلاث المباركة.. فإن نقطة الانطلاق للمكاسب الكبرى، هي أول ليلة من شهر رجب.. فإذن، إن العملية تراكمية، وعلينا أن نتابع في هذه المواقف، لنصل إلى المراد.
40. إن هناك تدريجاً، حتى لا يفاجأ الإنسان بالكنز.. فيوم عرفة هو الكنز، وقبله مقدمات.. وليلة القدر هي الكنز، وقبلها مقدمات.. والصلاة بين يدي الله -عز وجل- هي الكنز، وقبلها أيضاً مقدمات.
41. هل طلب أحدنا من الله -عز وجل- أن يهبه عقل ثمانين سنة في ليلة القدر؟!.. عيوننا على الحور والقصور والنعيم، وهذا مضمون لكم شئتم أم أبيتم!.. الإنسان الذي يموت على الشهادات الثلاث، هو من أهل الجنة قطعاً.. ولكن تنافسوا في الدرجات!.. في ليالي القدر سلوا الله -عز وجل- هذه المضامين الراقية!.. ومن الأدعية الجميلة: "اللهم!.. اجعل لنا من لدنك نوراً نمشي به في الناس".. كذلك فإن هذا القلب يتسع بهذا الدعاء: "اللهم!.. أرنا الأشياء كما هي".. أي اجعل واقع الأشياء من دون رتوش، نحن نتعامل مع الخارج من خلال الوجود الذهني، لا الوجود الحقيقي.. أحدنا لم ير وجهه إلى الآن، إلا من خلال المرآة، والمرآة صورة ليست بواقع.. فالإنسان لا يرى واقع نفسه إلا من خلال هذه الصور، فكيف بباطنه؟!..
42. إن من أفضل الطرق للوصول إلى الله -عز وجل- خدمة العباد، فيكون بذلك مظهراً للخير على وجه الأرض.. وخدمة العباد لا تحتاج إلى خزائن الأرض، أو إلى حسابات سرية في البنوك، ليس الأمر كذلك!.. وإنما خدمة العباد قد تكون من خلال كلمة يفرج بها الإنسان عن أخيه المؤمن، أو إنسان ضال يأخذ بيده، وعندما يأتي إلى إحياء ليلة القدر، فليأخذ بيد إخوانه وأخواته وأقربائه!.. لماذا يأكل هذا الخير وحده؟.. فليأخذ بيد هؤلاء، نعم هذا هو الخير الذي يجريه الله على يد المؤمن.
43. إن وزن ليلة القدر لا يُعلم، فالقرآن عندما يصل إلى ذكرِ الآخرة يستعمل كلمة: {وَمَا أَدْرَاكَ}.. ففي سورة القارعة يقول: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}؛ أي أن عقولكم في الدنيا لا تحتمل إدراك حقيقة القارعة.. وذلك بمثابة الجنين في بطن أمه، فهو لا يفقه نعيم الدنيا، ولا يفقه ما يجري عليه في الحياة الدنيا؛ لأنه في عالمٍ ضيق ومحدود، وطعامه من دم المشيمة، فأين هو ولذائذ هذه الدنيا؟.. وكذلك نحن الفانون لا تحتمل عقولنا ما يقال عن يوم القيامة، وأحداث ما وراء الطبيعة، والعناصر المرتبطة بعالم الخلود.. فالقرآن الكريم عندما يصل إلى ليلة القدر، يستعمل التعبير نفسه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}!..
44. إن ليلة القدر هي من منن الله -عز وجل- على أمة المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم-.. وذلك لأن رب العالمين يعلم أننا سوف لن نعمل في حياتنا الدنيا، ما نحقق به الدرجات العالية في عالم الجنة!.. فجعل لنا ليلة في السنة وهي {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، والآية لا تقول: ليلة القدر تساوي ألف شهر، بل {خَيْرٌ}!.. يقول البعض: أن ليلة القدر تعادل ألف شهر، من قال بأنها ألف شهر؟.. لعلها ألفي شهر، أو ثلاثة آلاف شهر!.. فنحن لا ندري، والقرآن أبهم في هذه النقطة؟!..
45. إن ما نقوم به في ليلة القدر، لا يساوي هذا الشعار القرآني {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}!.. إن على الإنسان أن يعيش حالة من التوتر في ليلة القدر؛ لأنه عند مطلع الفجر لا ندري هل كُتبنا في ظل الذين غُفر لهم أم لا؟..
46. إن المؤمن يجعل ليلة القدر ليلة فاعلة ومتحركة، تغلب عليها: المراقبة، والذكر الواعي، والتضرع إلى الله -عز وجل-.. فالذي لا تجود عينه بدمعة في ليلة القدر، هذا الإنسان عليه أن يحاسب نفسه؟!..
47. إن رب العالمين جعل لنا ليلتين مقدمتين، لعل بعض الروايات تُشير بطرفٍ خفي أو جليّ، أن ليلة القدر هي الليلة الثالثة والعشرون!.. إن إحياء ليلتين قبل تلك الليلة، هي لنستعد لتلك الليلة الكبرى، وقبل شهر رمضان جعل لنا أيضاً شهرين، لنستعد لشهر رمضان.. وبالتالي، فإن هناك شهرين لنستعد لليلة القدر، وعشرين يوماً لنستعد للعشرةِ الأخيرة.
48. نحن نلاحظ في ليلة القدر، أن هنالك جواً من الترتيل والمناجاة والتلاوة المجردة.. وشتان بين أن ندعو، وبين أن نقرأ الدعاء!.. فالدعاء: عملية شعورية، وفاعلة، وحركة في القلب: وجلٌ في القلب، وقشعريرة على الجلد، كما يقول القرآن الكريم: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ..}.. وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا اقشعر جلدك، ودمعت عيناك، ووجل قلبك.. فدونك دونك!.. فقد قصد قصدك)!.. فالدعاء عملية واعية وفاعلة، والأئمة (عليهم السلام) كانت تتلون وجوههم قبل دخول ساحة الصلاة: خضرةً، وصفرةً.. فإذن، علينا أن نحول قراءة الدعاء إلى دعاء.
49. إن دعاء الجوشن هو من أشرف الأدعية، وذلك لأن الإنسان يناجي ربه، ويدعوه ألف مرة ويقول: (الغوث، الغوث!.. خلصنا من النار يا رب)!.. وكذلك يستطيع الإنسان أن يستعين ببعض فقرات دعاء الجوشن للمناجاة مع رب العالمين، مثلاً: (يا خير من خلا به جليس، ويا خير من آوى اليه طريد).. إنها مضامين بإمكان الإنسان أن يتعامل معها، كما يتعامل مع دعاء أبي حمزة الثمالي، ولكن -للأسف- فإن أحدنا يقرأ الدعاء وهمه آخر هذا الدعاء؟!..
50. إن ليلة القدر تحتاج إلى برمجة وإلى إعدادٍ روحي!.. فالناس ليس كلهم بمستوى التفاعل من أول خطوة، وإنما هم بحاجة إلى إعداد وإلى تهيئة.. لذا علينا أن نتحايل على أنفسنا، في أن نصل إلى هذه الدرجة التفاعلية.. فـ(ركعتان مقتصدتان في تفكير، خير من قيام ليلة والقلب ساه)!.. فهذا منطق الدين: منطق الكيف، لا منطق الكم.
2. إن البعض في ليالي القدر يحلق في الأجواء العالية جداً، ولكن بعد شهر رمضان ينتهي كل شيء، ويرجع إلى ما كان عليه.. في الحج يصبح وكأنه قديس، يظن المرء عندما يراه وكأنه لا يوجد من هو أقدس منه في هذه البقعة، وإذا به من اليوم الثاني يغير الهيئة الظاهرية والباطنية معاً، وهذا الأمر يتكرر في محرم وصفر.. ولكن المطلوب هو المواظبة في الخشية، وفي الاتصال بالعبودية.
3. إن من موجبات اطمئنان القلب: ذكر الله عز وجل، لقوله تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.. وبما أن ذكر الله -عز وجل- في شهر رمضان متميز ومستوعب، والصائم في ليله ونهاره أقرب ما يكون إلى الذكر الإلهي؛ فإن معنى ذلك أن اطمئنان القلب في شهر رمضان، أكثر من باقي الشهور.
4. إن أفضل عمل يقوم به الإنسان في ليلة القدر بالنسبة لارتباطها بالقرآن الكريم: أن يعزم عزماً جازماً على أن يعمل بمضامين القرآن الكريم بعد شهر رمضان المبارك.. والذي هو عاكف على معاصي الله -عز وجل- عليه أن يعلم أن أداء حق القرآن الكريم، وأداء حق ليلة القدر: هو أن يكف عما لا يرضي ربه في الشهر وبعد الشهر الكريم.
5. إن السيطرة على الجوارح لا تتم إلا بالسيطرة على البواطن، والسيطرة على البواطن لا تكون إلا من خلال السيطرة على الجهاز المتحكم في الباطن، ألا وهي: الإرادة التي تكون في أرقى مستوياتها في شهر رمضان المبارك.
6. إن من المعالم الدعائية المتميزة في هذا شهر رمضان المبارك: دعاء الافتتاح، ودعاء أبي حمزة الثمالي.. فإنهما ينقلان العبد إلى أجواء متميزة من الأنس برب العالمين (تدرك، ولا توصف)!.. فهنيئاً لمن جعل الأول ورد أول ليلته؛ ليعمق في نفسه حالة الارتباط بالقيادة الإلهية المتمثلة في وليه الأعظم (ع).. وجعل الثاني ورد آخر ليلته؛ ليكون نورهما جابراً لكل ظلمة فيما بينهما، في ليله أو نهاره!..
7. إن التهيئة الفكرية للمواسم هي: أن يطلع الإنسان على أسرار ذلك الموسم، كأن يقرأ أعمال شهر رمضان المبارك قبل حلوله، ويكتب لنفسه برنامجاً كي يوفق للمحطات العبادية المختلفة.
8. إن المؤمن في شهر رمضان قريب إلى الله عز وجل، لئن كانت الذنوب أسقطته من عين الله في غير شهر رمضان، فإن شهر رمضان شهر المصالحة، وشهر التقرب والتودد.. وحاشى أن يدعو الناس إلى ضيافته، ثم يعاملهم معاملة غير ضيافته!..
9. إن شهر رمضان شهر متكامل، أي على المؤمن أن يضبط برامجه من أول ليلة، فينظر إلى أعمال الشهر كاملة.. لأنه إذا لم يبدأ من الليلة الأولى؛ فإنه لن ينتفع منه النفع المقصود.. فهذا الأجر يعطى لمن يقوم بهذا العمل، من أول ليلة إلى آخر ليلة.
10. يقول النبي (صلى الله عليه واله) في خطبته التي ألقاها في استقبال شهر رمضان: (أيها الناس!.. إنه قد أقبل إليكم شهر الله، بالبركة والرحمة والمغفرة)، وكأن شهر رمضان قافلة محملة بالبضائع، جاء ليعطي الصائم ما عنده مجاناً، مقابل أيام قليلة {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} وقد كان بإمكان الله -عز وجل- وهو المالك على الإطلاق، أن يطلب منا صيام كل يوم، فهو خالق النفس، وخالق الطعام، فما المانع؟!..
11. انظر إلى التعبير القرآني الجميل {لَعَلَّكُمْ}!.. فالقضية ليست قضية تلقائية، وشهر رمضان ليس شهر التقوى بشكل تلقائي.. فليس كل من صام شهر رمضان، إنساناً يحوز على ثمرة التقوى.. وإنما يحتاج إلى أمور أخرى غير الصيام المتعارف.
12. إن شهر رمضان بمثابة بستان فيه أشجار، وثمرته هي التقوى، والتقوى ليس في هذا الشهر فحسب!.. وإنما التقوى على مدار السنة.
13. إن هناك فرقاً بين إنسان يشتاق لشهر رمضان المبارك، وبين إنسان يتمنى لو أنه يتأخر لأيام!..
14. إن الإنسان إذا فقد شهيته للطاعات؛ -كأن يدخل المسجد، فيشعر أنه في مكان كئيب لا يستطيع التحمل، فيصلي ويخرج بسرعة دون تعقيبات.. وفي شهر رمضان يعد الأيام عدّا، ليصل ليوم العيد- فهذه أول المصيبة.. وأما إذا رأى في نفسه حرصاً وجوعاً معنوياً: كأن يصلي الصلاة المستحبة، ولا يشبع.. ويصلي الفريضة، ولا يشبع.. ويحضر المسجد أو المأتم.. إذا وصل إلى هذه الدرجة، فليعلم أنه وصل!.. هذه الشهية المتغيرة علامة على أن الإنسان قد رشح، لأن يكون نديم السلطان، ورب العالمين يعرف زبائنه!..
15. إن بعض الناس لأجل كسب مادي بسيط، لأمور أرضية، يتحلى بالصبر.. فقد يصبر أربع سنوات للحصول على شهادة جامعية، أما عندما تصل القضية إلى عالم الأنفس، فإنه يتوقع أن يصل -في أربعين يوما، أو في شهر رمضان المبارك، أو في حجة، أو في عمرة، أو في موسم معين- إلى مستوى الصالحين، والذين وصلوا إلى درجات عالية من الكمال.. وهذا خلاف السنة الإلهية في خلقه.
16. إن شهر رمضان هو شهر التزكية، ببركة الصيام والمناجاة.. فمن المناسب استثمار هذه الحالة التي نعيشها؛ فإنها نعم الزاد للخروج في هذا الموسم بهذه النقلة الجوهرية!..
17. إن التحديد في العمل أمرٌ مطلوب، ولهذا الشريعة وضعت فترات من التركيز العبادي، منها: شهر رمضان المبارك ثلاثون يوماً، وموسم الحج من يوم التاسع من عرفة إلى اليوم الثاني عشر.. فالعبادات لها فترة زمنية مؤقتة، حتى يستجمع الإنسان كل طاقاتهِ وقواه.
18. إن الذكر قسمان: ذكر لفظي، وذكر قلبي.. لا بأس للمؤمن أن يتخذ ورداً بين وقت وآخر؛ فكل أربعين يوماً يختار ورداً معيناً، ويلتزم به خلال ذهابه وإيابه.. ومن أفضل الأذكار سورة التوحيد، خصوصاً في شهر رمضان؛ حيث أن تكرارها ثلاثاً بمثابة ختمة، وفي شهر رمضان كل آية بحكم ختمة.. انظر إلى العدد التصاعدي من الأجر لمن كان له قلب!..
19. هناك ارتباط وتجانس بين عشرات ثلاث: العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، والعشر الأوائل من شهر ذي الحجة الحرام، والعشر الأوائل من محرم الحرام.. وهي بمجموعها تمثل شهراً كاملاً في كل عام.. علينا أن نتخذ من مجموع هذه العشرات المباركات، والموزعة على مدار السنة محطات لإعادة الصلة بالله -تعالى- الذي نبتعد عنه خطوة بعد كل معصية؛ لنعوض بذلك أميال البعد عنه، بخطوة جريئة إليه في كل موسم مصالحة!..
20. إن من المهم جداً أن نعيد تقييم أنفسنا من جديد، عندما يمر علينا موسم عبادي: كشهر رمضان ومحرم، لنرى ما هي العطاءات التي خرجنا منها؟.. وهل أنها كانت متناسبة مع قوة عطاء الموسم؟.. وهل أننا حافظنا على تلك العطاءات؟.. وما هو الاستثمار الأفضل لها بعد انتهاء الموسم؟.. فإن الكثير يعيش حالة الارتياح لما كان فيه، دون قلق لما سيكون عليه!.. والشيطان -كما اعتدنا عليه- حريص على مصادرة مكتسبات المؤمن في أول منعطف في حياته.. فهل نحن حذرون من ذلك؟..
21. إن من الأمور التي تكثر فيها الشكاوى، هي حالة التذبذب والمرحلية في العلاقة مع رب العالمين.. إذ أن البعض -مع الأسف- يكثف سعيه وجهده في مواسم معينة -كشهر رمضان مثلاً - وكأنه المطلوب منه التعبد في هذه الأشهر فقط!.. بينما المفروض للمؤمن أن تكون علاقته وطيدة مع ربه في كل الأحوال: في السراء وفي الضراء.. وفي كل الأزمنة، فلا فرق في شهر رمضان أو شوال.. وفي كل المواطن تكون حالته واحدة، فسواء كان في بيت من بيوتات الرحمن، أو في أي من ديار الله الواسعة.
22. ينبغي الحذر الشديد من الحرام في مواسم الطاعة، وفي أماكن الطاعة!.. فالنظر للأجنبية في السوق شيء، وحول الكعبة شيء آخر.. والحرام في شهر رمضان شيء، وفي شهر شوال شيء آخر!.. ومن هنا فإن البعض يبتلى بقسوة قلب عجيبة في شهر رمضان، تتجلى في ليالي القدر، حيث الناس الباكية والمبتهلة، وهو يتحسر على قطرة دمعة من خشية الله.. فهذه مرتبطة بمعاصيه في ما قبل ليالي القدر المباركة.
23. إن شهر رمضان شهر تجلي الكرم الإلهي، الكرم الذي لا حدّ له.. شهر رمضان شهر تجلي الرحمة، الرحمة التي لا حدود لها.. شهر رمضان شهر تجلي المغفرة، المغفرة التي لا حدود لها.. ولهذا يقال: من لم يغفر له في شهر رمضان، فمتى يغفر له؟.. وعن أبي عبد الله (عليه السلام): (من لم يغفر له في شهر رمضان، لم يغفر له إلى قابل، إلاّ أن يشهد عرفة).
24. إن القرآن الكريم أيضاً من صور الضيافة الإلهية.. فشهر رمضان هو شهر الدعوة إلى الضيافة، إذ ليس كل أحد دخل في ضيافة الله عز وجل!.. فشهر رمضان ليس شهر السحر والإعجاز، وليس كل من دخل الشهر، يكون قد دخل الضيافة؟!..
25. إن البعض إذا وصل إلى درجة تناسبت شهيته مع الحرام، فإنه يرتكب المنكر ويكرره في شهر رمضان وفي غيره، ولا يرى بأساً في ذلك!.. فهذا الإنسان على مشارف الكفر!.. {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون}.. أوله إساءة، وفحشاء، ومنكر.. وفي الأخير إنكار لمبادئ الشريعة!..
26. لماذا لا نفكر أن نعمم ضيافة شهر رمضان طوال العام؟.. فنقول: (يا رب، أضفتني في هذا الشهر المبارك: وجعلت نفسي تسبيحاً، ونومي عبادةً، ودعائي مستجاباً.. أنا بعد شهر رمضان، إلى أين أذهب؟!.. لماذا لا تبقي لي هذه الضيافة من شعبان ِ إلى شهرِ شوال؟!.. أبقني في ضيافتك)!..
27. إن على المؤمن أن يضع شعاراً لنفسه في شهر رمضان، وأن يسأل الله -عز وجل- أن يجعل شهر رمضان هذا، خير شهر مر عليه.. وليلة القدر هذه السنة، خير ليلة قدر مرت عليه!.. لأن الإمام علي (ع) قال: (مغبون من تساوى يوماه)!.. وعليه، فإن المغبون أيضاً من تساوى شهراه، والمغبون من تساوت سنتاه!..
28. إن الختمات في شهر رمضان أمر مطلوب، ولكن لتكن لنا ختمتان: ختمة التلاوة، وختمة التدبر.
29. إن البرمجة ضرورية جداً، لتحقيق خير شهر رمضان مر على الإنسان!..
30. إن من صفات المؤمن كلما مرّت عليه ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، ازداد خوفا وقلقا؛ لأنَّ كلَّ يوم وكلَّ ليلة يفقد فرصة من فرص التقرب إلى الله -عزَّ وجل-، ومن الليلة الأولى في شهر رمضان يبدأ العدّ العكسي.
31. إن شهر رمضان شهر التعارف والمصالحة مع الله -سبحانه وتعالى-، والقرآن الكريم بالنسبة إلى عامة الناس، يقول: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.. فلنطبق هذه الآية في تعاملنا مع رب العالمين!..
32. إن الذي لا يعيش جو الأنس الربوبي طوال السنة، لا يمكنه بسهولة أن يعيش هذا الجو، بمجرد دخول شهر رمضان -مثلاً- ولهذا نلاحظ أن أغلب الناس صومهم لا يتجاوز صوم العوام، أي الإمساك عن الطعام والشراب.. والحال أن الصوم أرقى من ذلك!..
33. إن الناس في الدنيا أذكى الأذكياء!.. أما في التعامل مع رب العالمين، فإنهم حمقى!.. من منا أحسن التعامل مع ربه!.. من منا قطف ثمار شهر رمضان حق قطافه!..
34. إن جوف الليل مجال للحديث العاطفي والعفوي مع رب العالمين، حتى لو أن الله -عز وجل- رفع الكلفة عن عباده.. فالنبي الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يكن ملزماً في أصله بصلاة الليل، ولكن الله -عز وجل- أراد لنبيه أن يتميز عن باقي الأمة في هذه الوقفة الليلية!.. والإنسان في شهر رمضان من طبيعته السهر!.. فمن الحري أن يحول هذه الليالي إلى محطات أنسٍ، فإذا انتهى الشهر الكريم، لا يمكنه إلا وأن يستمر في هذا المنهج الإلهي الرباني.
35. إن هنالك مقولات ومفاهيم موطنها القلب، ولكن اشتباهاً جعلنا موطنها اللسان، وبالتالي فقدت الخواص.. مثلاً: إنسان يريد في شهر رمضان أن يغير من طعم فمه، فيشتري الحلوى.. لو أن إنساناً أخذ ورقة وكتب عليها كلمة "الحلوى" وأخذ سبحة، وأخذ يذكر الحلوى ألف مرة، ماذا سيستفيد من حلاوة الحلوى في تلك الليلة؟.. كذلك فإن الذكر والدعاء والحوقلة والاستغفار، كل هذه معانٍ قلبية؛ ولكن لأن قلوب بني آدم لا تعمل، وفيها ضمور، وشلل، وخدر، والبعض فيه موت -مثلاً- من الطبيعي أن القلب لا يتفاعل مع الدعاء.. كمن يقول: بأن الحلوى لا يمكن الوصول إليها الآن، فأذهب إلى المحل، وأنظر إلى أطباق الحلوى، وأتحسر بالنظر إليها!..
36. إن قمة الجوائز تعطى في شهر رمضان، لذا نحاول تهيئة الجو لاستقبال شهر رمضان، ليكون أوج اللقاء في ليالي القدر؛ ففي هذه الليلة يجري تغيير المقدرات.. فإذن، إن المؤمن لا ييأس من رحمة الله -عز وجل- يقول تعالى: {قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِنرَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ}؛ونحن على أضعف تقدير عصاة، ولسنا كفرة!.. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِإِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.
37. إن البعض في شهر رمضان على الخصوص يدعو الله تعالى، ويستغفر ربه، ويتصدق، ويبكي، ويخشع، ويتضرع.. ولكن لا يرى إجابة!.. قد يكون الدعاء جيداً، ولكنه هو خلق الموانع بيده، فإذا وجد المانع فالمؤثر لا يعطي أثره؛ فلذلك الدعاء لا يؤثر.. مثل الخشب الذي لا يحترق مع وجود الرطوبة فيه.. الدعاء جيد لا نقص فيه، ولكن هذه المظلة هي التي حالت بينه وبين صعود الدعاء إلى رب العزة والجلال.. فإذن، إن الذنوب خطيرة جداً!..
38. إن المؤمن لا يبتلى بالعجب بعد إحياء ليلة من الليالي، فمن مجموع ثلاثمائة وخمس وستين ليلة، ما وزن ليلة واحدة؟!.. وإن زاد إلى عشرين ليلة أيضاً ما وزنها؟!.. على الإنسان ألا ينظر إلى ليالي التوفيق، بل ينظر إلى ليالي الحرمان، أين نحن في باقي الليالي والأيام؟.. لهذا نقرأ في دعاء كميل: (وسَكنتُ إلى قديم ذكرك لي، ومنِّك عليَّ).. لذا علينا أن ننظر إلى النقص لا إلى التوفيقات، (من تساوى يوماه فهو مغبون) نحن في أغلب أيام السنة على وتيرة واحدة من الغفلة.
39. إن شهر رجب وشعبان، شهران تمهيديان للدخول في شهر رمضان المبارك.. فإذا أردنا أن نصل إلى إحياء متميز في شهر رمضان -كما أراده الله عز وجل- ونصل إلى ملكوت ليالي القدر، والليالي المباركة في هذه الأشهر الثلاث المباركة.. فإن نقطة الانطلاق للمكاسب الكبرى، هي أول ليلة من شهر رجب.. فإذن، إن العملية تراكمية، وعلينا أن نتابع في هذه المواقف، لنصل إلى المراد.
40. إن هناك تدريجاً، حتى لا يفاجأ الإنسان بالكنز.. فيوم عرفة هو الكنز، وقبله مقدمات.. وليلة القدر هي الكنز، وقبلها مقدمات.. والصلاة بين يدي الله -عز وجل- هي الكنز، وقبلها أيضاً مقدمات.
41. هل طلب أحدنا من الله -عز وجل- أن يهبه عقل ثمانين سنة في ليلة القدر؟!.. عيوننا على الحور والقصور والنعيم، وهذا مضمون لكم شئتم أم أبيتم!.. الإنسان الذي يموت على الشهادات الثلاث، هو من أهل الجنة قطعاً.. ولكن تنافسوا في الدرجات!.. في ليالي القدر سلوا الله -عز وجل- هذه المضامين الراقية!.. ومن الأدعية الجميلة: "اللهم!.. اجعل لنا من لدنك نوراً نمشي به في الناس".. كذلك فإن هذا القلب يتسع بهذا الدعاء: "اللهم!.. أرنا الأشياء كما هي".. أي اجعل واقع الأشياء من دون رتوش، نحن نتعامل مع الخارج من خلال الوجود الذهني، لا الوجود الحقيقي.. أحدنا لم ير وجهه إلى الآن، إلا من خلال المرآة، والمرآة صورة ليست بواقع.. فالإنسان لا يرى واقع نفسه إلا من خلال هذه الصور، فكيف بباطنه؟!..
42. إن من أفضل الطرق للوصول إلى الله -عز وجل- خدمة العباد، فيكون بذلك مظهراً للخير على وجه الأرض.. وخدمة العباد لا تحتاج إلى خزائن الأرض، أو إلى حسابات سرية في البنوك، ليس الأمر كذلك!.. وإنما خدمة العباد قد تكون من خلال كلمة يفرج بها الإنسان عن أخيه المؤمن، أو إنسان ضال يأخذ بيده، وعندما يأتي إلى إحياء ليلة القدر، فليأخذ بيد إخوانه وأخواته وأقربائه!.. لماذا يأكل هذا الخير وحده؟.. فليأخذ بيد هؤلاء، نعم هذا هو الخير الذي يجريه الله على يد المؤمن.
43. إن وزن ليلة القدر لا يُعلم، فالقرآن عندما يصل إلى ذكرِ الآخرة يستعمل كلمة: {وَمَا أَدْرَاكَ}.. ففي سورة القارعة يقول: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}؛ أي أن عقولكم في الدنيا لا تحتمل إدراك حقيقة القارعة.. وذلك بمثابة الجنين في بطن أمه، فهو لا يفقه نعيم الدنيا، ولا يفقه ما يجري عليه في الحياة الدنيا؛ لأنه في عالمٍ ضيق ومحدود، وطعامه من دم المشيمة، فأين هو ولذائذ هذه الدنيا؟.. وكذلك نحن الفانون لا تحتمل عقولنا ما يقال عن يوم القيامة، وأحداث ما وراء الطبيعة، والعناصر المرتبطة بعالم الخلود.. فالقرآن الكريم عندما يصل إلى ليلة القدر، يستعمل التعبير نفسه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}!..
44. إن ليلة القدر هي من منن الله -عز وجل- على أمة المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم-.. وذلك لأن رب العالمين يعلم أننا سوف لن نعمل في حياتنا الدنيا، ما نحقق به الدرجات العالية في عالم الجنة!.. فجعل لنا ليلة في السنة وهي {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، والآية لا تقول: ليلة القدر تساوي ألف شهر، بل {خَيْرٌ}!.. يقول البعض: أن ليلة القدر تعادل ألف شهر، من قال بأنها ألف شهر؟.. لعلها ألفي شهر، أو ثلاثة آلاف شهر!.. فنحن لا ندري، والقرآن أبهم في هذه النقطة؟!..
45. إن ما نقوم به في ليلة القدر، لا يساوي هذا الشعار القرآني {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}!.. إن على الإنسان أن يعيش حالة من التوتر في ليلة القدر؛ لأنه عند مطلع الفجر لا ندري هل كُتبنا في ظل الذين غُفر لهم أم لا؟..
46. إن المؤمن يجعل ليلة القدر ليلة فاعلة ومتحركة، تغلب عليها: المراقبة، والذكر الواعي، والتضرع إلى الله -عز وجل-.. فالذي لا تجود عينه بدمعة في ليلة القدر، هذا الإنسان عليه أن يحاسب نفسه؟!..
47. إن رب العالمين جعل لنا ليلتين مقدمتين، لعل بعض الروايات تُشير بطرفٍ خفي أو جليّ، أن ليلة القدر هي الليلة الثالثة والعشرون!.. إن إحياء ليلتين قبل تلك الليلة، هي لنستعد لتلك الليلة الكبرى، وقبل شهر رمضان جعل لنا أيضاً شهرين، لنستعد لشهر رمضان.. وبالتالي، فإن هناك شهرين لنستعد لليلة القدر، وعشرين يوماً لنستعد للعشرةِ الأخيرة.
48. نحن نلاحظ في ليلة القدر، أن هنالك جواً من الترتيل والمناجاة والتلاوة المجردة.. وشتان بين أن ندعو، وبين أن نقرأ الدعاء!.. فالدعاء: عملية شعورية، وفاعلة، وحركة في القلب: وجلٌ في القلب، وقشعريرة على الجلد، كما يقول القرآن الكريم: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ..}.. وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إذا اقشعر جلدك، ودمعت عيناك، ووجل قلبك.. فدونك دونك!.. فقد قصد قصدك)!.. فالدعاء عملية واعية وفاعلة، والأئمة (عليهم السلام) كانت تتلون وجوههم قبل دخول ساحة الصلاة: خضرةً، وصفرةً.. فإذن، علينا أن نحول قراءة الدعاء إلى دعاء.
49. إن دعاء الجوشن هو من أشرف الأدعية، وذلك لأن الإنسان يناجي ربه، ويدعوه ألف مرة ويقول: (الغوث، الغوث!.. خلصنا من النار يا رب)!.. وكذلك يستطيع الإنسان أن يستعين ببعض فقرات دعاء الجوشن للمناجاة مع رب العالمين، مثلاً: (يا خير من خلا به جليس، ويا خير من آوى اليه طريد).. إنها مضامين بإمكان الإنسان أن يتعامل معها، كما يتعامل مع دعاء أبي حمزة الثمالي، ولكن -للأسف- فإن أحدنا يقرأ الدعاء وهمه آخر هذا الدعاء؟!..
50. إن ليلة القدر تحتاج إلى برمجة وإلى إعدادٍ روحي!.. فالناس ليس كلهم بمستوى التفاعل من أول خطوة، وإنما هم بحاجة إلى إعداد وإلى تهيئة.. لذا علينا أن نتحايل على أنفسنا، في أن نصل إلى هذه الدرجة التفاعلية.. فـ(ركعتان مقتصدتان في تفكير، خير من قيام ليلة والقلب ساه)!.. فهذا منطق الدين: منطق الكيف، لا منطق الكم.
الشيخ حبيب الكاظمي
تعليق